حول تخلي الحزب الشيوعي عن خط آب 1964 وذيوله


جاسم الحلوائي
2014 / 12 / 24 - 12:47     

حول تخلي الحزب الشيوعي عن خط آب 1964 وذيوله

نُشر في موقع الناس في 17 كانون الأول مقال بقلم الأستاذ همام عبد الغني المراني تحت عنوان "مرةً أخرى مع خط آب 1964
وآثاره المدمرة". لقد أبدى الكاتب ملاحظات على المساجلة التي دارت بيني وبين الكاتب كريم الزكي، وكان نصيبي منها ملاحظتين وسأبدأ، برد على مقاله، بهما:
يشير الأستاذ المراني في ملاحظته الأولى إلى أن: قول الأستاذ الحلوائي ان الحزب كان قد تخلى عن خط آب في اجتماع اللجنة المركزية في نيسان 1965" , وأقول صراحة انني اسمع بهذا "التخلي" لأول مرة , بعد مضي خمسين عاماً على الحدث . فقد كنت آنذاك " من الكادر المتقدم " , وفي تنظيم مهم , وكنت قريباً من اللجنة المركزية , فلم أبلغ بقرار كهذا مطلقاً , بل انني لم اسمع به إلا من خلال مقال الأستاذ جاسم الحلوائي , رغم اننا كنا " نأكل ونشرب" نقاشات وصراعات حول هذا الموضوع ..." (رابط المقال مرفق).
في الحقيقة أنني أستغرب شديد الاستغراب من هذ القول لأن أبرز كتاب عن تاريخ الحزب الشيوعي العراقي والموسوم "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" للكاتب عزيز سباهي يعنون الفصل الرابع من الجزء الثالث من كتابه على النحو التالي: "التخلي عن خط أب وحديث "العمل الحاسم"، ويذكر مقتطفات من تقرير اللجنة المركزية الصادر في نيسان 1965، سنشير إليها لاحقاً. ويتناول الموضوع ذاته، الكتاب المكمل لكتاب عزيز سباهي والموسوم "محطات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي - قراءة نقدية في كتاب عزيز سباهي"، لكاتب هذه السطور. وقد تولى الحزب طبع الكتابين وتوزيعهما. 
وهناك العديد من الكتب والمذكرات التي أشارت إلى تخلي الحزب عن خط آب في نيسان 1965. وآخر ما اطلعت عليه هو جزء من مذكرات الفقيد ثابت حبيب العاني، المنشور في الحوار المتمدن بتاريخ 20 كانون الأول، تحت عنوان "خط آب في مذكرات الفقيد ثابت العاني" وعنوانها في المذكرات  هو: "التخلي كلياً عن "خط آب"، ومما جاء فيها: "وبسبب هذه المعارضة الواسعة في الحزب لخط آب، فلم يكتب لهذا "الخط" الاستمرار سوى بضعة أشهر. وجرى التخلي عنه لاحقاً في اجتماع اللجنة المركزية في نيسان عام 1965". [1]
إن البيان، أو بالأحرى التقرير، الذي صدر عن اجتماع اللجنة المركزية في نيسان 1965 قد تخلى فعلاً عن خط آب. فبدلاً من الدعوة إلى تماثل نظام عبد السلام عارف مع نظام عبد الناصر، والذي كان يدعو إليه خط آب، فإن التقرير الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية في نيسان 1965، واستنادا إلى عزيز سباهيً وحنا بطاطو،  "قد تضمن تعديلاً أساسياً في سياسة الحزب. إذ طالب بإسقاط الحكم الدكتاتوري العسكري، والدعوة إلى إقامة حكومة ائتلاف وطني ديمقراطية، تنهي الأوضاع الاستثنائية التي تعيشها البلاد، وتصفي مخلفات انقلاب شباط، وتحقيق الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان. وقالت اللجنة المركزية في تقريرها: إن الحزب الشيوعي "حامل الرسالة التاريخية للطبقة العاملة" وجد ليبقى، وإن "تجربة الاتحاد الاشتراكي العربي" العراقي قد فشلت، ومع كل الضجيج المثار عن "الاشتراكية" فإن سياسة السلطات " تتناقض سياسياً واقتصادياً وأيديولوجياً، مع أبسط مفاهيم ومتطلبات البناء الاشتراكي"، ودعا الحزب الشيوعي الناصريين إلى الانسحاب من الحكم، والانضمام إلى صفوف المعارضة الشعبية". [2]
ما هو الاستنتاج الذي يمكن أن يستنتجه المرء من ادعاء الكاتب المراني بأنه لم يسمع بالتخلي عن خط آب "إلا من خلال مقال الأستاذ جاسم الحلوائي". هناك احتمالان، فأما أن الكاتب همام عبد الغني لم يكن قد اطلع على تقرير اجتماع اللجنة المركزية في نيسان 1965، وهو كادر متقدم، وأنه لم يطلع على مذكرات قادة الحزب وأهم الكتب عن تاريخ الحزب الشيوعي العرقي، فهذه مصيبة، أو أنه أطلع على ذلك ولكنه لم يميز الفرق النوعي السياسي والفكري بين خط آب وتقرير نيسان، وفي هذه الحالة، فإن المصيبة أعظم.
 ويواصل الكاتب فيذكر ما يلي: "أما الملاحظة الأخرى : التي لفتت نظري في مقال المناضل الحلوائي , وهي من نفس المنطلق والتبرير , قوله " ان المناضلين الذين رسموا خط آب , ما أن وطأت أقدامهم ارض العراق حتى احسوا بخطأهم وتراجعوا عمه (عنه)" , وهذا الكلام يغاير الحقيقة تماماً ففرسان خط آب 1964 , بقوا مصرين على ذلك النهج حتى بعد ادانته بشدة في اجتماع تشرين الأول 1965..."
مع الأسف أن الكاتب لم يكن أميناً في استشهاده وإن نص ما جاء في مقال كاتب هذه السطور هو "...أن أبرز قادة ذلك الخط ما أن وطأت أقدامهم الواقع، واقع العراق وواقع المنظمات، حتى أخذوا يعيدون النظر بتقديراتهم الخاطئة". لا يجوز إطلاقاً عند الاستشهاد بمقتطف من كاتب تغيير حرف واحد من النص حتى ولو كان خطأ نحوياً أو حتى مطبعياً، ومن الممكن تصحيح مثل هذه الأخطاء وحصر ذلك بين قوسين. ومن مقارنة النصّين سيجد القارئ أن الكاتب المراني أعاد صياغة نص كاتب هذه السطور على هواه، في محاولة لتسهيل تفنيده!؟
لنر الآن هل أن كلام كاتب هذه السطور يغاير الحقيقة، كما يدّعي الكاتب المراني؟ إن أول من وصل إلى العراق من قادة الحزب هو بهاء الدين نوري، أحد منظري خط آب. فلنستمع إلى ما كتبه حول هذا الموضوع: "في تشرين الثاني 1964 غادرت براغ بصحبة مهدي الحافظ عائدين إلى بغداد بجوازي سفر مزورين [...] غير أنه لم يكن من الصعب أن أفهم، منذ الأيام الأولى، بأن السياسة التي صغناها في براغ آب 1964، على بعد آلاف الكيلومترات من بغداد، ليست مقبولة لدى الشيوعيين والجمهور المتعاطف معه هنا داخل البلد [...] أول ما قمت به لتقليص الأثر السلبي لسياستنا الذيلية الخاطئة كان إصدار عدد من المنشورات التي كانت تضع النقاط على الحروف وتفضح بصورة واقعية جريئة جرائم حكم عارف الدكتاتوري بحق الجماهير الشعبية وبحق الشيوعيين أنفسهم". [3]
ومن هذه المنشورات البيان الصادر باسم الحزب الشيوعي العراقي في 22 كانون الأول 1964 لمناصرة المناضلين من "اللجنة الثورية"، الذين اعتقلوا بتهمة تدبير انقلاب ضد الحكم، جاء فيه: "إن شعبنا يرى استمرار سياسة الإعدامات والمشانق استهتاراً بلائحة حقوق الإنسان، وبجميع مبادئ العدل والقانون والقيم الخلقية، واستجابة لإرادة الاستعمار والرجعية. إن شعبنا يتساءل: من المسؤول عن هذا الاستهتار بأرواح أبناء الشعب ومصادرة حرياتهم؟ إن القوى القومية المشتركة في الحكم، تسيء إلى سمعتها وإلى الوحدة نفسها، إذا لم تتخذ موقفاً صريحا وحازماً ضد هذه السياسة الهوجاء" [4]
وبعد بهاء الدين نوري بحوالي الشهرين وصل أحد المحررين الرئيسيين لوثيق خط آب وهو الفقيد عامر عبد الله الذي "أعاد النظر في تقديراته وموقفه من خط آب 1964 أيضاً... حيث قدم بعد أربعة أيام من عودته رسالة... انقلب فيها على اتجاهه الفكري - السياسي السابق 180 درجة...الخ" [5]
لا شك بأن ما مر بنا يشير، بدون لبس، ما ذهبت إليه وهو: " أن أبرز قادة ذلك الخط ما أن وطأت أقدامهم الواقع، واقع العراق وواقع المنظمات، حتى أخذوا يعيدون النظر بتقديراتهم الخاطئة" وأضيف الآن، وشرعوا بتغيير خطابهم السياسي، فالخطاب السياسي الذي مر بنا لم يجمعه جامع مع خط آب.
وما يورده الكاتب عزيز سباهي في هذا الصدد يعزز رأيي ويلقي الضوء على ظروف تخلي الحزب عن خط آب، فيذكر ما يلي: " وإذ وجد رفاق اللجنة المركزية العائدون، والذين أسهموا في وضع الخط السياسي لآب، إن القاعدة الحزبية ومعظم شبكة الكادر الحزبي، ساخطة على هذا الخط، راحوا يعيدون النظر في قناعاتهم السابقة، وقرروا التخلي عما توصلوا إليه في براغ قبل أشهر، وشرعوا يعيدون النظر أيضاً في خطابهم السياسي إلى الشعب. وقد زاد من حماستهم في هذا الشأن، إن حكومة عبد السلام عارف شنت في آذار 1965، الحرب من جديد، على الشعب الكردي، ودخلت في مباحثات مع شركات النفط للمساومة معها، وأصدرت محاكمها أحكاماً جديدة بالإعدام ضد عناصر وطنية بدعوى أنها قاومت انقلاب شباط، وكانت يومها نزيلة سجونها ومواقفها طول هذا الوقت". ويستطرد  الكاتب سباهي القول "وفي خارج البلاد أيضاً كانت قيادة الحزب تعيد منذ ربيع 1965 النظر في سياسة الحزب. إذ دعا سكرتير الحزب، عزيز محمد، في آذار 1965 القادة في الخارج إلى اجتماع تطرق فيه إلى أن بياناً سياسياً سيصد قريباً عن مركز الحزب يعيد النظر في سياسة الحزب العامة، وقد جرى توزيع مسودته على نطاق ضيق[اللجان المحلية]لغرض مناقشته. [6]
أما إدانة خط آب فقد تقرر بإجماع الحاضرين، في اجتماع تشرين الأول 1965،  وكان كاتب هذه السطور حاضراً في الاجتماع، وتقرر نشره. وقد نشر بمربع صغير في النشرة الداخلية المسماة "مناضل الحزب" التي صدرت بعد الاجتماع المذكور مباشرة. [7] ويشير ثابت حبيب العاني إلى ذلك أيضاً في الجزء المنشور من مذكراته الذي مر ذكره. مع ذلك يقول الكاتب المراني لم يصدر "بيان عن الاجتماع ومقرراته" في حين كان هذا القرار واحداً من أهم قرارات الاجتماع.
أما قول الكاتب " ففرسان خط آب 1964 , بقوا مصرين على ذلك النهج حتى بعد إدانته بشدة في اجتماع تشرين الأول 1965..." فيحتاج إيضاحاً. إذ أن هناك التباساً لدى الكاتب، فهو يخلط الخط السياسي الجديد بأساليب الكفاح وتنفيذ تلك الأساليب. فبعد إقرار الخط السياسي الجديد، تفجر في الحزب صراع فكري حول أساليب الكفاح، وكانت هذه القضية واحدة من الأمور التي بحثها اجتماع اﻠ(25) في تشرين الأول، وإن هذه التسمية لهذا الاجتماع لم تأت اعتباطاً أو تهكماً كما يتصوره البعض ومنهم الكاتب المراني، وسأوضح ذلك لاحقاً.
نعود لأساليب الكفاح. كان هناك اتجاهان رئيسيان في اجتماع تشرين الأول 1965. لقد عبر عامر عبد الله  عن أحدهما في مطالعته، (وهو واحد ممن يسميهم المراني بفرسان آب الذين أصروا على ذلك النهج)، ويمكن تلخيصها، كما يشير إلى ذلك عزيز سباهي أيضاً، بالمبادرة إلى استخدام قوى الحزب في الجيش لانتزاع السلطة بانقلاب عسكري، ينهض به الحزب الشيوعي وحده. إذ أن القوى الوطنية الأخرى لا ترغب في مساندة انقلاب عسكري يقوم به الشيوعيون. وبرّر دعوته إلى "العمل الحاسم" لكون النظام الحاكم يعيش أضعف حالاته، بعد أن خرج عليه القوميون الناصريون، وينصرف جيشه إلى محاربة الشعب الكردي. وحذر عامر عبد الله من تفويت الفرصة، فعبد الرحمن البزاز، رئيس الوزراء، يسعى إلى اتخاذ إجراءات من شأنها أن تعزز مكانة النظام.
بينما رأى بهاء الدين نوري، أن الحزب لن يستطيع القيام بانقلاب عسكري لوحده، وحتى لو نجح الحزب في بادئ الأمر، فإنه سيواجه تحالفاً واسعاً من قوى مضادة، تعادي الشيوعية، وإن نجاح الانقلاب يتطلب تأمين تعاون القوى الوطنية الأساسية في البلاد.
وبعد مناقشات واسعة أقر الاجتماع بأغلبية كبيرة خطة "العمل الحاسم". وتقرر تشكيل وحدات مدنية عسكرية لدعم الانقلاب. وسمي هذا التنظيم ﺒ"خط حسين". وقرر الاجتماع الحصول على تأييد ودعم القوى الأخرى، لاسيما القوى الكردية، والقاسميين والقوى القومية التي تنادي بالاشتراكية. كما جرى التأكيد على أن لا يُقدم الحزب على عمل بمفرده، إلا إذا تعّذر الحصول على دعم الآخرين، وأن تكون قيادة الحزب قد تأكدت من أن الظروف مؤاتية تماماً لنجاح الانقلاب. والتأكيد الأخير كان ضمن الرسالة التي أرسلت من قادة الحزب في الخارج في إثر اجتماع دعا إليه سكرتير اللجنة المركزية الرفيق عزيز محمد وعقد في براغ بحضور أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية الموجودين في الخارج، ولجنة تنظيم الخارج في 18 – 19 من تشرين الثاني عام 1965. وعرضت على الاجتماع التقارير المرسلة من بغداد عن الاجتماع. [8]
بعد اجتماع تشرين الأول 1965، لم تكن هناك معارضة تذكر حول ضرورة استخدام العنف لإسقاط حكم عارف، ولكن النقاش ظل يتواصل حول أساليب الكفاح وكيفية التنفيذ في أجواء يشوبها التوتر وحتى تبادل الاتهامات. وكانت هذه الأجواء محصورة في بغداد. وكان كاتب هذه السطور بعيداً عنها ولم يكن طرفاً فيها.   فقد أعتقل بعد اجتماع تشرين الأول 1965 بعشرة أيام، وهرب من المعتقل مع المناضل عمر على الشيخ، بعد أن قضى فيه ستة أشهر. ونُسب فور هروبه من المعتقل سكرتيراً للمنطقة الجنوبية. وما سمعه هو أن اتهامات كانت توجه  من مناصري العمل الحاسم إلى عناصر في قيادة الحزب بدعوى أنها تعرقل التنفيذ، في حين سمع من الطرف الآخر، اتهامات بأن أنصار العمل الحاسم يرومون القيام بمغامرة مصيرها الفشل لعدم توفر أهم مستلزمات نجاحها. وهذا الصراع، حول أساليب الكفاح وكيفية تنفيذها، استمر بعدئذ بين اتجاهين تبلورا في وثيقتين واحدة تدعو إلى تهيئة مستلزمات الانتفاضة الشعبية المسلحة، وكان كاتب هذه السطور أحد المشاركين في كتابتها، والأخرى تدعو إلى الانقلاب العسكري، كتبها الفقيد عامر عبد الله وطرحت الوثيقتان  للمناقشة على اللجان المحلية. وقد جرى تعشيق المشروعين في وثيقة واحدة في اجتماع كامل للجنة المركزية عقد في شباط 1967. إن هذا الصراع لم يكن له علاقة بخط آب السياسي والفكري، بل بأساليب الكفاح التي من ِشأنها أن تحقق الهدف الأساسي الوارد في تقرير نيسان، ألا وهو إسقاط الحكم الدكتاتوري العسكري وإقامة حكومة ائتلاف وطني ديمقراطية. [9]
أما لماذا سمي اجتماع تشرين الأول  في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي باجتماع اﻠ(25)؟ لقد سمي الاجتماع بهذا الاسم ، لأنه لا هو بالموسع للجنة المركزية ولا هو بالكونفرنس، ولا هو بالاستشاري، ولذلك سمي باجتماع ﺍﻟ(25)، وهو عدد حضوره. فتحت الضغط والإلحاح استجاب المركز الحزبي الذي يقوده بهاء الدين نوري بالوكالة إلى عقد اجتماع حضره سبعة أعضاء من (ل.م) وعضوان مرشحان، وستة عشر كادراً حزبياً متقدما، جميعهم من بغداد باستثناء أثنين أو ثلاثة، فأصبح المجموع (25). ونظراً للارتباك الذي رافق تنظيم الاجتماع، فلم يحضره أي مندوب من منظمة الفرع في كردستان، بالرغم من وصول وفد كبير منهم إلى بغداد، كما لم يُشارك في الاجتماع أي مندوب من الخارج لا من قادة الحزب ولا من كوادره، وكان مجموع المؤهلين منهم لحضور مثل هذا الاجتماع يتجاوز عدد الذين حضروه!!، بينهم سكرتير اللجنة المركزية ولم تحضره ولا رفيقة واحدة. ولم تقدم إلى الاجتماع أية وثيقة للمناقشة. فالتسمية لم تأت اعتباطاً ولم تكن للسخرية. [10]
لقد جلب انتباهي في الجزء المنشور من مذكرات الفقيد ثابت حبيب العاني المرفق، قوله " وانتقد (الاجتماع الذي عقد في براغ والمذكور أعلاه) الظروف الشاذة التي أدت إلى عقد "اجتماع 25"، بما يعني إدانة "اجتماع 25". 
لا توجد أية إدانة لاجتماع اﻠ(25). وفي رسالة قادة الحزب في الخارج إلى المركز الحزبي في الداخل، والتي مر ذكرها، إقراراً بالإجراءات التي توصل إليها اجتماع اﻠ(25) بشأن قيادة الحزب، ووافقوا على أن يستمر المركز القيادي في بغداد بنشاطه حتى ينعقد المؤتمر الثاني للحزب، أو حتى أن يعقد الحزب كونفرنساً أو أن تعقد اللجنة المركزية اجتماعاً كاملاً لها. وكانت أية إدانة لاجتماع اﻠ(25)، يعني سحب الشرعية من قيادة الحزب في الداخل لأنها كانت منتخبة من الاجتماع المذكور، ولم يحصل ذلك، كما هو معروف. [11]
على أي حال، يبدو لي أن وهَم الكاتب المراني، حول عدم تخلي الحزب عن خط أب ورسمه خط سياسي وفكري جديد في نيسان 1965، دفعه لارتكاب خطأ كبير عندما نسب رفع شعار إسقاط السلطة الذي ورد في تقرير نيسان إلى اجتماع تشرين الأول عنوة، حيث يقول ما يلي: "وفي نهاية الجلسة الأولى للاجتماع , حيث تقرر إدانة خط آب ورفع شعار إسقاط السلطة". ومن حقنا أن نسأل كيف رُفع الشعار ولم تصدر وثيقة من الاجتماع؟ كما يؤكد ذلك الكاتب همام نفسه حيث يذكر "لم يصدر بيان عن الاجتماع ومقرراته، كما جرت العادة لاجتماعات قيادة الحزب..." ولنضع السؤال بصيغة أخرى، كيف يبدل حزب سياسي سياسته 180 درجة بدون وثيقة تعلل ذلك؟ الجواب واضح، هو أن الوثيقة كانت موجودة والشعار مرفوع منذ نيسان، والمظاهر الايجابية التي ظهرت على المنظمات بدأت بتلك الوثيقة، ولا زال كاتب هذه السطور يتذكر ذلك. فقد كان سكرتيراً لمنطقة بغداد آنذاك، ومساهماً في إقرار الوثيقة في اجتماع اللجنة المركزية التي أقرته، وهناك تفاصيل عن هذا الاجتماع بعضها طريفة في كتاب كاتب هذه السطور "الحقيقة كما عشتها". [12]
لقد اعتبر الكاتب همام عبد الغني المراني ادعاء الكاتب كريم الزكي "كانت قيادة الحزب الشيوعي العراقي تعمل جاهدةً لحل الحزب وتذويبه في حزب السلطة" مجرد عبارة غير دقيقة وردت بسبب الحماس، بدلاً من إدانة ذلك باعتباره تشويهاً لتاريخ الحزب الشيوعي العراقي المجيد. هذا بالرغم من معرفة المراني بأن ما يدّعيه كريم شيء، وانتهاج سياسة خاطئة شيء آخر مغاير تماماً، على حد تعبير الكاتب المراني ذاته.
ومن أجل أن يبرر خطأ كريم، راح الكاتب يقوّل كريم أقوالاً لم يقلها، عندما يذكر: " كما أن عبارة "كانت قيادة الحزب الشيوعي العراقي تعمل جاهدةً لحل الحزب وتذويبه في حزب السلطة" هي الأخرى غير دقيقة , فانتهاج سياسة خاطئة شيء و "تعمل جاهدةً لحل الحزب وتذويبه في حزب السلطة" شيء آخر مغاير تماماً , رغم انني اوافق رأي الكاتب, ( لم يرد الرأي الذي سيذكره في مقال الكاتب كريم، كي يؤيده!؟ ج) بأن خط آب لو قُدر له ان يستمر لفترة طويلة , ولم يواجه ذلك الرفض القاطع من كوادر وقواعد وجماهير الحزب لوصل الى تلك النتيجة , رغم انها مستبعدة تماماً في العراق , استناداً لمكانة وجماهيرية الحزب ونفوذه الأدبي والسياسي وجذوره العميقة في المجتمع العراقي".
لو كان هذا الرأي قد ورد في مقال كريم، لما علق كاتب هذه السطور عليه أصلاً رغم مآخذه الأخرى على مقاله" أما إذا أضيفت للأسباب التي استبعدت فيها احتمال ذوبان الحزب في الاتحاد الاشتراكي العربي، ما يلي:"...ولتركيبة الحزب الشيوعي العراقي القومية غير القابلة للذوبان في منظمة قومية عربية" لاتفقت مع هذا الطرح تماماً. أما حل الحزب، الذي ورد في ادعاء كريم، فهو أمر غير ممكن، فليس هناك جهة تملك مثل هذه الصلاحية، بما في ذلك المؤتمر الوطني للحزب. فقد أوجدت الحزب الشيوعي العراقي ضرورة اجتماعية تاريخية، وعندما تنتفي هذه الضرورة، فعند ذاك تنتفي ضرورة وجوده أيضا.
لقد لاحظنا كيف دلس الكاتب عبد الغني أخطاء الكاتب كريم، أما عندما وصل الأمر لإبداء ملاحظاته على مقالي، فقدم لها وجهة نظره في كتابة التاريخ، والتي يعوزها عنصر مهم في كتابة التاريخ، حسب فهمي وتجربتي المتواضعة في هذا الميدان، ألا وهي الأدلة الموثقة وخاصة في الأمور الخطيرة، وعدم الاعتماد على الذاكرة، خاصة عندما يبلغ الإنسان من العمر عتيّاً. فمن الممكن أن يشك القارئ بأقوال الكاتب فهو غير مجبر على تصديقه، أما الأدلة الموثقة فمن شأنها إقناع القارئ. وفي هذا الإطار، من الضروري هنا التمييز بين ما هو مهم وخطير أو موضع خلاف، وبين ما هو غير ذلك. 
يذكر الكاتب عبد الغني في مقاله ما يلي:"ان هذه الأحداث مضى عليها نصف قرنٍ من الزمن , وأصبحت تاريخاً يفترض بمن يتعرض لها او يتناولها , ان يكون دقيقاً وأميناً في تسجيلها , اذا كنا نريد فعلاً ان نصون تاريخ الحزب ونحافظ عليه من التشويه والأجتهادات الشخصية". هذا صحيح ولكن لماذا لم يذكر ذلك في مقدمة المقال، وجاءت بعد أن أنهي ملاحظاته على مقال الكاتب كريم وجعلها مقدمة لملاحظاته على مقال كاتب هذه السطور؟ فالأمر واضح فهو يريد الإيحاء للقارئ بأن كاتب هذه السطور لم يكن دقيقًا وأمينا و...الخً. وبصرف النظر إن كان يوحي أو لم يوح، فسأترك للقارئ أن يحكم من منهما لم يكن دقيقاً وأميناً؟ ومن منهما يحرص على تاريخ الحزب الشيوعي العراقي من التشويه، كاتب هذه السطور، أم الأستاذ همام عبد الغني المراني ؟
24 كانون الأول 2014
رابط مقال الأستاذ همام عبد الغني المراني
http://www.al-nnas.com/ARTICLE/is/17d1.htm


 


[1]  -  ثابت حبيب العاني، "صفحات من السيرة الذاتية"، ص 347 وما يليها.
 
[2]  - عزيز سباهي "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" الجزء الثالث ص47 و48. نقلاً عن بطاطو، الكتاب الثالث، 359.
 
[3]- بهاء الدين نوري، "مذكرات"، دار الحكمة- لندن، 317- 320.
[4]  - عزيز سباهي، مصدر سابق ص 47.
 
[5]- بهاء الدين نوري، مصدر سابق، ص 320.
[6]  - عزيز سباهي، مصدر سابق ص 46.
 
[7]  - جاسم الحلوائي "محطات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" ص318.
[8]  - المصدر السابق، ص 318. راجع كذلك عزيز سباهي، مصدر سابق ص53 و56.
 
[9]    - جاسم الحلوائي "محطات مهمة في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" ص 325.
 
[10]  - المصدر السابق ص317. أنظر أيضاً عزيز سباهي مصدر سابق ص 52.
 
[11]  - عزيز سباهي، مصدر سابق ص56.
 
[12]  - - جاسم الحلوائي "الحقيقة كما عشتها" ص247.