اليسار في الثورة السورية


عديد نصار
2015 / 1 / 17 - 00:09     

في ظل واقع الأحزاب الشيوعية التقليدية ومواقفها الانتهازية، كان الرهان الحقيقي على انبلاج يسار جديد من رحم الانتفاضات. فلن تتمكن هذه الانتفاضات من أن تتحول الى ثورات حقيقية بدون يسار ثوري يجذرها ويهبها الرؤية والمشروع والبرامج، ويحميها من تغول القوى المضادة للثورة وسطوة الظلاميين.
في سوريا، ومنذ الأيام الأولى للثورة، برزت مجموعات يسارية عديدة تشكلت من ناشطين مدنيين تتوزع في عدة مناطق. منها ما هو مستجد ومنها ما تشكل من عناصر وكوادر شيوعيين غادروا أحزابهم. وفيما كان الخطاب اليساري يحاول فرض نفسه في قلب الثورة بدا أن المهمة ستكون معقدة وصعبة وشديدة الخطورة، أما الصعوبات (منها ما هو ذاتي ومنها ما هو موضوعي) فق جعلت هذه المهمة شبه مستحيلة.
فالذين تركوا أحزابهم كان ينقصهم الكثير من الوعي الثوري والتجربة السياسية الحقيقية والمقدرة التنظيمية ولم يتمكنوا من التخلص من الموروث الشيوعي القديم الذي حكم نظرتهم الى ذواتهم والى الواقع، فكانت رؤيتهم يشوبها الكثير من الخلل الذي أعاق عملهم وبالأخص في توحيد يسار الثورة لكي يصبح قوة يعتد بها وليرسم مشروعه ويعلن خطابه.
والذين ائتلفوا كيسار جديد كانت تنقصهم الخبرة التنظيمية والكوادر الكافية والإمكانيات اللازمة كي يتوسعوا ويتوحدوا في تيار يساري مؤثر.
ورغم انخراطهم جميعا في العمل المباشر على الأرض، والذي تجسد في التظاهرات السلمية ورفع الشعارات الثورية وتوزيع المنشورات وتعبئة الشباب، ولاحقا في عمليات الإغاثة، ورغم المحاولات الكثيرة لتشكيل ائتلاف واسع، لم يتمكن يساريو الثورة السورية من تحقيق هذا الهدف الأولي والضروري.
قد تكون العوامل الموضوعية لعبت الدور الأبرز في ذلك. ومن هذه العوامل:
- كان على يساريي الثورة في سوريا أن يواجهوا مواقف الأحزاب الشيوعية الرسمية محليا وعربيا، وأن يدحضوا المزاعم التي تطلقها في وجه الثورة والاتهامات التي كانت تسوقها في وجوههم، كانوا مضطرين لخوض معارك سياسية لا تنتهي مع كوادر من تلك الأحزاب الذين لعبوا دورا خسيسا في الاساءة والتشويه بحق عناصر أساسيين في يسار الثورة ما ساهم في تعطيل محاولات كثيرة لانتاج جبهات يسارية فاعلة تسهم في تجنيب الثورة المآزق الناجمة عن غياب القيادة السياسية الثورية، وتركها فريسة لقوى الظلام والارهاب الديني،
- وكان عليهم أن يقنعوا الشارع بأن يسارا ثوريا منخرطا في قلب الثورة هو أمر ممكن، وأن الأحزاب الرسمية ليست سوى أحزاب ملحقة بالنظام.
- وكان عليهم أن يدخلوا في نقاشات كثيرة في ما بينهم من أجل تشكيل تيار يساري في الثورة، ما أخذ الكثير من وقتهم وجهدهم،
- وكان عليهم مواجهة النزعة الطائفية التي فرضها سلوك النظام والمليشيات الطائفية التي تدعمه وترتكب من أجل حمايته المجازر المروعة ذات المظهر الطائفي، وصعود الجهاديات المدعومة إقليميا والتي تنطلق في صراعها من خلفيات دينية لا سياسية،
- ولكن الأخطر على الاطلاق كان حقيقة تمثيلهم النقيض الحقيقي للنظام الذي ومنذ البدء شن حملة دموية ضدهم لاستئصالهم من الشارع بشكل كامل. فمنذ البداية كانت الملاحقات والاعتقالات والاغتيالات والخطف ينتظر كل من طاولته أجهزة النظام. وكان القتل تحت التعذيب ينتظر كل من يعتقل منهم، برغم أنهم لم يمارسوا اي فعل مسلح.
- أما في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، فكانت القوى الظلامية المخترقة من أجهزة النظام نفسه ومن أجهزة استخبارات عربية وإقليمية متعددة تلاحقهم وتختطف من تقع أيديها عليه منهم، ما اضطر عددا متزايدا منهم الى الخروج من سوريا.
أما ابرز التجمعات اليسارية المنخرطة في الثورة السورية فكانت:
- تيار اليسار الثوري وقد عمم خطابا يساريا مؤيدا للثورة داعيا الى تجذيرها وتوسيع مساهمة العمال والمفقرين فيها،
- هيئة الشيوعيين السوريين قد حاولت تجميع الشيوعيين الذين تركوا الأحزاب والتحقوا بالثورة ولم تحقق ما تصبو اليه،
- ائتلاف اليسار السوري الذي كانت قد تشكلت نواته قبيل الثورة ثم بدأ يتوسع وينشط منذ الأيام الأولى لها، حيث شارك في المظاهرات العديدة في دمشق وريفها وكان اصدر نشرية "يساري" التي تضمنت رؤيته وتحليله السياسي ومواقفه وقد صدر منها اثنان وثلاثون عددا وزع معظمها في دمشق وامتد توزيع بعض أعدادها ليشمل مناطق أخرى وصولا الى لبنان في بعض الأحيان، وكانت له مساهمة اساسية في إطلاق "الشباب السوري الثائر"، التيار الشبابي الذي ضخ في رئتي الثورة السورية نفسا شابا وطنيا وحدويا ورفع أهداف ومطالب الشعب السوري في الحرية والشغل والعدالة الاجتماعية وفي تحرير الجولان وفلسطين. غير أن إصرار هذا التيار الشبابي على النشاط السلمي لم يمنع أجهزة النظام من ملاحقة ناشطيه وإلقاء القبض على عناصر أساسية فيه وزجهم في المعتقلات حيث قضى معظمهم تحت التعذيب.
ظل يسار الثورة في سوريا أمينا على أهداف الثورة الأولى ولم يرتهن للاجندات الخارجية ولم تلوثه أساليب الدعم الخارجي المشبوه، ظل يعتمد على التمويل الذاتي المحدود رغم أن جميع عناصره وكوادره ينتمون الى الطبقات الفقيرة التي كانت هي عصب الثورة ووقودها.
لم يحرم يسار الثورة من اي دعم مادي أو معنوي داخلي او خارجي فحسب، ولكنه حرم من تظهير مواقفه ونشاطاته إعلاميا. ففي حين كانت وسائل الاعلام العربية والأجنبية تعمل على تظهير اي سلوك طائفي يخترق اي تظاهرة أو نشاط، كانت تتعامى تماما عن نشاطات الشباب السوري الثائر الذي كان ينشر أخباره عبر الفايسبوك وقناة خاصة على اليوتيوب.
اليوم، وبعد أن سيطرت أجندات الأنظمة على الساحة السورية عبر الحرب بالنظام والحرب بداعش وبالنصرة وأخواتهما، والحرب عليهما، في ظل سيطرة المليشيات الظلامية سواء المؤيدة للنظام أو التي سيطرت في المناطق التي خرجت عن سيطرته، في ظل النزوح العظيم للحاضنة الشعبية وبعد استئصال الناشطين السلميين هنا وهناك، تراجع دور يسار الثورة بانتظار إعادة تنظيم نفسه بالطرق التي تناسب المرحلة ليكون مجددا العين التي ترى والعقل الذي يفسر واليد التي ترتفع والصوت الذي يهتف مجددا بالأهداف والشعارات التي تعبر فعلا عن طموحات ومصالح وأهداف الشعب السوري العظيم من ثورته.