حول هيجلية ماركس (2)


يوسف يوسف المصري
2014 / 12 / 31 - 16:47     

حول هيجلية ماركس (2)
----------------------
بيد ان العلاقة بين الموضوع والعقل الذي يتناوله ليست بهذه البساطة وهو امر سأعرض له عند عرض جوانب من فلسفة هيجل كما اراها. اما الآن فسوف اتناول فقط جانبا مما وجدته في ورقة الصديق التي اشرت اليها عن استنباط نمط الانتاج وتبدلاته وعلاقة ذلك بجدل هيجل. وسوف نجد هنا فهما يبدو مخالفا لعرض هيجل لمنظومته الفلسفية وهو فهم يرد مثلا في الفقرة التالية :
وتشمل وحدة الفكر والوجود كل ما في الوجود. بمعنى انها تفترض ان الفكر يغطي كل مساحة الوجود وعمقه. وهنا تبدو لنا النتيجة الغريبة. ذلك انه اذا كان المقصود بالفكر الفكر البشري وبالذات الذات الانسانية لاستحالت هذه الوحدة المطلقة مع الوجود (اي مع الموضوع) كما يعرف الجميع حتى رجل الشارع. والواقع ان هيجل يقصد هنا الفكر المطلق الازلي اللامتناهي الذي يضمن داخله المتناهي. ماذا يترتب على هذه الصيغة في صورتها المطلقة؟ لا اقل من الغاء الزمن والتطور. فالفكر المتحد اتحادا مطلقا بالوجود والذات المتحدة اتحادا مطلقا بالموضوع قد تحققا بالفعل في هذا الاتحاد. اما الفكر العرضي اي فكر الفرد (الذي يقف هنا بطريقة غريبة خارج هذه الوحدة المطلقة) فليس امامه من مهمة سوى استيعاب هذه الوحدة المتحققة بالفعل. ليس هناك مشكلة معرفة في مذهب هيجل اذا شئنا الدقة. فالفكر قد تحقق بالفعل واتحد مع الوجود. وليست المعرفة هنا عملية متطورة متراكمة بل هي بنية كاملة في صميم الواقع في امتداده عبر الزمان والمكان استوعبتهما تماما فلسفة هيجل الخاصة.
ولدينا هنا في فقرة الصديق الذي كتب ذلك عددا من القضايا المهمة.
* فمن وجهة المحتوى او المدى فان الوحدة بين الذات والموضوع او بين الوجود والفكر – في نظر الصديق كاتب تلك الفقرة – "تغطي" مساحة الوجود وعمقه.
* ومن جهة الاثر الذي يمكن ان تحدثه وحدة الذات والموضوع فان هذه الصيغة تضع الفرد المتناهي بتفكيره العرضي خارج القصة بأكملها اذ انه يطور افكاره هو بطريقته هو وبقدراته هو دون ان يتمكن بطبيعة الحال من سبر غور الكون كله حتى يتوحد معه ليحقق صيغة الوحدة بين الوجود الفكر.
* ومن جهة الاثر ايضا فان هذه العملية التي يبدو انها تتم خارج الفرد الملموس والتي اعلن هيجل نهايتها لانها "تحققت بالفعل" اخرجت المعرفة الانسانية من قانون التراكم والتطور ونفت بالتالي تاريخيتها (اي كونها بنية كاملة في صميم الواقع في امتداده عبر الزمان والمكان)
بعبارة اخرى تظهر لنا الفقرة الواردة هنا اولا استحالة اتحاد الفكر البشري – ان كان ذلك هو المقصود – بالكون كله "حتى في نظر رجل الشارع". او ان هذا الاتحاد يحدث مع الفكر المطلق الازلي اللامتناهي الذي يضم داخله المتناهي وهو امر يعني ان الانسان المتناهي "بره الحدوتة".
وما يفهم مما قاله الصديق ان هيجل تابع عملية التقدم نحو الوحدة بين الذات والموضوع في عقله الخالص وانهاها باستنتاج يقول انها تمت ولله الحمد ثم اعلن النتيجة على الناس قائلا لهم انكم جميعا خارج الحدوتة. وبطبيعة الحال فان هيجل لو كان قال شيئا من ذلك لذهب كنصاب غير حاذق يحاول ان يروج لمجموعة تفاهات باعتبارها فلسفة.
الا ان ذلك الفيلسوف الكبير لم يكن نصابا.
المشكلة في الفهم الذي تلخصه تلك الفقرة واضحة وهي ان تعريف الوحدة بين الذات والموضوع او بين الوجود والفكر او بين العقل والاشياء التي تشكل موضوع "عمله" اسئ فهمه الى حد الاهانة تقريبا. ويتضح ذلك من تأكيد الصديق بان الانسان فشل في استنباط الطبيعة من فكره المحدود لكونه كائنا مندرجا من الطبيعة وان موقفه وعمله ينطلق من موقفه كموجود جزئي تتراكم معرفته تاريخيا اي انها ليست نسقا معطى سلفا وليست اللامتناهي الذي يضم بداخله المتناهي. ثم يتضح مجددا في قوله ان الفرد المفكر لا يدرك الوجود في كليته واطلاقه الا كمقولة (مثل الطبيعة والكون) ولا يستوعبه اطلاقا في توصيفه العيني. (بديهي ان الصديق لم يعبر بقدر اكثر تفصيلا عن رؤيته في المساحة الصغيرة التي كتب فيها ما كتب الا ان هذا ما يفهم على اي حال مما قال).
لقد جعل كل ذلك من هيجل يقول انه لا يمكن معرفة شئ الا بمعرفة كل شئ، وبلور محاجاة "تبرهن" على ان هيجل اخرج المعرفة من سياقها التاريخي وركلها في مسار جدلي ذاتي لتصل الى المطلق. ولا يضعنا ذلك في مشكلة الا من حيث عمق اساءة الفهم. ولكن فنبدا من "الآخر". اي من المعرفة المطلقة او توحد الفكر والوجود او العقل المطلق او توحد الذات بالموضوع. فالبداية من الآخر ستختصر قدرا مما ينبغي ان يقال.
ليست وحدة الوجود الفكر "لحظة تاريخية" تقاس بالزمن او بالمكان. انها ليست نهاية لمسلسل زمني معين او لخطوات نخطوها واحدة بعد الاخرى كل في وقتها. انها ليست - (كما يقول الدكتور فريدريك جيمسون في كتابه "تنويعات هيجل – في فينومينولوجيا العقل") "محطة نهائية" امكن الوصول اليها "واحده واحده". انها "محظة منطقية" ان جاز التعبير وليست "زمنيه". وهي لا تتطلب ادراك الكون كله في عالم العقل اذ كيف يمكن افتراض اصلا ان العقل – سواء كان عقل هيجل او عقل عم عبده البواب – قادر على استيعاب الكون كله لكي يخرج علينا هيجل او عم عبده وهو يصيح انه وصل الى محطة التوحد بين عقله والوجود كله وانه "حقق" مشوار الفلسفة الاستقرائية (سبيكيوليتيف) (واعتذر لانه لا يوجد معي بكل اسف قاموس فلسفي عربي ومن ثم فان ما استخدمه من تعبيرات سيكون مترجما بواسطتي وذنب القارئ على جنبه فقد حذرته ولكنني اعد بانني سأشرح ما اقصد لتقليل هامش اي خطأ يمكن ان يرد في ترجمة استخدمها للفظ من اصله اللغوي) وان ذلك افسح الكون امام العقل الاستقرائي لكي يفهم كل الاشياء "في ذاتها"؟
ما المقصود من هذا "التقعير" الذي يبدو وكأنه مجرد مخرج لفظي وبلاغي من المسألة؟ ما المقصود بالضبط بأن وحدة العقل والوجود هي وحدة "منطقية" وليست زمنية؟.
ليس من المعقول لعم عبده ولا لهيجل فهم كل شئ في الكون كله لادعاء الوصول الى هذه المحظة النهائية. فلنعد (كمجرد مثال) الى ما يقوله الماركسيون مثلا. لقد درسوا طبيعة تشكل المجتمعات الطبقية ثم درسوا كل مجتمع على حدة وفق منطق معين افضى بهم الى توقع ان المجتمع الرأسمالي سينهار تحت وطأة تناقضاته وان ما سينشأ بعده من الناحية التاريخية هو مجتمع اشتراكي ثم ان المجتمع الاشتراكي الذي تحكمه الطبقة العاملة سيتحول الى مجتمع لا طبقي أي ليس به ملكية خاصة. عرفتوا ازاي يا عم؟ انه منهج، استنتاج منطقي. عرف الماركسي اذن "الحقيقة" كما يراها وفق نهجه واول الحدوته وآخرها دون ان يعيش اية تفاصيل ودون ان يدعي احد ان لديه كرة بلورية تمكنه من قراءة المستقبل. ان قولك مثلا ان المجتمع اللاطبقي هو التطور المنطقي للمجتمع الطبقي لا يعني انك تدرك كافة تفصيلات اي من المجتمعين. نحن نتحدث عن "لحظة منطقية" اذ بوسعي ان ابرهن لك وبوسعك ان تبرهن على العكس ان تناقشنا حول مسار المجتمعات الطبقية والملكية الخاصة ومن ثم نصل منطقيا الى استنتاج يقول ان انه في مجتمع لاحق ستتوحد الذات مع الموضوع بدون اغتراب اي بدون ملكية خاصة (لاحظ هنا ان رؤية هيجل للاغتراب من الوجهة الفلسفية كانت هي الاساس الذي اعتمده ماركس بعد ذلك للاغتراب مع تعديل جوهري ادخله على عرض هيجل وهو الفصل بين مفهومي التشيؤ والاغتراب. (ولعل الصديق يذكر اعتذار لوكاكس عن خطأه الشهير في فهم التعديل الماركسي لهذا المفهوم). ولعل من قرأوا "رأس المال" يعرفون ان ماركس وصل من البناء الذي شيده الى الكشف عن تناقضات المجتمع الرأسمالي ومن ثم عن كونه "مؤقتا" مثله مثل الرأسمال ذاته.
ولكن وصولنا الى فكرة تقول ان المجتمع الطبقي لن يستمر وان الانسان سيقيم مجتمعا لا طبقيا لا تعني اولا اننا اقمنا ذلك المجتمع بالفعل كما انها لا تعني اننا نعرف كل مراحل تطور المجتمعات الطبقية في اركان الارض الاربعة ولا تعني ايضا انني او غيري قادرون على وصف الكيفية التي سيضبط بها الامن والكيفية التي سيتعلم بها الاولاد وتلك التي سننظم بها اقتسام نتائج العمل الجماعي في المجتمع اللاطبقي.
وفور ان وصلت الى استنتاج بان تلك المجتمعات الطبقية ستفضي الى مجتمع لا طبقي فانني امسكت بالقانون العام الذي ينظم حركة المجتمعات الانسانية في تاريخها دون ان اعيش هذا التاريخ ودون ان امتلك كرة بللورية تمكنني من ان اتنبأ بما سيحدث غدا على اي نحو تفصيلي.
ويتشابه في هذا السياق ما قاله هيجل عن نهاية التاريخ(بوضع نظامه الفلسفي "العلمي" كما كان يسميه) وما قاله ماركس عن نهاية مرحلة "ما قبل التاريخ" وبدء التاريخ الحقيقي للانسان كأنسان ينتمي لهذا الجنس (البشر) ولا يعامل كالحيوانات تحت وطأة الاغتراب اي انفصال الانسان عن وسائل اعادة انتاج حياته.
فهل تعني المعرفة المطلقة مجرد ادراك قانونها؟ انها تعني ذلك وتعني ما هو اكثر شمولا كثيرا.
وجه الشمول هنا هو انها تحدد الكيفية التي يمكننا ان نعرف بها الوجود المحيط بنا وهي كيفية تستند على برهان منطقي يثبت ان بوسعنا ان نعرف الشئ في ذاته. وهذا البرهان لا يفترض انني اعرف شيئا معينا في ذاته. ولكنه يبرهن على ان بوسعي ان افعل ذلك،اي على انه امر ممكن للعقل. وحين يصل العقل الى ادراك ان بوسعه فهم الوجود في ذاته فان ذلك يعني ان سيصل الى لحظة منطقية تكشف له بوضوح ان الوجود معقول او منطقي وان سبب كونه اي من ذلك هو انه تجسيد للفكرة المطلقة. وقتها سيكون بوسع العقل الفردي البائس لعم عبده البواب مثلا ان يقول ان بوسعه التوحد مع الكون لان بوسعه التوحد مع الفكرة المطلقة التي تتجسد فيه والتي بوسعه اكتشافها بما ان بوسعه اكتشاف حقيقة الاشياء في ذاتها.
وحتى يتسنى وضع ذلك في سياق اكثر وضوحا يتعين تذكير القارئ بان النقد الاساسي الذي وجهه هيجل لكانط تأسس على عدد من الخلافات التي اجرؤ هنا على تسميتها منهجية رغم سوقية استخدام اللفظ هذه الايام ولكنها كانت كذلك. وكانت النقطة المركزية في النهج الكانطي التي حفزت هيجل لوضع منظومته هي على وجه الحصر نقطة قدرة العفل على معرفة الشئ في ذاته اي على التوحد مع الموضوع. لقد نفى كانط ذلك وكان بذلك يضع ضمنا حدودا متعسفة على قدرة العقل. لقد "حارب" هيجل لانقاذ العقل من تشاؤم كانط والنقاذ العلم من النطاق الذي رسمته فلسفته. فطبقا لكانط ينقسم العالم الى قسمين لا سبيل الى جسر الهوة بينهما اي ما هو ذاتي وما هو موضوعي. فالعقل الذاتي كنتيجة منتقلة "ترانسندنتالية" يبقى داخل ذاته ولايتبع الا قوانين المعرفة التجريبية. وكان نظام هيجل في مغزاه النهائي انتصارا لقدرة العقل ليس فقط على تطوير قدرته ولكن ايضا النفاذ الى الشئ في ذاته اي انه يملك القدرة على هيكلة الواقع او الحقيقي.
ولكن يا عم..كيف يصح ذلك بينما نرى العقل عاجزا حتى عن تحرير الانسان من واقعه الذي لم يكن معقولا دائما؟ يقول هيجل في الفينومينولوجيا عند تعرضه للاغتراب ان الاغتراب ذاته هو الاطار التاريخي (والنظري) لفهم انفصال العقل عن الموضوع. انه ليست مشكلة معرفية حسب رواية الفيلسوف الكبير اذ انه كرر مرارا في الفينومينولوجيا على امتداد فصولها ولاسيما عند تناوله للاغتراب ان التناقض او المواجهة بالاحرى بين العقل والموضوع هي التعبير عن التناقض الملموس والتاريخي الكامن في وجود الانسان ذاته اي اغترابه الذي فسره هيجل فلسفيا وفسره ماركس في انفصال الانسان عن نتيجة عمله بعد ان "صحح" المفهوم وميز بين الاغتراب والتشيؤ. ومع الاهمية الفائقة لاضافة ماركس الا ان تناول الاغتراب يظل موقعا باسم هيجل الذي اعتبره – عند تناوله للاديان مثلا – انفصالا بين عمل الانسان ومعرفته من جهة وبين ثمار هذا العمل والمعرفة لسبب يجهله الانسان ويظل يفسره بما يعن له من اسباب ميتافيزيقية فجة ومبتذلة.
ولم يكن هذا بالطبع هو خلاف هيجل الوحيد مع كانط الا انه كان خلافه الاساسي (وبالمناسبة فان القول بان الانسان باعتباره جزءا من الطبيعة كان مفتاحا لوضع فارق اساسي بين هيجل وكانط اذ ان القاعدة التي اشار اليها هيجل تفترض قدرة الانسان على فهم الطبيعة قدرته على فهم نفسه او وعيه بذاته). الا ان هذه ليست قصتنا الآن. ومع الاهمية الفائقة لاضافة ماركس الا ان تناول الاغتراب يظل موقعا باسم هيجل الذي اعتبره – عند تناوله للاديان مثلا – انفصالا بين عمل الانسان ومعرفته من جهة وبين ثمار هذا العمل والمعرفة لسبب يجهله الانسان ويظل يفسره بما يعن له من اسباب ميتافيزيقية فجة ومبتذلة.
قصتنا تقول انه لا علاقة بين ما قاله الصديق عن لا تاريخية عملية المعرفة في نظر هيجل او بحكم استنتاجاته عما قاله هيجل وبين ما قاله هيجل نفسه. لقد برهن هيجل في كتابته عن تاريخ الفلسفة وفي مجمل منظومته على ان العقل يمضي دوما الى الامام وان فلاسفة الاغريق التقطوا المشعل ممن سبقهم وان فلاسفة الرومان التقطوه من الاغريق واخذ كل جيل من الفلاسفة يطور تناول الانسان للحقيقة طبقا لادوات اللحظة التي يعيش فيها وتلك التي خلفها من سبقوه. انه مثلا يقول انه ليس ثمة فكرة خاطئة في تاريخ الفلسفة فكل الافكار تعكس مرحلة بعينها من مراحل مشوار الانسان نحو الحقيقة. هل يبدو ذلك اخراجا للفكرة من تاريخيتها؟. ومشكلتنا هنا هي انه بدا وكأنه يضع تطور العقل في مضمار يحركه العقل ذاته او بالاحرى الفكرة المطلقة وبدا كما لو اننا جميعا عبر العصور ادوات "نمثل" مسرحية كتبت مسبقا بواسطة المطلق. وحتى هذا الفهم الشائع لنظام هيجل ليس دقيقا في نظري وهو ما سأعرضه لاحقا على اي حال. ذلك انه قاد الى فهم مبتذل لما يسميه الماركسيون "الحتمية التاريخية" التي تضع "التاريخ" فوق نفسه اي تجعله "لا تاريخيا" وتجعلنا جميعا ادوات تنفذ "ارادته". انه فهم لاهوتي في المقام الاول فالمؤمنون بالله يعتقدون ايضا ان كل شئ "مقدر ومكتوب" اي حتمي ليس بحكم التاريخ ولا بحكم العقل المطق المتمثل في الكون ولكن بفعل الخالق نفسه. ويستبدل بعض الماركسيين ممن درسوا نسخة "المادية التاريخية" كما وضعها ستالين والحزب الشيوعي السوفييتي الخالق بقوة غيبية اخرى بعد تسميتها من قبيل الخجل ربما باسم "التاريخ".
ووجه الخطأ في كلام فيرجسون هو انه مثل كثيرين غيره يعود الى التفسير الشائع الذي ينسب الى هيجل وهو التفسير القائل بان التوحد بين العقل والوجود يحدث فقط في عقل الفيلسوف وليس اي فيلسوف ولكن فقط الفيلسوف الذي يتبنى منظومة هيجل بالذات. فقد حول جيمسون الفيلسوف الالماني الكبير الى ايديولوجي او الى داعية لانتظار السوبرمان على غرار نيتشه.
وفي تفسير الكسندر كوجيف لوحدة العقل والموضوع فانه يذهب ايضا الى ان هذه الوحدة تتمثل في "الحكيم" (راجع محاضرات الكسندر كوجيف في باريس في الفترة من عام 1933 وحتى العام 1939). يقول كوجيف اذن ان التوحد سيتحقق مع العقل المطلق في نقطة بعيدة عن ان ينالها "الانسان العادي". ان هذا الافتراض ليس هيجليا من الاصل. وثمة ادلة لا حصر لها على لا هيجيليته يمكن ان اسوق منها مثلين. الاول من محاضرة لهيجل في جانا في عام 1806 حيث قال ما يأتي:
ايها السادة.اننا نجد انفسنا في عصر مهم (عصر ما بعد الثورة الفرنسية – اضافتي)، وسط تفاعلات قفز خلالها العقل قفزة كبيرة الى الى الامام، قفزة تجاوز بها العقل موقعه المتحقق السابق واحتل موقعا جديدا. ان مجمل منظومة الافكار والتصورات التي كانت مقبولة حتى الآن بل وكل روابط العالم تنهار الآن وكأنها رؤية في حلم. ما نحن امامه هو ظهور صعود جديد للعقل. وعلى الفلسفة ان تحتفل بظهوره الجديد وان تعترف به فيما يواصل أخرون مقاومتهم بدون جدوى وتمسكهم بالماضي اما الاغلبية فانها تصنع هذا الظهور. اما الفلسفة باعترافها بهذا الظهور على ما هو عليه فان عليها ان تحتفي به".
ان الاغلبية هي التي تصنع "هذا الظهور".
والمثل الثاني ورد على لسان الفيلسوف الكبير في 1816 حين قال:
"ان الجرأة على الوصول الى الحقيقة والايمان بقدرة العقل هما الشرطان الاولان للفلسفة. ان الانسان – لانه عقل – يمكن ان يعتبر نفسه جديرا بكل ما هو نبيل وسام. انه لن يبالغ ابدا في قدرة عقله مهما كان تصوره عنها. واذا ما تحلى بهذا الايمان بعظمة عقله فانه لن يوجد اي شئ يمكن ان يتصلب ويحول دون ان يكشف حقيقته لهذا العقل".
لا يبدو من كل ذلك ان هيجل كان نخبويا كما قال كوجيف. وبرغم ان هذا ال"بوليمكس" لا يبرهن حقا على خطأ افتراض كوجيف الا انني مع ذلك لا اتفق مع ما قاله الاخير بهذا الشأن في محاضراته الباريسية على اي حال.
ولكن المدافعين عن كوجيف يقولون انه كان يعني ان اولئك الذين يمسكون بمنظومة هيجل الفلسفية هم الذين سيتمتعون بالحكمة التي تعد تجسيدا في عالم العقل لتوحد الذات مع الموضوع. (وبالمناسبة فهذا ايضا ما يقوله الماركسيون عن دراسة النظرية الثورية).
واداة "التوسط" هنا على النحو الذي طرحه الصديق تبدو لي مفهومة ايضا على نحو خاطئ. لقد عزل الاداة عن تاريخيتها بقدر ما عزل الذات والموضوع عن تاريخيتهما ايضا. ولكن المشكلة التي اواجهها الآن بوضوح هي انه يبدو لي ان على ان اعرض فهمي لهيجل بصفة عامة وليس لعلم المنطق فقط. فالامر ينبغي ان يبدأ بالفينومينولجيا (الله يجازيك ياللي في بالي!)
لقد اهتم هيجل باخراج الفلسفة من ازمتها "الكانطية" وباخراج العقل من سباته الميتافيزيقي اللاهوتي باحلال نظام مختلف وان كان ميتافيزيقيا ايضا (لقد فند اللاهوت لاهوتيا كما قال فيورباخ) الا انه تقدم خطوة هائلة على مضمار الفلسفة على نحو جعل ظهور الماركسية ممكنا. وحين فعل ذلك كان يفعله فلسفيا وليس على صعيد بناء نظرية سوسيولوجية. لقد كان يبحث اصل المعرفة والدرب الذي سلكناه ونسلكه في امتلاكها ثم الدرب الذي يتعين علينا ان نسلكه حتى نصل الى حقيقة الشئ في ذاته.
ويقول الصديق " ليس هناك مشكلة معرفة في مذهب هيجل اذا شئنا الدقة. فالفكر قد تحقق بالفعل واتحد مع الوجود. وليست المعرفة هنا عملية متطورة متراكمة بل هي بنية كاملة في صميم الواقع". وواقع الحال ان مشكلة هيجل كانت هي ان نعرف كيف نعرف. انها كانت مشكلة تحديد رحلة الوعي عبر السلم المنطقي الذي ينبغي ان يرتقيه ليصل الى التوحد مع الموضوع وهو توحد لا ينهي الامر اذ انه يواجه هويته ونقيضها في الوقت ذاته كي يرقى الى ادراك المطلق (ربما يتضح هذا من خلال العرض اللاحق لجوانب مهمة في نظام هيجل الفلسفي قبل ان اتقدم نحو الكيفية التي مهد بها الفيلسوف الكبير لولادة النهج الماركسي).
وبديهي ان تلك الرحلة لا تقطع بقفزة واحدة لا من عقل هيجل ولا من عقل عم عبده. وكما قلت قبل قليل فان تاريخ الفلسفة كما قدمه هيجل هو تاريخ ارتقاء التأمل الفلسفي منذ الاغريق وما سبقهم وحتى الفلسفة الكلاسيكية الالمانية (وهي بالمناسبة فترة زمنية تبدو طويلة على نحو ينفي ما ورد من قول حول ان المعرفة ليست متراكمة).
وفي هذه النقطة بالتحديد فان "الاخفاق في استنباط الطبيعة" لا يتسق مع ما نتحدث عنه من معرفة كيف يمكن ان نعرف "الموضوع" – اي الطبيعة - او عن درجات السلم التي تجعلنا - فيما يرى الفيلسوف الكبير - نرقى الى الامساك بالكيفية التي يمكننا ان نرى بها الموضوع على نحو صحيح. فالموضوع هنا هو ما يقف في مواجهة العقل منذ البداية اي منذ ادراك الذات ل"الانا" اي منذ البذرة الاولى للوعي بالذات. ان ادراك ال"انا" هو امر يتحقق ب"نفي الموضوع" على ما هو عليه اي ان "الفعل" – وهو فعل موجه ضد "اشياء" اخرى – (او بعبارة اخرى العمل) – هو الخطوة الاولى في "الاحساس بالذات". وهو فعل ناجم عن ارادة (رغبة) ذاتية. ولا يكتمل هذا الاحساس بالذات على نحو يجعل من الانسان انسانا – اي مميزا عن ارضية وجوده الحيواني – الا في صراع الارادة بين ذاتين او اكثر (صراع الرغبات كرغبات) اي ان هيجل يشترط العمل اي التفاعل مع الطبيعة وكون الانسان غير قادر على ان يعيش وحده (صراع الارادات او الرغبات تفترض اكثر من انسان واحد) والا لما كان انسانا بالمعنى المعروف لنا اي لما كان هناك ما يسميه الحقيقة الانسانية (صراع الرغبات والانشطار الى المجتمع الطبقي او ديالكتيك السيد والعبد كما شرحه هيجل). (الجزء الثاني من كتاب تشارلز تيلور "هيجل" الصادر عن مطبعة كامبريدج البريطانية عام 1975 والاربعة ابواب الاولى من فينومينولوجيا العقل).
ان الوعي بالذات اي خروج الانسان من بيئته الحيوانية وبزوغ فجر "العقل" او "الروح" هو رهن دائما بالامرين معا اي بنفي الانسان للموضوع وتحويله – بلورة بذرة الوعي بالذات اي ادراكه لان هناك انا وهناك ما هو خارج هذه الانا – ومواجهة رغبة او ارادة اخرى غير رغبته وارادته – تشكل الوعي بالذات في مرحلته الاولى ومن ثم الانتقال الى الحقيقة الانسانية اي وجود الانا المتعددة وصراعها معا ومع الطبيعة او الاشياء عبر سلاح النفي اي تحويل الشئ الى شئ آخر.
وفي حديثه عن الحقيقة فان هيجل لم ينكر على الاطلاق امكانية ان يعرف اي انسان حقيقة اي شئ مفرد في ذاته الا انه وصف تلك المعرفة بانها تظل دائما منقوصة لانها ليست مطلقة ولكنها تتعلق بالشكل. المطلق هو الحقيقة الكاملة. يمكن لعالم الكيماء ان يعرف كثيرا عن موضوعه مثل عالم الفيزياء الخ الا ان حقيقة الكيمياء وحقيقة الفيزياء التي يعرفانها ليس كاملة او انها بالاحرى حقيقة جزئية. ان اي معرفة او مرحلة معرفية تمثل "مرحلة" من مراحل الوصول الى الحقيقة او هي بالاحرى حقيقة طالما تتسق مع ما ينبغي ان يكون عليه موضوعها. ولكنني سأؤجل ذلك حتى يتسنى للقارئ التعرف بصورة تدريجية على منظومة هيجل.(يمكن مراجعة كتاب جون هيبن "منطق هيجل" الباب السابع عشر لاستيضاح هذه النقطة).
وبالمناسبة فان جان هابوليت تعرض لحكاية النهج الهيجلي وشكك في امكانية استخدام هذا النهج اي الجدل باقتطاعه من بدن النظام الفلسفي لهيجل بأكمله ومن ثم فقد ذكر وان بصورة عابرة ان استخدام "الادوات" دون استخدام مجمل النظام هو افتراض خاطئ (اعتذر لان كتاب هابوليت ليس معي ولا اذكر اسمه وان كان هو كتابه الوحيد الذي تعرض فيه لهيجل وماركس معا) الا ان قراءة هابوليت بتأني ستصل الى انه نفى ما افترضه على نحو ضمني في الكتاب نفسه بل وفي الباب نفسه على ما اذكر.
لقد تعرض هيجل كما قلت لتفسيرات تشطح شرقا واخرى تشطح غربا لاسباب متباينة ابرزها ربما غموض اسلوبه الا ان اهمها هو منطقه الجدلي الذي يصر على ان الامور المتناقضة تتداخل معا لينبثق من تفاعلها الذي يعتمد سلاح النفي نتيجة جديدة. وادى ذلك الى ايضا الى اخضاع هذا النهج لنهجنا الشائع التجريبي في جوهره والذي يعتمد "الفهم" وليس الجدل كما ادى "الفهم" الى رفض تفاعل النقيضين والى ميل تلقائي الى احدى النقيضتين وابرازها بعد الاخفاق الذهني عن ادراك الكيفية التي يمكن بها ان "تلتقي وتتفاعل بها مع النقيضة التي تقف في مواجهتها لينبثق جديد يضمهما معا او يضم بالاحرى جوانب منهما معا في نسيجه".
ولعل ورقة مختصرة وقديمة كتبها صديق قد افادت في اثارة حوار يؤدي الى عرض الجوانب الرئيسية في منظومة هيجل وهو الامر الذي سأشرع فيه على صعوبته. ولكن من يدري؟ لعل تلك هي القيمة الحقيقية للخلاف. يتعين اذن عرض جوانب اخرى من فلسفة هيجل – بصرف النظر عما قاله الصديق الذي قلت من قبل انني شغوف بقراءة كل ما يقع تحت يدي مما يكتب - قبل ان ننتقل الى رصد المدى الهائل العمق الذي اثر به هذا الفيلسوف الكبير على ابرز تلاميذه اي كارل ماركس. لقد اتاحت لي عطلات نهاية العام فرصة للكتابة وآمل ان تكون اوراقي المقبلة اكثر تواترا وان كنت اعرف انها ستكون محاولة لعرض بعض الجوانب الحيوية في منظومة هيجل الفلسفية وكيف تناولها عدد كبير من المفسرين على نحو بالغ التباين (من يسار الهيجليين الشباب الى عتاة اللاهوت المسيحي في اوروبا الى بعض النقاد المعاصرين فيما يسمى ب"عودة الهيجلية") وذلك قبل تناول الكيفية التي اثر بها هيجل على النهج الماركسي في مرحلة نشأته.