المسار الثوري ومسار الالتفاف: ذاكرة ثورة مختطفة


محمد المثلوثي
2015 / 1 / 27 - 18:58     

هذا النص هو ورقة للنقاش قدمتها في لقاء نظمته حركة جيل جديد في نوفمبر 2014 بتونس العاصمة. ولم أقم إلا ببعض التعديلات الطفيفة على مستوى الصياغة.
كل الشكر للرفاق والأصدقاء في حركة جيل جديد لمبادرتهم بتنظيم مثل هذه اللقاءات التي أرجو أن تتكرر وتتكرس كتقليد يمكنه أن يفتح الباب أمام توحيد الجهود الثورية وكسر الانغلاق السكتاري المقيت الذي هو للأسف واقع الحال بالنسبة لكل المجموعات الثورية التي نشأت وتطورت ضمن المسار الثوري الذي عرفته بلادنا منذ 17 ديسمبر 2010.
***
مثلت سنة 2007 نقطة الانطلاق لأعظم الأزمات الاقتصادية التي عرفها النظام الرأسمالي العالمي، فيما سمي بأزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأمريكية. وكانت هذه الأزمة تعبيرا عن نهاية دورة كاملة من الحقن الاصطناعي، خلال أكثر من عشرية، للتراكم الرأسمالي من خلال النظام الائتماني العملاق، والذي استطاع عبر شبكة عظيمة من المصارف والبورصات وشركات التأمين أن يستوعب اصطناعيا الفائض المتراكم من الرأسمال والإنتاج، وأن يحقن اصطناعيا الاستهلاك، ويخلق ازدهارا مبنيا على فقاعة مالية كانت تتضخم سنة وراء سنة وصولا الى انفلاقها الدراماتيكي في أعظم مراكز الرأسمال العالمية.
أما سنة 2008 فكانت سنة امتداد الأزمة على المستوى العالمي. فمن الافلاسات العظيمة للمصارف والبنوك في الولايات المتحدة الأمريكية (بنك أمريكا، ليمان براذر..) بدأت المصارف الأوروبية بالانهيار، وبدأ شبح الكساد العظيم يخيم على دول مثل اليونان واسبانيا وايطاليا، بينما وجدت بريطانيا وفرنسا وألمانيا نفسها مجبرة على اتخاذ حزمة من الإجراءات التقشفية واستنزاف ميزانياتها العامة في عمليات إنقاذ مالية غير مسبوقة. وبطبيعة الحال، ما كان ممكنا تجنب توسع رقعة الأزمة الاقتصادية وتأثيراتها الى بقية بلدان العالم، بما في ذلك تونس. وحتى إن بقيت بلادنا بمنأى، نسبيا، عن الأزمة المالية، نتيجة محدودية نظامها المصرفي بالذات وضعف اندماجه في شبكة النظام المصرفي العالمي، فإنه ما كان ممكنا تجنب التأثيرات الاقتصادية المباشرة (تقلص الاستثمار الخارجي، انحسار إمكانيات الحصول على قروض من السوق المالية...) وغير المباشرة (انحسار الأسواق الأوروبية، اشتداد المنافسة والانهيار العام لمعدلات الأرباح...). وهذا ما ستبدأ نتائجه بالبروز شيئا فشيئا، من خلال تصاعد نسب الفقر والتهميش، وانهيار مردودية عديد القطاعات الحيوية مثل الفلاحة المعدة للتصدير وقطاع العقارات وقطاع الملابس والجلود والأحذية، إضافة للأزمة العامة التي عرفتها الشركات الملحقة بقطاع صناعة السيارات ومشتقاتها.
وكان من الطبيعي أن تفاقم البطالة والتفقير والتهميش والتضخم المالي، الذي عصف بالقدرة الشرائية لعموم الشغيلة وموظفي الدولة والقطاع العام وحتى ما يسمى الطبقة الوسطى، أن يستثير موجة من الاحتجاجات، مثل الحوض المنجمي بؤرتها الأولى، لتتواصل هذه الموجة من منطقة لأخرى ومن قطاع لآخر، في شكل انتفاضات محلية وإضرابات قطاعية مكثفة ومتلاحقة.
وتعتبر 17 ديسمبر 2010 تتويجا لهذا المسار الاحتجاجي، وفي نفس الوقت الانتقال به من طابع الاحتجاج المحلي والقطاعي الى مسار ثوري شامل توسعت رقعته بسرعة هائلة، فانتقلت شرارته من سيدي بوزيد الى القصرين، حيث مثلت مدينة تالة نقطة اللاعودة بمواجهاتها الدامية واضطرار قوات البوليس الى الانسحاب، ثم أخيرا ليصل الحريق الثوري أحياء المدن الكبيرة من حي التضامن والملاسين بالعاصمة الى حي الرياض بسوسة وصولا الى الأحياء الشعبية بصفاقس وموجة المصادمات التي عقبت الإضراب العام يوم 12 جانفي 2011، حيث قام المحتجون بحرق المقر الجهوي للحزب الحاكم، كما تم الهجوم على عديد مقرات البوليس وكل رموز السلطة، إضافة لعمليات هجوم على المغازات العامة، ولتعم المظاهرات كل مناطق البلاد متخذة طابعا عنيفا وهجوميا.
ومنذ أواخر ديسمبر 2010 وبدايات جانفي 2011 بدأت تظهر أشكال تنظيم ذاتية. فمن التنسيقيات التي أنشأها النشطاء النقابيون القاعديون والسياسيون، الى ريزومات شبابية اعتمدت خاصة على شبكة التواصل الاجتماعي في تنظيم المسيرات والتحريض وكسر طوق الحصار الإعلامي، وصولا الى بدايات تشكيل لجان محلية ميدانية (خاصة في القصرين) لتنظيم وتأطير المواجهات مع البوليس. لتتحول حالة الانتظام الذاتي الى حالة شاملة وعامة بعد هروب بن علي والانهيار الواضح لجهاز القمع البوليسي تحت تأثير انسحاب الآلاف من الأعوان وخاصة أصحاب الرتب المتدنية، وعجز الجيش (نتيجة خلل هيكلي من جهة ونتيجة قوة الانفجار الثوري والجرأة التي ميزت الجمهور المنتفض من جهة أخرى) عجزه عن ملئ الفراغ الذي تركه وراءه جهاز البوليس المتغول زمن بن علي.
ولقد كان من الواضح آنذاك أن الموجة الانتفاضية الشاملة تسير شيئا فشيئا نحو مزيد التجذر، وأن مطالباتها ذات الطابع الاجتماعي قد بدأت تتجاوز الى ما وراء النظام الاقتصادي السائد. فخلف الفبركة الإعلامية التي كانت تعمل ، خاصة بعد 14 جانفي، على تحويل النشاط الثوري للجماهير الى مجرد مشهديات استعراضية في الشوارع، كانت هناك موجة متفاقمة من الاستلاءات على الملكية البورجوازية (خاصة ملكية رموز النظام وملاحقه وأعوانه)، وحملة طرد للمسؤولين الإداريين والسياسيين في كل المستويات، واحتلال مواقع السيادة (ولايات، معتمديات...)، وفي مواجهة حملة الترعيب التي نظمتها قوات القمع تحت غطاء ميليشيات السرياطي وغيره، والتي ضخمتها القنوات التلفزية (قناة حنبل خاصة)، وبث إشاعات التخويف والفوضى، فإن الجماهير المنتفضة بادرت تلقائيا بإنشاء لجان حماية الأحياء، التي كانت في طريقها الى التحول الى مجالس تسيير اجتماعية في الأحياء والبلدات، حيث جمعت حولها جمهورا واسعا ومناضلين قاعديين سياسيين ونقابيين، وجلبت لها التعاطف الشعبي الواسع. لكن في المقابل فإنها قد أثارت هلع النظام، حتى أن أحد الصحف العالمية كتبت في عناوينها (السوفياتات تعود في تونس)، وجعلته يستشعر الخطر الثوري الهدام الذي تنبئ به، ولم تعد وسائل مواجهتها القديمة ناجعة، فلا القمع المادي المباشر كان قادرا على وقفها ولا تغيير الحكومات وإدماج بعض عناصر المعارضة التقليدية فيها. وكان جليا أنه لمواجهة هذه الانتفاضة العارمة التي بدا واضحا أنها في طور التحول الى حراك ثوري اجتماعي حقيقي، كان لا بد من ثورة مضادة من الداخل، تلتف على المسار الثوري وتغير وجهته نحو الإصلاحات السياسية الفوقية، ولو كان ذلك بثمن التضحية المؤقتة ببعض رموز النظام وممثليه السياسيين في كل المستويات، والمبادرة بإصلاحات سياسية أكثر راديكالية مما طرحه بن علي: فكان العفو التشريعي العام الذي بدا ظاهريا وكأنما هو استجابة لمطالب المعارضة، واستمالة الإسلاميين ونشطائهم، لكنه في الحقيقة كان مجرد تقنين لأمر واقع، حيث كانت الموجة الانتفاضية قد اقتحمت فعليا السجون من الداخل والخارج، وصار واضحا أن الأمر قد خرج عن السيطرة كليا. فكان ذلك العفو التشريعي محاولة لإنقاذ المؤسسة السجنية نفسها وتشريع القتل العشوائي للسجناء الفارين الذين لم يشملهم هذا العفو، بعد التمييز بين السجناء "السياسيين" وسجناء ما يسمى "الحق العام" الذين تم تصويرهم كوحوش منفلتة تهدد حياة الناس، بل وتم تحميلهم كل الجرائم، بينما كان أغلبهم من الشباب المفقر والمهمش وحتى منهم كثير من الشباب المتمرد الذين تم الزج بهم في السجون بتهم حيازة واستهلاك المخدرات أو في جرائم "حق عام" ملفقة، واعترافات تحت التهديد والتعذيب. وكان الإعلان عن حل الحزب الحاكم، والحال أن هذا الحزب قد أصبح جثة هامدة قبل حتى سقوط بن علي نفسه، كان مجرد عملية مشهدية للتنفيس عن الغضب الجماهيري وبث الوهم في أوساطه. ثم جاء حل مجلسي النواب والمستشارين، وكان هذا أيضا استجابة ظاهرية لمطالب المعارضة الراديكالية، لكنه في الحقيقة إقرار بأمر واقع، حيث لم يعد لهذين المجلسين أية شرعية فعلية، وحتى أن كثيرا من أعضائه قد لاذوا بالفرار. ولتدارك الفراغ في السلطة التشريعية (ظاهريا على الأقل)، وأمام الرفض الشعبي العام لأي سرك انتخابي آنذاك، اختار النظام الاعتراف بما سمي بالمجلس الوطني لحماية الثورة، الذي كان يمثل تجمعا حزبيا لا علاقة مباشرة له بلجان حماية الأحياء، ولا حتى بالمجالس المحلية المستقلة التي بادر بها المنتفضون، هذا المجلس الذي كانت تشرف عليه وتؤطره البيروقراطية النقابية وتدعمه لوجستيا بالنظر للضعف الهيكلي لمكوناته الحزبية في تلك الفترة. وكان ذلك الاعتراف من خلال تحويل المجلس الى هيئة شبه دستورية (هيئة بن عاشور) مثلت نسخة معدلة منه، وفي شكل هيئة تشريعية بصلاحيات استشارية، بعد أن تم تنصيب الباجي قايد السبسي على رأس الحكومة الثالثة بموافقة علنية أو ضمنية من كل الأحزاب في مقابل الوعد بتنظيم انتخابات عامة، أي فتح باب التنافس الحزبي على السلطة وخلق مشهد ديمقراطي ليبرالي تحت إشراف النظام نفسه ووفق ترتيباته العامة، وطبعا وفق التوصيات العامة لقوى الرأسمال العالمية.
وبتفريق اعتصام القصبة الثاني بعد أن انفضت عنه الأحزاب ورفعت عنه البيروقراطية النقابية حصانتها، وبعد أن تم قتل وقمع الشبيبة المتبقية التي رفضت حل الاعتصام، ومحاصرة كل بؤر الاحتجاج إعلاميا وبالقمع البوليسي الذي بدأ حينها باستعادة ماكينته، باشر النظام في استعادة ضبط الأوضاع تحت الشعار الشهير "هيبة الدولة"، وبدأت ماكينة صناعة الإرهاب بالاشتغال، وصار تجريم الحراك الاجتماعي بهذه التعلة أو تلك من لوازم الخطابات الحزبية، الأحزاب التي اعتقدت أنها، من خلال القانون الانتخابي الذي أعدته هيئة بن عاشور، قد ضمنت موقعا في السلطة القادمة من خلال المجلس التأسيسي المنتظر.
وباستكمال كل الإصلاحات السياسية الفوقية: حرية التعبير (مع الإبقاء على احتكار وسائل التعبير من طرف لوبيات الإعلام القديمة)، حرية التنظيم (مع فرض الانضباط للقوانين ومحاصرة كل تنظيم تلقائي للجماهير، بل واختراق التنظيمات الجماهيرية وتحويلها الى حلبة للنزاعات الحزبية ثم الى ملحقات حزبية لهذا الطرف أو ذاك لتتحول لاحقا الى مجرد ميليشيات بيد حكومة الترويكا)، حل الحزب الحاكم (مع السماح ببداية ظهور تشكيلات حزبية لإعادة تجميع رموز النظام وإعادة تخديم ماكينته المعطلة)، التحضير لانتخابات ديمقراطية والسماح بالتداول السلمي على السلطة في إطار النظام ومؤسساته القمعية والبيروقراطية، حرية التظاهر (مع فرض "سلمية" التحركات وبالتالي محاصرة كل الاحتجاجات الاجتماعية العنيفة من إضرابات "وحشية" الى الاعتصامات وقطع الطرقات والاستيلاءات...)، وباستكمال هذه الإصلاحات تكون بذلك المعارضة قد حققت الجزء الأعظم، بل والأكثر راديكالية، من برامجها. ويكون النظام قد ضمن استيعاب هذه المعارضة في إطاره العام وفق شروط موازين القوى في تلك المرحلة.
فلو عدنا للبرنامج العام للمعارضة التي تشكلت ضد بن علي، خلال العشرية الأخيرة، فسنجد أنه يرتكز أساسا على مطالب الإصلاحات السياسية التي استعرضناها سابقا: حرية التعبير، حرية التنظيم، الانتخابات، التداول السلمي على السلطة، العفو العام.... أما في الجانب الاقتصادي والاجتماعي فكان الجزء الأعظم من المعارضة متماهيا في برامجه مع النظام السائد، بل أحيانا يقف على يمينه في المطالبات الليبرالية الاقتصادية (الشابي والنهضة نموذجا)، وكان نقدها الجزئي متعلقا بالعائلة المالكة وغياب الشفافية...الخ، وليس الاختيارات العامة. وحتى الجزء الصغير من تلك المعارضة (الأحزاب اليسارية) فكانت مطالب الإصلاح السياسي تطغى على نقدها الجزئي والإصلاحي للنظام الاقتصادي، فكانت خطاباتها الاقتصادية متمحورة حول نقد برنامج الشراكة والخوصصة في شكل شعارات عامة لا ترتقي لنقد جذري عميق أو لبرنامج بديل. وحتى بعض الشعارات الراديكالية من نوع "بناء الاقتصاد الوطني" و"القطع مع الاستعمار"...الخ فلم تكن سوى للتحشيد الحزبي، أو كتقليد إيديولوجي موروث عن مراحل سابقة. ولقد مثلت هذه المعارضة عموما المعبر السياسي عن فئات البورجوازية الصغيرة وعن بعض شرائح البورجوازية المتوسطة وحتى العليا المتضررة من احتكار العائلة المالكة لدواليب الحياة الاقتصادية، وعن "الأنتلجنسيا" السياسية التي تبخرت الآمال التي عقدتها في بن علي مع انتهاء فترة "الانفتاح الديمقراطي" التي بشر بها انقلابه سنة 1987. وهذا ما يفسر (إضافة للقمع والحالة البوليسية التي فرضها بن علي) انفصالها (المعارضة) عن حركة الفئات الواسعة من شباب المعطلين وعن عموم الجماهير المفقرة والمهمشة وحتى عن جمهور الشغيلة وجمهور عمال وموظفي الدولة، هذا الأخير كان يمثل العنصر الغالب في إتحاد الشغل، وبحكم وضعه المترفه نسبيا بالمقارنة بعمال القطاع الخاص وبقية جمهور المفقرين، فقد مثل خزانا مهما للبيروقراطية النقابية ولبيروقراطية الحزب الحاكم وحتى لأحزاب المعارضة، بل إن تأخره في الالتحاق بالموجة الانتفاضية وحمايته ومحافظته على الآلة البيروقراطية الإدارية، قد ساهم في قدرة النظام على المحافظة على نفسه وتجنيبه هزة ثورية عميقة. وحتى الإضرابات في قطاع الوظيفة العمومية والقطاع العام، والتي جاءت متأخرة نسبيا، فإنها في الغالب كانت ذات طابع سكتاري ضيق، بل وأحيانا كثيرة ذات طابع انتهازي لا يربط مطالباته الخاصة بالمطالب الجماهيرية العامة، بل إنه كان يواجه التحركات الاجتماعية للمعطلين والمهمشين وحتى القطاعات المهنية الأخرى بالإدانة ورفض أي شكل من أشكال التضامن.
هذا الانفصال بين المعارضة السياسية لبن علي سواء التي اتخذت خطابا إصلاحيا ليبراليا وحقوقيا، أو التي اتخذت خطابا سياسيا راديكاليا لكنه لا يغادر أرض الإصلاحية العامة، وبين الحركة الجماهيرية التي عبرت موجاتها الاحتجاجية المتلاحقة عن طبيعة مطالباتها الاجتماعية والتي وصلت حد التهديد العملي للنظام نفسه خلال موجتها الانتفاضية بعد 17 ديسمبر، مثلما أسلفنا، هذا الانفصال سيتواصل في شكل مسارين مختلفين، يتواجهان أحيانا، ويندمجان أحيانا أخرى، ويغلب أحدهما على الآخر، ثم تنقلب موازين القوى ليسترجع المغلوب سيطرته: مسار ثوري، بغض النظر عن حالات المد والجزر، وبغض النظر عن نقاط الضعف وحتى العقم أحيانا كثيرة، فإنه في كل مرة كان يعود ليفرض مطالبه وأهدافه التي تتجاوز الإصلاحات السياسية الفوقية مهما كانت راديكاليتها. مسار متعثر لا شك، نتيجة ضعف التقاليد الثورية وسط الجماهير وعدم تطور أشكال تنظيمه الذاتية كما عدم توحيد طاقاته الثورية وصهرها في بوتقة واحدة وتجاوز الطابع السكتاري والانقسامات الإيديولوجية والعقائدية العقيمة والموروثة في أغلبها من فترات تاريخية متجاوزة، لكنه، رغم ذلك، واصل رفع مشعل النضال ومثلت 17 ديسمبر يافطته الرمزية. ومسار التفافي، اختار، بدل المواجهة المباشرة التي كانت ستؤجج الحريق الثوري، اختار أسلوب الاستيعاب المتدرج. فكان يزاوج بين القمع والمحاصرة وبين أساليب المناورة وتقديم المبادرات على جرعات ثم انتظار ردود الفعال، لكنه في كل ذلك عمل على إبقاء المسار الانتفاضي في حدود المطالبات، بما جعل النظام يسبق دائما بخطوة، وبالتالي يبقي زمام المبادرة بين يديه.
لكن أهم عمل التفافي على المسار الانتفاضي كان يتمثل في استيعاب كل أطياف المعارضة تدريجيا. فبعد الاختراق الأول، من خلال اجتذاب أحزاب الديمقراطي التقدمي والتجديد وإدماج رمزيهما في حكومة الغنوشي، وبعد تمكين حزبي النهضة والعمال خاصة من التأشيرة القانونية، وإغراق الحركة الجماهيرية بكم فظيع من المكونات الحزبية الاصطناعية، وفتح الباب للإسلاميين وبعض رموز المعارضة الليبرالية للعودة من المنافي، وتقديم رسائل طمأنة لهم. سارعت البيروقراطية النقابية، هذا السند الكبير للنظام ومنقذه الاستراتيجي، الى لم شمل الشتات الحزبي المتذرر تحت مظلة المجلس الوطني لحماية الثورة، وتحت يافطة "التحول الديمقراطي"، وضمن شروط الاعتراف بالنظام مجسدا في رئيسه المؤقت "المبزع" الوريث القانوني لبن علي، ثم تحت إدارة الوجه القديم المتجدد للنظام "الباجي قايد السبسي". وخاصة، وهذا الأهم، ضمن شروط المحافظة على أهم أجهزة النظام (أجهزة القمع البوليسي والجيش والجهاز البيروقراطي في الإدارة).
وهكذا استطاع النظام أن يضمن المحافظة على أهم الأساسات العامة لبقائه، ويضمن بالتالي أن أية انتخابات ستقع ستكون ضمن تلك الشروط، أي شروط النظام نفسه، مهما كانت نتائجها. وبالتالي فإن من سيحكم لاحقا إنما سيكون حكمه في دائرة النظام وخياراته العامة، بما أن شروط الحكم قد تم ترتيبها سلفا.
ولم تكن المهلة التي أخذها النظام الى حين إجراء انتخابات 23 أكتوبر 2011 سوى لمزيد ترتيب أوضاعه، وكسر آخر معاقل المقاومة الاحتجاجية. وكان التطاحن الانتخابي وأجواء المنافسة الحزبية الشرسة، وبث الانقسامات العقائدية والإيديولوجية، وحتى الجهوية والعروشية، عاملا حاسما في استيعاب المجموعات الشبابية الناشطة واستنزاف طاقاتها في الصراعات الوهمية، والتدمير المنهجي للوحدة النضالية التي ميزت الأشهر الأولى من الموجة الانتفاضية.
لكن، وعلى غير ما تم الترتيب له، لم تكن انتخابات 23 أكتوبر 2011 نقطة النهاية نحو الاستقرار واستتباب الأوضاع. فمن جهة جاءت نتائجها مخالفة لترتيبات القانون الانتخابي المعد على القياس لإنتاج مجلس بفسيفساء شديدة التنوع تمنعه من التحول الى أداة حكم بيد هذا الحزب أو ذاك (مجلس على شاكلة هيئة بن عاشور)، إذ اكتسح الإسلاميون هذه الانتخابات، وبتشكيلهم لتحالف ثلاثي قائم على محاصصات حزبية، بلا برامج ولا خطط سوى اقتسام الحقائب الوزارية واللهث، المتسرع في الغالب، نحو ما توهموا أنه بإمكانهم الاستيلاء عليه، أي الحكم، بينما كان هذا الأخير (أي الحكم) قد تم حسمه قبل ذلك لصالح اللوبيات المتنفذة في أجهزة البوليس والجيش والإدارة البيروقراطية، بمشاركة مقنعة للبيروقراطية النقابية. هذا الواقع بالذات، هو ما سيكون سببا في الفوضى السياسية التي ستتفاقم شيئا فشيئا مع توحد أطياف المعارضة المنهزمة، وعجز المجلس التأسيسي عن القيام بالمهام التي أنتخب من أجلها، بل صار حلبة للنزاعات والمطاحنات، وجني الامتيازات، بل وأن هذا المجلس قد خرق الشرط الأساسي لكل انتخابات، أي المدة النيابية، بما نزع عنه حتى الشرعية القانونية، وبدا واضحا أن أغلبيته قد حولته من مجلس تأسيسي مؤقت بمهام محددة الى مجلس حكم دائم هو أقرب للبرلمان العادي منه للمجلس التأسيسي. هذا الجو العام من التنازع السياسي مثل أرضا خصبة لعودة الموجة الاحتجاجية. هذه الأخيرة اتخذت أشكالا جديدة، حيث استعاضت الجماهير عن أشكال التظاهر الجماهيرية الواسعة، الأقرب للمشهدية السياسية، بأشكال احتجاجية مباشرة، وبمشاركة جماهيرية أوسع، منطلقة من المحليات الأصغر (بلدات، قرى، أحياء، مناطق صناعية) وبمطالبات اجتماعية مباشرة تتعلق بظروف الحياة اليومية، من المطالبات بتحسين الخدمات الاجتماعية (صحة، نقل، ماء صالح للشراب...) الى مطالبات بالتشغيل والترسيم والترفيع في الأجور وفي نصيب أوفر من الثروة الاجتماعية... وأهم ما ميز هذه الحركة الاحتجاجية انفلاتها، بشكل عام، عن كل تأطير بيروقراطي حزبي أو نقابي، كما حدة مواجهاتها مع قوات القمع وتلاحم المنتفضين وتوحدهم، وما لقيته هذه التحركات من تعاطف شعبي واسع (حي الملاحة، المنطقة الصناعية قصر السعيد، سليانة، الحنشة، أم العرايس، السند، قابس...).
لكن هذه الموجة الاحتجاجية الجديدة المتفاقمة، والناتجة أساسا عن تواصل نفس السياسات الاقتصادية والاجتماعية للنظام "القديم" على يد "الحكام الجدد"، مضاف لها عودة نزعات المحسوبية وتوزيع الغنائم على الأنصار والمريدين، وتفاقم مظاهر الفساد، واجهت (الموجة الاحتجاجية) طرفين متنازعين فيما بينهما. طرف حاكم يرى فيها مؤامرة من المعارضة واتحاد الشغل، وطرف يرى فيها فرصة ووسيلة لتصفية حسابه السياسي وإعادة قلب الموازين.
ومع اغتيال أحد أهم رموز المعارضة السياسية (شكري بلعيد) ثم محمد البراهمي، واستثمار الغضب الشعبي الواسع كورقة ضغط سياسية تحت ما سمي لاحقا (الحوار الوطني)، ومع استعادة النظام "القديم" لوجوده السياسي على يد حزب نداء تونس وتشكيله لقوة سياسية جديدة استقطبت حولها خليطا من وجوه البيروقراطية النقابية القديمة ومن وجوه محسوبة على اليسار عموما كواجهة مسنودة بماكينة الحزب الحاكم السابق (التجمع الدستوري الديمقراطي) ولوبيات التأثير الاقتصادي والمالي وبرضا وترحيب لوبيات الداخلية والجيش والكوادر العليا للبيروقراطية الإدارية، ومع قدرة هذا الحزب على جر كثير من الأحزاب المعارضة وراءه في إطار ما سمي بجبهة الإنقاذ، كل ذلك جعل من المستحيل على الترويكا الحاكمة مواصلة إمساكها بالسلطة بدون تعريض النظام نفسه لخطر انفلات ثوري شامل، أو بدون تعريض نفسها لخطر انقلاب دموي ضدها، فاختارت الانسحاب "السلمي" تدريجيا من الحكم، بعد أن حاولت ترتيب ما يمكن ترتيبه، وعقدت ما يمكن عقده من صفقات لتجنب مصير الإسلاميين في مصر، ولترك الباب مفتوحا لإمكانية عودتها للحكم.
وفي هذا الإطار العام تنزلت انتخابات 26 أكتوبر 2014، وهي على الأرجح مرتبة لعودة رموز النظام "القديم" لكن مع فتح الباب لمشاركة الإسلاميين وخلق ديكور ديمقراطي جديد يضمن عودة الاستقرار واستتباب الأوضاع، ويستوعب الحركة الجماهيرية في إطار الثنائية التقليدية سلطة/معارضة، خاصة وأن النظام مقدم على اتخاذ إجراءات تقشفية كبيرة في إطار تطبيق "الإصلاحات" التي يطالب بها صندوق النقد الدولي، ويضعها شرطا مسبقا لمواصلة دعمه المالي والذي بدونه ستجد الدولة نفسها في مواجهة خطر الإفلاس والعجز.
لا شك وأننا نعيش في هذه المرحلة فترة خمود نسبي للمسار الثوري نتيجة أسباب عديدة ومعقدة لعل من ضمنها استنزاف طاقات الحركة الجماهيرية في النزاعات الحزبية على السلطة واستقطاب أكثر عناصرها نشاطا ضمن الأطر الحزبية المتشظية والمتصارعة وبث الانقسامات الحادة بينها في ثنائيات صراع وهمية: سلطة/معارضة، نظام "قديم"/نظام "جديد"...الخ، وفي استقطابات انتخابوية لا علاقة لها بالاستقطاب الطبقي الفعلي بين جمهور الشغيلة وعموم المفقرين والمهمشين والمعطلين وبين الطبقة السائدة وكل أجهزة حكمها، كما لا علاقة له بالأهداف العامة التي انطلقت من أجلها الحركة الاحتجاجية ذات 17 ديسمبر 2010. هذا إضافة للقصف الإعلامي اليومي واستغلال ورقة الإرهاب لتشريع عسكرة المجتمع وقمع كل بؤر المقاومة والاحتجاج.
كما ولا شك أن الأسلوب الالتفافي الذي اعتمدته الثورة المضادة استطاع، ولو مؤقتا، أن يحقق أهدافه في الحفاظ على النظام السائد وتجنيبه هزة ثورية كانت ستعصف بأساساته العميقة. وأكثر من ذلك فقد استطاع الأسلوب الالتفافي أن يبث مشاعر الإحباط واليأس في أوساط الشبيبة الثورية وعموم الحركة الجماهيرية الى درجة أن ظلال الماضي البورقيبي قد عادت لتبسط هيمنتها في المخيال العام، بل وأن خطابات رجعية من نوع "يا حسرة على بن علي" قد تسربت حتى في صفوف ضحاياه ومفقريه ومهمشيه.
لكن رغم كل هذا، فإن إشارات عديدة تفتح باب الأمل في استعادة المسار الثوري لوهجه. ولعل أهم تلك الإشارات نسبة المقاطعة المرتفعة للسيرك الانتخابي، رغم كل حملات الدعاية والهرسلة والتخويف. هذه المقاطعة التي تعبر في أغلبها عن حالة احتجاجية عامة ولو أنها مازالت في طور سلبي. كذلك عدم انقطاع حبل النضالات الاجتماعية برغم الحصار الإعلامي والتعتيم المتعمد عليها. كما اشتداد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وعجز النظام على وقف نزيف موجة غلاء الأسعار وارتفاع نسب البطالة والفقر، مضاف إليها انهيار معدلات الربح العامة في عديد القطاعات الإنتاجية، بما من شأنه تقليص حجم الاستثمارات الرأسمالية وانحسارها في القطاعات ذات الربحية العالية والتي هي في أغلبها لا تستوجب يد عاملة كبيرة (قطاع الاتصالات والخدمات). ولا ننسى أن الضغوط الكبيرة على ميزانية الدولة من جراء تسديد الديون الخارجية التي حلت آجالها ستكون نتيجته الحتمية انهيار الخدمات الاجتماعية العامة خاصة بالنسبة للفئات الأكثر فقرا. وحتى الانتعاش الظرفي والجزئي الناتج عن انخفاض أسعار المحروقات في السوق العالمية والمحصول الاستثنائي في بعض القطاعات الفلاحية (الزيتون)، فإنه من المستبعد أن يخلق حالة ازدهار عامة تمكن النظام من هامش مناورة تسمح له بإدارة أزمته الخانقة.
أخيرا فإن المسار المسار الثوري هو في حاجة اليوم، أكثر مما مضى، لأبنائه الشرعيين من مناضلين أفراد مستقلين أو متحزبين ومن مجموعات وتنظيمات، لتوحيد الصفوف وصهر الطاقات في بوتقة ثورية متلاحمة بوصلتها مسار 17 ديسمبر في رمزيته الثورية وأهدافه من أجل تغيير اجتماعي جذري، في مواجهة مسار 14 جانفي في رمزيته الانقلابية والالتفافية وأهدافه من أجل إنتاج وإعادة إنتاج النظام السائد.