الثورة الاشتراكية والقيَم والحريات الديمقراطية


هاني عضاضة
2015 / 1 / 25 - 23:57     

إن النضال من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في مشرقنا العربي، هو في جوهر النضال الطبقي ضد الطبقات المتحكّمة بثروات المجتمع الاقتصادية ووسائل إدارته السياسية ومختلف مؤسساته الاجتماعية والثقافية.
يرتبط النضال الطبقي الاجتماعي بهدف القطع مع الرأسمالية، وبناء الإشتراكية، ارتباطاً وثيقاً بالنضال من أجل الحريات العامة والفردية، والقيَم الليبرالية الحديثة، بل هو النضال الحقيقي من أجل نقل تلك الحريات والقيَم إلى أرض الواقع، أي نقلها من الدساتير والقوانين المدوّنة، إلى الحياة اليومية لكل الأفراد، وفي مختلف الميادين. فتلك القيَم والحريات، من المساواة في الحقوق والعدالة الاجتماعية وحقوق المرأة والطفل ورفض التمييز بحسب الجنس أو الجندر أو الدين أو العرق أو اللون أو اللغة، إلى حرية الرأي والتعبير والمعتقد والفكر والنشر والحصول على المعلومات... الخ، هي مكتسبات ثورية حققها المجتمع البشري، تطال بناه الفوقية بشكل أساسي، وتنقلها من طورٍ إلى آخر، وهي نتاج ثورات سياسية واجتماعية وتطورات وتغيرات تاريخية، دفع الإنسان ثمنها دماً وسجناً وعذاباً كثيراً. إن هذه القيَم والحريات تختصر عذابات الإنسان وآلامه، خلال قرون عديدة، من أجل عالمٍ أفضل وأكثر إنسانية.
ولكن تلك القيَم والحريات، ولو كانت في البدء نتاج التحوّلات الليبرالية، وهي تحوّلاتٌ ثوريةٌ في التاريخ، في فترات انتقالٍ ثوريٍ من علاقات الملكية الإقطاعية لوسائل الإنتاج إلى علاقات الملكية البرجوازية لها، وحتى مع ظهور دولة المواطنة الحديثة وتطوّرها على مراحل عدّة، من دولة الشرطي الحامي لرأس المال حصراً، إلى دولة الرعاية وغيرها من النماذج، تحت ضغط الأزمات الاقتصادية للرأسمالية، فإن تطبيقها الفعلي يتعارض مع القوانين الرأسمالية التي تتيح للفرد التحكم بقوة عمل غيره من الأفراد عبر علاقة رأس المال - العمل المأجور، وهي علاقة غير متكافئة، علاقة عبودية حديثة، تسمح للرأسمالي بوضع يده على ما يصنعه ويكتشفه ويبدعه المنتجون، وهم يرتضون طوعاً، بفعل الثقافة السائدة والقوانين الملزمة للدول الرأسمالية، تسخير قواهم الجسدية والفكرية لمصلحة الرأسمالي، مقابل أجر لا يساوي قوة عملهم المبذولة في الإنتاج، بحيث يراكم الرأسمالي الأرباح دون جهد، ما يسمح له بتوسيع مشاريعه، واستقطاب المزيد من العمال للتحكّم بقوة عملٍ أكبر، فيما يكتفي العمال بتعويض قوة عملهم من خلال الاستهلاك، الذي يكون بمعظمه جماعياً – أي عائلياً عبر وحدات استهلاكية منظّمة من خلال الدولة الرأسمالية ومؤسساتها، الدينية و/أو المدنية منها.
فليست قوة العمال فقط هي التي تشكّل مواضيع استثمار بالنسبة للطبقات الرأسمالية، بل وعائلات العمال برمتها. فالعائلة العاملة من جهة تخضع لعلاقات الملكية الرأسمالية، التي تفرض عليها مداخيلاً محددة، على شكل أجور محدودة، فتفرض عليها بالتالي نمطاً معيناً من الاستهلاك، لا تلبث أن تعتاد عليه، ينعكس سلباً على كل المستويات الاجتماعية والثقافية والفكرية والعلمية للعائلة، التي لا تستطيع تحديد خياراتها ورغباتها، بل تلتزم بالخيارات المصنوعة لها سلفاً، والتي لا تبني سلوكياتها وروتينها اليومي إلّا بفعل تدخل العوامل الخارجية القاهرة المتمثّلة بالأوضاع الاقتصادية الصعبة، للعائلة العاملة، المنتمية لطبقة كاملة من العائلات العاملة. ومن جهة أخرى، فإن العائلة العاملة تدفع ثمن انعدام التوازن في توزيع تلك المداخيل، لتعاني من الفقر والاضطراب والتشتّت الاجتماعي، وانعدام الأمن والأمان، وتصبح عرضةً للأمراض التي لا تملك ثمن التخلّص منها، والأوضاع السيئة التي لا تملك القدرة على معالجتها، والحروب التي تضطّر إلى مدّها بالجنود المقاتلين، الذين يدفعون ثمن حروبٍ لم يقرّروها، والتي تفتعلها بشكلٍ أساسي المنافسة بين القوى الرأسمالية الاحتكارية والدول التي تسيّر الجيوش من أجلها، كما تمدّ المنشآت الرأسمالية بالعمال، الذين يدفعون ثمن أوضاع لم يختاروها، بل تختارها الدولة الرأسمالية التي تمثّل مصالح الطبقة الاجتماعية الأقل عدداً، والأكثر سيطرةً.
ولكن إمكانية التطبيق الفعلي للقيَم والحريات الديمقراطية، والتي تشكل منظومةً قيميَةً وثقافية نتجت عن التحولات الليبرالية، تتعارض مع الفهم الإنقلابي الذي تتسم به الليبرالية نفسها، كثقافة سائدة في المجتمع الرأسمالي، وهو الفهم الذي يعكس البنيان الطبقي لهذا المجتمع، فتلك القيَم والحريات، تسري كنموذج تطبيقي، على الطبقات المتحكّمة بالثروات، وإلى هذا الحد أو ذاك، على شرائح من البرجوازية الصغيرة والفئات الأعلى دخلاً من الطبقة العاملة، أي الملّاكين المتوسطي الحال والمدراء وبعض أصحاب المهن الحرّة. ويمكن لنا أن نذكر مثالاً طريفاً من رحم واقعنا اللبناني، عن الإنفصام بين الوعي والواقع، وهو نفس الأمر الذي تعاني منه شرائح واسعة من العمال والفقراء العرب الذين ارتموا في أحضان الثقافة السائدة: شاب يناضل من أجل حقه المشروع في الزواج المدني، وهو حقٌ طبيعي لا يجيزه القانون في لبنان، ولكن هذا الشاب غير قادر على تحمّل تكاليف الزواج، فهو إما معطل عن العمل بفعل قانون العرض والطلب الذي يحكم النظام الاقتصادي القائم، أو يعمل بأجرٍ محدود لا يخوله تحقيق إلا جزء يكاد لا يذكر من طموحاته، وببطء شديد. وإذا ما سألناه "لمَ لا تناضل أيضاً وبنفس الجهد من أجل تحسين أوضاعك الاجتماعية، في الحزب السياسي والنقابة وغيرها من الأدوات، لكي تستطيع تأمين ظروف ذاك الزواج الذي تطالب به؟"، نراه يتراجع، أو يبرّر، أو يهاجم، متهماً السائل بالوقوف ضد حقه. ولكن، هل هو حقاً يعي حقه؟ ويسأل السائل نفسه: كيف ستكون ردة فعل ذلك الشاب، عندما يحصل على حقه المشروع، في ذاك الزواج، ويكتشف بأن إمكانية ممارسة ذلك الحق ليست متاحةً له، بسبب أوضاعه الاجتماعية، بالرغم من جهده وتعبه، وهي متاحة حصراً لغيره، من أولاد الرأسماليين، بالرغم من كسلهم وخمولهم؟ ربما يجد مبرّراً جديداً، للهروب من واقعه، وربما سيعرف طريقه نحو الثورة.
يبدو التناقض واضحاً، بين التطورات الهائلة التي طالت البنى الفوقية، بكافة مستوياتها، منذ الثورة الصناعية، من قوانين وحقوق وسياسة وتقاليد وفنون وعلوم وأخلاق وأفكار ومعتقدات وإيديولوجيا، والتطورات البطيئة التي تعتري البنى التحتية، المتمثّلة بعلاقات الإنتاج الرأسمالية المتزايدة في تناقضها، إلى حد التناحر في معظم الأحيان، مع القوى المنتجة. وما الأزمات الاقتصادية والمالية التي تتوالى الواحدة بعد الأخرى، والحروب الأميركية الاستعمارية بحجة "محاربة الإرهاب" تارةً أو "القضاء على أسلحة الدمار الشامل" طوراً، والحروب الدموية ذات الطابع الديني أو الطوائفي أو الإثني، التي تجتاح العالم هنا وهناك، وتجعل من حركة الرساميل أكثر نشاطاً، في حين تقتل الملايين وتدمّر حياة عشرات الملايين بشكل دائم، إلّا دليل على ضرورة الإنتقال نحو عالمٍ لا يتحكّم فيه رأس المال "الحرّ"، منتج معظم الحروب، ومنتج معظم الويلات التي تصيب عالمنا اليوم. ولكن النضال مستحيل دون وعي هذه التناقضات، وظروف تشكّلها، ونتائجها المباشرة وغير المباشرة، والاجتماعية والسياسية، ووعي التناقض بين حرية "الفرد الرأسمالي" وحرية "الفرد الإنسان"، فالرأسمالية تنادي بحرية الفرد، وهي بهذا تعني حرية الرأسمالي حصراً، فيما الإشتراكية تنادي بحرية الإنسان، الحرية المطلقة للإنسان، دون أي تمييز. فالنضال الحقيقي إذاً مستحيل دون وعي كل هذه التناقضات، وهذا ما يؤكده ماركس، في قوله: "الفقر لا يصنع الثورة، إنما وعي الفقر هو الذي يصنع الثورة، الطاغية مهمته أن يجعلك فقيراً، وكاهن الطاغية مهمته أن يجعل وعيك غائباً". والثورة هنا تعني النضال من أجل تثوير كافة البنى في المجتمع على حد سواء، وهذا يعني النضال من أجل إلغاء علاقات الإنتاج الطبقية، إقطاعية ورأسمالية كانت، وفي الوقت نفسه النضال لجعل كل القيَم والحريات الديمقراطية التي أثمرتها الثورة البرجوازية متاحة لكل أفراد المجتمع، بدل أن تكون حكراً على الطبقة البرجوازية المسيطرة. وفي سيرورة إلغاء علاقات الإنتاج الطبقية، على النضال أن يكون موجهاً نحو إلغاء الطبقة البرجوازية، عبر تكوين شروط نفيها، أي تكوين شروط نفي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج على أساس التشريك الجماعي، نفي نظام السوق الرأسمالي على أساس الإدارة التعاونية، ونفي علاقة العمل المأجور على أساس العمل الحر الذي لا يفرض على صاحبه حالةً من الإغتراب الذاتي. وهكذا فقط، سيصبح بإمكان الإنسان، خلق ظروف إنسانية فعلية.