عن الأردن في نظرية الدولة

يزن حداد
2014 / 12 / 4 - 08:39     




في مطلع العقد الماضي، وفي سياق ما سمّوه "تحرير" دول الأطراف، دخلت أساطيل الاحتلال الأمريكي إلى العراق وهي تحمل أجندتها الاستعمارية المعهودة، دخلت وهي تتبجح بأن "الديمقراطية" في ظلّها مصانة من "ديكتاتورية" الشرق الأكثر استبداداً! تمثلت الأجندة الأمريكية في تفكيك بنية الدولة أولاً وتحطيم البنى التحتية، مما نجم عنه جملة من النتائج الكارثية الهائلة. والسؤال الذي يسطع في سماء هذه الفكرة بداية هو: لماذا الدولة بالتحديد؟


الدولة: الإطار النظري

ما هي ماهية الدولة؟ لعلّ هذا السؤال كان هو محور التركيز في الأطروحات التي حاولت تقديم إجابات شافية لكيفية عمل ونشوء الدولة، وبالتالي التأسيس لنظرية عامة وثابتة، نظرية شاملة تحمل في نواتها الحل الأوحد لإشكاليات الدولة، بصرف النظر عن إطارها التاريخي والموضوعي.

ثمّة تصورات عديدة في هذا المجال بدأت بحجز مكان لها في الحقل الفكري منذ غابر العصور. فمن أرسطو وتوماس هوبز وجون لوك إلى جان جاك روسو وميكافيللي وهيغل وماركس وغيرهم، حاولوا تفسير الدولة كلٌ بطريقته وجهازه المفاهيمي الخاص، آخذين بالتراكم التاريخي للمعرفة إلى جانب عوامل اجتماعية تاريخية أُخرى في عين الاعتبار. ومن التطور الطبيعي ونظرية العقد الاجتماعي إلى التطور الأنثروبولوجي والتفسير الطبقي الكلاسيكي للدولة، بقيت النظرية العامة التي سعوا إلى تركيبها على غرار “نظرية كل شيء Theory of Everything” الفيزيائية مجرد كلام على ورق لم يجد له أقدام في الواقع. فحتى النظرية الماركسية التي هي بمثابة عدستنا على الواقع الموضوعي، ما زالت بحاجة إلى الكثير من المراجعة والتطوير والإضافة اليوم، لا بسبب ضعف المنهج الفكري، بل لأن على الماركسية الحفاظ على دورها كنظرية لصيقة بهموم الطبقة العاملة والفقراء والكادحين في مواجهة سطوة رأس المال.

ربما كان الفيلسوف الماركسي نيكولاس بولانتزاس أحد أبرز المجددين في هذه القضية فيما يتعلق بالدولة البرجوازية على مستوى المراكز، بينما نشط مهدي عامل على الطرف المقابل لدراسة دول الأطراف وبنيتها المادية وعلاقات السيطرة الطبقية فيها.

من الجليّ لنا، بادئ ذي بدء، أن دراسة الدولة تقترن موضوعياً بمسألة روابط السلطة والطبقات الاجتماعية والأطر “الحقوقية”، كما تحيط بها عناوين عديدة تشغل حيزاً هاماً وراهناً من التحليلات السياسية اليوم، فلم يعد بالإمكان تجاهل ممارسات الدول وآليات عملها، بوصفها كيانات سياسية قانونية تشكّل مجالاً للصراعات والتناقض؛ لكن النقطة الرئيسية في هذا الطرح تكمن في التمييز بين الدولة كممارسة للسلطة وبين الدولة كبناء مادي له مؤسساته وأجهزته المستقلة نسبياً، وهو ما أكّده مؤسسا الماركسية ومعظم منظّريها اللاحقين في معرض نقاشهم للدولة. يقول بولانتزاس: “تتركز السلطة أكثر ما تتركز وتتجسد مادياً في الدولة، أي في المحل المركزي لممارسة السلطة السياسية”.

وقبل أن نغوص أكثر في المقارنة بين دول المراكز ودول التخوم الرأسمالي ودينامية كل منهما، فلننطلق من ضرورة التأكيد على مادية جهاز الدولة بتحليل جملة من الإشكاليات الرئيسية التي تتعلق بالتصور السائد عن مفهوم الدولة، كعلاقة الدولة بالروابط السياسية للسلطة، وعلاقتها بالقاعدة الاقتصادية والمنتجين المباشرين، وأوّلية التقسيم الاجتماعي للعمل على الدولة:

أولاً: في هذا العصر الإمبريالي، عصر التطرف والاحتكار، احتكار السلعة ومصادر المعرفة أيضاً، يسيطر الفهم الميتافيزيقي لمختلف المسائل على العقل الجمعي كنتيجة مباشرة لشبكة من العوامل المتعددة، ومفهومنا للدولة لم ينجُ كذلك من هيمنة هذا الفكر المثالي.

فالفهم المقبول للدولة الآن، في الأوساط الاجتماعية على الأقل، ينحصر في تحديد الدولة بأنها جوهر ميتافيزيقي يعيش فوق الصراعات ويسبق أية علاقات سلطوية أو أي شكل من أشكال العلاقات الاجتماعية، يسبقها كونه بناء أصيل تتجسد الصراعات داخله لا أكثر وترد له السلطة قبل أي شيء. هذا الفهم أحادي الاتجاه لم يكن من نصيب الماركسية بالطبع، وهو ما يؤكده لينين في معرض حديثه عن الثورة وتحطيم الدولة، أي تحطيم السلطة السياسية للبرجوازية بغرض إقامة سلطة الطبقة العاملة، بمعنى أن الدولة ليست أساساً لعلاقات السلطة. كما لا يجوز الحديث عن تناقضات البنية الاجتماعية ووعيها وكأنه انعكاس سببـي لوجود الدولة وفق تسلسل زمني للأحداث، انعكاس يندمج مباشرة في شبكات الدولة “العابرة” للتاريخ.

ومع أن السلطة السياسية للدولة تحمل في بنائها الداخلي صفة طبقية تستمدها من التوظيف الطبقي للدولة، إلا أنه لا يمكن تعليل السلطات الأُخرى في نطاق المجتمع بالآلية ذاتها. فهنالك علاقات مؤسساتية تتمتع باستقلال نسبي خاص عن روابط السلطة السياسية (الأسرة، العلاقة بين الرجل والمرأة.. إلخ)، لكن هذه العلاقات تكتسب البعد الطبقي بتأثير متبادل ومتشابك تمارسه أجهزة الدولة؛ وهنا بالتحديد، يقع مركز الثقل الوظيفي للدولة الطبقية التي تضبط تلك العلاقات وتهذبها ضمن سياق اجتماعي محدد، داخل مجال السلطة السياسية.

ثانياً: على الرغم من أن بعض التعريفات الفلسفية-السياسية تميل إلى تجريد الدولة من دورها في إنتاج وإعادة إنتاج العلاقات الاقتصادية، وبالتالي اختزال مفهوم الدولة في السلطات الثلاث وحسب، أو في ممارسة سلطوية مباشرة لسيادتها على الداخل والخارج (وهي أفضلية نفتقدها نحن في دول الأطراف ذات الاقتصاديات الموجّهة والأنظمة السياسية التابعة)؛ لكن لحظة، إذا ما تجنبنا السقوط “الحر” في وهم الفصل بين السلطات، ألا تمثّل الدولة بشقيها التشريعي والتنفيذي أداة سيطرة طبقية؟ أداة لابتزاز فائض قيمة عمل المنتجين المباشرين بقوانينها الموضوعية وأجهزتها المادية؟ قد يرى البعض هذه النزعة في التفسير بأنها فهم أداتي للدولة، أو ما يسمّيه بولانتزاس بـ “الاستخدام الطبقي” عوضاً عن الطبيعة الطبقية للدولة. وقد يضعنا اختصار جهاز الدولة بهذه الوظيفة الأداتية إزاء مشكلة كبيرة في تحديد علاقتها العضوية داخل علاقات الإنتاج.

إذ إن علاقات الإنتاج والاستغلال والتراكم الرأسمالي لا يمكن أن تمثّل كلّاً اقتصادياً منغلقاً له قوانينه الخاصة، ويتمتع بالقدرة على إعادة إنتاج ذاته دون أي تدخل. هذا الالتباس ينبثق أساساً من الفهم الخاطئ للماركسية الذي يقوم على عرض وصفي لبناء فوقي وبناء تحتي أحدهما هو الانعكاس المباشر للآخر. يدفعنا هذا التصور الميكانيكي للعلاقة بين البنائين إلى الوقوع في فخ السطحية المفرطة، حيث أن تاريخ الصراعات الطبقية يترافق بالتوازي، وبالضرورة، مع وجود الدولة السياسية التي تنظم هذا الصراع وتضبطه لصالح الطبقة المسيطرة، فالقول بأن المجتمعات الطبقية المتناحرة قد اخترعت الدولة عند نقطة زمنية محددة هو ضرب من الخيال السينمائي، إذ أن الدولة لها حضور تكويني في العلاقات الاقتصادية القائمة على انقسام طبقي للمجتمع، ولا يمكن فصلها عن هذا الصراع وفق ترتيب ما للسيرورة التاريخية.

ثالثاً: كما سبق أن أشرنا، فإن الإشكالية التي تتمحور حولها كافة القراءات الخاطئة لمسألة الدولة، تتمثل في العلاقة الخطّية السببية التي تقام بين البنائين الفوقي (الدولة) والتحتي (القاعدة الاقتصادية). ومن هذا المنطلق، لا يمكن تعيين أولية التقسيم الاجتماعي للعمل على الدولة في صورة تعاقب كرونولوجي تاريخي، فالانقسام الطبقي للمجتمع وتجزئة العمل لم يكن الشكل السابق لوجود الدولة. وبالتالي، فإن معالجة تاريخ المجتمعات البدائية مثلاً يقوم على ركيزة أساسية فيه هي غياب الدولة، والسبب هو أن تاريخها لم يعرف الطبقات بعد. ولذا، يمكننا أن نخلص من كل ذلك إلى النتيجة التالية: الدولة السياسية هي الشكل الناظم للصراع الطبقي في المجتمعات البرجوازية، إضافة إلى دورها في تقرير طبيعة الصراع الذي يقرر بدوره شكل الدولة.

الدولة: بين المراكز والأطراف

تناولنا سابقاً مفهوم الدولة البرجوازية في إطاره النظري العام، لكن كي يصبح النقاش عملياً أكثر وأقرب إلى الواقع، عليه أن يخرج من فضاء التجريد مروراً في مرحلة التمييز بين المراكز والأطراف وتشخيص طبيعة الدولة في كل منهما. ومن هنا، سنبدأ بطرح جملة من الأسئلة التي سنخضعها للنقاش لاحقاً. ما هي الأرضية المشتركة بين دولة طرفية (كالأردن على سبيل المثال لا الحصر) ودولة مركزية (بريطانيا أو فرنسا مثلاً)؟ هل تختلف علاقات الاستغلال بين دول المراكز والأطراف أم أن الأمر سيان؟ أين هو واقعنا اليوم من هذه النظريات، وكيف يمكن قراءة هذا الواقع المعقدّ؟

ربما لاحظ القارئ بدايةً أننا لم نتطرق إلى تحليل الدولة بالمنظور الأكاديمي السائد، والذي يدرس السلطات الثلاث للدولة وعلاقة التداخل أو الفصل بينها. وبالتالي لن نقع تحت إغراء المقارنة السطحية بين مجلس النواب الأردني ومجلس العموم البريطاني، أو بين مجلس الأعيان ومجلس الشيوخ الأمريكي مثلاً. هذه القشور لا تفصح عن جوهر المسألة، وتحليل الظواهر على أنها أسباب لا يمكن أن يقدم الحلول. وهو ما يعيدنا إلى السؤال المطروح أعلاه، ما هي الظروف التي نشأت في أجوائها الدولة الأردنية في عشرينات القرن المنصرم؟

لن نستعرض هنا سرداً تاريخياً لتأثيرات الثورة الصناعية البريطانية والمستعمرات الكولونيالية، وتأسيس إمارة شرق الأردن تحت إدارة الغرب وقوانينه، والاستقلال الصوري الذي نالته الدولة لاحقاً.. إلخ. فما يعنينا هو جوهر الفكرة: الدور الوظيفي التابع للدولة الأردنية.

تمحورت معظم أدبيات الماركسية التي تدرس الدولة، في ظل الرأسمالية، حول فكرة رئيسية هي أن الدولة “أداة” لقهر الطبقات المحكومة واستغلال فائض قيمة عملها، أي أنها جهاز موضوعي خاضع لسيطرة الطبقة البرجوازية، تسخره للهيمنة على الطبقات التي تقع خارج شروط اللعبة، لكن الملاحظة الأولية التي يمكن أن نطرحها هنا هي استبعاد هذا التوصيف الكلاسيكي فيما يتعلق بدولة تابعة كالأردن لاعتبارات عديدة؛ أولها أن آليات استغلال فائض القيمة تختلف مع اختلاف شكل الطبقة العاملة واتساع مكوناتها (صناعية تقليدية، زراعية، خدماتية، موظفي شركات.. إلخ)، وهو ما يفترض تلقائياً أن تكون السلطة السياسية الحاكمة نفسها تمثل جهاز الدولة، بدلاً من أن يكون جهازاً مادياً يتمتع باستقلال نسبي عن روابط السلطة كما ينطبق الحال في دول المراكز الرأسمالية. ويستتبع هذا الافتراض افتراضاً آخر، فنحن نتحدث هنا عن طبيعة طبقية لبناء الدولة لا بوصفها وسيلة أو أداة. يقول المفكر الدكتور هشام غصيب في كتاب (ثقافتنا في ضوء تبعيتنا): “إن بيروقراطية الدولة في المجتمعات المحيطية ليست مجرد شريحة إدارية تخدم مصالح الطبقة الاجتماعية المسيطرة، كما هو الحال في المراكز، وإنما هي نفسها الطبقة الاجتماعية المسيطرة.”

كما تقودنا النقطة السابقة إلى التساؤل عن عملية نشوء الدولة المحيطية، والتي ترتهن بالدرجة الأولى إلى عوامل خارجية سعت إلى صهر مجتمعات الأطراف في النظام العالمي، على عكس الدولة البرجوازية التي نشأت من رحم الاقطاع وخاضت معاركها الطبقية معه، وبالتالي فإن الشرخ بين صيرورة النموذجين واضح وأساسي لفهم جدلية العلاقات الدولية وتراتبيات السلطة الوظيفية والبنى الاجتماعية المشوّهة.

تتناقل بعض النخب في الأردن منذ مدة طويلة شعاراً تحوّل إلى صنم مع مرور الوقت، فهم يرددون أن “الدولة الأردنية تديرها طبقة الكومبرادور والبيروقراط” باستمرار، دون التمحيص في ماهية هذه الفكرة، ولربما يكون السؤال الأهم في هذا السياق هو: أين هي مؤسسات الدولة التابعة من هذا الطرح؟ أو إذا أعدنا صياغة السؤال ليصبح: كيف يمكن تشخيص العلاقة بين مؤسسات الدولة ومؤسسات النظام في ضوء التصنيف السابق؟ في الواقع، أنا أجد أن مساحة التقاطع بينهما كبيرة جداً على الرغم من أن البعض يميل للفصل بين مؤسسات الدولة (مجلس النواب مثلاً) ومؤسسات النظام (مجلس الأعيان) بصورة ميكانيكية، وبالتالي لا يمكننا إسقاط ذلك التصنيف بنفس الصورة على هذه المؤسسات. فمن التسطيح بمكان القول بأن مجلس النواب يمثّل الكومبرادور والأعيان يمثّل البيروقراط، أو القول بأن الأخيرة تمثلها السلطة التنفيذية، وما إلى ذلك من فرضيات عبثية لا تغني ولا تسمن.

مؤسسة النظام تمثل النظام شكلياً، ومؤسسة الدولة تمثل البناء المادي الاجتماعي للدولة، لكنّهما يتقاطعان في كونهما ينخرطان معاً في بوتقة واحدة تمثّل الحلقة الأضعف من السلسلة الإمبريالية، بحكم الموقع الوظيفي التابع الذي تحتله الأردن وغيرها من دول الأطراف، بيد أن البيروقراط والكومبرادور ليسا شرائح متباينة أو متناقضة المصالح، بل يشكّلان تحالفاً متجانساً ينصّب نفسه فوق المجتمع ويعمل على استثمار قواه العاملة. وبالمقابل، فإن مجلس العموم ومجلس اللوردات البريطاني على سبيل المثال، يمثّلان حلقة مركزية في سلسلة المنظومة العالمية، مع العلم أنههما معاً يجسدان سلطة التشريع للطبقة البرجوازية المتكونة تاريخياً.

الدولة: الوعي والأيديولوجيا

قبل أكثر من شهر من الآن، برزت قضية جديدة على سطح الإعلام الأردني استحوذت على مساحة كبيرة منه ومن وعي الشعب، وهي قضية ذهب عجلون. لسنا هنا بصدد إعادة فتح الملفات القديمة والطعن في الروايات المتناقلة أو تأكيدها، بقدر ما نريد إضاءة جانب هام منها، وهو دور السلطة السياسية في بناء الوعي والأيديولوجيا من خلال أجهزة الدولة بمختلف ضروبها، ودور الأيديولوجيا في إعادة إنتاج علاقات الإنتاج من جهة أُخرى.

إن الروابط الأيديولوجية في مجتمع ما تكتسب الخواص نفسها التي تقوم بها القاعدة الاقتصادية تجاه الدولة، فالأيديولوجيا لا تتركب من منظومة من التصورات والأفكار والممارسات الثقافية وحسب، بل تنطوي أيضاً على جملة من الممارسات المادية والاجتماعية والأعراف والتقاليد التي تنطوي بدورها على تراكمات تاريخية. وكما أن الأيديولوجيا تلعب دوراً في تقرير علاقات الإنتاج والملكية الاقتصادية، فالدولة كذلك تستعين بالأيديولوجيا بغية إعادة إنتاج ذاتها ولسبغ حكمها الطبقي بالشرعية اللازمة، كون القمع العاري وحده ليس ناجعاً. ليس من المجدي أن ننظر إلى العلاقة بصورة خطّية تختزل التأثير في اتجاه واحد، فالتفاعل بين الأيديولوجيا والوعي وبين البنية السياسية للدولة يكون ديالكتيكياً، وبالمثل يكون مع البناء التحتي.

ربما كان المحرك الأول خلف قضية الذهب في الأردن هو الدافع الطبقي (ولا أقول الوعي الطبقي، كونه لم يتأطر بعد، ولم يكتسب الزخم الأيديولوجي والمادي الكافِ)، لكن دعونا نلقي نظرة خاطفة على خطاب الدولة في هذا الشأن، فهنالك أربع روايات رسمية صرحت بها السلطات حول مسألة الذهب. هل هو تضارب “عفوي” في الأقوال؟ أم أن الدولة تتخبط في تصريحاتها الرسمية؟! أنا لا أرجح كفة أيٍ منهما، ولست من مصدقي نظرية المؤامرة المطلقة، فالدولة تمارس التضليل الأيديولوجي بالطبع، لكنّها لا تمارسه مكشوفة الظهر بهذه الصورة، وكأن الدولة تعمل على تقنيع نواياها وإخفائها بالسر عن المجتمع عبر إنتاج خطاب أيديولوجي موحد وثابت. فالدولة الأردنية عبّرت عن نيتها مسبقاً بعقد صفقة مع الكيان الصهيوني لاستيراد الغاز، وصرحت برفع أسعار الكهرباء ومن ثم بررت ذلك بالتزامها مع صندوق النقد الدولي، وفسرت في أربع روايات متباينة حقيقة ما حدث في عجلون.

وحدهم اليائسون يبحثون في خطاب الدولة عن إجابات تروي عطشهم للحقيقة، فالدولة لا تنتج خطاباً واحداً، بل تنتج خطابات متعددة النسخ. والدور الذي تحتله روابط الوعي والأيديولوجيا في حيّز علاقات الإنتاج جوهري على أكثر من مستوى، فالأيديولوجيا أساسية لإعادة إنتاج علاقات الإنتاج القائمة، أي في إنتاج نوع من الإجماع المادي الذي يضمن استمرارية الدولة. ولنأخذ الأردن كمثال على ذلك، فالدولة هنا قامت بتفكيك “العشيرة” كبناء اجتماعي مادي، لكنها أعادت إنتاجها على المستوى الأيديولوجي والسياسي، حتى تحافظ على شكل الحكم الراهن وتضمن تجديد علاقات الإنتاج التابعة باستمرار. وينطبق الأمر على لبنان أيضاً فيما يتعلق بالطائفية.

هذا من ناحية، أمّا من الناحية الأُخرى فالأجهزة الأيديولوجية للدولة (المدرسة، الكنيسة، المسجد، الجامعة، الأسرة.. إلخ) تتكفل بخلق الحاضنة الثقافية اللازمة لإنتاج التقسيم الاجتماعي للعمل، على الصعيدين المادي والأيديولوجي.

الدولة، أيُّ دولة، لا تقوم لها قائمة إلا بثنائية القمع-الأيديولوجيا. الدولة الرأسمالية تقمع الجميع وتدّعي عكس ذلك، أمّا المجتمع (في المراكز والمحيط) فيمارس القمع الأيديولوجي لذاته مكملاً دور الدولة في القمع الناعم، سواء كان ذلك بالتخدير الديني أو الوهم الميتافيزقي أو الدعاية السياسية. ولنكن أكثر واقعية، فحتى الدولة الاشتراكية تمارس العنف في سلطتها، لكن السؤال الأهم هو أين تمارس هذا العنف؟ وما هو طابع هذه السلطة؟

الدولة: الاشتراكية والمرحلة الانتقالية

لن نثقل مسامع القارئ هنا بتكرار ما تطرقت له كلاسيكيات الماركسية واللينينية في العقود الماضية حول الدولة الاشتراكية وطبيعة المجتمع الاشتراكي في المستقبل، فمن يستطيع الإجابة على هذا السؤال هو حركة الجماهير الثورية التي تجابه القائم بالممكن، والتحام الطليعة الثورية بها. أمّا الغاية الرئيسية من طرح هذا المحور هي الإشارة إلى طابع السلطة السياسية الاشتراكية وكيف تقوم الدولة بممارسة دورها كسلطة.

الدولة الاشتراكية تمارس العنف والقمع، نعم، ما من داع للاستغراب. لكن العنف هنا يتخذ طابعاً ثورياً، والقمع يرتكز على دحر العدو الطبقي، أي البرجوازية الخاسرة المتلونة في كافة أشكال الثورة المضادة. يقول إنغلز في سجاله مع دوهرنغ: “أول عمل تبرز فيه الدولة حقاً بوصفها ممثل المجتمع بأكمله –تملّك وسائل الإنتاج باسم المجتمع- هو في الوقت نفسه آخر عمل تقوم به بوصفها دولة”. ونستنبط من هذا الاقتباس أمرين جوهريين، أولاً: السلطة السياسية في الدولة الاشتراكية هي سلطة الطبقة العاملة التي تمثّل المجتمع بأكمله وتنصهر فيها تطلعاته وطموحه، وذلك عبر تجريد الطبقة البرجوازية من وسائل الإنتاج. ثانياً: الدولة الاشتراكية تكتسب شكلاً ثورياً عابراً، على الرغم من أن المحطة النهائية ما زالت أسيرة الكتب والنظريات.

لكن المفارقة اليوم أننا نطالب ببناء دولة وطنية ديمقراطية في العالم العربي، بدلاً من رفع شعار اضمحلال الدولة. ذلك بالطبع لأننا ندرك طبيعة المرحلة الراهنة، وأهمية وجود دولة قوية تتمع بالاستقلال الاقتصادي والسياسي في خضم صراعنا مع الإمبريالية. لسنا من دعاة البونابرتية، كما أننا لا نتفق أيضاً مع التيار الفوضوي وإزالة الدولة بين ليلة وضحاها. وربما لا تكفي هذه الصفحات لاستيفاء مفهوم الدولة الوطنية الديمقراطية حقه من الشرح، إلا أن الأفكار المركزية التي يقوم عليها تتمثل في: 1) دولة وطنية على خارطة المفهوم الأوسع، الوحدة القومية. 2) دولة مستقلة تتمتع بالسيادة على مواردها وقرارها السياسي. 3) دولة تنزع نحو التخطيط المشترك للاقتصاد وتمكين القطاع العام من دوره الفاعل. 4) دولة ترفض الخضوع للإمبريالية وتنخرط في النضال الأممي ضد عولمتها. 5) دولة تعزز الديمقراطية الاجتماعية كبديل للديمقراطية الليبرالية الرثة. 6) دولة ثورية دائمة التطور والنمو القائم على الإنتاج الصناعي الحديث.

نستطيع الآن الإجابة على السؤال الذي طرحناه في توطئة هذه المادة، لماذا الدولة بالتحديد؟ فكما لاحظنا من نتائج الحرب الأمريكية على العراق وتفكيك الدولة، لقد انهار النسيج الاجتماعي وتحوّل إلى جماعات هوياتية متصارعة واحتراب أهلي مستمر. كان الدافع الحقيقي وراء هذا الاحتلال هو النفط أولاً، وتفكيك بنية الدولة العراقية التي اتخذت موقفاً مناوئاً من الإمبريالية وأدواتها في المنطقة، بعيداً عن أي تحفظات عليها كدولة أو كحكم. وهذا هو المشروع الذي ترسمه لنا دوائر صنع القرار في المراكز، تفكيك الدول العربية إلى كنتونات طائفية وعرقية متناحرة، وتذرية المجتمعات العربية لإدامة التخلف فيها.

ورث المفهوم النظري للدولة الاشتراكية جزءاً من تقاليد الدولة اليعقوبية، فالديمقراطية هي ديكتاتورية الطبقة المسيطرة. لكن الاشتراكية تكره الوقوف في المناطق الرمادية، كما تكره المواقف الهلامية، وما يفصل بين ديكتاتورية اليعاقبة وديكتاتورية الطبقة العاملة مسافات شاسعة يفرضها الشكل الانتقالي للدولة الاشتراكية، دولة الفقراء والكادحين، دولة العمّال والفلاحين. هذا هو مفهومنا للدولة، ومشروعنا للدولة في آن واحد.