تونس؛ صناديق الاقتراع أصعب طرق الثورات!

طلال عبدالله
2014 / 12 / 12 - 08:38     


"فقط الأوغاد أو السذّج يمكنهم أن يفكروا بأنه على البروليتاريا أن تفوز أولاً بأغلبية في الانتخابات التي تجري تحت نيّر البرجوازية، تحت نيّر عبودية الأجر، وعندها تفوز بالسلطة. هذه هي قمة الغباء أو الرياء؛ إنها تحل الانتخابات تحت حكم النظام القديم والسلطة القديمة محل النضال الطبقي والثوري" – (لينين: تحية للشيوعيين الإيطاليين والفرنسيين والألمان 1919).



النظام التونسي القديم لا بد أن يسقط، الإخوان ليسوا بديلاً على الإطلاق. انتصر جميع من في تونس إلّا الشعب التونسي، ذلك الشعب الذي خرج من أجل رغيف العيش، من أجل غد أفضل، ما انفك يقول: “إذا الشعب يوماً أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر”.

نتذكر أيام الثورة التونسية، كلنا نذكر الجماهير التي رفعت أرغفة الخبز في وجوه الجلّادين، هم أبناء الطبقة المهمشة، نعم، للثورة التونسية مطالب لم تتحقق بعد، مطالب عرفت السلطة الحاكمة الالتفاف عليها جيداً، عرفت محاصرتها، وحصرها في تعديلات الدستور، قوانين الانتخاب، وغيرها من المطالب السياسية!



“الربيع العربي”، الثورة، والوعي!

لربما لا يذكر أحدنا كيف احتل مصطلح “الربيع العربي” صدارة المشهد في الوطن العربي بعيد انطلاقة الاحتجاجات الشعبية في تونس ومصر، لطالما طالبنا أن نسمي ما حدث في تونس ومصر بالثورات الشعبية، بدلاً من استخدام مصطلح “الربيع العربي” المشبوه، الذي لا نستبعد أنه صنّع (كمصطلح) في أروقة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA)، وذلك لتفريغ احتجاجات الجماهير في مصر وتونس من مضمونها، وإضفاء صبغة مشبوهة عليها تشبه صبغة “ربيع براغ”.

الفارق كبير بين الثورات وحركات الاحتجاج والانتفاضات، بين التغيير والإصلاح، بين الثورة والثورة المضادة!

هنا يبرز الفارق بين ما حدث في تونس ومصر وغيرها، وما حدث في سورية وليبيا، القراءة السليمة تلزمنا التعاطي مع كل ظاهرة على حدة، ذلك بأن لكل ظاهرة واقعها الملموس ودائرة الصراع الخاصة بها، مكان الإمبريالية والصهيونية والرجعيات العربية من تلك الظاهرة!

لن نخوض في تعريفات الثورات والثورات المضادة، فقد تناول الرفيق محمد فرج ذلك ضمن مادة له في العدد الثلاثين بعنوان: “معذبو الأرض (2-3) | في عنف الثورات والثورات المضادة“. ما حدث في مصر وتونس ثورات شعبية، وما حدث في سورية وليبيا ثورات مضادة قادتها الرجعية العربية بالتحالف مع الإمبريالية والصهيونية.

لا يمكن وصف مشاهد خروج الملايين في تونس إلّا بالثورة، ولكن؛ نجحت الإمبريالية للأسف باستخدام جميع الوسائل الممكنة لاحتواء الشارع، من خلال تقليص مطالبه إلى الحد الأدنى وحصرها بالمطالب السياسية، هذا بالإضافة إلى حصر الجماهير ضمن ثنائية النظام السابق-الإخوان، وعقب اقتناع الولايات المتحدة برفض الشارع العربي للإخوان بشكل عام، كان لا بد من إعادة إنتاج النظام القديم في تونس!

لربما كان الوعي الطبقي ليس شرطاً لوجود الصراع الطبقي، ولكن هذا لا ينفي أن لا تحرك ثوري، أو ثورة، دونما نظرية ثورية، وقيادة ثورية، وبذلك نستطيع وصف ما حدث في تونس الشريط الزمني في تونس منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية بالتالي: تحركات شعبية، اشتعال للشارع، ثورة خبز، سقوط شكلي لنطام فاسد يليه حكم للإخوان بمباركة أمريكية، شارع يرفض ذلك مجدداً، التفاف على المطالب الشعبية والاحتجاجات المطلبية وتحويلها إلى سياسية ليبرالية قشرية، الترويج لفكرة مفادها “لا تخرج إلى الشارع لتخرب بلدك”، اصبر على حكم الإخوان، الانتخابات قادمة، تستطيع تنحيتهم عبر “صندوق الاقتراع”، انتخابات تنحصر بين هذا وذاك، وأخيراً إعادة إنتاج للنظام السابق!

الثورة التونسية لم تنجز شيئاً حتى الآن، النظام لم يتغير، عمليات إفقار وتجهيل الشعب التونسي لا تزال مستمرة، ولكي لا نكون من أصحاب “النظرة الوردية” للأمور، فالشعب التونسي، كما جميع الشعوب العربية، لا يزال مقيداً بأوهام صندوق الاقتراع!

الانتخابات والديمقراطية

لا تعبر الانتخابات بطبعتها الليبرالية عن ديمقراطية حقيقية، ذلك بأن آليات الانتخابات الليبرالية تصطبغ بصبغة برجوازية تخدم مصالحها الطبقية الخاصة.

حكم الأغلبية هو العنوان العريض الذي تتبناه الليبرالية. من المعروف بأن حكم فئة لفئة هو ديكاتورية لتلك الفئة على الفئة الأخرى، حكم الأغلبية الممثلة في الأنظمة الليبرالية بـ 51 بالمئة هو ديكتاتورية لها في الواقع على 49 بالمئة.

الديمقراطية وفق مفهومها الصحيح هي حكم الأكثرية لا حكم الأغلبية، والأكثرية في كل المجتمعات هم العمّال، لا نتحدث عن العمّال وفق المفهوم الكلاسيكي، العامل الآن هو كل من يتقاضى أجراً مقابل بيع قوة عمله، سواءً الجسدية أو الفكرية أو الذهنية، إذ يشكل العمّال أي مجتمع حوالي 90 بالمئة من ذلك المجتمع!

حكم العمال هو حكم الأكثرية، وهو ديكتاتورية للفئة الأخرى في ذات الوقت، للبرجوازية، التي لا تتخطى في أحسن أحوالها 10 بالمئة من أي مجتمع، نتحدث هنا عن البرجوازية التابعة، لا عن البرجوازية الوطنية (المفقودة في مجتمعاتنا)، ولا عن المثقفين الثوريين فيها!

تلك هي ديكتاتورية البروليتاريا، أو الديمقراطية في أسمى معانيها، قد تأتي بصناديق افتراع، نعم، ولكنها لن تأتي بصناديق اقتراع في أنظمة برجوازية أو ضمن نطاق أنظمة تابعة، كما لن تأتي بالتأكيد إلّا في سياق تحرري ثوري، يكسّر علاقات الإنتاج البرجوازية، ويهدم أنماطها، ليبني أنماطه الإنتاجية الخاصة، وفق مفهوم ثوري بالتأكيد.

كيف لتونس أن تثور حقاً؟

لم تخرج نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية والرئاسية في تونس عن 60 بالمئة وفق أحسن التقديرات، أما عدد من يحق لهم الانتخاب في تونس فيبلغ 5.2 مليون مواطن، مع أن تعداد السكان في تونس يبلغ 11 مليوناً!

كيف لنا أن نصف انتخابات كتلك بالانتخابات الديمقراطية، لا نتحدث فقط عن الأعداد والنسب، نتحدث أيضاً عن أنماط الإنتاج التي لم تتفكك، نتحدث عن أنماط إنتاج التي لا تزال تخدم مصالح الطبقة البرجوازية!

بالعودة إلى الثورة التونسية، فقد بدأت تلك الثورة بأعداد صغيرة، واحتجاجات هنا وهناك، ولكن تلك الأعداد الصغيرة (الأقلية) نجحت في جر الأغلبية، إلّا أن الخطأ الجسيم تمثل في فشل تلك الأقلية (الطليعة الثورية) في بلورة تنظيمها الثوري ومشروعها البديل، وبذلك فقد توجهت الجماهير لفكرة الانتخابات السريعة، في مسعى منها لإعادة الاستقرار لتونس!

الدعوة لانتخابات سريعة يكون في العادة هو أسلوب لسحب الأغلبية من الطليعة الثورية، ووسط الترويج لفكرة أن “الشرعية الوحيدة هي شرعية الصناديق” تتكسر قدرة الطليعة الثورية على إعادة سحب الأغلبية (الجماهير) إلى جهتها، دون إغفال أن تلك الأغلبية ضعيفة وهشة وغير مسيسة منذ زمن طويل، وهذا أمر يمكننا من فهم طبيعتها وأسباب توجهها إلى صناديق الاقتراع!

قد تعي الجماهير في لحظة ما بأن صناديق الاقتراع ليست المصدر الوحيد للشرعية، ذلك ما وعته الجماهير المصرية عند كنسها لدنس الذقون المتأمركة من شوارع القاهرة في الثلاثين من يونيو/حزيران 2013.

ولكن وعي الجماهير بذلك لا ينفي سعي البرجوازية بشكليها الإسلامي والليبرالي الدائم للقيام بعمليات الإحسان وفق المفهوم الإسلامي والتنمية ووفق المفهوم الليبرالي، وذلك لجذب أصوات الطبقات الفقيرة. وبالتالي فإن تلك التيارات لها مصالح موضوعية في استمرار سياسيات الإفقار والتجهيل، ومن تلك الزاوية، من تلك الزاوية بالتحديد، يجدر باليسار التونسي أن ينطلق.

تسارع الإمبريالية دوماً لإجهاض الديمقراطية باسم الديقراطية، تماماً كما تسعى لمواجهة أي تحركات ثورية من خلال الدفع باتجاه الديمقراطية الشكلية، فتكون الشرعية بذلك لصناديق الاقتراع وبالتالي توقف شرعية الثورة، وعادة ما ترضى المنظمات الدولية التي “تراقب” الانتخابات وسير العملية الانتخابية عن الحركات والأحزاب السياسية التي تؤيد العولمة ولا تمتلك مشروعاً مناهضاً لقوانين السوق وآلياته ولديها قبول للرأسمالية العالمية ولا تمتلك موقفاً من الملكية الخاصة، وبالتالي فهي تؤيد وبشدة التعاون مع صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، أو لربما تسعى بشكل تام للاعتماد عليه.

من الضروري كما تقول الوثائق الأممية الشيوعية الفضح الدائب أنان الجماهير الكادحة في جميع البلدان المتخلفة، لعملية الخداع المنظم الذي تمارسه الدول الإمبريالية بمساعدة الطبقات السائدة في البلدان المضطهدة، والتي تتظاهر بالدعوة لإقامة دول مستقلة سياسياً، فيما تقيم في الواقع دولاً تابعة لها كلياً من جميع النواحي الاقتصادية والمالية والعسكرية.

في تونس انتخابات يذهب إليها ضحايا المال السياسي، في تونس؛ انتخابات لا تمثل الشعب التونسي وتحافظ على أنماط الإنتاج القائمة، في تونس انتخابات تبقي الشعب التونسي ضمن فكي كماشة الإخوان-النظام القديم، هي انتخابات ممولة تدار تحت إشراف منظمات مشبوهة (محلية ودولية)، تتنافس من خلالها تيارات وأحزاب سياسية أكثر شبهة!

وسط ذلك كله، هل ثمة مشروع ثوري يعيد تصحيح مسار الثورة التونسية؟ هل ثمة جماهير تقتنع بذلك كله وتخرج إلى الشارع مجدداً؟ لا شك لدي في ذلك، ولذلك؛ فنحن لن نشفى من حب تونس!

لربما قامت جولة ثورية في تونس عام 2010، جولة صغيرة من جولات الثورة، جولة لم تنجز مهماتها، لا تحتاج تونس لصناديق اقتراع، ما تحتاجه تونس هو قيادة ثورية تكمل الثورة التي بدأت في العام 2010!