التحليل الماركسي لظاهرة الديون


عودت ناجي الحمداني
2005 / 9 / 8 - 11:18     

تشكل الرؤى والتحليلات العميقه للماركسيين العظام فلاديمير لينين وروزا لوكسمبورغ حول ظاهرة الدين العمومي امتداداً لفلسفة المعلم الثوري كارل ماركس حول نشأة الدين العمومي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر,مبنيةً على نظرية الحتميه التاريخيه لأنهيار الرأسماليه وأنتصار الثوره الاشتراكيه.

ان كل مجتمع مركب من مجموعه من التناقضات والأضداد, وهذه التناقضات تؤدي لا محال الى التصادم والصراع, ومن ثم الحركه والتغير, وبذلك فأن نهاية الرأسماليه امر حتمي,كنتيجة للتناقضات التي تنطوي عليها البنيه الرأسماليه.

وبالرغم من الأختلاف في المراحل التاريخيه التي عهدتها الرأسماليه فأن المساهمات العظيمه التي قام بها ممثلو الأقتصاد السياسي الماركسي حول ظاهرة الدين العمومي, تلتقي في المواقف والرؤى بأعتبار الدين العمومي ظاهره قديمه نشأت بنشوء الطبقات الاستغلاليه وارتبطت بتطور الرأسماليه الاستغلاليه,فبقدر ما يزداد لهاث الرأسماليه وراء المزيد من الارباح والسيطره والاحتكار بقدر ما تزداد شروط الدين شدةً وقسوة.

ومع ظهور أزمة الديون الخارجيه للبلدان الناميه وازدياد المواقف المتصلبه للبلدان الرأسماليه الدائنه التي تدفع بالازمه نحو المزيد من التعقيد خدمةً لمصالحها الاقتصاديه والساسيه فأن المعالجات الماركسيه تشكل منهجاًلحل الازمه والخروج من نفقها.

ان التحليل الماركسي اللينيني يعتمد على الظروف الملموسه لمرحلة الرأسماليه في طورها الاول والاخير وعلى اسلوب الأنتاج الرأسمالي وتطور العلاقات الأنتاجيه الراسماليه وما تتطلبه الرأسماليه من اموال ضخمه لتدوير ماكنة الانتاج الراسمالي.

لقد جائت التحليلات العميقه لكارل ماركس وروزا لوكسمبورغ لظاهرة الدين العمومي في مؤلفيهما , رأس المال وتراكم رأس المال في المرحله التنافسيه للرأسماليه.اما فلاديمير لينين فتناول هذه الظاهره في مرحلة الرأسماليه الاحتكاريه في عدة اجزاء في اعماله الكامله.

فالدين العمومي كما يقول ماركس(يعمل بصفته احد العوامل الاكثر نشاطاً للتراكم البدائي.فبواسطة عصا سحريه توهب النقود غير المنتجه الفضيله الانتاجيه وتحولها الى رأسمال) (1) فالدولة التي تتولى عملية تحويل القروض الى رأسمال نقدي حامل للفلئدة تستخدم نظام الجبايه التي يحقق لها جني المزيد من الفوائد عبر فرض الرسوم والضرائب على الفقراء والعمال وصغار المنتجين وعلى بقية الفئات الاجتماعيه الكادحة, وبذلك تتحمل الطبقات المسحوقه بفعل الاستغلال البشع تبعات الديون ,فعلى عاتقها تقع اعباء الضرائب,ان الدين العمومي لا ينحصر دوره في تحقيق التراكم الاولي فحسب وأنما يتعداه الى دور آخر وهو الاقراض, والذي قال عنه ماركس ( يعني الدين العمومي الذي وضعت البندقيه وجنوه في العصور الوسطى اولى ركائزه) (2)

وفي معرض انتقاد ماركس لنظام القروض كتب قائلاً(ان نظام القرض العام يعني تخلي الدوله عن سلطاتها لسواها سواء كانت استبداديه ام دستوريه ام جمهوريه(3)

لقد امنت القروض الاستمراريه لدورة الانتاج الراسمالي عبر حلقات استثماريه مضمونة الارباح والفوائد فقد أستثمرتها الدول الاستعمارية في مشروعات عالية االربحية وصدرتها كرؤوس اموال الى خارج حدود البلدان الراسماليه, وحول ذلك كتب ماركس قائلاً
(لقد اعطت السكك الحديديه انطلاقه لتركيز رأس المال والنشاط القرضي) (4)

الا ان هذه الوظيفة للقروض الخارجيه لم تحقق فائضاً اقتصادياً في البلدان الناميه المدينه بسبب الالتزامات المختلفه التي يجب على البلدان المدينه الوفاء بها كالاقساط والفوائد او ما يسمى ( بخدمة الديون)اضافةالى ما تتعرض له مثل هذه البلدان من اجراءات تعسفيه كالعقوبات الاقتصاديه والسياسيه ان اخفقت في الوفاء بتعهداتها المالية ازاء دائنيها من الدول والمؤسسات الماليه الدوليه.

ومن الناحيه المبدئيه فان رأس المال الاجنبي الذي يتميز بطبيعه استغلاليه لا يوظف عادةً الا في القطاعات التي تحقق ارباحاً عاليه, وهذا ما يؤثر على عملية التراكم المحلي . فالارباح والعوائد التي يتحصل عليها تشكل جزءا كبيراً يقتطع من الدخل القومي ويحول الى الخارج, كما ان التراكم المتحقق داخل الاقتصاد القومي في غالبية الاقتصاديات الناميه يتوزع على عدد كبير من االبرجوازيه الطفيليه واصحاب رؤوس الاموال ,مما يؤدي الى استخدامه استخداماً كمالياً. حيث ان التركيب المشوه للقطاع الصناعي في البلدان المتخلفه لا يمكن ان يضمن اعادة انتاج موسع في الاقتصاد الوطني.

فقد كتبت روزا لوكسمبورغ حول حالة البلدان الناميه قائله (ان عدم قدرة المدينين على خدمة ديونهم كلفهم فقدان استقلالهم السياسي) (5) فالبلدان الرأسماليه الاحتكاريه بوحي من اهدافها ومصالحها الستراتيجيه خططت لتدوير القروض في البدان الاخرى خارج الحلقه الراسماليه في مشروعات السكك الحديديه وفي مشروعات تمويل مشتريات الاسلحه الحربيه. ان الدين العمومي كما تشير روزا لوكسمبورغ احد المنافد التي لا بديل عنها للراسماليه.وتؤكد على ذلك بالقول(الدين لا يعدو كونه وسيلة تحقيق فائض القيمه المنتج في البلدان الراسماليه الاحتكاريه)

وقد تطرقت روزا لوكسمبورغ الى الكيفيه التي استغلت بها البلدان الاستعماريه القروض للتدخل في شؤون الدوله العثمانيه والدوله المصريه.حيث تحولت القروض التي من المفترض ان تمول المشروعات الاقتصاديه الى فوائد وعمولات ورشاوي تقدم الى السلطان والولاة مما ادى الى تراكم المديونيه اضعاف مضاعفه وهو الامر الذي اجبر الدوله العثمانيه الى طلب المزيد من القروض الخارجيه لتسديد خدمات الديون بشروط قاسيه الى حد بلغت خدمة ديون الدوله العثمانيه اكثر من 90% من حجم الموازنه. وانتهى الامربالاطاحه بسلطان الدوله وتحويل الامبراطوريه العثمانيه الى شبه مستعمره.كما تطرقت روزا لوكسمبورغ الى حالة الدوله المصريه التي لا تختلف كثيراً عن حالة الدوله العثمانيه,
فقد توجهت مصر لطلب القروض الخارجيه من المصارف الغربيه لتأمين متطلبات بناء قناة السويس وتمويل مشروعات سكك الحديد, ولكن بسسب تدخل الدول الاستعماريه الدائنه وشروطها التعسفيه والضغوط المتكرره التي تمارسها على الحكومه المصريه انفقت مصر معظم ما اقترضته لتغطية خدمة الديون, وهو مااجبر الحكومه المصريه على بيع حصصها في قناة السويس في عام 1875 الى انجلترا مقابل تنازلها عن جزء من ديونها القائمه على مصر.
وقد وجدت البلدان الراسماليه الدائنه فرصة ذهبيه في عجز الدولة المصرية سداد ديونها الخارجيه للتدخل في شؤونها الداخلية ومصادرة استقلالها السياسي ,ابتداءاً من تشكيل ما يسمى( بلجنة خديوي مصر) عام 1876 وانتهاءا ًبالسيطرة على واردات مداخيل مصر من ميناء الاسكندرية وسكك الحديد وواردات الرسوم والضرائب,وآخرها ااحتلت الدول الاستعمارية الدولة المصرية واطاحت بأستقلالها السياسي.

ومن وجهة النظر اللينينية ان الاسباب التي جعلت البلدان الراسمالية وهي تتحول الى مرحلة الاحتكار تتعاقد على القروض مع باقي البلدان وخاصة المتخلفة كانت في مجملها ترجع الى العمل التاريخي الذي تعرفه الراسماليه الاحتكاريه.واكد في هذا الخصوص قائلاً(ان ضرورة الاقتراض الخارجي تنشأ من طبيعة الرأسمالية الأحتكارية ) (6) ففي المرحلة الاحتكارية للرأسمالية يصبح الدين العمومي وسيله لأمتصاص الفائض المتراكم في رأس المال ويصبح سبباً رئيسياً في تصدير راس المال, ولهذا فالرأسمال المتراكم لا يصدر في شكل قروض الى البلدان الرأسمالية فحسب وأنما الى البلدان الاخرى ومنها البلدان المتخلفة.

وقد اشار لينين الى التبعات التي تتمخض عن المديونية الخارجية بسبب نمو ضخامة الفوائد والعمولات التي تترتب علىالقروض,فكتب قائلاً (تجني الرأسمالية الملايين,فجبل ديون الحرب يبين نسبة الضريبة التي على الطبقة العاملة والطبقات غير المالكة دفعها) (7)
ان الأفكار والتحليلات والمواقف التي عبر عنها بدهاء ممثلي الماركسية العلمية تقودنا الى استنتاج مفاده يتلخص في :
1-أن الطبقة العاملة وصغار المنتجين و الفئات المسحوقة تتحمل تبعات صفقات القروض التي تعقدها الحكومات البرجوازية. اذ لم تتحمل هذة الفئات اعباء الضرائب والرسوم فحسب وانما هي الضحية وحطب الحروب التي تشعلها الحكومات الرأسمالية.
2- ان الدول الاحتكارية تجد في الحروب خير وسيلة لتصدير مبيعاتها من المعدات والآلات الحربية وطريقا ًلتقديم القروض بفوائد عالية لتأمين مشتريات الاسلحة.
3- استخدمت الدول الاحتكارية القروض بطريقة استغلالية بشعة للضغط على البلدان المدينة والتأثير على قراراتها الوطنية في سبيل استنزاف ثرواتها الطبيعية. وتؤكد الوقائع ان البلدان الدائنة بكونها الطرف الاقوى في المعادلة فهي المستفيد الوحيد من تصدير القروض , اما البلدان المقترضة فتتعمق فيها مظاهر الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وتتزايد فيها مظاهر التخلف والمجاعة.
4- ان الماركسيين في اطار معالجتهم لظاهرة الديون الاستعمارية يدعون الى تحميلها على البرجوازية المحلية وحلفائها من الشرائح الطفيلية والفئات الاستغلالية, وأعتبار الديون القائمة على البلدان ديوناً على البرجوازيات المحلية تجاة البرجوازيات الاخرى.

ومن المعروف ان اول سابقة في تاريخ المديونية اقدام الولايات المتحدة الامريكية على انكار الديون القائمة عليها وأعلنت عن رفضها لسداد القروض لكل من فرنسا وبريطانيا بذريعة ان تلك القروض تقدمها الدول الأجنبية لتمويل الحرب الأهلية.
اما الماركسيون الروس بقيادة فلاديميرلينين فقد اعلنو عن رفضهم سداد الديون القائمة على البرجوازية الروسية , وأعتبرو ذلك اجراءاً ثورياً يمكن ان تتبناه البلدان المتحررة لاستكمال تحررها السياسي والاقتصادي.وقد طبق هذا الاجراء الثوري بعد انتصار ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى عام 1917, حيث اعلنت الحكومة الروسية رفضها سداد الديون المترتبة على الشعوب الروسية باعتبارها ديوناً استعمارية تراكمت على روسيا بسبب الحروب التي اعلنتها البرجوازية الحاكمة.

وعليه فان التغيرات الاقتصادية والسياسية التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية جعلت ظاهرة الديون تقفز الى مكان الصدارة وتسترعي الاهتمام من قبل الاقتصاديين والسياسيين .وان البلدان النامية المكبلة بطوق المديونية تجد في المعالجات والمواقف المبدئية التي عبر عنها عظماء الماركسية منهجاً ًللتحليل الواقعي في الدفاع عن المصالح الوطنية, الاقتصادية والسياسية للخروج من ازمة المديونية الخارجية المستفحلة.

د.عودة الحمداني

المراجع
(1) كارل ماركس ,راس المال, المجلد الاول, دار مير, موسكو.
(2) كارل ماركس, راس المال ,المرجع السابق.
(3) كارل ماركس, راس المال, المجلد الثالث ,دار التقدم ,موسكو.
(4) كارل ماركس,راس المال, المجلد الاول.
(5) روزا لوكسمبورغ, تراكم راس المال, المجلد الثاني , منشورات كاليمار الفرنسيه .
(6) لينين, الامبريالية اعلى مراحل الراسمالية, دار التقدم موسكو.
(7) لينين, الامبريالية اعلى مراحل الراسمالية, المرجع السابق.