المجتمع العراقي وثقافة الكراهية في سياق المعنى والدوافع الثقافية والمجتمعية التاريخية والحديثة


سعد محمد حسن
2014 / 12 / 6 - 20:11     

المجتمع العراقي و ثقافة الكراهية
في سياق المعنى و الدوافع الثقافية و المجتمعية التاريخية والحديثة

تمهيـــــد:

ما هي ثقافة الكراهية ؟ ما هي دوافعها ؟ و ما هي مسبباتها ؟ وكيف تتجسد في الممارسة المجتمعة تاريخيا وفي وقتنا الراهن ؟


في محاولة للاقتراب من الإجابة على هذه التساؤلات لابد لنا من القول بأن العديد من البلدان العربية والإسلامية تعاني اليوم من تداعيات خطاب الجماعات الإسلامية المتطرفة وما تقترفه من جرائم طالت حياة مئات الآلاف من الأبرياء , ولعل الوضع في العراق ليس استثنائيا فحسب إذ يعد الأكثر مأساة ودموية , فمنذ أكثر من عشرة سنوات و العراقيين بمختلف طوائفهم وأديانهم وقومياتهم , يواجهون خطرا حقيقيا متمثلا بالنهج الإجرامي للجماعات المسلحة بمختلف مسمياتها ومشاربها الفكرية , حيث لاقى عشرات المئات من العراقيين مصرعهم على يد تلك الجماعات , كما باتت أحياء كاملة في العديد من مدن العراق ومنها العاصمة بغداد على وجه الخصوص تنحصر في تكوينها الاجتماعي على مكون واحد بعد أن جرى تغييب المكونات الاجتماعية الأخرى بوسائل التهديد بالقتل أو التهجير وغيرها من الوسائل . ولعل الأكثر وحشية من تلك الوسائل هي جرائم الإبادة الجماعية التي تقوم بارتكابها ما بات يعرف بدولة الخلافة ا الإسلامية " داعش " مستهدفة المجتمع العراقي بمكوناته المتعددة دون استثناء مما شكل ذلك تهديدا حقيقيا لتنوع النسيج الاجتماعي وتعدد أطيافه وثراه الثقافي والاجتماعي و لأسس العيش المشترك .
وليس تجافيا للحقيقة القول بأن الوقع المباشر واليومي لثقافة الكراهية والذي تشكل مضمون خطاب الجماعات الإسلامية المتطرفة هو ما تتركه من تأثير في العلاقات الاجتماعية التي تعكس بدورها عن رؤية المجتمع العراقي لنفسه وعلى منظومة مفاهيمه وعاداته وأنماط سلوك أفراده وأنماط تفكيرهم . ففي العراق اليوم تحاصرك تلك الثقافة إلى حد ما و أين ما كنت في العمل أو الشارع أو المقهى وفي أحاديث الناس بمختلف مستويات تعليمهم وشرائحهم ويواجهك وأنت تقلب العديد من القنوات الفضائية , الدينية منها على وجه التحديد وغيرها . .

الكراهية في سياق المعنى


لاشك من أن مفهوم ثقافة الكراهية في مدلوله المعرفي قد شكل معيارا لفهم العديد من الجوانب الحياتية التي تعكس بدورها مدى التأثير النفسي والتربوي الذي تتركه عمليا وانعكاس ذلك على طبيعة ومدلول أنماط السلوك الفردي والجمعي وعلى العلاقات الاجتماعية برمتها في أوجهها المتعددة . والكراهية في اشتقاقها اللغوي هي غير في مدلولها الفكري والاجتماعي . إذ تفتقر العديد من معاجم اللغة العربية برغم ثراها اللغوي والاشتقاقي كلسان العرب لأبن منظور , و معجم مقاييس اللغة , لأحمد بن زكريا , وأساس اللغة للزمخشري والتعريفات للشريف الجرجاني , أ إلى تعريف دقيق للكراهية بكل ما يحمله هذا المفهوم من دلالة معرفية فكرية واجتماعية وما يتركه من تأثير على مسار العلاقات الاجتماعية , حيث اقتصرت جميعها على تعريفها للكراهية على أنها مصدر اشتقاقي من الفعل كره , يكره , مكروه, ويقال كره الشيء , أي مقته أبغضه , نفر منه ليس ألا ..
في السياق نفسه يذهب العديد من الباحثين و المشتغلين بحقول علم النفس الاجتماعي و علوم السلوك ا الإنساني إلى القول بأن المجال التداولي لمفهوم الكراهية في بعده الثقافي والسياسي والتاريخي والنفسي والتربوي , بات اليوم يشغل حيزا من الاهتمام الواسع في الدراسات النفسية والاجتماعية الحديثة , ففيما كانت ثقافة الكراهية تطال بفعلها الاجتماعي حقوق النساء والأطفال تحت دوافع ومبررات دينية وقيم ومفاهيم تقليدية وسلوكيات نفسية وتربوية , باتت اليوم و تحت وقع قوة تأثير الخطاب الديني الطائفي المتطرف والقومي المتعصب في مجتمع يعاني أساسا من أزمة بنيوية طالت جوانب الحياة المادية والروحية فيه , تشكل تهديدا حقيقيا للعلاقات الاجتماعية و لوحدة وتماسك النسيج الاجتماعي برمته و أحدى أكثر العوائق على طريق تكريس قيم المحنة والتآخي والعيش المشترك . لذلك بات من الضروري أن يتم أعادة ضبط المفهوم معرفيا وتحديد تأثيراته العملية في أوجه الحياة المتعددة .

الكراهية في سياق مفاهيم علم النفس , أـجاه نفسي انفعالي مصحوب بتشنجات عصبية ضد فرد أو جماعة , أو فكرة أو عقيدة , لا يقوم على سبب منطقي أو عقلي . ينتج عن عدم قبول جزء من العقل المختص بالمشاعر والأحاسيس إلى بعض العناصر الداخلة أليه عن طريق الأعصاب الدقيقة وذلك نتيجة تأثير العالم الخارجي على الشخص المعني. وهي بهذا المعنى تشكل النقيض المعياري للحب . الكراهية :عجز الذات الواضح عن مواجهة مشكلاتها النفسية والاجتماعية مواجهة صحيحة .
الكراهية مشاعر إيجابية وسلبية على حد سواء وأن اختلفت في دلالة فعلها الاجتماعي , يصاحبها تعصب, اشمئزاز شديد , عداوة أما لشخص أو جماعة أو لأمر ما أو علاقة ما أو مسألة ما , تعزز الرغبة في التعصب , التجنب , العزلة , التدمير أو القتل .

الكراهية ليست نزعة غريزية كالجوع أو العطش تتطلب إشباعها أو أنها قائمة بذاتها أو أنها متأصلة في الشخصية في جوهر بنيتها العقلية والنفسية بل أنها تنطلق تاريخيا من النسيج الاجتماعي أنها قائمة في بعض دوافعه في تصادم أنماط ثقافية متعددة فيه . أنها ظاهرة مكتسبة في دلالة فعلها الاجتماعي.
يقول د .قاسم حسين صالح" أن الإنسان كما الكون قائم على ثنائية الأضداد, خير , شر ,,حب , كره , لكن أخطر هذه الثنائيات في التكوين النفسي والاجتماعي للفرد هي ثنائية أل ( نحن ) وال(هم )" ويعزوا خطورة هذه الثنائية كونها " السبب الأقوى وراء الصراعات بين الجماعات , إذ يشكل الكره المتبادل ( دااينمو) العداء في هذه الثنائية التي تقضي إلى جرائم كراهية كان أبشعها في القرن الواحد والعشرين "(1) .

ويمكننا القول بأن الكراهية قد تعد في بعض الأحيان مزاجا كامنا غير معبر عنه في العلن في أنماط سلوكية مطابقة له , ألا أن العنف العيني باعتباره تعبيرا عن الكراهية يعد لغة التخاطب الوحيدة التي تصوغ العلاقة مع الواقع الاجتماعي .
الكراهية في دلالة فعلها الاجتماعي والتاريخي و التراثي تعكس وإلى حد كبير تحولات الدولة , المجتمع الثقافة في العراق . إذ بات من الضروري التأكيد على أن الكراهية ليست بعيدة عن واقع مجتمعنا الثقافي والاجتماعي في تاريخه وراهنه , و ليس من المنطقي والمعقول أن المجتمع العراقي قد استورد ثقافة الكراهية من غيره , فهي إذ تجد بعض مسبباتها في سياسات القمع والتهميش والاستبعاد لشرائح ومكونات اجتماعية ولثقافات وهي سلوك إقصائي قائم على ازدراء الأخر, احتقاره و الانتقاص من وجودة الإنساني .
الكراهية بهذا المعنى خطاب ثقافي وممارسة عاطفية. لعلاقة اجتماعية حيث يعد التفاهم العاطفي شكلا لعلاقات اجتماعية تمثل وضعا مشتركا وعامل للحكم على الأشياء والمواقف .
الكراهية الجماعية هي الممارسة العاطفية التي تحافظ على العلاقات الاجتماعية الحميمة عندما ينهار التفاهم بين مكونات اجتماعية مختلفة الهوية والحدود , لذلك فليس من الغرابة أن يسعى منظري الفكر الطائفي والقومي المتعصب وممثليهم السياسيين إلى تعزيز الشعور بكراهية الأخر المختلف طائفيا أو قوميا . ووفق ما يراه مهدي عامل من أن البرجوازية تعيد إنتاج المجتمع كطوائف وليس كطبقات في شروط نمط الإنتاج الكولونيالي , فأن البرجوازية و لضمان ديمومة هيمنتها الطبقية فأنها تسعى في استثمار الحشد الطائفي المولد للكراهية إلى أقصى ما يمكن عند مواجهة الأخر المختلف . (2) .
الكراهية كخطاب سياسي وثقافي يسعى في تسويق مفاهيمه على إذكاء روح التفرقة الطائفية والقومية تحت دعاوى التعصب والتفوق .

ثقافة الكراهية في سياق دوافعها التاريخية:
فيما تعول سلوكيات العديد من الأشخاص الناتجة عن كراهية مسألة محددة إلى نزعة فردية لها أسبابها ودوافعها النفسية والتربوية , ككراهية بعض الأطفال لمدارسهم أو الكراهية المتبادلة بين الأزواج فيما بينهم أو الكراهية لبعض الألوان والروائح والأسماء وغيرها , أو وراء ارتكاب البعض لجرائم معينة وأن اتخذت هذه الجرائم صفتها كجرائم ضد المجتمع بما يحمله من قيم وتقاليد وأعراف كجرائم غسل العار أو الزنا بالمحارم أو جرائم السرقات أو غيرها , ألا أن أسباب ودوافع تلك الجرائم قد لا تكون مدعاة في دلالة فعلها الثقافي والاجتماعي للتوقف لمعرفة الدوافع الكامنة وراء تحول الكراهية إلى ثقافة مجتمعية تصاغ من خلالها شكل وطبيعة العلاقات الاجتماعية و السياسية والثقافية القائمة . لذلك فأن التقصي عن الأسباب والدوافع الحقيقية الكامنة وراء تحول الكراهية إلى ثقافة مجتمعية تسود أوساط ومجموعات اجتماعية عدة, قد يحيلنا إلى الأهمية القصوى لفهم طبيعة الممارسة المجتمعية للمجتمع بمكوناته المتعددة بما يحفل من أنماط سلوك وتفكير وثقافات ومفاهيم وقيم وأعراف و التي صاغت بعض أوجه العلاقات الاجتماعية القائمة في ما بين مكونات المجتمع نفسه بتعدد طوائفه وأديانه وقومياته من جهة و من جهة أخرى شكل وطبيعة العلاقات السياسية ومدلولاتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية القائمة بين هذه المكونات و بين مؤسسات الدولة كبنية سياسية حقوقية.
ولعل من الضروري التأكيد بأن في ثنايا العلاقات الاجتماعية القائمة على الكراهية والتعصب و الاحتقار ما يعكس النزوع نحو غايات وأهداف الهيمنة والتعصب والتسلط في جوانبها السياسية والثقافية والاجتماعية والنفسية والتربوية.
ومع أهمية التأكيد على أن تحول الكراهية إلى ثقافة مجتمعية لم يكن مرهونا على ما تنطوي عليه تناقضات الواقع الاجتماعي والثقافي والنفسي والتربوي الراهن في المجتمعات العربية والإسلامية عامة ومنها المجتمع العراقي على وجه الخصوص , فحسب مع أهمية أقرار ذلك, بل أنه أرتهن كذلك بما عانى منه العرب والمسلمين تاريخيا من اضطرابات وصراعات سياسية وعسكرية سنوات الخلافة الراشدة والأموية والعباسية تركت تأثيرها في تحول الكراهية إلى خطاب ثقافي لبعض الجماعات المعارضة , فعلى سبيل المثال لا الحصر فلقد شكلت تلك الثقافة بعض أوجه الممارسة العملية لفرقة الخوارج في تكفيرهم لطرفي الصراع وللموالين لكليهما بعد معركة صفين وما تمخض عن تلك المعركة من نتائج اجتماعية وثقافية وسياسية . .
في سياق أخر ترك الانسداد الحضاري الذي عانى العرب والمسلمون من وطأة أثاره على مدى أكثر من أربعة قرون منذ تراجع عقلانية الحضارة العربية الإسلامية بتأثير تراجع و انحسار التيار العقلاني المتمثل بالمعتزلة وهم أهل العدل والتوحيد, صناع العقلانية العربية والإسلامية, وانتصار أهل النقل والحديث, في ظروف سياسية واقتصادية وثقافية متشابكة ومعقدة سنوات خلافة المتوكل بالله صعودا إلى أخر خلفاء بني العباس وما تلاها من حكم البويهيين والسلاجقة والفرس والأتراك العثمانيين , ومن المعروف أن محنة لقرآن قد شكلت حينها أحدى أكثر إشكاليات علم الكلام والتي رسمت بدورها ملامح الصراع الثقافي الدائر بين مدرستين لتفسير النص المقدس هما مدرسة أهل العقل ( المعتزلة ) ومدرسة أهل النقل والحديث ( الاشاعرة ) والذي حسم تاريخيا لصالح الأخيرة , فينها أثار المعتزلة من جهتهم قضايا وتساؤلات جديدة لم تكن قد طرحت من قبل أو لم تكن قد تحددت ملامحها بعد بما يجعل منها قضايا تثير التسائل والتحقيق والتقصي المعرفي وكانت غالبيتها ذات طبيعة حساسة تجنب الفكر المسلم المحافظ الخوض فيها, بل والنظر أليها بريبة أو حذر أو اتهام أو هجوم للباحثين فيها لما تجره من نتائج قد لا تخلو تبعا لتصورات هذا الفكر من خطر على العقيدة الإسلامية (3). مما فتح ذلك المجال أمام ثقافة الكراهية من أن تجد حواضنها الاجتماعية والتي سرعان ما أصبحت تشكل بعض جوانب العقيدة للأصولية الإسلامية بخطابها الطائفي على حد سواء .
ومن المعروف أن تبلور ملامح الخطاب الأصولي السني جاء على أيدي أحمد أبن حنبل الذي عاش ما بين أعوام 164 و 241 هجرية ( 781 و 855 ميلادية ) ومن بعده مع أعلام مدرسته اللاحقين أمثال أبن قيم الجوزية وأبن تيمية في القرن السابع والثامن للهجرة (4). والذي أخذ أبعادا أكثر تشددا في قراءته للنص المقدس وأكثر تطبيقا نصيا له على يد محمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر الميلادي , ولا ريب أن نهج محمد بن عبد الوهاب المتشدد قد أصبح الأساس في بلورة عقائد السلفية التكفيرية والسلفية الجهادية .والتي كرست ثقافة الكراهية نهائيا في علاقتها مع الأخر المختلف وأرستها عمليا في ممارستها المجتمعية , فيما أن الخطاب السلفي الأصولي الشيعي الأثني عشري قد تشكل ملامحه على يد جعفر الصادق متأثرا في بعض أصوله بفكر المعتزلة ثم اتخذ أبعادا أكثر شمولية على أيدي أئمة المذهب من بعد عند معالجتهم للمسائل الفقهية..
الجدير بالذكر أنه على الرغم من وجود أوجه الاختلاف بين الفرقتين السلفيتين في مسائل الفقه والاعتقاد وغيرها من المسائل الشرعية , ألا أن تفحص الخطاب السلفي الشيعي و كذلك الخطاب السلفي السني و التعرف عن سياقات منطقهما الداخلي سنجد أن جذور كراهية الأخر قد صاغت بعض من تلك المسائل في تفسير أصول الدين الإسلامي وأحكامه . ,
من جهة أخرى كانت الخلافة الإسلامية التي رسخت دعائمها على مدار القرون الأربعة الماضية من تاريخها ونشرت حضارة عربية و إسلامية رائدة في مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية أصبحت فيما بعد تعاني من انحطاط على كافة الجوانب , ويبدو أن مؤشرات ذلك ا الانحطاط قد ظهرت قبيل الغزو المغولي العام 1258 الدي تسبب بدوره في استباحة بغداد عاصمة الخلافة العباسية ومركزها السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي و بقية المراكز الحضرية الأخرى , إذ كانت الخلافة العباسية نفسها تعاني من تفاقم أوضاعها السياسية والعسكرية والاقتصادية , في ما كان الخلفاء العباسيين حينها مشغولين تماما بتحقيق و إشباع رغباتهم الشخصية . بعيدا كل البعد عن شؤون الخلافة ومصالح الرعية.
لقد شكلت حركات التمرد والفتن والعصيان وسعي الولاة للحصول على الخراج بشتى لوسائل و انتشار عصابات الطرق ونهب القوافل التجارية, أظافة لسعة مساحة أراضي الدولة العباسية , أكثر العوائق أمام توسع النشاط التجاري وتبادل السلع بين مجمل أمصار ومراكز الدولة ومدنها الرئيسية , مما قوض تماما أية فرصة للرأسمال التجاري الناشىء من أن يتمركز و ينمو وأن يشكل فيما بعد نقطة انطلاق صحيحة لتطوير الإنتاج الحرفي ودفعة لزيادة إنتاج السلع وزيادة تبادلها مما يعزز من فرص تكوين سوق موحدة تشكل لاحقا قاعدة التحولات الاجتماعية والاقتصادية ا اللاحقة .
من جهة أخرى وعلى أثر تراجع و انكفاء دور الفرق العقلانية المتمثلة بفرق المعتزلة والآشاعرة والباطنية الأسماعيلية والتي كانت تشكل الأكثرية و تسيطر على أقاليم كثيرة , بات المسلمون يعانون من ظاهرة الانقسام المجتمعي إلى طوائف (5) حيث بدء ظهور ذلك الانقسام على أثر انكفاء تلك الفرق . حيث مكن ذلك كلا الفرقتين السلفيتين السنة والشيعة من الظهور كقوة اجتماعية وثقافية. وأن تقدما نفسيهما كطرفي يمثلان مشروعية العمل بموازاة التيارات السياسية و الفكرية السائدة (6) وكذلك على مشروعية العمل تاريخيا في مواجهة بعضهما البعض ورغم من أن الانقسام الطائفي لم يترك تأثيره حينها على مجريات الأحداث, ألا أنه شكل بداية التصدع الاجتماعي . الذي أتخذ فيما بعد إبعاد اجتماعية خطيرة حين شكل الجذر الاجتماعي لثقافة الكراهية . والتي أضفت بدورها على الطابع العام لسياسة البويهيون في عدائهم للسنة والسلاجقة في عدائهم للشيعة , فمن المعروف أن البويهين قد تبنوا المذهب الجعفري كمنهج لسياستهم في العراق والتي أفضت إلى تكريس التناحر الطائفي في صفوف المجتمع العراقي , فيما سعى السلاجقة في تبني الفقه السني وتوظيفه سياسيا واجتماعيا للإغراض نفسها ..
ومن المفيد القول أن الإشكالية الناتجة عن علاقة النقل والعقل أي بين أهل الرأي وبين أهل الحديث قد حملت أبعادا ودلالات عدة , كمؤشر على حصول متغيرات تاريخية / دينية ، سياسية وثقافية , طالت بنية المجتمعات العربية والإسلامية ومنها المجتمع العراقي , ولو تفحصنا لتلك الإشكالية الناتجة عن الثنائية المتضادة ( النقل في مقابل العقل ) في سياقها الثقافي والتاريخي والتراثي , فسوف ترى أنها قد عكست في بعض تجلياتها , إشكالية البداوة والحضارة التي صاغها أبن خلدون و أعاد أنتاجها علي الوردي في دراسته لطبيعة المجتمع العراقي (7) إذ يلاحظ د الوردي أن أسباب تمكن دعوة محمد بن عبد الوهاب من أن تجد لها قدما في الجزيرة العربية وتتمكن من التوسع والانتشار في أوساط البدو, ذلك أ أن البدو وبعكس سكان الحضر لم يتعودو على الوساطة في حياتهم اليومية وليس لديهم حكام مستبدون كما هو الحال عند الحضر (8) . ذلك أن ما تمتاز حياة البدو به هو خلوها تماما من علاقات السلطة وتشابك مصالحها وما ينتج عنها من تدرج اجتماعي وإشكال من السلطة والوجاهة والهيمنة , و التي تتناقض تماما عن كل ما يفرضه المجتمع الحديث في سياقاته السياسية والاجتماعية والثقافية من علاقات وتشابك مصالح, تستلزم بدورها وجود إشكال متعددة من الوسائط والعلاقات المتبادلة اللازمة لديمومة واستمرار الحياة بأوجهها المختلفة .
شكلت كلا السلفية بخطابها ا الطائفي المغلق و الشعوبية بخطابها القومي المتعصب ونقيضهما الفكري والعملي, الجذور الأولى في تحول الكراهية إلى خطاب جمعي يتسم بالعداء للأخر المختلف عنهما والتعصب ضده, , فحينما استمدت السلفية مرتكزات خطابها الفكري من العودة إلى السلف الصالح , و أسست بذلك منهجها القائم في النظر إلى الماضي وليس النظر إلى الإسلام , في كونه منظومة دينية عقيدية غير خاضع لمنطق التاريخ , قد شكل ذلك نقطة التحول باتجاه تكريس ثقافة الكراهية في مواجهة الأخر السلفي الطائفي المختلف . والتي كشفت عن أوجه الكراهية المتبادلة بينهما .
في الوقت نفسه راحت الشعوبية هي الأخرى تؤسس لخطابها القومي القائم على ازدراء الأخر المختلف قوميا مما أدى ذلك إلى تأجيج مشاعر الكراهية المتبادلة بينهما .
ففيما كانت كلا السلفية السنية والسلفية الشيعية الاثني عشر تأسس خطابهما الثقافي على أثر تراجع التفكير العقلاني و انحسار تأثيره ودوره في الحياة الاجتماعية والثقافية , فأن الشعوبية قد عكست عند بلورة خطابها الثقافي مسألتين مهمتين أولهما سعي الشعوب غير العربية المسلمة لرفع التمييز والتعصب القومي عنها ومساواتها بالمسلمين العرب , وثانيهما سعي أشراف تلك الشعوب وارستقراطيتها للدفع تلك الشعوب وراء ترسيخ ثقافة كراهية العرب كخطوة على طريق تحقيق انفصال هذه الشعوب عن سلطة الخلافة مما يمهد الطريق لضمان المصالح الطبقية لأرستقراطية تلك الشعوب . فمن الواضح تاريخيا أن الشعوبية هي من صنع " المختارين" الفارسيين والأتراك خصوصا وأن " العصبية العروبوية" قد وظفت في أساس الأمر في خدمة المختارين العرب في الدولتين الأموية والعباسية (9) .
الجدير بالملاحظة أن كلا من علماء طرفي الشعوبية العرب من جهة والفرس والأتراك من جهة أخرى و فقهاء طرفي السلفية السنة والشيعة الاثني عشر قد أحدثوا المئات من الأحاديث التي نسبوها للنبي و صحابته و أتباعه ووظفوها لتكريس صحة وصواب وجهة نظرهم في الصراعات السياسية والاجتماعية والثقافية التي اتخذت طابعا طائفيا أو قوميا متعصبا . .


شكلت بغداد ومنذ بداية العصر البويهي ساحة خصبة لزرع بذور ثقافة الكراهية بسبب من اشتداد التناحر الطائفي بين الشيعة المستفادين من مداينيهم البويهيين لتوسيع نشاطهم ليس الفقهي فقط بل والطقوسي (10) وبين أهل السنة والجماعة , فلقد جرت ولأول مرة في بغداد تعازي عاشوراء , لكرى السنوية لمذبحة كربلاء والتي استفزت أهل السنة وجعلوها في عداد البدع المحرمة, فكانت الغوغاء الطائفية السنية تخرج بتوجيه من رجال الدين لتخريب التعازي ومنع أقامتها مما يؤدي إلى صدامات مسلحة تقع فيها ضحايا كثيرة من الجانبين (11) ومن البديهي أن تطور تلك الأحداث قد ساهمت وإلى حد كبير في اتساع دائرة الاحتقان الطائفي المولد لثقافة الكراهية , فلقد سعى كلا الطرفين في زيادة نشاطهم الاستفزازي زيادة في التحدي, ولم تكن هذه الاستفزازات ألا من تدبير رجال الدين والمشايخ من كلا الطائفتين (12)
الدير بالملاحظة أن الفكر الإسلامي منذ انقسام المجتمع العربي والإسلامي طائفيا أ ولقرون عدة و تحت ضغط ثقل أسوء الحكومات الاستبدادية , المغول والأتراك والفرس واشتداد التناحر الطائفي , قد عانى من توقف وجمود كل النشاطات ا الفكرية والثقافية و الإبداعات العلمية وتحولت الثقافة العربية والإسلامية حينها إلى قوالب لا حياة فيها وإلى إشكال متكررة لا قيمة معرفية لها , حيث استمر ذلك الجمود الثقافي والركود الاجتماعي حتى نهايات القرن الثامن عشر (13) .

ثقافة الكراهية في سياق دوافعها الحديثة:
ومع سنوات القرن التاسع عشر وجد العرب أنفسهم والعراقيون منهم أمام سؤال النهضة والتقدم جراء احتكاكهم بالحضارة الغربية بآلاتها وأفكارها ونظمها العسكرية والسياسية والاقتصادية . إذ أن التقدم المادي والثقافي الذي أعقب الثورة الصناعية وأحرزته دول مثل بريطانيا و فرنسا وألمانيا على وجه التحديد قد أدى إلى هدم الحواجز والحدود الثقافية والسياسية والاجتماعية ليس بين دول أوربا فحسب و أنما بين القارات جميعا . وأصبح مدعاة لطرح سؤال العلاقة مع الغرب وأسباب تقدمهم وتأخرنا وكيف السبيل لتجاوز ذلك التأخر .
ويبدوا أن الاصطدام بالحضارة الغربية قد ترك تأثيره في بلورة العديد من التيارات السياسية والفكرية , ففيما دعا بعض المثقفين العرب والمسلمين إلى أهمية النهضة العربية والأخذ بما جاءت به الحضارة الغربية من مفاهيم ورؤى وقيم داعين في الوقت نفسه إلى أهمية الأخذ بإصلاح الفكر الديني تماشيا مع تطور ووقع الحياة , معتبرين ذلك مقدمة لكل أصلاح يهدف إلى النهوض بالواقع الاجتماعي والثقافي . ظهر تيار أخر تمثل بالأصولية الإسلامية التي راح ممثلوها وبمختلف توجههم ا الفقهي بالمناداة على ضرورة أن يتم العودة إلى تعاليم الإسلام والتمسك بها معتبرين الإسلام المنطلق و الأساس السليم لمواجهة إشكالية الحكم , معللين دعوتهم تلك بما يواجهه العرب من تخلف جراء ابتعاد هم عن تطبيق تعاليم الإسلام .
وفي ظل تطور الوضع العالمي والتي كانت خلاله الدول الاستعمارية تتسارع فيما بينها للسيطرة على بلدان العالم المختلفة بغية الهيمنة على مصادر المواد الخام وخاصة النفط لتأمين مصالحها الحيوية . كانت الدولة العثمانية تعاني من وقع تخلفها في ميادين الحياة المختلفة, حيث أطلق عليها الأوربيون عليها بالرجل المريض, ومع الحرب العالمية الأولى , جاء سقوط الدولة العثمانية و تفككها فيما بعد وظهور دول حديثة , ليضع هذه البلدان أمام أسئلة التطور اللاحق ومتطلباته الموضوعية , ويبدو أن أحدى أكثر الصعاب التي واجهتها هذه البلدان في سعيها لبناء تشكيلة اجتماعية واقتصادية موحدة تشكل القاعدة الاجتماعية للحكم الجديد وأساس للتحولات القادمة , هي في مدى قدرة هذه الدول على إيجاد ما هو مشترك في مكونات مجتمعاتها والذي يشكل الدعامة الأساسية لبناء هوية الدولة / الأمة كمؤشر سليم على طريق وضع هذه المجتمعات على طريق التحديث ويمكن تلك المكونات من المشاركة العملية في تقرير مسارات ا السياسة العامة . بأوجهها المتعددة .
ويكاد العراق بمجتمعه الراهن لا يختلف أطلاقا عن طبيعة مجتمعات تلك البلدان التي تأسست بعد الاحتلال الاستعماري ونالت استقلالها فيما بعد , فلقد تشكل اجتماعيا وثقافيا من مكونات طائفية ودينية و أثنية و من ثقافات متعددة, مما حمل نسيجه الاجتماعي العديد من إشكال التباين و التفاوت القيمي والتي أثرت بدورها على طبيعة العلاقات الاجتماعية والثقافية السائدة بين مكوناته تلك وعلى شكل العلاقة ومحدداتها فيما بينهم . وبين السلطة السياسة و آلياتها التنفيذية . إذ أن تعددية المكونات في حال أقرار حقوقها السياسية والاقتصادية والثقافية تشكل أثراء للحياة و صمام أمان لتطور سلمي وحقيقي, وأساس سليم لتكريس قيم المحبة والتسامح والانسجام . فيما قد يؤدي العكس إلى نشر بذور ثقافة الكراهية والتعصب. في العلاقات الاجتماعية والثقافية . ولقد كان من تأثير نمو البنية السياسية للدولة العراقية والتي اقترنت غالبية سنوات تاريخها بممارسات قمعية تجسدت في غياب الحريات ومصادرة الحقوق , فلقد جرى ومنذ العام 1921 وهو عام تأسيس الدولة العراقية , استبعاد واسع لمكونات وفئات اجتماعية عديدة , حيث جرى وضع العديد من الصعوبات للحيلولة دون تمتعهم بحقوقهم و دون مشاركتهم الفعلية , كما أن تنامي نزعة الاستبداد لدى سلطة الحكم ومنذ العام 1963 قد أدى ذلك إلى أنتهاك أبشع الجرائم التي طالت حياة عشرات الآلاف من الأبرياء , مما مهدت هذه السياسة الأساس في نشر ثقافة الكراهية بين العراقيين و تنامي روح التعصب بين أوساط اجتماعية عديدة , فليس من المستغرب أن نجد من يجاهر من العراقيين علنا بكراهيته لهذه القومية أو تلك أو لهذا المكون الديني أو ذاك أو لهذه الطائفة أو تلك . أو هذه الشريحة الاجتماعية أو تلك
ومع انهيار نظام صدام حسين ظهرت بوضوح تداعيات سياسة الاستبعاد الاجتماعي التي أنتهجها النظام بممارساته الاستبدادية طيلة سنوات حكمه والتي عكست بحق عمق أزمته البنيوية , لقد رسخت تلك السياسة ثقافة الكراهية بين أوساط العراقيين والتي نجني ثمارها الآن في الجرائم التي تستهدف حياتنا ووجودنا الإنساني .

الهوامش :
(1) د قاسم حسين صالح . الموقع الشخصي على شبكة الانترنيت .
(2 ) لتفصيل أوسع أنظر مهدي عامل . في الدولة الطائفية . دار الفارابي . بيروت .
*

(3) لقد كان لظهور المعتزلة تأسيسا لما بات يعرف بعلم الكلام والذي أختص بدراسة مسائل العقيدة كما أنها مثلت حقيقة التفاعل مع السائد ا المعرفي والفكري في البلاد المفتوحة وبداية تفسير النص المقدس على أسس عقلية أنظر أحمد فرج الله . المعتزلة بين الحقيقة والوهم . دار الشؤون الثقافية العامة . بغداد . ص 7 .
(4) حسين سعد . الأصولية الإسلامية المعاصرة بين النص الثابت والواقع المتغير . مركز دراسات الوحدة العربية . ص 277 .
(5) هادي العلوي . الجذور التاريخية للطائفية في العراق . مجلة الثقافة الجديدة , العدد 275 لسنة 1999.
.
(6) مصطفى التواتي . التعبير الديني عن الصراع الاجتماعي في الإسلام. دار الفارابي . بيروت . لبنان . ص191 .
.
(7) لمزيد من التفاصيل أنظر د علي الوردي لمحات اجتماعية من تاريخ العراق المعاصر وكذلك دراسة في طبيعة المجتمع العراقي.
(8) د علي الوردي . لمحات اجتماعية ج 1 . ص 172.
(9) يذهب د طيب تيزيني للقول " على الرغم من المأمون مثل " موضوعيا في التوجه العام ( أفاق التطور الرأسمالي التجاري ) فأنه بمقتضى ملابسات هذا التطور لم يستطع التحرر من تيار " العصبية العروبوية " الدافق . مصدر سابق هامش ص 224 . وينقل عن كتاب محاضرات الأدباء للأصفهاني في الجزء الأول ص 219 قول المأمون في أن " الشرف : نسب فشريف العرب أولى بشريف العجم بشريفهم وشريف العجم أولى بشريف العجم من وضيع العرب بشريفهم . أنظر د طيب تيزيني . مشروع رؤية ج 1 دار دمشق . ص 210 .
(10) هادي العلوي . مصدر سابق .
(11 ) هادي العلوي . مصدر سابق .

(12)) هادي العلوي . مصدر سابق .
( 13 ) ويورد د علي الوردي في كتابه اللمحات الاجتماعية تفاصيل واسعة عن مظاهر اشتداد الاحتقان الطائفي في العراق سنوات حكم البويهيين والسلاجقة وكذلك عند سيطرة الفرس والعثمانيين على العراق . أنظر اللمحات الاجتماعية الجزء الأول . ولعل ذلك التناحر قد ترك تأثيره الواضح في نمو أنماط من السلوك والمفاهيم والعادات عكست أوجه الكراهية والتعصب والاستعلاء ليس ضد الأخر المختلف فحسب بل وكذلك بين أبناء المكون الاجتماعي الواحد. ولعل من أثريات وقع الصراعات الاجتماعية والسياسية و التباين الديني والمذهبي والحروب و الاحتلال الأجنبي وغيرها , أن نجد مظاهر الاستعلاء والتعصب والكراهية قد تركت سماتها في سلوكيات العديد من أبناء المجتمع العراقي الواحد , فعلى سبيل المثال , أن أهالي النجف وكما هو معروف والذين يطلقون على أنفسهم بالمشهدي نتيجة مجاورتهم لمرقد علي بن أبي طالب وهم شيعة ينظرون بنظرة ازدراء إلى عموم شيعة الجنوب , كذلك قد تجد هذه النزعة في السلوك الاجتماعي لأبناء مدينة كربلاء . وعند أهالي مدن الكاظمية والأحياء الشيعية القريبة منها . فيما يبدو أن أهل السنة في بغداد جانب الرصافة هم أكثر انفتاحا و مدنية وابتعادا عن القيم العشائرية من أهل السنة في مناطق وأحياء جانب الكرخ منها الذين دائما ما يدينون بالولاء الطائفي والعشائري كما أن البغداديين مع تباين انتمائهم المذهبي والديني غالبا ما ينظرون بنظرة ازدراء إلى أبناء المدن المحيطة بمدينتهم , بسبب من التباين في أنماط السلوك والتفكير و العلاقات الاجتماعية . والأعراف والتقاليد .
ولعل نظرة الاستعلاء هذه قد لا تقتصر على سلوك أبناء المناطق العربية من العراق فحسب , بل أن الأكراد ورغم ما عانوه من قمع واستبداد وتغييب لحقوقهم السياسية والثقافية فأننا قد نجد أثريات وقع تلك الصراعات متمثلة في سلوك العديد من أبناء المدن الكردية فأبناء محافظة السليمانية على سبيل المثال دائما ما ينظرون بنظرة ازدراء لأكراد مدن كركوك و أربيل . فيما تشوب تلك النظرة علاقة الكثير من المسلمين لأبناء وطنهم من المسيحيين والصابئة والإيزيديين