وهْم البورقيبية


غيث وطد
2015 / 1 / 5 - 05:26     

في الساحة السياسية التونسية برز الى العيان مصطلح جديد اسمه"البورقيبية"..هذا المصطلح اوجد تاريخيته حسب دعاته والمؤمنين به يمينا ويسارا من التهديدات الجدية للقوى الظلامية الدينية لبعض المكاسب"الحداثية" والتنويرية للجماهير الشعبية والتي ربطتها بالحبيب بورقيبة باعتباره صاحب الانجاز التاريخي وصاحب الفكرة هذا بالاضافة الى"عبقرية بورقيبة" في ما يسميه السبسي"سياسة المراحل" وخاصة موقفه من القضية الفلسطينية..مجمل هته الأفكار جرفت الجماهير الشعبية وعدد لا يستهان به من مناضلي"اليسار" وعدد اخر من المثقفين الى تمجيد بورقيبة واعلان "البورقيبية" عنوان التصدي للمد الظلامي وهذا لايعدو الا ان يكون سوى وهم اوجده فاعلوه لغاية في نفس يعقوب..
1/المنجز النير وصانعوه الحقيقيون
يقول فريديريك أنجلس:"يصنع التاريخ بنحو تحصل معه النتيجة النهائية دائما لتصادم كثرة من الارادات الفردية,مع العلم أن كلا من هذه الارادات تصبح ماهي عليه بالفعل وذلك من جديد بفضل طائفة من الأحوال الحياتية الخاصة.وهكذا يوجد عدد لا يحصى من القوى المتشابكة.مجموعة لا نهاية لها من متوازنات الأضلاع.ومن هذا التشابك تنجم قوة محصلة واحدة هي الحدث التاريخي (فريديريك انجلس-رسائل حول المادية التاريخية ص 7 طبعة دار التقدم موسكو).
انطلاقا من هته المقولة فان الحدث التاريخي لا تصنعه ارادة فرد ما بقدر ما يكون نتاجا لتشابك ارادة جملة من الأفراد وفقا لقدرتهم الجسدية وللظروف الخارجية واساسا الظروف الاقتصادية..فالمفاهيم الحداثية والتنويرية وجدت في القطر التونسي منذ المجتمع الاقطاعي كنتاج تاريخي لللتناقض بين الاقطاع والعبودية حيث كان ابن عرفة اول من حرم العبودية في التاريخ ممهدا للقضاء عليها ويحكمه قانون وضعي منذ أكثر من مائة سنة و سجلت تواجد حركة تنويرية منذ القرن 19 تماهت مع التحول البرجوازي في أوروبا وتكثف هذا الحراك التنويري ابان الاستعمار الفرنسي المباشر حيث ظهر عدد من المثقفين الوطنيين الذين اعتبروا قيم الحداثة والعلمانية تحرير المرأة والتصدي لرجال الدين جزءا من النضال ضد الاستعمار حيث كان من الواضح أن سلطات الاستعمار في اطار تحالفها مع الاقطاع عملت على تكريس أفكار القرون الوسطى المعززة لسلطة الاقطاع بما يخدم مصالحها مما انتج صراعا اديولوجيا بين جملة من المثقفين الوطنيين النيرين والعقلانيين ودعاة الثورة على الأفكار الاقطاعية وبين رجال الدين والأصوليين ونخص بالذكر الطاهر الحداد الذي ضرب المؤسسة الدينية الرسمية وربط بين النضال الفكري والنضال الوطني والاجتماعي حيث ربط بين بقاء الاستعمار الفرنسي ببقاء الأفكار المتخلفة مما عرضه لهجوم شرس من قبل القوى المحافظة مما تسبب في وفاته هذا بالاضافة الى دعوته الى ادخال العلوم في التعليم الزيتوني ويذكر أن الطاهر الحداد الذي انتمى الى الحزب الحر الدستوري القديم اتهم قيادات الحزب بالانتهازية وانهم يستغلون مواقعهم الحزبية بهدف خدمة مصالحهم الضيقة حيث أن الحبيب بورقيبة كان يرفض أفكار الطاهر الحداد حفاضا لما يسميه"الذاتية التونسية" في مواجهة ثقافة الاستعمار هذا بالاضافة الى أبو القاسم الشابي ومؤلفه"الخيال الشعري عند العرب" اضافة الى محمود المسعدي و جماعة تحت السور وهته النخبة قامت بصراعي اديولوجي لا هوادة فيه ضد مؤسسات الاقطاع المرتبطة بالاستعمار الفرنسي وطرحت تحرير المرأة والمطالب الاجتماعية وتعصير التعليم الخ وهو ما أهل المجتمع التونسي الى قبول نسبي بأفكار التنوير والحداثة عززه المد اليساري في العالم وابان خروج الاستعمار الفرنسي بشكله المباشر وتركه لبورقيبة ممثلا سياسيا لدولة الاستعمار الجديد قام هذا الأخير بالسطو على المنجز التنويري لاعطاء الشرعية لوجوده وخداع الجماهير بأنه هو صانع الحداثة و"عصرنة الدولة" ليعنون نفسه صانعا لبعض المكاسب الجزئية التي ناضل من أجلها هؤلاء المثقفون لبسط هيمنهته وهيمنة حزب الدستور على الحياة السياسية و ارساء نظامه اللاوطني واللاديمقراطي واللاشعبي حيث أنه انطلاقا من النظرة المادية للتاريخ فان الأفكار والقوانين هي انعكاس لعلاقات الانتاج فنمط الانتاج شبه الاقطاعي الذي يسود القطر التونسي أوجد تلك الأفكار الاقطاعية وبورقيبة في اطار عمالته للامبريالية العالمية قام بتعطيل عملية تثوير العلاقات الاقتصادية مما جعل المكاسب التي ناضل من أجلها الوطنيون هشة وما قوة تيارات الاسلام السياسي الا دليل على بقاء علاقات الانتاج متخلفة مما ينتج الأفكار المتخلفة..فبورقيبة ليس سوى عميل للامبريالية العالمية التي تهاوت تحت المد اليساري في الستينات والسبعينات مما جعلها تقدم تنازلات لصالح الجماهير الشعبية ومثقفيها الوطنيين والثوريين وشرعن وجوده على رأس دولة الاستعمار الجديد بنسب هته المنجزات الى نفسه واظهار عظمته وتبييض جرائمه.
2/الموقف من القضية الفلسطينية
يشتهر بورقيبة بخطابه في أريحا سنة 1965 ليعلن موقفه الرافض للمقاومة المسلحة ويعلن تأييده للقرار عدد 181 للأمم المتحدة القاضي بتقسيم فلسطين مما جعل أنصار"البورقيبية " يعتبرون هذا الموقف ضربا من الواقعية والمرحلية والبراغماتية أمام هزيمة 1967 التي مني بها التحالف العربي بقيادة البرجوازية الوطنية العربية..ما يلاحظ من هذا الموقف هو أنه بني على هزيمة 1967 وما لحقها من هزائم عسكرية قام بموجبها الكيان الصهيوني باحتلال مزيد من الأرض الفلسطينية وهي نظرة سطحية لوسائل الصراع مع الكيان الصهيوني فالتوجه العسكري للمقاومة الفلسطينية الذي فشل في تحرير الأرض له المبررات العلمية لفشله في ذلك وتتلخص في القيادة البرجوازية الوطنية للمقاومة التي سارعت بالانبطاح نتيجة قصر نفسها المقاوم لتسقط نهائيا بمعاهدة كامب دايفد على عكس القيادة البروليتارية للثورة والتي نجحت في دحر الاحتلال الفرنسي والامريكي في فييتنام..وبعد هزيمة البرجوازية الوطنية العربية على اثر توليها قيادة المقاومة جنحت منظمة التحرير الفلسطينية والأنظمة الرسمية العربية الى "الشرعية الدولية" كما اقترح بورقيبة في أريحا سنة 1965 وقد بان اهتراء هته الشرعية التي ترعاها الامبريالية العالمية وتطوعها وفقا لمصالحها ولا توليها أهمية باعتبار الكيان الصهيوني كيانا مجرما والى اليوم تلهث قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وراء الشرعية الدولية التي لم تجني منها سوى مزيد من الاجرام الصهيوني وقضم مزيد من الأرض الفلسطينية وهو ما يسفه مقولات"الواقعية" و"المرحلية" التي يدعيها أنصار هته النظرية
3/مغزى ظهور"البورقيبية"
ان ظهور البورقيبية ليس الا نتاجا لظهور القوى الظلامية التي تدعو الى الالتفاف على بعض مكاسب المرأة والحريات والحداثة وهي عنوان براق لتزييف وعي الجماهير وتمرير سياسات العمالة وترميم الاتلاف الطبقي الرجعي الحاكم الذي لم يقدر الظلاميون على قيادته فأوجدته قوى اجتماعية داخلية وخارجية لصناعة يمينين ذوي جوهر واحد مراوح بين المحافظة الدينية القروسطية والحداثوية تتيح تأبيد الهيمنة والالحاق الامبريالي ويبدو أن بعض الاساتذة الجامعيين والمثقفين المتبرجزين الطامحين الى الوصول الى كرسي البيروقراطية قد أوجدوا هذا المصطلح لشرعنة وجدهم وخداع الجماهير بدفاعهم عن حقوق المرأة والحداثة وانساق معهم عدد من الأكادميين التفه المحبين للظهور الى الواجهة وهم بالتالي يلخصون ما يجري من رسم لخطط المستقبل لتأبيد الوضع ومصادرة المسار الثوري تحت عناوين زائفة..فدروس التاريخ تعلمنا أن المرور الى مفاهيم العلمانية والحريات والعقلانية والديمقراطية مرتبط باستكمال مسيرة الصراع الاديولوجي ضد قوى المحافظة والاقطاع والزيف الى حين تصفية وجودها المادي عبر تصفية بقايا الاقطاع ورواسب العصور الوسطى عبر انجاز الثورة الديمقراطية الشعبية المعادية للاقطاعية في اتجاه المرور نحو الاشتراكية عبر الطبقة العاملة وحزبها الطليغي وهو مهمة تطرح لابد أولا بالكشف والتشهير بمميعيها من النخب المتبرجزة المرتبطة بالامبريالية وربط ارساء الديمقراطية والعلمانية وتحرير المرأة بالنضال الطبقي والوطني للجماهير الشعبية .