القضايا المعرفية للظاهرة الاجتماعية: فصل من كتاب -منهجية علم الاجتماع بين الماركسية والوظيفية والبنيوية- تأليف أحمد القصير


أحمد القصير
2014 / 12 / 6 - 11:20     

القضايا المعرفية للظاهرة الاجتماعية
الفصل الثاني من كتاب "منهجية علم الاجتماع بين الماركسية والوظيفية والبنيوية"
تأليف د. أحمد القصير


يعتمد تقدم أي علم على حل المشاكل المعرفية للمجال الذي يتناوله واستنباط المقولات المعبرة عن هذا المجال. وفي حالة توصل أي علم إلى ذلك فإنه يمضي قدما في معالجة الظواهر التي يتناولها بمقولاته النوعية الخاصة به. وفي هذه الحالة فإن عمليات الاستعارة التي عادة ما تلجأ إليها العلوم في نشأتها تتوقف، ويتم الاستغناء عن المقولات التي كانت تستخدم في البداية بمثابة كاشف لأنه لم يكن هناك بديل متاح غيرها. وإن كل تقدم في أحد جوانب العلم يعني إدخال مصطلحات ومقولات جديدة. ويوضح تاريخ علم الاجتماع أنه مر بالفعل بشيء من هذا القبيل. فقد رأينا في الفصل السابق محاولة استعارة مقولات علوم أخرى ليتم بها تناول الظاهرة الاجتماعية وتحليلها. ومع تقدم علم الاجتماع أخذت تتضح مقولاته ومصطلحاته الخاصة به المرتبطة بمجاله النوعي.
وسوف نتناول في هذا الفصل بعض القضايا المعرفية التي تعبر عن هذا الانتقال، أي الانتقال من مجال الاستعارة إلى مجال اكتشاف المقولات النوعية الخاصة التي تعالج بها ظواهر المجتمع. وتتمثل القضايا التي سيعالجها هذا الفصل فيما يلي:
أولا : العلاقة بين الجانب المادي والجانب الفكري في الحياة الاجتماعية.
ثانيا : الحقيقة المطلقة والحقيقة النسبية.
ثالثا : العلاقة بين ما هو نظري وما هو عملي.
رابعا: قضية أحكام القيمة في علم الاجتماع.

العلاقة بين الجانب المادي والجانب الفكري في الحياة الاجتماعية:
تؤدي معالجة هذه القضية إلى بروز مسألة العلاقة بين علم الاجتماع والفلسفة. ولكن الذي يعنينا هنا هو زاوية معينة من تلك العلاقة، ونعنـي بذلك الزاوية المنهجية التي تساهم بها الفلسفة في معالجة بعض القضايا للعلوم النوعية. وما يهم علم الاجتماع، على وجه التحديد، هو إيجاد حل معرفي لبعض القضايا المرتبطة بالمجال النوعي للعلم، وذلك للوصول إلى مقولات اجتماعية الطابع لمعالجة الظاهرة الاجتماعية بدلا من معالجتها وفق مقولات فلسفية بحتة أو مقولات بيولوجية بحتة.
وقد تعرضت الفلسفة، بسبب نشأة علم الاجتماع في أحضان فلسفة التاريخ، إلى هجوم يصل إلى حد الإنكار لأي دور لها. ومع ذلك فإن أهميتها، حسبما يقول بيتروينك تنبع من «أن الفلسفة، باعتبارها دراسة لطبيعة إدراك الإنسان للواقع، يمكن أن تلقى الضوء على طبيعة العلاقات الإنسانية المتبادلة في المجتمع. فمهما كان الموقف الذي يتبناه المرء في نظريته لطبيعة علم الاجتماع فإنه لا يمكنه في النهاية أن يستبعد من مجال علم الاجتماع مناقشة طبيعة الظواهر الاجتماعية في عمومها»( ). وهو يستطرد ليرد على دعوى إنكار الفلسفة قائلا: «إنني أرى من الخطأ أن نقول ذلك بالنسبة لعلم الاجتماع ذلك أن القضايا التي تنشأ ليست كيانات غريبة مربكة علينا إزالتها قبل أن يستطيع علم الاجتماع أن يمضي في دروبه العلمية المستقلة الخاصة به، بل على العكس من ذلك، إن القضية المركزية في علم الاجتماع، أي قضية تناول طبيعة الظواهر الاجتماعية بشكل عام إنما ترتبط بالفلسفة»( ).
واستنادا إلى ذلك يمكن القول إنه «من الواجب عدم الخلط بين تحرر علم الاجتماع من الفلسفة وبين إنكار الفلسفة»( ). ذلك أننا نرى أن علم الاجتماع هو أحد أشكال الوعي الاجتماعي. ومن ثم فإن بعض قضاياه يجب تناولها فلسفيا من زاوية منهجية. وإن تاريخ علم الاجتماع الذي يذخر بمحاولات التخلص من سيطرة فلسفة التاريخ لا ينبغي أن يجعلنا ننكر أن للفلسفة وظيفة معالجة القوانين والاتجاهات الأساسية للعلوم النوعية، أي المشاكل المعرفية للعلوم. يضاف إلى ذلك ما يبرزه أوسيبوف مثلا بأن «السبب في الأهمية الاجتماعية للفلسفة هو أنها تزود الباحث في أي علم بالمعرفة بأكثر مقولات الواقع الموضوعي عمومية ... إن قيمة الفلسفة تتمثل في المقام الأول في أهميتها المنهجية لجميع العلوم»( ).
إن إيجاد تلك الحلول المعرفية التي أشرنا إليها من قبل يحدث عبر صلة معينة بين الفلسفة وعلم الاجتماع مما يتيح مثلا عدم تطبيق المقولات التي تعكس خصائص العمليات الطبيعية على الحياة الاجتماعية وظواهرها.. فالعمليات في ميادين العلوم الطبيعية هي عمليات من نوع واحد قد تكون فيزيقية أو كيمائية أو فسيولوجية أو نفسية. وهي تعالج وفق مفهومات من نوع واحد تتناسب مع الطبيعة المتميزة لهذه العمليات. كما أن هذه العلوم الطبيعية لا تواجه مشكلة مثل التي نواجهها في علم الاجتماع، ونعني بذلك العلاقة بين الوعي والواقع. لذلك كانت هذه العلوم قادرة على أن تتطور إلى علوم مستقلة خارج نطاق الفلسفة وفي استقلال نسبي عنها. بل إن علم النفس مثلا، الذي تعتمد عملياته بشكل مباشر على عمليات أعصاب المخ، قد استطاع هو الآخر أن يتطور في استقلال نسبي عن كل من الفلسفة والفسيولوجيا.
لكن المجال الاجتماعي وعالم الظواهر الاجتماعية ليس متجانس البنية. فهو لا يشمل أنظمة ومؤسسات اجتماعية واقتصادية وحسب بل جوانب ثقافية وأشكالا معينة للوعي الاجتماعي. ولهذا يقول عالم الاجتماع اليوغسلافي زيفكوفيتش «إن قضية العلاقة بين الفلسفة والعلم في مجال العلم الاجتماعي ليست قضية عديمة الأهمية، بل تعتبر قضية أولية في علم الاجتماع. وهي تنبع من السمات النوعية للعمليات الاجتماعية، وبالتالي من المضمون الحقيقي للمجتمع. ومن ثم فإن حلها يحدد سمة المقولات الأساسية للعلم الاجتماعي وبنيته المنطقية بأسرها»( ).
إن هذا النسق الاجتماعي المتميز عن كافة الأنساق الطبيعية يؤثر على مضمون العلم الذي يدرسه. وطالما أن النسق الاجتماعي يشتمل حسبما أشرنا على جوانب مادية، أي أنظمة اجتماعية واقتصادية، الخ، وجوانب روحية، فإن العلاقة بين هذين الجانبين تحتاج حلا معرفيا. وهي العلاقة بين الواقع الاجتماعي والوعي الاجتماعي. فلا يجب أن نتوقف عند وصف المجتمع والمزيج الذي تتشكل منه عناصره المختلفة. كما لا ينبغي من جانب آخر أن نقف عند التأملات الفلسفية حول هذه العلاقة. وقد كان ماركس هو الذي طرح حلا سسيولوجيا لهذه القضية، وهو الحل الذي كان مساهمة في نشأة ما يسمى بعلم اجتماع المعرفة. وتمثلت نقطة انطلاق ماركس في طرح ذلك الحل في قوله إن الوجود الاجتماعي هو أساس الوعي الاجتماعي. فإن أساس الإبداع التاريخي لا يكمن في وعي الفرد المنعزل أو الوعي بصفة عامة وإنما هو تعبير عن نشاط الإنسان الاجتماعي، وهو نشاط لا يتم في عزلة، وإنما في نطاق مجتمع معين بعلاقات اجتماعية محددة. ومن خلال هذا النشاط الاجتماعي الإنتاجي يؤكد الإنسان وعيه. ذلك أن «الإنتاج – أو كما يقول ماركس غالبا القوى الإنتاجية من حيث هي نشاط اجتماعي- لا يمكن خفضـه لا إلى ضروريات العيش وإنتاج هذه الضروريات ولا إلى أدوات الإنتاج الصناعي، ولا – أخيرا وبصورة أعم- إلى الإنتاج الاقتصادي وحده. فماركس يتحدث أيضا عن الإنتاج الروحي، مؤكدا أن الإنتاج المادي والروحي متداخلان في النشاط الاجتماعي الكلي، الذي هو محسوس، شامل، حي. إن إنتاج الأفكار والتصورات والوعي، إنما هو في المقام الأول، متضمن مباشرة في النشاط المادي وفي التعامل المادي بين الأفراد»( ).
يشير ذلك إلى مقولة جديدة ليست فلسفية بحتة وإنما مقولة تعبر عن تفرد الواقع الاجتماعي في نوعيته. وهي مقولة تنقل تصور العلاقة بين الواقع والوعي من مجال الفلسفة إلى مجال الحياة المادية للبشر لتشمل قضايا العلاقات المتداخلة بين الجانبين الرئيسيين في مجال الحياة الاجتماعية.
وقد جاءت تلك المعالجة لقضية العلاقة بين الواقع والأفكار عبر عمليـة تدليل تناولها ماركس في أكثر من مناسبة. ففي كتاب الأيديولوجية الألمانية (1845-1846) طرح هذه القضية قائلا:
«ما دمنا نتعرض للألمان الخالين من كل بديهة فلابد أن نبدأ بأول بديهية للوجود الإنساني كله، ومن ثم للتاريخ كله، وهي قضية أن الناس لابد أن يوجـدوا في وضع يمكنهم من أن يعيشوا حتى يكونوا قادرين على أن يصنعـوا التاريـخ. لكن الحياة تتضمن قبل أي شيء آخر الأكل والشرب والسكن والملابس وأشياء أخرى كثيرة. وهكذا فإن أول فعل تاريخي هو إنتاج وسائل إشباع هذه الاحتياجـات، إنتاج الحياة المادية ذاتها. والحق أن هذا فعل تاريخي وشرط أساسـي للتاريخ كله، لابد أن يتم اليوم، مثلما تم منذ عشرة آلاف سنة ... وهكذا يتضح تماما منذ البداية أنه توجد علاقة مادية بين الناس، تحددها احتياجاتهم وأسلوبهم في الإنتاج ... وتأخذ هذه العلاقة على الدوام أشكالا جديدة، وهكذا تمثل تاريخا، بشكل مستقل عن وجود أي هراء سياسي أو غيره يمكن بشكل خاص أن يقوم بتجميع الناس معا»( ).
ثم يستطرد بعد ذلك موضحا نشأة الوعي بشكل لاحق لذلك الفعل التاريخي قائلا: «والآن فحسب، أي بعد أن رأينا لحظات أربع، جوانب أربع للعلاقات التاريخية الأولية، نجد أن الإنسان يمتلك أيضا وعيا ... يتلقى مزيدا من التطور والاتساع عن طريق ازدياد الإنتاجية وازدياد الاحتياجات»( ).
على ذلك النحو طرح ماركس حلا للمشكلة المعرفية الهامة، وقدم بذلك مقولة نوعية لمعالجة الظاهرة الاجتماعية. وهي المقولة الخاصة بالعلاقة بين الواقع الاجتماعي وأشكال الوعي. وهو الحل الذي أصبح من مكونات ماديته التاريخية. ويرتبط هذا الحل بنظرة فلسفية مادية يتبناها ماركس بصراحة. والحق أنه منذ كونت وماركس لا نجد الشخصيات البارزة في علم الاجتماع تعلن مثل هذا الوضوح بالنسبة لنظريتها وتصوراتها الفلسفية. ولا ينطبق هذا القول بالطبع على بعض امتدادات الماركسية وبعض امتدادات وضعية كونت.
إن ذلك الحل المعرفي لقضية الواقع الاجتماعي وأشكال الوعي الموجودة في هذا الواقع جعل هربرت ماركيوز يقول إن «جميع التصورات الفلسفية للنظرية الماركسية هي كلها مقولات اجتماعية واقتصادية»( ). بل يصل ماركيوز إلى ما هو أبعد من ذلك ويرى أن تحليل ماركس للعمل في ظل الرأسمالية كان متعمقا إلى حد بعيد يتجاوز نطاق التركيب المميز للعلاقات الاقتصادية، ويصل إلى مضمونها الإنساني الفعلي. فهو ينظر إلى العلاقات التي تقوم بين رأس المال والعمل، وبين رأس المال والسلعة وبين العمل والسلعة، وكذلك العلاقات بين السلع، ينظر إلى هذه العلاقات على أنها علاقات إنسانية، أي علاقات في حياة الإنسان الاجتماعية( ).
كانت صياغة ماركس لمقولتي الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي أساسا نهض عليه مفهوم التكوين الاجتماعي والاقتصادي. وهما مقولتان اجتماعيتان يختلفان عن مقولتي الوجود والوعي الفلسفيتين.
ففي المجال المعرفي لابد أن يرتبط أسلوب طرح القضايا ارتباطا وثيقا بالخصائص المميزة للظاهرة التي يتناولها البحث. ومن هنا فإن أسلوب صياغة المقولات وطرحها يؤثر في الاقتراب الصائب من الظاهرة. ويعتمد أسلوب الصياغة على تحديد نقطة البدء التي تحل التناقضات التي تبدو محيرة. فالبحث عن أصل الملكية، على سبيل المثال، لن يؤدي إلى أي نتيجة إلا إذا بدأنا بالمدخل المناسب، وهو في هذه الحالة يتمثل في مفهوم العمل. فالملكية ستبدو لنا كشيء غريب وغير مفهوم إذا لم ندرك أنها ناتجة عن العمل ذاته. وكان ذلك الأسلوب في المعالجة هو الذي يميز ماركس في مجال المعرفة. ويشير المثال التالي إلى طريقة التناول هذه حيث يقرر:
«وتماما كما استخلصنا مفهوم الملكية الخاصة من مفهوم العمل المغترب، المنسلب عن طريق التحليل فإننا نستطيع بنفس الطريقة أن نصل إلى كل مقولة للاقتصاد السياسي بمساعدة هذين العاملين، وسنجد كذلك في كل مقولة مثل التجارة والمنافسة ورأس المال والنقود مجرد تعبير محدد ومتطور عن الأسس الأولى»( ).
والأساس الذي يستند إليه ماركس في أن الملكية هي نتيجة للعمل يتمثل في أن علاقة «العامل بالعمل تولد علاقة الرأسمالي – أو أي اسم يختاره المرء لسيد العمل- بالعمل. وهكذا فإن الملكية الخاصة هي نتاج العمل المغترب – العلاقة الخارجية بالطبيعة وبذاته- ونتيجته وعاقبته الضرورية»( ).
وبعد ذلك يصل إلى جوهر الفكرة التي أشرنا إليها بقوله:
« لقد مضينا بالفعل شوطا بعيدا في حل هذه المشكلة بتحويل السؤال عن أصل الملكية الخاصة إلى مسألة علاقة العمل المنسلب بمجرى تطور البشرية. لأنه حين يتحدث المرء عن الملكية الخاصة فإنه يتصور أنه يفكر في شيء خارجي عن الإنسان. وحين يتحدث الإنسان عن العمل فإنه يتحدث مباشرة عن الإنسان بذاته. وهذه الصياغة الجديدة للمسألة تحوي بالفعل حلها»( ). (التشديد من الباحث).
غير أن ذلك الحل المعرفي الذي طرحه ماركس لقضيـة العلاقـة بين الوجود الاجتماعي والوعي واجه الانتقاد الدائم من جانب بعض علماء الاجتمـاع. وبدلا من تناول ذلك في إطاره المحدد مضت الانتقادات تقول إن ماركس يفسر الحياة الاجتماعية وفق عامل واحد هو العامل الاقتصادي. ولا يزال هـذا الموضـوع محل مناقشة بين الماركسية ونقادها منذ أيام ماركس. ويصر الماركسيون على رفض ذلك التفسير القائل بأن نظرة ماركس هي نظرة واحدية الجانب. ومثال ذلك قول انجلز:
«تنظر النظرية المادية في تفسير التاريخ إلى الإنتاج والإنتاج المتجدد على أنهما العنصر الأول في تعيين مجرى التاريخ وأحداثه. ولم يقل كلانا – ماركس وأنا- شيئا أكثر من هذا، فإذا قام أحد بتحوير دعوانا، إلى القول بأن العنصر الاقتصادي هو الوحيد الذي يعين سير التاريخ، فإنه بعمله هذا يجعل من نظريتنا عبارة عديمة المعنى، مجردة، وسخيفة»( ).
ويستطرد انجلز موضحا أن المركز الاقتصادي هو الأساس. ولكن العناصر المتنوعة التي يتكون منها الصرح العلوي كالأشكال السياسية التي يتخذها صراع الطبقات وما يترتب عليه من نتائج، وأشكال القانون حتى الصور الذهنية التي تعكسها هذه العوامل في أذهان الناس والمحاربين، كالنظريات السياسية والدينية والأفكار، هذه جميعها لها آثرها في مجرى نواحي الصراع التاريخي، بل في كثير من الأحيان تكون لها الغلبة. هناك علاقة متبادلة بين كافة هذه العناصر، وفي النهاية نجد أن الحركة الاقتصادية هي العنصر الضروري والجوهري.
إن ماركس وانجلز لم يعلنا تمسكها بهذا الرأي حسب، بل طبقاه في أبحاثهما، ومن أبرز أعمال ماركس التي أوضح فيها مدى تشابك هذه العوامل ومدى تأثير العوامل غير الاقتصادية هو كتاب «الثامن عشر من برومير – لويس بونابرت». ولابد أن نقول أن هذا الكتاب وضع عام 1852 أي بعد صدور البيان الشيوعي بحوالي أربع سنوات. وأهمية ذلك أن البعض يرى، ومنهـم جـورج جـورفيتش – ويتردد صدى هذه الرؤية في مصر( )- أن ماركس الشاب، أو ماركسية ما قبل البيان الشيوعي، هي التي تضع اعتبارا لكافة العوامل وليس العامل الاقتصادي وحده. إن ماركس يبين في ذلك الكتاب مدى تأثير التقاليد والمثل القديمة في الأحداث بل في الثورات. وعلى سبيل المثال فإن الناس وهم «يصنعون تاريخهم لا يستطيعون التخلص من تأثير تقاليد الأجيال الماضية. وعندما ينشغل هؤلاء الناس في تغيير الأشياء المحيطة بهم وخلق شيء جديد، عند ذلك بالضبط وفي فترات الأزمات الثورية نراهم يلجأون في وجل إلى استحضار أرواح الماضي لتخدم مقاصدهم، ويستعيرون منها الأسماء والشعارات القتالية. وهكذا ارتدى لوثر قناع بولس الرسول واكتست ثورة 1789 – 1814 بثوب الجمهورية الرومانية تارة وثوب الإمبراطورية الرومانية تارة أخرى ... فقد كان بعث الموتى في تلك الثورات يؤدي مهمة تمجيد الصراعات الجديدة»( ).
وفضلا عن ذلك فإن بليخانوف يشدد على رفض الزعم بأن الماركسية تغفل العوامل الأخرى. ويناقش هذه القضية بالتفصيل ليوضح كيف أن الماركسية تضع في اعتبارها العوامل المختلفة. ويستند في ذلك إلى نصوص ماركس. «والآن فلنسترجع ما يقوله ماركس عن العلاقة بين الاقتصاديات من ناحية وبين القانون والسياسة من الناحية الأخرى: تتشكل المؤسسات القانونية على أساس العلاقات الفعلية في عملية الإنتاج الاجتماعي، فلفترة من الوقت تسهل هذه المؤسسات تقدم القوى الإنتاجية لشعب ما، وازدهار حياته الاقتصادية. تلك بدقة هي كلمات ماركس، وإننا لنسأل أي إنسان ذي ضمير نقابله هل تحوي هذه الكلمات أي إنكار لأهمية العلاقات السياسية في التطور الاقتصادي؟ وهل يفند ماركس هؤلاء الذين يذكرونه بتلك الأهمية؟ أليس صحيحا أنه ليس ثمة أثر لمثل هذا الإنكار لدى ماركس، وأن هؤلاء الناس لا يفندون أية فكرة على الإطلاق؟ وإلى هذا الحد أليس صحيحا أن المسألة الجديرة بأن تثار ليست هي مسألة تفنيد آرائه وإنما هي مسألة لماذا يسيئون فهمه إلى هذا الحد؟ »( ).
إن الفعل المتبادل بين السياسة والاقتصاد موجود بالفعل عند ماركس. وتصوره حول هذه القضية يزيل تلك الثنائية التي تضع تعارضا بين الوجود والوعي لا يقبل الحل. فهو يرى أن اقتصاد المجتمع ووعيه يمثلان جانبين لظاهرة واحدة هي إنتاج حياة الناس. وبذلك يطرح حلا لذلك التعارض.
وتتمثل الأهمية المعرفية لهذا المنحى في تناول القضية في أنه قدم إمكانية فهم الأشكال الأيديولوجية التي كانت تشكل مصدر خطأ لأي استقصاء علمي في حالة النظر إليها في ذاتها. وهذا ما دفع بوتومور وربل، على سبيل المثال، إلى القول: بأن ماركس كان في واقع الأمر، واحدا من مؤسسي نظرية علم اجتماع المعرفة، التي كانت في رأيه نظرية نقدية هدفها إعداد الطريق إلى إنشاء علم اجتماعي صارم، وهؤلاء الذين أتوا بعد ماركس في نفس المجال تحدثوا كثيرا عن علم اجتماع المعرفة، ولكنهم قدموا إنجازات هامة إلى تاريخ الفكر، وخاصة الفكر السياسي( ).

الحقيقة المطلقة والحقيقة النسبية:
إن مصالح الناس تؤثر تأثيرا مباشرا في تقييم الظواهر الاجتماعية وفي الاستنتاجات المترتبة على تحليل هذه الظواهر. ويدفعنا ذلك إلى إثارة السؤال التالي: هل يمكن للعلوم الاجتماعية أن تصل إلى الحقيقة الموضوعية، أن تصل إلى الصدق العلمي؟ أم إن على علم الاجتماع مثلا أن يكتفي بالوصف والتسجيل دون محاولة النفاذ إلى المنطق الداخلي للظواهر، استنادا إلى الرأي القائل بأن الصدق العلمي يصعب الوصول إليه في مجال الظواهر الاجتماعية؟
إن هذه المشكلة تنفرد بها العلوم الاجتماعية عن العلوم الطبيعية. فإن منجزات الفيزياء والرياضيات على سبيل المثال يعترف بأهميتها الجميع ويجري تطبيقها في كل مكان بغض النظر عن نوع المجتمع وعن النظرة العامة تجاه الحياة. أما بالنسبة للعلوم الإنسانية ومن بينها علم الاجتماع فلا تمتلك موضوعات يعترف بها الجميع. ولا يرجع ذلك إلى نقيصه في هذه العلوم ذاتها وإنما يرجع الأمر إلى اختلاف المصالح والمنطلقات الفلسفية.
وينتج عن ذلك بعض الارتباكات المعرفية. فهي تدفع البعض إلى القول بأنه لا يمكن الوصول إلى الحقيقة الاجتماعية. ويدفعنا هذا ثانية إلى طرح السؤال التالي: هل يمكن لعلم الاجتماع أن يصل في دراساته إلى حقيقة موضوعية أم أن الحقيقة الموضوعية مسألة في غير متناول العلم؟
إن إجابة هذا السؤال ستحدد المسار والمنحى الذي يتخذه العلم. فإذا كانت الإجابة بأن الحقيقة الموضوعية ليست في متناول أيدينا فإن ذلك سيعني أن دراستنا لن تستطيع أن تفعل أكثر من الوصف الظاهري للمادة التي نعالجها، أما إذا كانت الإجابة عكس ذلك فإن العلم سيضع في مجال مهامه الكشف عن الحقائق الموضوعية في الظواهر الاجتماعية وما ينتظمها من قواعد ومن ثم قوانين، وبالتالي الكشف عن مسار التطور.
وقد كان ذلك السؤال يحتل مكانة بارزة في مجال الفلسفة وانتقل منها إلى مجالات العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية. وزاد من تعقيد الأمور بالنسبة للعلوم الاجتماعية، أن أولئك الفلاسفة الذين ناصروا الاتجاه التجريبي وتبنوا الدعوة له اتخذوا موقفا لا أدريا بالنسبة للمعرفة العلمية أي أن موقفهم كان لا يتسم بالاتساق.
لقد عجزت فلسفة جورج بيركلي (1685 – 1758) عن استيعاب إنجازات العلوم المعاصرة لها، حيث زعمت أنها لا تعترف بالعلوم وأعلنت أنها جوفاء، وكان الفلاسفة المثاليون الذين يسيرون في ركاب بيركلي يقفون بمعزل عن القضايا العلمية. لكن العلوم أحرزت منذ القرن الثامن عشر تطورا أدى إلى انهيار مركز بيركلي خاصة بعد أن صاغ نيوتن النظرية الميكانيكية العامة حول العالم( ).
ومن هذا الوضع اتخذت الفلسفة المثالية التقليدية موقفا جديدا في مواجهة الاتجاهات المادية يتلخص في القول إن المادية تزعم أن المادة هي التي لها الأولوية، أما نحن فلا نعلم عن ذلك شيئا. ومن هنا ظهرت تسميتهم باللاأدرية كطريق ثالث. وقد كانت المثالية الموضوعية ترجع المادة إلى روح كلية والمثالية الذاتية تذيب المادة في إحساسنا أو شعورنا. لكن الأولى بددت صورتها العلوم الطبيعية أما الثانية فتهاوت بتأثير علم الفسيولوجيا والعلوم الاجتماعية( ).
ولهذا ظهر اتجاه جديد يعترف بالعلوم ولكنه يقول إنه لا يوجد تأكيد بأن العلم يجعلنا نعرف الواقع الموضوعي. ذلك أننا نريد أولا أن نعرف إن كانت روحنا تستطيع أن تعرف الواقع في ذاته أم لا. كان هذا الاتجاه يدعي استحالة الرد على السؤال الأساسي في الفلسفة بحجة عجزنا المستمر عن معرفة المبادئ الأولية للأشياء.
وكان دافيد هيوم (1711 - 1776) هو المبشر بهذا الاتجاه في القرن الثامن عشر، أما امانويل كانت (1724 – 1804) فقد كان أبرز ممثليه، كما كان أوجست كونت من أنصاره في القرن التاسع عشر.
كان ذلك الاتجاه ماديا في بعض جوانبه ومثاليا ولا أدريا في الجوانب الأخرى. كما أنه كان يضم كانت من المذهب العقلي وهيوم من المذهب التجريبي. وكان دافيد هيوم، على سبيل المثال، يقسم الواقع إلى مستويين: المنضدة كما نراها، أي المنضدة لذاتنا، وهي التي توجد في وعينا على شكل صورة، وتكون ذاتية وليست سوى مظهر. ثم المنضدة الواقعية، أي المنضدة في ذاتها وهي التي تكون خارج شعورنا، وتكون موضوعية وتشكل الواقع إلا أنها لا تقبل المعرفة. ومعنى ذلك أننا لا نعرف أبدا سوى مظاهر الأشياء، ولكننا نجهل دائما حقيقتها. ومن ثم لا يمكن تحديد موقف محدد. فالمادي يمكن أن يعطي الأهمية للجانب المادي من الظواهر، والمثالي يعطي الأهمية للجانب المثالي، لكن يستحيل أن نقرر ما هي الأشياء في ذاتها لأن كلا منا سجين وجهة نظره.
إن مثال المنضدة مثال حقيقي استخدمه هيوم. فهو يقرر حقيقة هامة وهي أن العالم الخارجي موجود وأن وجوده لا يعتمد على إدراكنا. لكنه يعود ليقول: « إلا أن هذا الرأي المبدئي سرعان ما يهتز أمام الفلسفة البسيطة التي تعلمنا أن الروح لا يمكن أن تصل إلا إلى الصورة فقط ... فالمنضدة التي نراها، تبدو أصغر كلما ابتعدنا عنها. أما المنضدة الواقعية التي توجد مستقلة عنا فلا تتغير. ومعنى ذلك أن روحنا لا تدرك سوى صورة المنضدة»( ).
لقد أثر هذا الاتجاه اللا أدري في فلسفة العلوم وانتقل إلى العلوم الاجتماعية عامة. وكثيرا ما نجد هذه النظرة في علم الاجتماع بشكل أو بآخر، وعلى سبيل المثال فإن هذا الاتجاه اللا أدري ظهر أيضا في وضعية أوجست كونت بتأكيده أن العلم يجب «أن يكتفي بتقرير العلاقات بين الوقائع دون أن يبحث سبب هذه الوقائع. ويجب أن يمتنع عن البحث في «لماذا» الأشياء، أي يجب ألا يجري وراء المطلق. فكل بحث من هذا النوع، أي كل نظرية تفسيرية تلقي الضوء على جوهر الظواهر، تكون نظرية ميتافيزيقية يدينها أوجست كونت»( ).
هنا نجد بذور أو أصل الاتجاه الإمبريقي الذي يقنع بالمعرفة المستمدة من الملاحظة، من الإحساسات والانطباعات المباشرة. وهذا ما يجعلنا نستنتج أن النزعة الإمبريقية السائدة في علم الاجتماع تعود إلى أصول فلسفية معينة على عكس ما يزعم أصحابها من أنها بريئة من أي شـيء مـن هـذا القبيل. ونجد مـا يـدعم استنتاجنا هذا في قول زكي نجيب محمود إن القضايا المتعلقة بالواقع، حسبما يؤكد هيوم «يستحيل أن تدخل في مجال إدراكنا إلا عن طريق آخر، هو طريق الحواس، فالخبرة الحسية هي وحدها المصدر الذي نستقي منه العلم بالعالم الخارجي، وبهذا القول أصبح هيوم في طليعة الرواد، إن لم يكن الرائد الأول بحق، للفلسفة الوضعية الراهنة»( ).
إن القول باستحالة إدراك الواقع إلا عبر ما تمدنا به الحواس يعني في واقع الأمر أننا لا نستطيع سوى إدراك المظهر الخارجي للظواهر. وذلك أمر يدفع في مجال مثل علم الاجتماع إلى نزعة إمبريقية بحتة. ويمكن أن نجد أمثلة عديدة لذلك. وهو ما يتضح أيضا عند التعرض لعلم اجتماع المعرفة عند كارل مانهايم. إن هذا الاتجاه يرتبط بالرأي القائل بأن كلا منا سجين وجهة نظره الخاصة، وبالتالي فإن الحقيقة الموضوعية لا يمكن التوصل إليها. كما أننا سنجد امتداد هذا الاتجاه في الوظيفية المعاصرة. وسيتضح هذا عندما نتناول مفهوم البنية الاجتماعية.

الأصول التاريخية للا أدرية:
ينبغي أن نشير إلى أن فرانسيس بيكون (1561 – 1626) وجون لوك (1632 – 1704) يمثلان المقدمات التمهيدية لدافيد هيوم في الاتجاه التجريبي الذي انتقل عن طريقهما إلى كافة العلوم. فقد وجد « الموقف التجريبي أوسع تعبير عنه في فلسفات هؤلاء المفكرين. فالفكرة القائلة أن الإدراك الحسي هو مصدر المعرفة ومعيارها النهائي، هي النتيجة التي تؤدي إليها أبحاثهم آخر الأمر »( ).
كانت التجريبية في بدايتها غير متسقة مع نفسها. فتجريبية لوك تقتصر على «المبدأ القائل أن جميع التصورات وضمنها تصورات الرياضة والمنطق، تأتي إلى ذهننا من خلال التجربة. وهو ليس على استعداد للتوسع في هذا المبدأ بحيث يشمل الرأي القائل أن كل معرفة تركيبية لا تتحقق إلا من خلال التجربة. وتمشيا مع هذا الموقف غير النقدي، فقد أخذ بالاستدلال الاستقرائي دون نقد. وعده آداة مفيدة لكل معرفة تجريبية. فلم يخطر بذهن بيكن أو لوك احتمال الشك في مشروعية هذه الآداة وهدم الأساس الذي ترتكز عليه التجريبية»( ).
غير أن دافيد هيوم عندما حاول معالجة الاستدلال الاستقرائي بموقف نقدي أدى به الأمر إلى «الانتقال من التجريبية إلى اللا أدرية، وهو ينادي – فيما يتعلق بالمستقبل- بفلسفة للجهل تقول إن كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف أي شيء عن المستقبل»( ).
أما كانت فعلى الرغم من انتمائه إلى المذهب العقلي فإنه وضع فلسفته عن العلم اعتمادا على تدليلات هيوم. فعن طريق كانت برزت فكرة وجود سر في الأشياء يصعب إدراكه، كما برزت فكرة الحيادية حيث يحسن ألا نقرر كثيرا، لأن هناك صوابا وخطأ في كل شيء. ويميز كانت بين الشيء في ذاته الذي لا يقبل المعرفة والشيء لذاتنا أو المظهر، وهو الذي ينتج الأثر الذي يحدثه الشيء في ذاته في أعضائنا الحسية.
فهو يقرر أنه «لا يمكن أبدا معرفة الأشياء في ذاتها بطريقة قبلية أو بعدية. فلا يمكن معرفتها بطريقة قبلية لأنه كيف يكون عندنا علم بما ينبغي أن يحل على الأشياء في ذاتها ... وكذلك فإن معرفة طبيعة الأشياء في ذاتها بعديا تكون مستحيلة لأنه إذا كنت أعرف القوانين التي تنظم وجود الأشياء عن طريق التجربة فإن هذه القوانين بوصفها خاصية الأشياء في ذاتها ينبغي أن تنظم هذه الأشياء بالضرورة خارج التجربة»( ). ثم يقرر في النهاية نتيجة حاسمة بقوله «وهكذا فنحن لا نعرف بالتجربة طبيعة الأشياء في ذاتها»( ).
إن مصدر هذا المنحى يرجع إلى أن كانت يرى أن قوانين العلم والعلاقات بين الظواهر هي من صنع الروح البشرية وحدها. فهي لا تعكس القوانين الواقعية للمادة المتحركة وإنما تعكس قوانين الروح البشرية، وهي لا تمثل الحقيقة الموضوعية، وإنما تمثل حقيقة ذاتية لا أكثر. ولهذا يصف زكي نجيب محمود موقف كانت قائلا: «لو سئل كانت ما هو هذا الشيء في ذاته الذي تنبعث منه هذه المعطيات الحسية، أو الذي هو مصدر وراء الظواهر التي تنشأ عنها خبراتنا الحسية لأجاب: لست أدري، ولا حاجة بي إلى هذه الدراية، فهو لا يدري لأن الشيء في ذاته بحكم التعريف لا يقع في خبرته، إذ أن الخبرة محدودة بالظواهر لا تتجاوزها إلى الحقائق الكامنة وراءها، ثم هو في غير حاجة إلى العلم بهـذه الحقائق الكامنة وراء الظواهر لأنها لن تكون جزء من علم، كائنا ما كان ذلك العلم»( ).
إن تبني مثل ذلك الموقف يعني في واقع الأمر إنكار العلم وإنكار إمكانياته في التوصل إلى فهم الظواهر. فإن جوهر ذلك الاتجاه يعني «أن العلم يظل على سطح الأشياء. فالواقع أن القاعدة الحقيقية التي تقوم عليها فكرة التقدم الوهمـي للعلوم، هي فكرة السر المطلق والمستغلق والأبدي، وترتيبا على هذه الفكرة، يجب ألا ننسب إلى العلم أية حقيقة مطلقة. فما هو إلا نوع من التفسير، ومن هنا تؤدي الكانطية مباشرة إلى الشكلية والتوقف في مختلف المجالات، بما فيها مجال البحث النظري»( ).
يتضح مما سبق أن هذه الفلسفات المثالية الاتجاه رغم تعدد انتماءاتها المذهبية تنكر إمكانية معرفة العالم وقوانينه ولا تعترف بالحقيقة الموضوعية، ذلك أن العالم يحفل «بأشياء في ذاتها» لا يستطيع العلم الوصول إلى معرفتها.
وقد كانت هذه النزعة اللاأدرية أحد المصادر التي يرى الباحث أنها ساهمت في تشكيل علم اجتماع المعرفة عند كارل مانهايم. وذلك بالرغم من قول مانهايم أنه استمد أفكاره من مفهوم الأساس الاجتماعي للوعي لكارل ماركس. ولكنه وكما يقول قباري إسماعيل «مزج العناصر الماركسية بالكثير من الاتجاهات والنزعات الفكرية المتعددة»( ).
يرتكز تصور مانهايم على الفصل بين المعرفة العلمية الطبيعية والمعرفة الاجتماعية. ويرى أن نمط المعرفة التي يعبر عنها العلم الطبيعي تختلف جذريا عن نمط المعرفة التاريخية. فهدف العلم الطبيعي أن يدرك ما هو عام وشامل وضروري علاوة على القانون الذي يحكم الظواهر، ومن ثم فإن المنهج في هذه العلوم يكمن في تعميم وتجميع الظواهر والعمليات المختلفة تحت مفهومات ونظريات عامة. أما هدف العلم التاريخي، حسبما يراه مانهايم، فيتمثل في إدراك الظواهر الفردية والخاصة والمنعزلة. وبالتالي فإن منهج هذا العلم يتسم بالنظرة الفردية ويصف الوجود التاريخي النوعي الذي يعتبر فريدا لا يحكمه قانون عام.
وسبب ذلك هو أنه يرى أن الحقيقة مطلقة. ومن ثم لا توجد في المجال التاريخي. ولا يجوز للنظريات الاجتماعية أن تدعي « الحقيقة المطلقة » التي يمكن قبولها من جميع الفئات الاجتماعية. ذلك أن النظريات الاجتماعية ما هي إلا تعبير عن وجهات نظر خاصة بطبقات اجتماعية. ولهذا لا يمكنها سوى أن تقدم معرفة نسبية الطابع، أي مرتبطة وظيفيا بالوضع الاجتماعي للطبقات ومصالحها الاقتصادية والسياسية. ومن ثم فهي معرفة مشوهة. وبهذا يرى أن تاريخ المعرفة الاجتماعية هو، بدرجة ما، سلسلة من الأخطاء( ).
إن أفكار مانهايم هذه تمثل نوعا من اللا أدرية. ويمكننا أن نشير إلى خطأين في ذلك التصور لمانهايم.
الأول: ويكمن في أن مانهايم يحاول توضيح الوظيفة الاجتماعية لنوعين من الفكر الاجتماعي المشوه (والذي يقسمه إلى أيديولوجيا ويوتوبيا) دون تحليل الوظيفة الاجتماعية لتلك الفئات التي تعتنق أشكال الفكر المختلفة. فهو يرغب في الكشف عن دينامية الأفكار في التطور التاريخي دون تناول ديناميات التطور التاريخي ذاته، ودون تحليل بنية المجتمع، والسلطة، واتجاهات التطور في ذلك المجتمع الذي تتبنى طبقاته هذا النمط من الوعي أو ذاك. وهو إذ يصف كافة وجهات النظر والتصورات بوصفها تشويهات للواقع فإنه يهدم بنفسه افتراضه حول السببية الاجتماعية للمعرفة. فالمعرفة تصبح مشوهة في كافة الحالات. «فعلى الرغم من أنه يشير إلى حقيقة أن مصالح فئات وطبقات اجتماعية معينة هي السبب في تشويه المعرفة الأصلية بالواقع، فإنه يطرح استنتاجا لا يتفق مع ذلك بقوله إن مصالح كافة الطبقات في كافة الأزمان هي التي تشوه تلك المعرفة»( ).
أما الانتقاد الثاني الذي يمكن أن يوجه إلى أفكار مانهايم فيرتبط بمشكلة الحقيقة حسبما يتصورها. فإن مانهايم لا يقر بوجود حقيقة موضوعية نسبية. فهو يرى أن الحقيقة المطلقة هي وحدها التي يمكن أن تكون موضوعية. «وطالما يرى أنه لا توجد طبقة أو فئة اجتماعية بإمكانها أن تمثل الحقيقة المطلقة. فلا يمكن بالتالي أن توجد الحقيقة الموضوعية»( ).
إن مانهايم لا يحاول أن يدرس المحتوى الموضوعي لمختلف وجهات النظر، وإنما يطرح فقط مقولة ترى أن هذا المحتوى مشوه إذا نظرنا إليه من وجهة نظر الطرف المقابل. إن مانهايم وصل بفكرة ماركس عن الأساس الاجتماعي للوعي إلى نسبية مطلقة جعلته يختلف في نهاية الأمر في مقولاته الأساسية عن مقولات ماركس.
يضع مانهايم تناقضا بين العلم والنظرة الشاملة، بين موضوعية العلم ومصالح الطبقات. وسيفضي بنا اتباع هذه النظرة إلى قصر مهمة العلم على مجرد وصف ما هو قائم فحسب. إن هذا الأسلوب في طرح القضايا المعرفية هو في واقع الأمر امتداد عكسي للأسلوب الذي كانت تطرح به القضية في الفلسفات التقليدية. فقد كانت تلك الفلسفات تفهم «الحقيقة المطلقة» كمعرفة تامة كاملة ومحددة. أي أنها كانت تعتبر أن المعرفة البشرية هدفها الوصول إلى حقيقة محددة نهائيا، وأن هذه المعرفة مطلقة تنتظر عبقرية تكشف سرها. وجاءت الفلسفات اللا أدرية واتخذت موقفا عكسيا. وذلك بدلا من أن تجد الصيغة الملائمة للعلاقة بين المعرفة المطلقة والمعرفة النسبية. ولهذا أنكرت وجود الحقيقة المطلقة واعتبرتها لفظا ميتافيزيقيا، وحصرت نفسها في نطاق الحقائق النسبية التي تقدمها حقائق «الحياة اليومية» على حد تعبير جون ديوي.
إن تلك الاتجاهات تغفل أن المعرفة البشرية هي معرفة تاريخية تكتمل تدريجيا أي أن الحقيقة المطلقة تتقدم تاريخيا بالقدر الذي تزداد به دقة انعكاس الواقع الموضوعي في وعي الناس. ويؤكد تاريخ العلم أنه لا يوجد شيء لا يقبل أن يكون موضوع معرفة، كما أن نسبية الحقيقة ليست مطلقة. بل لابد من إدراك أن الناس وهم يعكسون الواقع الخارجي إنما يعيشون في ظروف نسبية من حيث مدى التقدم العلمي والفني ومن حيث التكوينات الفكرية التي يتأثرون بها. وهذه الظروف النسبية هي الأخرى هي التي تجعل المعرفة العلمية تتسم بالطابع النسبي.
وإذا انتقلنا إلى تصور الماركسية للعلاقة بين النسبي والمطلق سنجد أنه ينهض على أمرين: الأول تحديد معنى محدد للحقيقة المطلقة. والثاني تحديد للعلاقة بين الحقيقة المطلقة والحقيقة النسبية. وبالنسبة للحقيقة المطلقة نجد أن انجلز يقول:
« ليس هناك شيء نهائي، ولا مطلق، ولا مقدس بالنسبة للفلسفة الجدلية. إنها تكشف عن الطابع الانتقالي لكل شيء وفي أي شيء ».
غير أن تأكيد المنهج الماركسي لفكرة النسبية لا يعني أنه يضع النسبي مقابل المطلق. فإدراك النسبية لا يحدث بمعنى إنكار الحقيقة الموضوعية، وإنما بمعنى أن حدود اقتراب معرفتنا من هذه الحقيقة خاضعة لظروف تاريخية.
ويقرر لينين استنادا إلى مؤلف انجلز « الرد على دوهرنج » أنه رغم المكانة التي تضعها الماركسية للنسبية فلا يمكن أن تجعل منها الأساس في المعرفة، فذلك معناه إنكار لأي مقياس موضوعي أو الواقع المستقل عن وعي الإنسان والذي تعتبر معرفتنا تقريبا له. فإن اقتراب معرفتنا من الحقيقة الموضوعية المطلقة مشروط تاريخيا وتحكمه ظروف تاريخية، غير أن وجود تلك الحقيقة غير خاضع لشرط( ).
ويعني ذلك أنه ما دامت معرفتنا ليست إلا تقريبات للواقع فهي تكون نسبية دوما. غير أنها بقدر ما تمثل التقريب الفعلي للواقع الموضوعي الموجود مستقلا عن وعينا، تكون دوما مطلقة، فإن الصفة النسبية والمطلقة للحقيقة تشكل وحدة جدلية غير قابلة للقسمة.

العلاقة بين النظرية والتطبيق:
إن المعرفة ليست مجرد عملية حسية. فالإدراك الحسي يمدنا بالصورة الأولية للظواهر. أي يمدنا بالمادة الأولية للمعرفة. لكنه لا يصل إلى تزويدنا بفهم لمضمون الظاهرة. فالمفهوم العلمي عن الواقع الاجتماعي لا ينشأ ببساطة عن طريق عملية تجريد مباشر تستمد من تصوراتنا التلقائية. وإنما ينبغي أن تتخطى عملية المعرفة تلك التصورات والانطباعات الأولية لكي نصل إلى المنطق الداخلي للحياة الاجتماعية. وكما سيتضح عند تناول مفهوم البنية الاجتماعية فإن النموذج الذي يشيده العلم يجب أن يعكس ما هو غير مرئي وراء الواقع الظاهر للعيان.
يعني ذلك أن المعرفة تتشكل من خطوتين: الأولى معرفة حسية. والثانية عقلية تحاول الوصول إلى فهم الارتباطات الداخلية في الظاهرة وما هو مشترك بين الظواهر. ومن ثم تنشأ المفهومات والمعاني العامة. غير أن الواقع ذاته هو المحك الذي يختبر صحة تلك المفهومات النظرية. ومن ثم يظهر دور التطبيق أو الممارسة في عملية المعرفة. فالممارسة هي معيار صدق النظرية. ومن هنا توجد علاقة متبادلة التأثير بين ما هو نظري وما هو عملي. فالممارسة العملية تفضي إلى معرفة نظرية. والمعرفة النظرية عندما تكتمل تؤثر بدورها على الممارسة وتنقلها إلى مستوى جديد. فليست العلاقة بين النظرية والتطبيق بمثل تلك البساطة التي تضع النظرية في جانب والعملي في جانب آخر.
إن مثل هذا الفصل يؤدي إلى إغفال النظرية مثلما هو واضح في بعض الاتجاهات في علم الاجتماع. ومن جانب آخر يحرم النظرية من وسيلة اختبارها في التطبيق. « فالحياة الاجتماعية هي من ناحية الجوهر عملية. وكل الأسرار التي تحرف النظرية نحو الصوفية تجد حلا عقليا لها في نشاط الإنسان العملي، وفي فهم هذا النشاط »( ). أي أن ربط النظرية بالممارسة هو ضمان حمايتها من التحريف والتصاقها بالأوهام. غير أن بعض علماء الاجتماع يعتقدون أن تقدم العلم والتخلص من الاتجاهات الفلسفية الغائية ومن فلسفة التاريخ يعني إغفال الجانب النظري أو الفصل بين النظرية والتطبيق. ولكن هناك اتجاهات أخرى في علم الاجتماع أيضا ترى أنه يستحيل وضع مثل هذه التفرقة بصورة مطلقة، ومن ثم يستحيل تبرير الرأي القائل بضرورة التمييز بين الحقيقة الموضوعية التي نقر لها، عن طيب خاطر، بأنها حركية في أساسها وبين المعرفة التي يمكن بل يجب أن تبقى نظرية خالصة لتلك الحقيقة. فهذا الرأي يعني أن عالم الاجتماع ينبغي أن يكون مجرد ملاحظ للظواهر الاجتماعية. كما أن هذا التمييز يكمن خلفه عالم من الأوهام( ). وذلك لأن الموضوع الذي يتناوله علم الاجتماع هو النشاط الإنساني، أي مظاهر الحياة الاجتماعية بجوانبها الاقتصادية والسياسية والفكرية. ومن هنا لا يكون المرء مشاهدا فحسب بل مشاركا في ذلك النشاط.
فأولا: حسبما يرى لاهي أحد علماء النفس الصناعي « فإن العلوم تنشأ عن ابتكارات يحققها الإنسان في الميدان العملي، ومن هذه الطرق العملية، وبفضل المناهج التي تسير أكثر فأكثر نحو الكمال، تتولد النظرية، ثم عن طريق الحركة الجدلية يظهر العلم، فالعلم إذاً ليس هو النظرية الخالصة، ولا مجرد التطبيق العملي، ولكنه مركب من العملي الموجه بالنظرية ومن النظري الذي لا ينفك يزداد ثراء بالعملي »( ).
وثانيا: فإن المعرفة التي يعطينا إياها علم الاجتماع عن التطور البشري، تؤثر على الفكرة ذاتها التي يمكن أن نكونها عن العلم الوضعي. فإن أية صورة من صور الفكر لابد أن تكون دائما نتاجا تاريخيا لظروف اجتماعية محددة.
وثالثا: ليس «هناك أشد معارضة لعلم الاجتماع في رأينا من ذلك الادعاء لعالم الاجتماع الذي ينصب نفسه مشاهدا فحسب، ويتجرد على هذا النحو مـن التاريخ بطريقة ما. ذلك أن عالم الاجتماع هو بالضرورة إنسان من عصر معين وبيئة معينة، لا يستطيع أن يعيش كآلهة أبيقور فيما بين العوالم. وفضلا عن ذلك إن تاريخ علم الاجتماع ذاته يثبت ذلك بصورة كافية. حقيقة أن الماركسية وحدها هي التي أكدت في جلاء ذلك التضامن الوثيق بين كل نظري وكل عملي، لدرجة أنه خلال المناقشة التي حدثت عام 1902، في الجمعية الفرنسية للفلسفة، اعتقد جورج سورل G. Sorel أنه يستطيع عن طريق هذا التضامن أن يعرف المادية التاريخية»( ).
يوضح ذلك أن هناك علاقة وثيقة بين النظرية والتطبيق كما تقول بذلك الماركسية. كما أن ما يدفع كلا من جورج سوريل وأرمان كوفيلييه إلى الاعتقاد بذلك هو أن الماركسية تنظر إلى النظرية كمرشد للعمل. ومن جانب آخر تعتبر أن الممارسة العملية هي طريق اختبار النظرية.
إن إيجاد العلاقة السليمة بين النظرية والممارسة يمنع من الوقوع في خطأين: الجمود المذهبي الذي يبحث عن تدليلات عقلية جوفاء غير مرتبطة بالواقع الفعلي للحياة الاجتماعية. وينبع هذا الجمود في حالة إغفال الممارسة. أما في حالة إغفال النظرية فيفضي بنا الأمر إلى الوقوع في النزعة الإمبريقية التي لا ترى إلا ما هو تحت أقدامها. وهي تلك النزعة التي تتغلف بكلمات مثل «الموضوعية» و«الحياد».
ويرى الباحث أن «الموضوعية» و«الصدق العلمي» لا يعنيـان عدم الاسترشاد بأي نظرية. بل يعنيان التمسك بالنظرية التي تتطابق مع العمليات الموضوعية للحياة الاجتماعية، أي النظرية التي يتم اختبارها في الناحية العملية، أي في الممارسة.
قضية أحكام القيمة في علم الاجتماع:
ترتبط هذه القضية بأعمال ماكس فيبر بشكل خاص. وعن طريق فيبر انتشرت فكرة الدعوة للتخلص من أحكام القيمة في علم الاجتماع. وقد حاول ماكس فيبر أن يعالج المعرفة الاجتماعية ووظائفها في سياق تاريخي اجتماعي وفكري. ويرى فيبر أن تلك المعرفة تعتمد على ظروف سياسية واجتماعية ودينية واقتصادية وأخلاقية والتي تشكل في مجموعها حضارة معينة «ومثال ذلك تصوره الذي يرى أن السمة المميزة لأوروبا الغربية تكمن في الطابع العقلاني الإمبريقي والتطبيقي للمعرفة. ومن ثم نظر إلى مسارات التطور العلمي في هذا الاتجاه. وحاول فيبر أن يعزل العلم عن العناصر غير العقلانية – أنساق القيم، والأنساق السياسية، والنظرة إلى العالم. ومن ثم ركز الانتباه على العلاقة بين المعرفة العلمية والقيم. ومن هنا اعتبر أن المهمة الرئيسية للمعرفة العلمية هي خلق مبادئ منهجية تستبعد تأثير عناصر القيم في عملية البحث»( ).
يرى فيبر أن القيم الاجتماعية ذاتها يمكن أن تكون موضوعا للبحث والتحليل العقلانيين. أما العلم فليس بإمكانه أن يتخذ موقفا يستند إلى العقلانية في مجال أنساق القيم. فعندما يتم تفضيل قيمة معينة، فإن الأمر يقوم، حسب رأي ماكس فيبر، على الاعتقاد والرغبة وليس على الحقائق والعقل. إن عالم الاجتماع عند ماكس فيبر لا يملك ما يقوله في مجال القيم والأهداف الاجتماعية حيث يرى أن ذلك من اختصاص السياسيين. فهو يفصل تماما القيم وأحكام القيمة عن مجال المعرفة العلمية. ويقول مثلا: «إن اتخاذ موقف سياسي وعملي هو شيء والقيام بتحليل علمي للبنيات السياسية ومواقف الأحزاب هو شيء آخر تماما»( ).
لقد صاغ فيبر مبدأ التحرر من القيم Value-free. وفقا لهذا المبدأ ينبغي على عالم الاجتماع، كباحث موضوعي، أن يتخذ موقفا محايدا تجاه نسق القيم. ذلك لأن القيم الاجتماعية تنهض على عواطف وأمزجة الأفراد، وأن أحكام القيمة تخص السياسة والسياسيين ولا ترتبط بمنهجية العلوم الإمبريقية( ).
ويفترض فيبر أن أسلم وسيلة لحماية البحث العلمي من تأثير القيم هو دراسة الحياة الاجتماعية بالاستناد إلى النماذج المثالية Ideal Types. وهو يعرف النموذج المثالي كصرح تحليلي يتم بواسطته تنظيم الواقع الإمبريقي. ويرى أن عملية تشكيل «النموذج المثالي» تكشف جوهر عملية التعميم والتنظير. فالمفاهيم هي وسائل فكرية للتحويل الفكري لمعطيات إمبريقية.
ويرى ماكس فيبر أن أيا «من التعميمات والمفاهيم أو النماذج المثالية ليست سوى صورة للعالم الموضوعي أو انعكاسا لجوانب جوهرية معينة من هذا العالم. إنها فقط يوتوبيا لا يمكن أن توجد إمبريقيا في الواقع»( ).
يرى الباحث أن موقف ماكس فيبر في مشكلة القيم يحمل طابعا مزدوجا. ويتمثل الجانب الإيجابي في هذه الازدواجية في تحذيره من الخلط بين الأوضاع الحقيقية الواقعية وبين الرغبات الذاتية تجاه هذه الأوضاع. فكما يقول برنال فلا «يمكن أن تشكل الحقائق بحيث تتفق وأهواءنا»( ).
لكن فيبر يقلص عملية التعميم إلى مجرد عملية نفسية وعاطفية ويخلص إلى عدم وجود أهمية معرفية للقيم وأحكام القيمة. وهذا يتناقض مع حقيقة واقعية وهي أن المعرفة الموضوعية إنما ترتبط بشروط اجتماعية .. أي أن المعرفة ترتبط بسياق تاريخ معين تكلم عنه فيبر بنفسه. ومن هنا فإن الخطأ المنهجي في تصور ماكس فيبر بشأن مبدأ التحرر من القيم يفضي إلى أن الموقف الفكري لا يلتقي بالمعرفة الموضوعية للواقع الاجتماعي. ويتسم موقفه بالشكلية البحتة التي ترى أن كافة الأيديولوجيات غريبة على الواقع الاجتماعي. كما يمكننا القول إن موقفه ينبع بالفعل من موقف قيمي معين تجاه الحياة الاجتماعية يجعله ينظر إلى المفهومات «كيوتوبيا لا يمكن أن توجد إمبريقيا في الواقع». أي أن المعرفة لا تستطيع في واقع الأمر أن تعكس العالم الواقعي.
ينبغي أن نفرق بين أهمية عدم خلط الرغبات بالواقع وبين أهمية القيم في المجال المعرفي. ذلك أننا حسبما يقول هالدين عالم الوراثة البريطاني «جزء من التاريخ ولا يمكننا أن نتجنب ما يترتب على ذلك من التفكير بشكل متحيز»( ). والتحيز هنا بمعنى الارتباط بقيم معينة تجاه واقع الحياة الاجتماعية، بمعنى الاكتراث بالعالم الذي نعيش فيه والذي تتناوله دراساتنا. إن القيم وأحكام القيمة لا تمثل أهمية للعلوم الاجتماعية ومن بينها علم الاجتماع فحسب، بل بدأت تظهر أهميتها في العلوم الطبيعية أيضا. فالتقدم العلمي الذي يشهده العصر تنبني عليه آثار اجتماعية شديدة الارتباط والتأثير في الواقع الاجتماعي. وعدم الالتزام بقيم معينة يؤدي إلى سوء استخدام تلك المنجزات أو عدم الاهتمام بتأثيراتها الاجتماعية التي قد تكون ضارة. وأبلغ دليل على اهتمام العلوم الطبيعية بمشكلة القيم المخاوف التي عبر عنها نوربيرت فينر Norbert Wiener الذي وضع كلمة السبيرنيطيقا Cybernetics عنوانا للعلم الجديد الخاص بالعقول الالكترونية وأجهزة التنظيم. وهي مخاوف تحاول تجنب عملية هبوط قيمة المخ البشري التي تترتب على الثورة الصناعية المعاصرة. وهي الثورة التي نهضت على علم السبيرنطيقا الذي وضعه فينر نفسه.
وكان لا يمكن أن يعلن الرأي الذي سنورده الآن دون أن يتبنى قيما معينة فهو يقول: لو اعتبرنا أن الثورة الصناعية الثانية قد تحققت نجد أن الكائن الإنساني العادي لن يكون لديه شيء يبيعه يمكن أن يدفع فيه أي إنسان مبلغا من المال (أي أنه لن يجد عملا). ولذلك يبحث فينر عن مخرج: «والحل هو بالطبع أن نقيم مجتمعا بحيث لا يقوم على قاعدة البيع والشراء بل على قيم بشرية أخرى. ولبلوغ هذا المجتمع نحتاج إلى قدر أوفر من التخطيط ويلزمنا جهاد كبير هو، إذا صارت الأمور إلى أحسن ما تئول إليه، جهاد في صعيد الأفكار، وإلا فمن يدري»( ).
إن فينر يلتزم هنا بقيم معينة تنبع من شعوره بأن إنجازاته «تنطوي على الخير والشر». وهو لم يتخذ موقفا حياديا ولم يعلن أنه رجل علم يتناول الظواهر بغض النظر عن أي ظروف، أي لم يتخذ موقف عدم الاكتراث، ولم يتذرع بحجة أن العلم يقتضي التجرد من القيم ويتناول ما يدرسه من ظواهر في معزل عن الحياة، بل على العكس من ذلك يعلن فينر في وضوح «إن الذين أسهموا في العلم الجديد السبرنتيكا يجدون أنفسهم بهذا الشكل في وضع أدبي هو على أقل تقدير وضع لا تتوفر فيه الراحة التامة. لقد أسهموا في بدايات علم جديد يضم كما قلت تحسينات تكنية تنطوي على احتمالات عظيمة للخير والشر ولا نملك إلا أن نسلمها إلى العالم القائم من حولنا وهو عالم هيروشيما. وليس لنا حتى الخيار في وأد هذه التحسينات إنها ملك للعصر... إن أفضل ما نستطيع أن نفعله هو أن نسعى إلى أن نجعل جمهورا كبيرا يفهم الاتجاه والنتائج التي يحملها في طياته العمل الراهن، وأن نقصر جهودنا الشخصية على تلك المجالات البعيدة عن الحرب والاستغلال مثل الفسيولوجيا والسيكلوجيا»( ).
إن هذه الكلمات توضح بشكل ساطع أهمية القيم في المجال العلمي. وفي مجال مثل علم الاجتماع تصبح هذه المسألة قضية حياة يومية، ذلك أن علم الاجتماع يتناول بشكل مباشر، الحياة الاجتماعية ذاتها. وفي واقع الأمر لا يوجد علم اجتماع يخلو من أحكام القيم. وحسبما يرى جونار ميردال فإن المصطلحات العلمية، في مجال العلوم الاجتماعية، تتسم هي ذاتها بطابع قيمي، لأن المجتمع عبارة عن وجود إنساني يسعى إلى أهداف معينة( ). ويؤكد ميردال «أنه لا يوجد أي أسلوب لدراسة الواقع الاجتماعي سوى تناوله من وجهة نظر إنسانية، حيث لم يوجد في يوم من الأيام أي علم اجتماع دون مصلحة كما لا يمكن أن يوجد».
إن علم الاجتماع شديد الارتباط، في واقع الأمر، بالتكوينات الأيديولوجية السائدة هنا وهناك. كما أنه هو ذاته أحد أشكال الوعي بالحياة الاجتماعية. ومن هنا فإن عزله عن القيم وأحكام القيمة يعني في واقع الأمر فرض قيم معينة في مجاله. والحل الصائب هو إيجاد العلاقة الصائبة بين قضية عدم الخلط بين الرغبات الذاتية والواقع وبين الالتزام بموقف تجاه الواقع الذي نتناوله بدراستنا.
ملاحظة: الكتاب صادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب