ورقات في نقد الاقتصاد: ورقة (1)


محمد المثلوثي
2014 / 12 / 27 - 01:48     

تنطلق أبحاث ماركس الاقتصادية والتاريخية تحت عنوان واحد هو: نقد الاقتصاد السياسي. وليس من باب الصدفة أن الجزأ الأعظم من أعماله تحمل هذا العنوان بالذات: (مقدمة في نقد الاقتصاد السياسي) (أسس نقد الاقتصاد السياسي- الغروندريسة) (رأس المال- نقد الاقتصاد السياسي). وحتى الأعمال الأخرى التي لم تحمل هذا العنوان الرئيسي فإن مبحثها هو بالضبط نقد الاقتصاد السياسي: (مخطوطات 1844) (بؤس الفلسفة) (الأجور، الأسعار والأرباح)... لكن ما هو هذا الاقتصاد السياسي الذي ينقده ماركس؟ إنه التعبير النظري عن الاقتصاد وآلياته والقوانين التي يسير وفقها. لذلك فإن نقد الاقتصاد السياسي هو في الواقع التعبير النظري عن النقد العملي للاقتصاد. هذا النقد العملي للاقتصاد هو بالضبط النشاط الثوري الذي يستهدف لا تطوير الاقتصاد ولا إصلاحه ولا إصلاح إدارته، بل أساسا إنهاء الاقتصاد نفسه كدائرة منفصلة ومستقلة عن الحياة الاجتماعية، ووقف آلياته وقوانينه التي تهيمن على المجتمع وتتحكم في الأفراد كقوى غريبة وغاشمة، أو هي كأنها قوانين طبيعية تخرج عن سيطرة البشر وعن إرادتهم. ففيما يمثل "التقدم" "التنمية" "الاستثمار" "الانتاج" "العمل" "الربح" "المنافسة" "المردودية" "خلق الثروة"...الخ، يمثل المبحث الخاص بالاقتصاد السياسي، فإن مبحث نقد الاقتصاد السياسي هو نقد "التقدم" "التنمية" "المردودية" ...الخ، أي نقد كل الدائرة المسماة "إقتصاد" المنفصلة عن الادارة الاجتماعية والتي لا تخضع للسيطرة الواعية للمجتمع، بل هي التي تسيطر عليه وتفرض قوانينها الخاصة عليه.إذا فموضوع نقد الاقتصاد السياسي كما يعرضه ماركس لا علاقة له بالنظريات الاقتصادية التي تدرس الاقتصاد من زاوية تطويره: "تطوير الانتاج" "تحسين الانتاجية" "المردودية الاقتصادية" "تحسين القدرة التنافسية"...الخ، بل هو بالضبط نقد كل هذه النظريات من خلال نقد أسلوب الإنتاج نفسه. فليس موضوع نقد الاقتصاد السياسي "توفير الشغل"، بل نقد العمل المأجور باعتباره عملا مغتريا، ينفصل فيه الفرد عن وسائل إنتاجه، هذه الأخيرة التي تتحول الى شروط مادية لإستعباده. كما هو ليس "تطوير قوى الانتاج"، بل السيطرة على انفلاتها المدمر وجعلها قوى اجتماعية تخضع لحاجيات المجتمع الفعلية لا لحاجات الربح والمنافسة. وهو أيضا ليس "خلق الثروة" بل السيطرة على أسلوب إنتاجها وتوجيهها نحو تلبية متوازنة ومتضامنة لحاجات الأفراد الحيوية، لا حاجات الرأسمال في مزيد المراكمة والتوسع. وهكذا فنقد الاقتصاد السياسي ليس نظرية من ضمن النظريات الاقتصادية (النظرية الاقتصادية الماركسية)، بل هو التعبير النظري عن النضال ضد الاقتصاد وضد كل قوانينه والمنطق الذي يسير وفقه.فماركس لم يطرح نظرية في أسلوب التصرف في الاقتصاد وتطويره، بل كان قد طور كل أبحاثه في نقد هذا الاقتصاد بالذات، وبطبيعة الحال فإننا إذ نتحدث عن الاقتصاد عموما فذلك لأن الاقتصاد الرأسمالي يمثل الاقتصاد بصفة عامة وفي أكثر أشكاله التاريخية اغترابا، والاقتصاد كدائرة مستقلة ومهيمنة على الحياة الاجتماعية هو ليس سوى الاقتصاد الرأسمالي. ونقد الاقتصاد يمكن إعادته لنقد الرأسمالية كأسلوب إنتاج وكنظام اجتماعي.ويظهر هذا التعارض بين الاقتصاد السياسي ونقد الاقتصاد السياسي (سلاح النقد)، والذي هو التعبير النظري عن التعارض بين الاقتصاد وبين الحركة الثورية التي تمثل النقد العملي (النقد بالسلاح) لهذا الاقتصاد، يظهر في النظر للقوانين الاقتصادية، حيث فيما يرى فيها الاقتصاد السياسي كقوانين طبيعية لا تتعلق بأسلوب إنتاج تاريخي محدد، ألا وهو أسلوب الانتاج الرأسمالي، بل هي قوانين مطلقة في الانتاج، فالانتاج من أجل الربح مثلا، يظهر للاقتصاد السياسي كقانون مطلق وطبيعي في الانتاج، ولا يمكن للانتاج أن يستمر بدون أن يكون الربح محفزه ودافعه، والعمل المأجور هو الشكل الطبيعي والمطلق لكل نشاط اجتماعي في إنتاج الحياة المادية للبشر. والمنافسة هي الحالة الطبيعية في العلاقة بين الأفراد، و"المردودية الاقتصادية" هي المحفز الطبيعي للانتاج الاجتماعي واطاره الطبيعي. بينما لم يقم نقد الاقتصاد السياسي إلا في معارضة هذا التطبيع للقوانين الاقتصادية، من أجل إبراز طابعها التاريخي، أي كونها قوانين خاصة بأسلوب محدد في الانتاج، وأنها بالتالي قد نشأت بنشوء هذا الأسلوب الانتاجي، وأنها ستنتهي بانتهائه. كما وأن الاقتصاد السياسي ينظر للاقتصاد بصفته الدائرة المركزية لكل الحياة الاجتماعية، ويعتبر أن ذلك ليس حالة تاريخية خاصة بنظام اجتماعي محدد، هو النظام البورجوازي بالذات، بل هو حالة طبيعية مطلقة (وسنرى في ورقات لاحقة كيف أن ماركس نفسه لم يفلت دائما من هذه النزعة بحيث أنه يسقط احيانا في سحب القوانين التاريخية الخاصة بالرأسمالية على أساليب انتاج قديمة بل ويتصورها كقوانين طبيعية) . اما نقد الاقتصاد السياسي فإنه يبرز كون استقلال دائرة الاقتصاد وهيمنتها على الحياة الاجتماعية هو ظاهرة تاريخية ناشئة وليست حالة طبيعية لوجود البشر، وهي ناشئة فقط بسبب انفصال المنتجين عن وسائل إنتاجهم، واحتكار هذه الوسائل الانتاجية من طرف طبقة خاصة في المجتمع. لذلك فتجاوز هذا الأسلوب الانتاجي القائم على الملكية الخاصة لوسائل الانتاج سينهي في نفس الوقت الاقتصاد كدائرة خاصة وسينهي هيمنته العمياء على كل الحياة الاجتماعية، وبالتالي سينهي حالة الاغتراب الناشئة عن هذا الاقتصاد بالذات.أخيرا فإن الفاصلة بين الاقتصاد السياسي ونقد الاقتصاد السياسي تتمثل أساسا في كون أن الأول يستهدف سبل تطوير الاقتصاد، أي سبل الحفاظ على أسلوب الانتاج الرأسمالي السائد، وبالتالي إنتاج وإعادة إنتاج النظام البورجوازي، أما الثاني فيستهدف بحث تطور الحركة الثورية وآفاقها على ضوء تطور الراسمالية وتطور أزماتها والاختلالات الناجمة عنها والتي تمثل الأساس المادي لكل نهوض ثوري. فالثورة، بالنسبة لنقد الاقتصاد السياسي، ليست تحقيقا لمبادئ، ولا تجسيدا لنظريات أو عقائد ايديولوجية، بل هي مواجهة لشروط واقعية تخلقها الرأسمالية واقتصادها وقوانينه وآلياته، وليست الأزمة الاقتصادية انحرافا عن تلك القوانين والآليات الرأسمالية بل استتباعا طبيعيا لها، وهي في نفس الوقت تمثل مقدمة لبروز الضرورة التاريخية لتجاوز هذا الأسلوب المغترب في الانتاج وبروز القوة الطبقية التي هي الفاعل التاريخي والمجسد لهذا التجاوز الثوري للرأسمالية ونظامها الاجتماعي.