حادثة مجلة شارلي ايبدو، شرارة اخرى لإشعال صراع الحضارات


احمد عبد الستار
2015 / 1 / 28 - 00:08     

شن ارهابيون ملثمون هجوما على مجلة شارلي ايبدو في العاصمة الفرنسية باريس في السابع من شهر كانون الثاني الجاري ، وأردوا اثنا عشر شخصا من اعلاميين وحراس ، على اثر نشر المجلة رسوم ساخرة لشخصية النبي محمد ، وقامت قوات الامن الفرنسية بملاحقتهم ليوميين متتاليين وتمكنوا من محاصرتهم وقتلهم وانقاذ الرهائن المحتجزين الباقين ، خلّف الهجوم ومواجهات اليوميين التاليين عشرين قتيلا بينهم الارهابيين المجرمين انفسهم ورهائن.
الهجوم حصل بالتزامن مع خروج تظاهرات في المانيا ترفع شعار ( لا لأسلمة اوروبا ) وحرق مساجد والاعتداء عليها في السويد وتنامي مشاعر العداء للمهاجرين والاقليات المسلمة في مناطق عديدة من أوروبا .

وعلى الفور تمت دعوة موسعة من قبل السياسيين الفرنسيين للتنديد بهذا الحادث الاجرامي، وبالفعل لبت الجماهير الفرنسية المتعاطفة مع الضحايا النداء، وخرجت مسيرات حاشدة بلغ تعدادها حسب الاعلام الفرنسي على ما يزيد عن الثلاث ملايين مشارك ، وخرجت مسيرات اخرى في مدن اوربية كما شارك خمسون من قادة العالم متشابكي الايدي من بينهم رئيس الوزراء التركي أوغلو، وملك الاردن عبد الله الثاني ، ورئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو تضامنا مع ضحايا حادثة شارلي ابدو .
وعلى ما يبدو إن التحشيد كان سهلاً ومتقناً فقد وصفت وسائل اعلام غربية المسيرة الباريسية (بالمليونية) استعارةً من التظاهرات الكبيرة التي خرجت بالبلدان العربية تطالب بتحسين مستوى المعيشة والتحرر من دكتاتورية حكم مبارك وابن علي وعلي صالح وغيرهم، لكننا لم نسمع إشادة واهتمام مماثل لتظاهرة لأكثر من ثلاث ملايين من عمال ومواطني فرنسا احتجاجا علي تعديل قانون التقاعد الذي ينص علي رفع السن القانونية للتقاعد من 60 إلى 62 عاما الذي اقره البرلمان زمن حكومة نيكولاس ساركوزي قبل اربع سنوات .

الغالب على سياسة الرأسمالية العالمية انتهاجها للمعايير المزدوجة، حتى بات يعرف الامر باعتباره السمة المميزة لكل سياساتها المعتمدة في كل زمان ومكان، والسبب انها غير صريحة، تعلن عن شيء عند استغلالها لظاهرة ما ويقف خلف هذه الظاهرة قصد آخر.

اهتمت فرنسا بالشأن السوري منذ الايام الاولى لانطلاق الاحتجاجات ضد نظام الاسد ، ومنذ البداية شكلت زيارة السفير الفرنسي أريك شوفالييه لمدينة حماة حسب الناطق باسم الخارجية الفرنسية "وقوف فرنسا الى جانب الضحايا" ، ودعمت ومولت بمساعدة امريكا وبريطانيا ودول غربية اخرى والسعودية وقطر وتركيا المعارضة المسلحة في سوريا كما فعلوا في ليبيا، حتى ظهرت للعالم حقيقة ( آكلي لحوم البشر ) أو ما أخذ يطلق عليهم وقتها مقاتلي الحرية في سوريا، وبمهاجمتهم للمسيحيين وفتكهم الوحشي بالايزيديين بالعراق، كل هذه التجاوزات البربرية احرجت الموقف الغربي امام الرأي العام العالمي واجبرتهم على التراجع عن مساعدة المعارضة السورية كما نلمس ذلك من خلال تصريح أوباما بأن " الارهابيين الذين احتلوا أجزاء من العراق كانوا قساة بشكل خاص تجاه الأقليات الدينية، اعتقلوا العوائل، وأعدموا الرجال واستعبدوا النساء، وهو ما سيشكل إبادة عرقية".

وتداركا لهذا الوضع صنفت المعارضة المسلحة في سوريا حسب تطرفها الديني، معارضة معتدلة واخرى ارهابية، وشكّل حلف عسكري ضد ( داعش ) غير فعّال ، وتصريحات يومية نسمعها من كل المسؤولين الغربيين والعسكريين بأن الحرب ضد الارهاب تستغرق سنوات .

لماذا تحتاج الحرب ضد داعش الى سنوات وما هي اسباب محدودية ضربات الحلف الجوية لمواقعهم بالعراق و في سوريا, على الرغم ما يتمتع به الغرب من قوة عسكرية وتكنولوجية ساحقة مقابل زمر لا تتعدى كونها عصابات اجرامية، ألا يمنحنا موضع التساؤل هذا انطباعاً آخر غير الوقائع السائدة حالياً، من خلاله ممكن القول بأن الغرب يتعمد خلق الفوضى بالمنطقة كي يديرها، وكي تفتح في حساباتهم مديات اوسع وعمر اطول.
الازدواجية الظاهرة للحملة العالمية ضد داعش بين التصريحات المشددة والاجراءات العملية غير المؤثرة و(الأفعال أبلغ من الأقوال ) كما يقال، تبيح القول مرة اخرى بأن الغرب هو من هيأ لهذه الحرب وعمل على ترسيخ قواعد الارهاب على مستوى عالمي وكي تُتخذ المنطقة المشتركة بين سوريا والعراق ملاذا آمنا، لينتشر بالتالي شرارها إلى كل العالم.

الفائدة من كل هذا هي غنيمة العمر بالنسبة للرأسمالية العالمية، افتعال نظام عالمي جديد قائم على الاحتراب والكراهية على صراع بين ثقافات همجية ومتمدنة، ليسوق هذا المفهوم داخل البلدان الرأسمالية على إنه الخطر الداهم خطر الارهاب وضرورة محاربته قبل كل اولوية، وتم التحريض والتحرك بهذا الاتجاه من الجهتين، من جهة الغرب المتقدم والمتحضر ومن جهة الشرق الارهابي الرافض لقيم المدنية والتحرر، خرجت مسيرات كبيرة في الغرب تندد بحادث صحيفة شارلي ابدو وتعاطف جماهيري واسع مع الضحايا، وبالمقابل خرجت تظاهرات حاشدة واخرى مليونية بالكثير من البلدان الاسلامية تندد بإعادة نشر الرسوم المسيئة لشخص النبي محمد بعد الحادث، هذا هو شكل العالم الذي تحتاجه الرأسمالية وتعمل من اجل ترسيخه وتصويره على انه الحقيقة الوحيدة الفاعلة في التاريخ الانساني المعاصر، وللتضليل على الصراع الطبقي داخل منظومة البلدان الرأسمالية وتفاقم هذا الصراع الى مستويات لا يمكن التكهن بنتائجها ولا سيما تحت ظل الازمة الاقتصادية الراهنة، عالم بصراعات مفتعلة يسهل ادرتها وتوجيهها، تعود بنتائج وإن بدت احيانا مكلفة، لكنها اقل كلفة من نتائج الصراع الطبقي الحقيقي على النظام الرأسمالي برمته.