بائعات الجسد ووهم الحضارات


مجدي مشعل
2014 / 12 / 28 - 10:33     

من المثير للتفكير والتساؤل أن يكون العهر أقدم مهنة في التاريخ وأن تكون هذه المهنة مقدّسة تُمارَس وسط طقوس تضجّ بالحياة والاحتفاء بالطبيعة والتماهي مع تحوّلاتها وجنونها وصخبها!!

كان الإنسان في حقبة من الزمن أقرب إلى روحه، إلى طبيعته، طفلا لم يُرهَق بعد بوصايا الممنوع والمسموح، عاشقاً للجنس كحياة، يفهمه على أنه خصوبة وتجدّد وحيويّة ونبض، كان جسده حراً من كلّ الأيديولوجيات والمحرّمات والقيود. والحياة في تلك الحقبة كانت أكثر تطوراً من اللحظة الراهنة، مما يدعو للشك في كون التطور يكمن دائماً في السير نحو الأمام، فليس كلّ سير للأمام تطوراً بالضرورة، إذ في مثل هذه الحالة بالذات يكون الرجوع إلى الوراء هو التطور، الرجوع إلى حدس الإنسان الأولي الطفولي الطافح دهشة، ذلك في إن لم يستطع الإنسان الحاضر الحفاظ على طفولته إلى جانب رشده.

إنّ بهجة الإنسان بطبيعته وحياته على هذه الطريقة بدأت تُصادَر مع استحواذ الأب لنفسه على نساء الرّهط و قمع أبناءه وكبتهم، فقام الأبناء، بحسب نظرية "فرويد" حول عملية قتل الأب الرمزية، بقتل الأب وفيما بعد شعر الأبناء بذنب دفعهم إلى عقد اتفاق فيما بينهم يحرّم الزواج بنساء الرّهط و يؤدي تالياً إلى تأسيس القانون والديانة الأولى في التاريخ الإنساني. هكذا بدأت الأحكام العقلية والتأويلات والإسقاطات تحرّف لذة الحياة والجسد العفوية، وبدأت معها سلسلة قتل الآباء في كلّ جيل، تارة تنجح وأخرى تفشل إلى أن حدث القتل الأعظم للأب في نهاية القرن الثامن عشر وإحداث قطيعة للنظام الأبوي والانتقال إلى النظام العلماني والوعي العقلاني.

حينما كان الإنسان متوحداً مع الطبيعة ساهمت العاهرات في بثّ النبض داخل المعابد المقدّسة، فاتصلت القداسة بالحياة، وفي اللحظة الراهنة تثبت العاهرات رغبتهن الدفينة في قتل الأب من خلال التأكيد المستمرعلى الحياة داخل معابد العادات والأعراف والتقاليد لتعلن عن وهمها وزيفها فتتحول العادات إلى حياة تؤكد صيرورتها وتغيّرها الدائمين، هكذا تتقاطع العاهرات مع الغجر في إثبات الصيرورة، فالغجر برأيي الشخصي هم الأجدر في إجادة لعبة الحياة وفهم سرّها والإخلاص لهذا السر، فهم جماعة تفسّر معنى الوجود والعدم بآن معاً، الاستقرار واللااستقرار دفعة واحدة.

إنّ ميزة الغجري تكمن في رحيله البدوي الدائب، في إخلاصه لكلّ بقعة من بقاع الأرض، والعاهرة أيضاً راحلة، مسافرة دائمة، بينما يظل الواهم الأكبر هو ذلك الإنسان الذي استقر في منطقة جغرافية محدّدة في هذا العالم الفسيح و عاش من ثم وهم المركزيّة، وهم حضارة زائلة لا محالة.