فيرجسون: الظلم والعنف على الطريقة الأمريكية

داليا البنهاوي
2014 / 12 / 2 - 08:42     

المترجم ترجمة داليا البنهاوي الناشر الناشر وحدة الترجمة – مركز الدراسات الاشتراكية



لا يمكن أن تنسى الملايين فظاعة ما جرى في فيرجسون

“عِظ بالسلام ومارس العنف”.. هذا هو شعار المؤسسة القانونية والسياسية الأمريكية.

وقف محامي الادعاء بمقاطعة سانت لويس، روبرت مكولوتش، أمام كاميرات التلفزيون ليلة الاثنين الماضي، وشرح بالتفاصيل الموجعة كيف أن الشرطي دارين ويلسون قد ارتكب قتلاً متعمداً للشاب مايك براون، ومن ثم وقف أمام أهالي فيرجسون داعياً إياهم التزام السلمية.

تجرأ مكولوتش وتحدث عن الحاجة للحوار البنّاء حول التوترات بين الشرطة والفئات المختلفة. في حين كان متظاهرو فيرجسون يواجهون شرطة مكافحة الشغب والمدرعات المكتظة بجنود الحرس الوطني لولاية ميزوري.

كان باراك أوباما قد حثّ الغاضبين من قرار هيئة المحلفين الكبرى على الاستجابة لنداء والديّ مايك براون بالحفاظ على السلمية. كان ذلك بعد بضع دقائق من صراخ والدة براون، ليسلي مكسبادن، في ألم وغضب، بعد سماع إعلان مكولوتش بأن قاتل ابنها لن تُوجه له أية اتهامات على الإطلاق. الرئيس الذي أمر بضرب ٧ دول بالقنابل والصواريخ، والذي ساهمت إدارته بشكل مباشر في تجييش وتعبئة وحدات الشرطة في أنحاء البلاد، مثلما يحدث في فيرجسون، خرج ليوضح أن “ليس هناك أي مبرر للعنف”.

يتحدث المسئولون في السلطة السياسية الأمريكية دائماً عن أهمية السلام وسيادة القانون، لكن أفعالهم، سواء في الولايات المتحدة أو حول العالم، تعلو أصداؤها عما يتفوهون به. والرسالة هي أنه لا يوجد قانون لأولئك القائمين على القانون.

جاء الإعلان بعدم توجيه أية اتهامات لدارين ويلسون تتويجاً لمسرحية هزلية استمرت ثلاثة أشهر لم تجد سبيلاً إلى العدالة. لم تكن تبحث أصلاً عن العدالة، فيما كان الهدف منها هو تشتيت الاحتجاجات. كما ذكر نص تكرر كثيراً على الشبكة الاجتماعية تويتر: “لن تستغرق ١٠٠ يوم كي تقرر أن القتل جريمة، ولكن قد تستغرق ١٠٠ يوم كي تجد طريقة تقنع بها الناس أنه ليس جريمة”.

لم يكن روبرت مكولوتش وأجهزة الظلم الجنائية ينتوون تقديم الشرطي روبرت ويلسون للمحاكمة. لعبت مسرحية هيئة المحلفين الكبرى على أن يفقد مؤيدوا براون الزخم. بينما لم تنجح الخطة، واستمر الأهالي في تنظيم أنفسهم خلال الخريف مما جذب النشطاء من جميع أنحاء البلاد لشهر كامل من الفعاليات الاحتجاجية أطلقوا عليه “أكتوبر فيرجسون”. عندما أعلنت هيئة المحلفين الكبرى قرارها، كان هناك الآلاف من الأهالي على استعداد للنزول إلى الشارع تحسباً لقرار كانوا يخشونه، ويتوقعونه أيضاً، وبالرغم من ذلك جاء بتأثير الصدمة.

كان من المتوقع أن تركز وسائل الإعلام في هذه الليلة على الحرائق في فيرجسون والنوافذ المحطمة في سانت لويس. لكن رسالة المتظاهرين لم تكن العنف، بل على العكس؛ أن تُطبق سيادة القانون على أولئك الذين يُفترض بهم وضعه موضع تنفيذ.

في اليوم التالي، على الرغم من التخويف الإعلامي من الاحتجاجات العنيفة، صارت المظاهرات في المدن المختلفة في أنحاء البلاد أكبر وأكثر تصميماً، تقدر بالآلاف من سياتل إلى بوسطن، ومن أتلانتا إلى بورتلاند، ومن أوستن إلى مدينة نيويورك. أراد الناس إرسال الرسالة مرة أخرى “لن ترهبوننا لالتزام الصمت”.

الشغب والسلمية
أثناء تغطيتهم المثيرة لليالي الاضطرابات في فيرجسون وسانت لويس، استحضر الكثير من معلقي الإعلام ذكرى مارتن لوثر كينج باعتباره النموذج المثالي للاحتجاج السلمي، لكن لم يذكر أيٌ منهم ما قاله كينج في خطبة عام ١٩٦٨:

“الليلة يجب أن أقول أن الشغب هو لغة من لا يجدون آذاناً صاغية. ما الذي فشلت أمريكا في سماعه؟ لقد فشلت في سماع أن حالة الزنوج الفقراء ازدادت سوءاً على مدار الـ 12 أو الـ 15 عاماً المنصرمة، فشلت في سماع أن الوعود بالحرية والعدالة لم تتحقق، وفشلت في سماع أن قطاعات واسعة من المجتمع الأبيض مهتمين بالسكينة والحفاظ على الوضع الراهن أكثر من اهتمامهم بالعدالة والإنسانية”.

لم يتفق كينج أخلاقياً مع الشغب ولكنه تفهم أن الشغب أمر حتمي عندما يستمر الظلم دون معالجة، وأن الشغب قد نجح في لفت الأنظار إلى معاناة الأمريكيين الفقراء من أصل أفريقي في مدن الشمال. وعلى نفس المنوال، ربما ليتذكر القليلون اسم مايك براون، إن لم يقرر متظاهرو فيرجسون أن يصمدوا في أغسطس أمام العنف الساحق للشرطة.

أصر كينج على أمرٍ آخر، هو أنه لن يتحدث “ضد عنف المقموعين في الأحياء الفقيرة قبل أن التحدث بوضوح عن أكبر متعهد للعنف في عالمنا اليوم – حكومتي”.

لكن السلطات المسئولة عن هذه الحكومة تعتبر عنفها مختلف تماماً يسمونه النظام والقانون. في كتيب “أخلاقهم وأخلاقنا”، كتب الثوري الروسي ليون تروتسكي أن “الطبقة الحاكمة تفرض أهدافها على المجتمع وتروّضه على اعتبار أن جميع الطرق التي تخالف أهدافه غير أخلاقية، وهذه هي الوظيفة الرئيسية للأخلاق الرسمية”. بعبارة أخري؛ حينما يعظوننا بالسلام، فإن ما يقصدونه في الحقيقة هو ألا نتحدى سلطتهم كي يلجؤوا العنف.

هذا حقيقي خاصة حين يكون الأمريكيون من أصل أفريقي هم من يُظهرون هذا التحدي. في أغسطس الماضي، فزع الناس من جميع أنحاء البلاد والعالم من مشهد دوريات الشرطة المسلحة في شوارع فيرجسون في أعقاب مقتل مايك براون. تبنت الشرطة بوضوح تكتيك البنتاجون في إخضاع قطاعات السكان المعادية عن طريق إظهار القدرات العسكرية الساحقة واستخدامها ضد المجتمعات المحلية للسود.

أظهرت صحيفة “نيويورك دايلي نيوز” على غلافها، في العدد الصادر عقب قرار هيئة المحلفين الكبرى فكرة تفيد بأن الأمريكيين من أصل أفريقي يُعتبرون أعداءاً، فيما كان العنوان “أمريكا تحبس أنفاسها”، وكأن الملايين من الأمريكيين من أصول أفريقية ليسوا جزءاً من أمريكا التي حبست أنفاسها.

هذا العنوان، جنباً إلى جنب مع صورة الأم المكلومة ليسلي مكسبادن، قد كشف الحقيقة البشعة بأن الإعلام غير قادر بخوفه العنصري من إظهار أي تعاطف إنساني لأم أهدر النظام القضائي حقها للمرة الثانية.

الشرطة والفقراء السود
“لا يمكن أن يكون هناك وجود لما يُسمى بـ”محاكمة عادلة” لفتى زنجي متهم بالاغتصاب في محكمة ألاباما”.. هذا ما قاله الحزب الشيوعي في حملته من أجل فتيان سكتسبورو، وهم ٩ أمريكيين من أصل أفريقي اتُهموا زوراً باغتصاب امرأتين من البيض في ثلاثينيات القرن الماضي. لم ترد منظمات حقوق الإنسان المعتدلة الانخراط في مثل هذه القضايا “غير المحترمة”، ولكن الراديكاليين التقطوا القضية وحولوها إلى رمزٍ للظلم في جيم كرو الجنوبية.. واليوم، لا وجود لما يُسمى بالعدل لإنسان أسود يُستهدف بالعنف وتلاحقه الشرطة.

في 2012 في فلوريدا، في أعقاب قتل الفتى الأسود، ترايڤون مارتن، كشفت دراسة أعدتها حركة مالكولم إكس الشعبية أن هناك أمريكي من أصل أفريقي يُقتل كل ٢٨ ساعة على يد الشرطة أو حراس الأمن.

لذلك لم تكن مفاجأة أن في الوقت الذي انتظر فيه الناس عبر البلاد قرار هيئة المحلفين الكبري بفيرجسون، كان هناك المزيد من الضحايا السود العُزَّل، أحدهم فتى في الثانية عشر يُدعى تامير رايس قُتل على يد شرطة كليفلاند التي ادعت أنها ظنت البندقية اللعبة بيد الفتى القتيل سلاحاً حقيقياً قاتلاً.

في كل الأحوال، جريمة القتل تلك، مثلها مثل أغلب جرائم القتل التي ترتكبها الشرطة، يُشار إليها باعتبارها “قتل مُبرر”، في حين لا تُوجه أية اتهامات للضباط المتورطين. إن تطبيع العنف الشرطي هو بالضبط ما يحاول المحتجون في فيرجسون وفي أنحاء البلاد، الذين يشيّطنهم الإعلام لاستخدامهم العنف، أن يضعوا حداً له.

بالنسبة لمن خرجوا في شوارع فيرجسون وغيرها، يأتي الفشل في توجيه اتهامات لدارين ويلسون كضربة قاسمة، ولكن التحرك لإيقاف الشرطة من قتل آخرين مثل مايك براون مستمر في مساره. كان هذا واضحاً من المظاهرات الكبيرة المستمرة في أنحاء الولايات المتحدة في الأيام التي أعقبت قرار هيئة المحلفين الكبرى.

بدأت أعدادٌ من المشاركين في هذه المظاهرات في لفظ النصائح المحافظة من القادة الحقوقيين المعروفين، الذين انصب اهتمامهم على أن تكون المظاهرات “محترمة”، وليس على العدالة. الإعلام بدوره، يمثل هذه الخلافات على أنها فجوة بين الأجيال أو صراع بين المتظاهرين السلميين والمحرضين الراديكاليين الذين يواجهون الشرطة. ولكن الخلاف الحقيقي يمكن حول الرؤية والاستراتيجية السياسية والطبقة الاجتماعية.

من المهم والجدير بالذكر أن أحد أكثر القطاعات المشاركة تماسكاً في مظاهرات فيرجسون خلال الشهرين الماضيين كان العمال ذوي الأجور المتدنية الذين احتشدوا لأنهم رأوا نضالهم من أجل العدالة الاجتماعية مرتبطاً بالنضال من أجل العدالة العرقية.

العديد من النشطاء الذين كرسوا أنفسهم للنضال ضد العنصرية يتجمعون في تنظيمات جديدة لضمان عدم تلاشي الحركة وألا ينصرف الرأي العام عن قضية مايكل براون. في هذه اللحظة تتخذ هذه التنظيمات المبادرة في إرسال رسائل من المقاومة والتحدي، بل أنها أيضاً ستكون مصيرية في التحضير للنضالات الأخرى القادمة.

لم ينته النضال ضد العنصرية والعنف بعد. والتقدم بالنضال إلى الأمام يتطلب الالتزام بالحفاظ على تنظيم الصفوف والكفاح من أجل مجتمع مختلف.

* المقال منشورة باللغة الإنجليزية في 26 نوفمبر 2014 على موقع “العامل الاشتراكي” الأمريكي