الأحزاب الشيوعية و-نهاية عصر الثورات-


عديد نصار
2015 / 1 / 14 - 21:25     

لم يكن فرانسيس فوكوياما وحيدا في طرحه لنظرية "نهاية التاريخ". فما أن انهارت أحلام الأحزاب الشيوعية، السوفييتية المركز، حتى أعلنت نهاية عصر الثورات وتبنت، بل أعلنت "إيمانها" الراسخ بالتغيير الديمقراطي وبالانتخابات طريقا وحيدة للتغيير.
لم يمض اكثر من سنوات على إطلاق فوكوياما نظريته حتى تداعى غالبية مثقفي الغرب والشرق الى إعادة قراءة ماركس ومؤلفاته وفي مقدمها كتابه الشهير "رأس المال" بحثا عن الأسباب الحقيقية لأزمة نظام رأس المال التي تجددت ولكن بشكل ينبئ أن الخلل الذي نتجت عنه هذه الأزمة هذه المرة (2008) يرقى الى مستوى الخلل البنيوي الذي لا فكاك منه طالما استمرت سيطرة نظام رأس المال على العالم.
ورغم الانتعاش (والزهو) الذي أصاب الشيوعيين نتيجة استعادة، وإعادة إكتشاف مثقفي العالم لماركس ولمؤلفاته، فإنهم لم يتخلوا عن نظريتهم غير المعلنة "نهاية عصر الثورات" واستمروا من خلال أحزابهم يتوسلون الصناديق ليتعرفوا على أحجامهم في بازار اللعبة السياسية لأنظمة سيطرة الطبقات البرجوازية التابعة لمراكز الهيمنة الإقليمية والدولية، الانتخابات التي تديرها تلك الطبقات من خلال أدواتها السلطوية، في جميع مراحلها. وقد أكدت جميع الانتخابات التي شاركت فيها الأحزاب الشيوعية خلال العقدين الأخيرين، مدى هزال أحجامها وتمثيلها الشعبي، بالمقاييس التي اعتمدها النظام، والتي لا يمكن تغييرها إلا بتغيير هذا النظام.
وبدلا من أن تعيد الأحزاب والقوى الشيوعية النظر في استراتيجيتها العامة لتتمكن من الالتحام بقضايا الناس اليومية ومشاغلهم وهمومهم، ظلت تفتش بين قوى النظام عن تلك القوى التي تمكنها عبر التحالف معها من بلوغ البرلمان! فكانت كلما زادت اهتماما بـ "العملية الديمقراطية" كلما ابتعدت عن الشارع وتقلصت بالتالي قواعدها الشعبية والتي يفترض أنها تتمثل بالطبقات الأشد حرمانا، والتي توسعت بسرعة نتيجة التغول المافيوي في السلطة وضمور الاقتصاد التشغيلي وتفاقم الضغوط الاجتماعية المعيشية على الطبقات الوسطى والدنيا. فكان التناسب عكسيا بين توسع رقعة الإفقار وبين التمثيل السياسي لتلك الأحزاب (والقوى)، ما جعلها أكثر غربة عما يتراكم في القاع الاجتماعي من ضغوطات وعن المآلات التي سيرتبها ذلك في لحظة من اللحظات التاريخية.
وفي غياب التمثيل السياسي للطبقات الأشد فقرا، وفي ظل تقهقر البنى النقابية للطبقة العاملة في مختلف البلدان، وجدت قوى السلطة المتحكمة في مراكز القرار الدولي والإقليمي نفسها متحررة من النظر إلى أدنى، وانفلتت في هجومها على مكتسبات الطبقة العاملة وباقي المواطنين التي حققوها على مدى أكثر من قرن من النضال، من جهة، وعلى الشعوب الطرفية في حروب تستهدف في الأساس إخضاع الدول لنمط سيطرة أو هيمنة يخفف من وطأة الأزمة الاقتصادية التي تضرب النظام الراسمالي بهذا الشكل أو ذاك. وكانت مشاريع الهيمنة المتضاربة بين تلك المراكز تشغل جل اهتماماتها.
وعلى حين غفلة من تلك القوى جميعا، بما فيها الأحزاب الشيوعية والقوى اليسارية، اشعل محمد البوعزيزي شعلة وجدت لها بيئة اجتماعية خصبة لتنمو وتمتد في هذا الهشيم وتضع جميع تلك القوى المسيطرة والتابعة والملحقة أمام أمر لم يكن في بالها جميعا. عصر الثورات لم ينتهِ! والشعوب فرضت وجودها بكثافة جعلت صرختها تطغى على مجمل المشهد. فتوقف الجميع يلتقط أنفاسه، تجمدت، بل سقطت كافة المشاريع. وتحولت كل مراكز الدراسات والأبحاث السوسيولوجية والسياسية والإعلامية باتجاه البحث في حقيقة ما يجري. كان النصف الأول من عام 2011 مكرسا لمعرفة كيفية التعامل مع هذا الزلزال وإدارة تداعياته والتقليل من وطأته على سيطرة النظام الرأسمالي العالمي بمراكزه وأطرافه، بعد أن بلغت شعارات وهتافات الانتفاضة التونسية وميدان التحرير في القاهرة نيويورك وموسكو وشنغهاي و... تل ابيب!
وإذا كانت مراكز النظام الراسمالي قد فهمت حقيقة ما يجري وبدأت تجهز الأسلحة اللازمة للدفاع عن استمرار، ليس فقط مصالحها، بل أيضا سيطرتها، إلا أن الأحزاب (والقوى) الشيوعية، التي تدعي: أنها تمثل الطبقات العاملة والأشد فقرا،
وأنها تمتلك المنهج الجدلي العلمي في تحليل الواقع الملموس،
ظلت ضائعة محتارة في تبني الموقف واختيار الموقع من هذه الانتفاضات. لقد دجنت ذاتها ووطنت نفسها وتمسكت ببرامجها السياسية التي تصر على "الإيمان الكامل بالانتخابات" كوسيلة وحيدة للتغيير "الديمقراطي" في ظل سيطرة البرجوازيات التابعة!
واستمرت الانتفاضات، وتلقفتها الشعوب العربية، من تونس الى مصر الى ليبيا ثم البحرين فاليمن وسوريا، وترددت اصداؤها في لبنان والعراق والجزائر والمغرب والأردن، وكانت كلما توسعت تلك الانتفاضات الثورية كلما ازدادت الأحزاب الشيوعية منها بعدا. في حين أن النظام العالمي قد استل من الأسلحة ما رآه مناسبا لإجهاض تلك الانتفاضات وخنقها، وكانت وسائل الاعلام أبرز تلك الأسلحة إضافة الى تنشيط وتشبيك الأجهزة الاستخباراتية من كل صنف ولون. وكان دور القوى الطبقية المحلية صاحبة السيطرة في الأنظمة المستهدفة هو الأكثر بروزا في عمليات الالتفاف على الثورة (من خلال العسكر وإعادة إنتاج أحزاب السلطة بوجهيها الاسلامي واللبرالي) في تونس ومصر واليمن والبحرين. أما في سوريا فكان الرد الدموي للنظام أكبر هدية للنظامين الإقليمي والدولي، جعل من سوريا مقبرة للثورات ودرسا للشعوب في الطاعة والخضوع.
لقد كان لموقف الأحزاب الشيوعية واليسارية التقليدية من الانتفاضات والثورات الشعبية أثر مدمر على قواعدها الشعبية والتنظيمية التي آثر غالبيتها ترك تلك الأحزاب والالتحام بالانتفاضات الشعبية رغم كل المخاطر. فما الذي تحقق فعلا على الأرض حتى الآن نتيجة هذا وذاك؟