قراءة عامة في مجموعة (التفاحة النهرية) لمحمد نفاع


فتحي زيدان جوابرة
2014 / 12 / 12 - 20:50     

صدرت المجموعة عن دار راية للنشر _ حيفا، عام 2011، وتشتمل على ستّ عشرة قصة قصيرة، تبدأ بقصة (التفاحة النهرية) وتنتهي بقصة (نوبة قلبية)، وتقع في مئتين وثمان وثلاثين صفحة، والقصص هي: التفاحة النهرية، الجرمق، حوام الخريف، مختار السموعي، عمشق الوادي، صورة الهوية، وليمة، كبوش البطم، قادم جديد، رخصة سواقة، لقاءات ومواجهات مع خاتم سليمان، عن الذئاب وغزالة، خطاب المدير، موقف لنا من الإضراب، المخبر "ن"، نوبة قلبية. وصفحة غلاف المجموعة مزينة بلوحة للفنان عصام طنطاوي، وهي عبارة عن بيوت ريفية بسيطة، تؤلف فيما بينها نظاما قرويا، تتداخل فيه الألوان، مع حضور بارز للأخضر والأصفر.
قصص (التفاحة النهرية) للكاتب الفلسطيني والمناضل الشيوعي محمد نفاع كما هي قصصه في مجموعاته السابقة تحمل في طياتها تجاربه في الحياة، وذكريات طفولته من حياة الريف، وعشقه للأرض والقرية، وهو بذلك يمثل نموذج الكاتب القروي، الذي ينقل واقع القرية والريف ببساطته ولغته وهمومه وآماله.
وهي قصص بمجملها ديناميكية، تنطلق من بؤرة مركزية واحدة سيطرت على الكاتب، ألا وهي عشق الأرض والريف إلى حدّ يصل إلى درجة التقديس، وما يستتبع ذلك من اهتمام شديد بالطبيعة المتحركة والساكنة عليها، فعلى امتداد المجموعة يتجلّى ذلك الاهتمام بالمرأة والنبات والحيوان والطيور، والمكان والطبيعة الفلسطينية، وقد توحدت هذه المكوّنات لتشكل نماذجَ ولوحاتٍ فنية تتمازج فيها تفاصيل الوطن بأرضه وجباله، وريفه وأهله، ونباته وحيوانه وطيوره. وهذه المزاوجة بين الإنسان والمكان، بين الطبيعة والمحبوبة، شكلت موتيفات ومحاور أساسية تظهر بوضوح في غالبية قصص المجموعة.
ولا شك أنه نجح باستلهام الأرض وتفاصيلها الدقيقة، وطبيعة الحيوات عليها، ما جعل الوطن يتحول إلى لوحة فنية تزخر بكل ألوان الحياة، ومشهد مرئيّ تتداخل فيه عناصر التكوين الريفي ببساطته وجمالياته، فيشعر القارئ على امتداد المجموعة وكأنه يتجول في معرض فني، يزخر بلوحات الطبيعة الريفية، وسيكتشف أنه يقرأ لكاتب مجرب وخبير في تفاصيل الريف، بأرضه وإنسانه وحيوانه ونباته وزرعه، وتراثه وعاداته.
تميزت قصصه بالأصالة الشعبية، والإلحاح على التراث والفولكلور، ما جعل الناقد إبراهيم طه ينسب إليه الريادة في مدرسة (حكي التراث)، فقد عمد _ في مجموعته _ إلى تفكيك الأرض والريف إلى أجزائهما، والإحالة إلى ماضي الريف التراثي بفلكلوريته، ليعيد ربطها من جديد، بطرائق وأساليب قصصية متعددة، وبأسلوب لغوي متميز، تتراكم فيه ألفاظ الريف الفلسطيني، والألفاظ الجليلية الخاصة؛ حتى غدت اللغة عنده غاية في ذاتها قبل أن تكون أداة؛ ولذلك نجده يوظف مفردات اللغة المحكية في نصوصه الأدبية من منطلق كونها من صميم التراث الشعبي، عدا عن قناعته نفسه بأنها تنحدر من أصل فصيح في لغتنا العربية.
ثمّة سمتان متعالقتان بالضرورة، تبرزان في قصص المجموعة، هما تبسيط المبنى الحكائي، والبعد عن الترميز، ما يشير إلى قصدية نفاع نحو مطلب الوضوح الذي تمليه واقعية القص ومحليته.
وعدا اللغة المميزة، والتماهي مع الأرض والريف، والبعد عن الترميز، وتبسيط المبنى الحكائي، فإننا سنكتشف كاتبا فكاهيا، ساخرا من بعض الظواهر والمواقف الاجتماعية، جريئا في خطابه القصصي، كاتبا قادرا على التواصل مع التراث واستلهامه للاستفادة منه في مخاطبة الواقع.
ولعل هذه السمات السابقة هي ما يميز قصص المجموعة، وقصصه بعامة، من غيرها من قصص الأدب المقاوم التي تناولت قضية الأرض والإنسان الفلسطيني، فاستحقّت أن تعدّ مشروعا من مشاريع حفظ التراث الوطني الفلسطيني، وأداة فنية تسهم في تثبيت الهوية الفلسطينية، وتجذيرها في الأرض المهددة دوما بالمصادرة والتهويد.
إن النظرة الكلية لمجموع العمل القصصي لدى نفاع تمكننا من توصيفه بالديناميكية، فهو وإن التزم نهجا قصصيا واحدا في مجموعاته كلها، إلا أننا نجده يتحرك في دوائر متداخلة، فتبدو براعته في قدرته على "تفكيك تفاصيل الوطن، ليعيد ربط أجزائه من جديد". وتأتي مجموعته الأخيرة (التفاحة النهرية) تأكيدا على استمرار النهج القصصي الخاص به من جهة، وتفعيلا أكثر للتقنيات التعويضية والجمالية من جهة أخرى، وعلى عدم رغبته في التجديد البنيوي القصصي، أو تطوير أدواته التجريبية، التي ابتدأ بها من أول مجموعة كتبها حتى آخر مجموعة، وما ينطبق على قصة واحدة في مجموعته الأخيرة يمكن أن ينطبق على كل القصص فيها، مع فوارق جمالية بسيطة تقتضيها طبيعة الحدث والشخصيات.
ثمة معطيات يمكننا من خلالها أن نجد تفسيرا لثبات نفاع على نمط قصصي واحد، وتحركه في دائرة فنية واحدة، لعل أبرزها موقع نفاع السياسي الذي يتطلب منه موقفا واحدا محددا، وبقاؤه في موقعه يعني ثباته على موقفه، ما ينعكس على ثبات مضامين القص وشكله. أما المعطى الآخر فهو مسألة ذات خصوصية متعلقة بشخصية نفاع نفسه، فهو ابن القرية والريف، العاشق المحب للأرض والطبيعة الريفية، المجرب والخبير بكل تفاصيلها، وبالتالي قصد إلى تأكيد هذه العلاقة الحميمة، فأغرق في قرويته، واتخذ لنفسه مستقرا في أعماقها، فثبتَ القص عنده بمضمونه وشكله، ولم يتغير. ومعطى ثالث هو أن الأيديولوجيا الفكرية لدى نفاع تملي عليه التزاما أدبيا تجاه قضايا وطنه وشعبه، فهو يحمل فكرا تقدميا يرى فيه رسالة سامية، يتوجب نقلها ونشرها، وهذا ما يجعله يجول ويصول حول القضية التي يؤمن بها، ويريد لغيره أن يؤمن بها، تمهيدا لتثويره وإعلان رفضه، واتخاذه موقفا حاسما مما يجري حوله من أحداث، وبالتالي فهو راضٍ _من ناحية أدبية_ أن يظل أسير قضيته التي رفع لواءها من أول قصة كتبها إلى آخر قصة، وعليه فإن مضامين القص لن تتغير أيضا، وسيظل الشكل القصصي ثابتا عنده بوجه عام، هو نفسه يصرح بهذا في مقدمته التي كتبها في مجلد أعماله (أنفاس الجليل): "وسأظل متخندقا في خندقي هذا، منه أغرف الموضوع والمضمون، أرشف الكلمة والصورة والمثل والتشبيه".