تقعر الهوية الوطنية السورية


ثائر الناشف
2015 / 1 / 23 - 23:11     

خمسون عاما انقضت من تاريخ سوريا المعاصر ، وانقضى معها خمسة أجيال ، والهوية السورية تزداد تقعرا وتآكلا وغيابا ، في ظل غياب البدائل الوطنية الأخرى ، وبروز الأنا الشخصية ، التي تضخمت إلى أقصى حدودها ، خلال السنوات الأربع الأخيرة التي عاشت فيها سوريا محنتها الإنسانية .
والسؤال الذي يحضر دائما في الذهن ، عن المتسبب الأول في تقعر الهوية الوطنية السورية ، والمسؤول عن هذ التآكل المريع الذي عبر عن واقعه البائس في التصدعات والتشققات التي أصابت النسيج السوري ؟ .
المسؤولية تقع أولا على الكيان السياسي، الذي لعب دوره الكبير في تقعير الهوية الوطينة السورية، واستبدلها بالهوية الطائفية، التي عبرت عن نفسها بكل قوة، خلال مراحل تطور الصراع السياسي والعسكري، الذي شهدته سوريا إبان الثورة ، وبالهوية الفئوية الشخصانية التي لم تر أبعد من الأنا، وربما تتسع أحيانا لتشمل العائلة والملة في أقصى حدودها .
نظام الأسد الذي استفرد بالسلطة الأمنية والعسكرية، نسف وجود المجتمع المدني وهيئاته الوطنية، لصالح تعزيز حزبيته الفاشية، التي عبرت عن نفسها بمشاريع وهمية أسطورية، استطاع خلال سنوات استفرده الطويلة، رسم شكل الهوية وتحديد مضمونها الفئوي والطائفي الذي عبر عن نفسه خلال الثورة.
الثورة السورية كانت امتحانا للإرادة السورية، واختباراً حاسماً لاصطفافاتها الوطنية والفئوية والطائفية، كشفت عن الهوة العميقة التي عاشتها سوريا في سياق الغياب الكامل لهويتها الوطنية التي تقعرت واندثرت، كنتيجة لاستمرار غياب الثقافة والانتماء الوطني.
كما أن المسؤولية تقع كذلك على الشرائح المجتمعية السورية، التي لم توفر لنفسها المساحات المطلوبة للاندماج الأهلي في صورته الوطنية ، رغم الدعاية الرمادية التي كان يروجها نظام الأسد عن التلاحم الوطني، ليبرر وجوده في السلطة على حساب وجود الهوية الوطنية ، فلولا تلك الدعاية المستهلكة في أبعد حدود الاستهلاك السلطوي، لفقد نظام الأسد كل مبررات وجوده .
وغياب الهوية السورية ببعدها الوطني ، أنتج غياباً كاملاً للشخصية السورية ، التي أصبحت في أرشيف الماضي وفي دفاتر التاريخ ، وما هو موجود اليوم شخصية لا تشعر بانتمائها الوطني للجغرافيا والتاريخ ، ولا تعرف شيئا عن الثقافة الوطنية ، ولم يتح لها ممارسة تلك الثقافة والتعبير عنها في إطار الدفاع عن القضايا الوطنية ، لصالح الانشغال في قضايا ثانوية من صنع السلطة المستبدة .
رغم سوداوية الصورة التي نراها اليوم في سوريا، إلا أنه ثمة أمل كبير في إعادة الاعتبار للهوية السورية، على ضوء المأساة الإنسانية التي تعصف بسوريا ، فمثل هكذا أزمات ومآسي يمكن أن تضع حداً للدعاية الرمادية والتضليل السياسي الذي أسهم في تقعير الشخصية على مدار السنوات الخمسين المنصرمة .
فالشعوب التي مرت بمآس ومحن ، خرجت أقوى مما كانت عليه قبل أن تعيش مأساتها ، والأزمات السياسية الكبرى ، تميط اللثام عن الكثير من القضايا التي كانت مغيبة عن أذهان الشعب ، والفرصة لا زالت قائمة أمامنا لنعيد الاعتبار لهويتنا الوطنية، التي افتقدناها لزمن طويل ، بعد أن ظن الكثير من السوريين أنهم يملكونها، لكنهم في الحقيقة لم يكونوا يملكون سوى ذاتهم التي لم تكن ترى أبعد من ذاتها .
إعادة الاعتبار للهوية الوطنية ، يكون من خلال إعادة الاعتبار للوطن ، وإعلاء قيمته على حساب كل القيم الشخصية الأخرى، ولا يمكن أن يتأتى ذلك إلا من خلال تعزيز ثقافة الانتماء الوطني، وهذا التعزيز لا يكون بالقسر أو بالقوة أو بالدعاية السياسية ، بل من خلال تعميق الشعور بالحب للوطن . والحب هو البلسم الذي نحتاجه اليوم في سوريا لرد الاعتبار للشخصية الوطنية السورية ، وهو أساس الثقافة الوطنية .
بلوغ الشعور بالحب الكامل للوطن ، ليس أمراً يسيراً ، فدونه الكثير من العقبات ، التي تعترض طريقه ، وتذليل العقبات يبدأ من إدراك الشخصية السورية، لحقيقة أن كل الخيارات الأخرى لاستبدال هويتها السورية بهويات أخرى ، لا يحل أزمة الانتماء الوطني بل يعمقها ، فليس من السهل الانسلاخ عن الهوية بكل مورثاتها التاريخية .
فعندما تخرج الشخصية السورية من أزمتها السياسية ومأساتها الإنسانية الراهنة ، لا بد لها أن تصل لمرحلة الإدراك الكامل، أنه لا بديل لها عن هويتها الوطنية ، مهما حاولت استبدالها بهويات أخرى، كنوع من الهرب عن الذات ، وهذا الإدراك هو الأساس الصلب الذي يمكن أن نبني عليه الهوية السورية الجديدة ، ومن خلاله يمكن أن يتعزز الشعور بالحب للوطن ، وبالتالي تعزيز الشعور بالانتماء الكامل للوطن .