المبادئ المعرفية للفلسفة الوجودية


اللجنة الاعلامية للحزب الشيوعي الاردني
2014 / 11 / 19 - 11:39     

من كتاب، (من الفلسفة الوجودية، الى البنيوية)، الفيلسوفة السوفيية ساخاروفا.
وجزء من حوار الدكتور هشام غصيب، المنشور على الحوار المتمدن.

1- الوعي سبب الوجود كله:
تحاول نظرية المعرفة الوجودية الاستعاضة عن (ثنائية) النظرية المادية في المعرفة بنظريتها (الواحدية) وانطلاقاً من العالم المغلق والداخلي (الوجود-لذاته) تنفي هذه النظرية أولوية العالم الخارجي الموضوعي في علاقته بالوعي. ولكنها الى جانب ذلك لا تؤكد أن الوعي نتيجة الروح، والوجوديون يبذلون جهدهم لشق طريقهم من الدائرة المغلقة لمذهبهم الذاتي الى العالم الموضوعي متجاوزين النظرية الدياليكتيكية-المادية في الانعكاس.
وهم في تأكيدهم طبيعة الوعي الخلاقة، ليسوا في وضع يؤهلهم للاجابة على السؤال التالي: ما هو مصدر هذا الوعي؟ ترى هل مصدره لاشعورياً، ام فيزيولوجياً؟ ومن وجهة نظر جان بول سارتر لا هذا ولا ذاك. اللاشعور لا يمكنه خلق الوعي.
سارتر والوجوديون بعامة لا ينظرون الى الوعي على اساس تطوره. انه ليس الا واقعة موجودة، غير مشروطة بأي سبب. والحقيقة أن هناك الى جانب الوعي، الوجود في ذاته، ولكنه من وجهة نظر سارتر لا يمكن أن يكون منبع الوعي، فالأدنى لا يمكن خلق الأعلى، اذاً، هل الوعي ينبع من اللاوجود؟ ولكن احتمال كهذا ينفيه سارتر، اذ لا يمكن أن يكون هناك (لاوجود) الوعي قبل الوعي. من أجل ان يوجد لاوجود الوعي لا بد أن يكون هناك بشكل مسبق الوعي الذي لا وجود له الان، والذي يؤكد لاوجود الوعي. والوعي كما يؤكد سارتر لا ينبع من (العدم) انه يوجود عن طريق ذاته. حتمية ايجاد نفسه بنفسه هي أهم سمة من سماته. ولهذا فالوعي يتقدم اللاوجود وينبع من الوجود، كما يقول في كتابه (الوجود والعدم). ولكن هذا كله لا يعني أن الوعي ليس الا جوهراً روحياً يناقض العالم المادي.
وبالعكس، فكما يريد سارتر ان يبرهن، فان وجود الوعي صدفة ولا اساس له غير ذاته هو. لقد كتب يقول في كتابه (الوجود والعدم): (نحن نريد أن نبرهن على: أولاً: أن العدم ليس سبباً للوعي، ثانياً، أن الوعي سبب طريقة وجوده الخاص) . ومع ذلك فان سارتر يقف ضد ما قدمته عقلانية القرن السابع عشر حول الأولوية الأنطولوجية للوعي بوصفه جوهراً روحياً خاصاً. والوعي-كما يرى سارتر-ليس جوهراً مطلقاً- انه ليس الا (ظاهرة) محضة. وتكمن الخطيئة الأنطولوجية للعلاقة الديكارتية في أن ديكارت لم ير أن ما هو مطلق يجب ان يحدد عن طريق أولوية الوجود على الماهية. واسبقية الوجود على الماهية مسألة يحاول الوجوديون البرهنة عليها.

2- الوعي يخلق العالم:
ان الوجوديين في كشفهم الدور السلبي للوعي الذي تعتبره الوجودية انحداراً للوجود، يرون في الوعي-الى جانب ذلك-الوجود الأصيل، الذي يخلق العالم. وعندما يصبح الوجود وجوداً من أجلي، يكتسب العالم الطبيعي المعنى، ويتحول الى ظواهر تؤلف الوجود الواقعي. ويعتبر سارتر أن مادة الجبال التي لم يتعامل معها بعد، اي الموجودة فقط، تصبح في اللحظة التي يقوم بها هواة التسلق بتسلقها قمة محددة، متفردة وتتضمن علاقات مختلفة. ويقود المبدأ الصادق حول وعي الانسان بوصفه نشاطاً مبدعاً بنتيجة وضع الوعي في تناقض مع الوجود انطولوجيا الى تزييف الأشكال الحقيقية لترابط الانسان مع العالم. لقد كتبت سيمون دي بوفوار في قصتها المبكرة (الزائرون)، تقول: (في الممر المسرحي الفارغ، رائحة الغبار، الظلال، الوحدة الكئيبة، كل هذه الأشياء لم توجد من أجل أحد، انها لم توجد على الاطلاق، والان فان البطلة فرانسواز هنا، ولون السجاد الأحمر يخترق اللون القاتم كأنه مصباح خائف، وفرانسواز تملك تلك السلطة: ان وجودها ينادي الأشياء من لاشعورها، انها تهب الأشياء طلاءً ورائحة، كل العالم يخضع لها).
كما أن ميرلو بونتي الذي لا ينفي وجود العالم الخارجي، ولكن دون أن يفهمه خارج اطار الذات، يضع الدور الابداعي للوعي الانساني في المقام الأول. لقد كتب يقول: (اني منبع مطلق. وجودي غير متعلق بالذين سبقوني، غير متعلق بمحيطي الفيزيائي والاجتماعي. ان وجودي متجه اليهم، انه يؤكدهم، لأني انا الذي اخلق الوجود لذاتي... والنظرة العلمية التي تقول بأني لحظة، جزء من العالم ليست الا نظرة ساذجة ومنافقة. لأن هذه النظرة مغلقة، لا تأخذ بعين الاعتبار النظرة الاخرى، نظرة الوعي، التي تؤكد أن العالم بدأ يحيط بي وشرع بالوجود من أجلي).
وهكذا، فان العالم الأصيل بالنسبة الى الوجوديين محدود بالواقع الانساني ووعيه في نهاية الأمر. والانسان يودع العالم كل ثرائه. ولا يهم الوجوديين العالم، سواءاً كان عالماً فيزيائياً أو الطبيعة كما هي. والانسان، ولا سيما الانسان المنغلق في عالمه الداخلي الخاص، المحدود بمشاكله الانسانية المحضة، هو العالم الواقعي الأصيل لدى الوجوديين، وهو الموضوع الوحيد للبحث الفلسفي. وعالم (لذاته) على النقيض من عالم في ذاته، لا يوجد الا من أجلنا. اذاً فالعالم الوحيد الذي يوجد من أجلي هو العالم المخلوق من قبل وعي الخاص. لقد كتب سارتر يقول لذاته هو الوحيد الذي يجعل العالم متسامياً، انه العدم الذي تملكه الأشياء عن طريقه.
ولكن كيف يتحقق الترابط بين العالم والانسان من وجهة نظر الوجودية؟ في فعل الوجود. والوجوديون في تغيرهم مواقع المفهومين التقليديين الميتافيزيقيين-الوجود والماهية، يعترفون بأسبقية هذا الأول، ويحاولون منه اشتقاق جميع الترابطات والعلاقات الحقيقية للواقع.
والوجوديون في فهمهم للوجود بوصفه (صراعاً)، (توتراً)، الواقع من حيث هو وسيلة عليا ومطابقة للوعي، يطمحون للبرهنة على اطروحتهم الأساسية في نظرية المعرفة وهي أولوية الذاتي على الموضوعي. على هذا النحو يحلل ميرلو بونتي الوضع المتوتر عندما يصبح ترابط الانسان مع العالم واقعة أولية. منطلقاً من أن الوعي يخلق مسبقاً انفصال الذات بين الوعي الفردي للانسان المنعزل وبين الواقع الموضوعي المحيط بنا على المبادئ الأساسية لعلم النفس الغشتالي، فان ما يعتبره ترابطاً اولياً بين الانسان والعالم هو الفعل البنيوي الشامل- اي الادراك.
لقد كتب يقول، في مؤلفه الأساسي فينومينولوجيا الادراك، ما يلي: (الادراك أهم مقولة لأنه الوعي الأساسي للواقع).
ان ما هو أولي من وجهة نظر الفيلسوف الفينومينولوجي ليس ما نفكر به بل ما نراه. وميرلو بونتي ملاحظاً الجانبين المميزين للادراك-سيرورته ومبادئه، يصف الادراك من حيث هو درجة عالية من درجات الوعي بالعلاقة مع التفكير.
كما انه محدداً الادراك بوصفه رؤية مباشرة للعالم، بوصفه اتصالاً، يقوم بتوضيح أن التجربة تعني، امتلاك العلاقات الداخلية مع العالم، مع الجسد ومع الناس الاخرين، يعني أن تكون معهم من أجل ان تكون الى جانبهم.
والادراك لدى ميرلو بونتي كما هو الحدس لدى برغسون. وما هو خفي بالنسبة الى مارسيل هو (الوجود لذاته) بالنسبة الى سارتر، والادراك متضمن في العالم، وهو مرتبط به ارتباطاً مباشراً، وفي هذا ليس بين الداخلي والخارجي اي انفصال. العالم يقبع وأنا فيه، وبالنسبة الى ميرلو بونتي فان الذات والموضوع علاقة انجذاب.
وهذه العلاقة، علاقة على نحو دياليكتيكي، والدياليكتيك بالنسبة الى ميرلو بونتي هو الانتقال من الذات الى الموضوع، ومن الموضوع الى الذات.
وليس مهماً بالنسبة له من هو أولي ومن هو اللاحق، ان ما هو هام:
تلك العملية الأبدية اللامتوقعة من التداخل المتبادل. ويؤكد: ( ان الادراك الطبيعي ليس علماً، انه لا يضع نصب عينيه الاشياء ولا يفصلها عن نفسه من اجل ملاحظتها، انه (اي الادراك) يعيش معها، الادراك ما هو الا رأي، أو (ايمان أولي) ذلك الايمان الذي يربطنا مع العالم وكأنه يربطنا مع اقرباءنا). وميرلو بونتي على شاكلة جميع الوجوديين يقللون من قيمة المعرفة العلمية، كما أن التفكير العلمي يمحي الترابط المباشر مع العالم، ذلك انه باستناده الى المفاهيم والرموز يفقد الترابط الحي مع الأشياء.

3- عدم تطابق التفكير العلمي مع الواقع:
لما كان العالم المعاصر في تفسير الوجوديين خاضع للتقنية وللأتمتة، ويغدو عاماً مجرداً تخطيطياً من عوالم العلم، الذي موضوعه الرموز والمفاهيم وليس الشخصية الانسانية المبدعة، فانهم (اي الوجوديين) يرفضون الاعتراف بالعلم بوصفه معرفة مطابقة للواقع. ولا بد ن كشف مصادر جميع المشكلات والمفاهيم العلمية، وبعث جذورها المختفية في مسار تطور الحضارة، وهذه هي المبادئ الأساسية لكل موجود، يجب البحث عنها في الظاهرة الأولية للوجود، في نشاط الحياة الذاتية، حيث تقوم العلاقة البماشرة بين الانسان والعالم. يقول ميرلو بونتي (كل ما أعرفه عن العالم، وبدون هذا فلا معنى لكل رموز العلم). وكل بناء العلم انما قائم على بقايا التجربة كما ترى فلسفة الوجود، والعلم لا يكشف، ولا يستطيع الكشف عن معنى الوجود الذي يستحوذ عليه الادراك. وكل هذا يجري لأن العلم دائماً اما تعريف أو تفسير، وليس اتصالاً حياً مع العالم. لقد كتب ميرلو بونتي يقول: (تعني العودة الى الأشياء ذاتها، العودة الى عالم ما قبل الوعي العلمي الذي ينطلق منه العلم. وفي العلاقة مع هذا العالم فان كل تحديد علمي، هو شيء مجرد، تخطيطي يتعلق به، فالجغرافيا تتعلق بالمناظر الطبيعية التي تقدم لنا التصور الأولي حول الغابة، المروج أو النهر).
ومع ذلك، فان هذا الاتصال المباشر مع الطبيعة والاندراج في الواقع، يذوب عندما يشرع الوعي اخذ حقوقه. عندها يبدأ الكشف في الحياة وفي الفكر عن شيء ما ثنائي، عن اختلاف ما وانفصال، هذا ما يطبع العالم بطبيعة ذات معنيين. وتشهد على هذه الازدواجية في المعنى لطريقة الوجود-قبل كل شيء- تجربة جسمنا الخاص. حيث هنا وجود لتمازج بين العناصر الروحية والمادية، ويبحث ميرلو بونتي هذه الازدواجية باسهاب. فليست هذه الازدواجية وقفاً على جسدنا-كما يرى- بل وجودنا في العالم أيضاً مزدوج المعنى، العالم ونحن، الممارسة، الحياة الاجتماعية والتاريخ.
وعلى اساس فهم ميرلوبونتي للعالم بوصفه مزدوج المعنى أطلق الفلاسفة الفرنسيون عليه اسم فيلسوف المعنى المزدوج.

4- الوعي العلمي، الايمان، المشكلة والسر:
ان الاتجاه الأكثر وضوحاً ضد النزعة العلمية والمادفع عن الوصول الانساني الأصيل الى الوجود نجده لدى مارسل. فبالنسبة له العالم بجملته ينقسم الى عالم الايمان وعالم المعرفة. وهذا الفيلسوف المسيحي لا ينفي واقعية العالم ولا ينفي ايضاً الحقائق العلمية. ولكن الحقيقة بوصفها مخططاً ذهنياً، وحداً مجرداً لا تستجيب لرغبتنا في الكمال، ولهذا فان القيمة المعرفية للوعي العلمي تحتل مكاناً ثانوياً بالنسبة الى مارسيل.
وتتقدم العلاقة العاطفية-الأخلاقية بالعالم الى الأمام، والاحساس الذي لا يمكن أن يصبح ذهنياً، لا يتحول الى أحكام، لا يحافظ فقط على طبيعته، بل لا يفقد معناه الكلي ايضاً.
ومارسيل، مؤكداً اسبقية العلاقات العاطفية بالعالم، بالقياس الى المعرفة الفعلية للواقع يدفع بمفهومين اساسيين مناقضين لبعضهما البعض وهما: (المشكلة) و(السر). يتعلق بالمشكلة عالم العالم وكل ما هو فاقد للذاتية، وجميع ما يوجد أمامي. انه مجال المعطيات الموضوعية والخارجية في علاقتها بي، والتي انظر اليها بوصفي ملاحظاً غريباً. أما السر-فهو مجال الايمان. انه المجال الذي يفقد فيه الاختلاف بين (في) وبين (امامي) اي معنى وقيمته الأولية. وحيث تتجاوز ثنائية الذات والموضوع. واذا كانت (المشكلة) ما استطيع ان اتحاشاه، كما استطيع ان اقف حيالهما لامبالياً، فان الاحاطة الحدسية ب(السر) يندرج في شروط الوجود الانساني ذاتهما. والسر لا بد أن يتضمن في ذاته مفهوم القيمة. ولا يتعلق بهذا السر الا ما يهمني وما يعتبر بالنسبة لي قيمة محددة، انه ما يمسني عاطفياً، ولهذا ف(السر) ليس من نمط العلاقات اللامبالية ك(هو) بل على شاكلة (أنت).
والذات مندرجة كلياً في السر، ومع أن السر يفلت من المعرفة الموضوعية والتحقق العلمي فانه بالنسبة الى مارسيل وحده الذي يملك معنىً فلسفياً، والمشكلة ليست الا (سراً منحطاً).
والوصول الى الواقع يعني لدى مارسل الولوج الى داخل سر (الوجود) الذي لم يصبح موضوعاً بعد. وهنا لا يقف الانسان بوصفه مشاهداً موضوعياً لامبالياً، بل بوصفه ممثلاً يقوم بدوره الشخصي بارتعاش. وواقعية أناي تكمن في مشاركتي في الوجود. والوجود خاضع لها عضوياً، ولا يمكن الاتيان به من الخارج. في السر فقط تتحقق (الوحدة بين الوجود والموجود) (والذات بدون هذه الوحدة ليست الا عدماً).
ومارسيل، دون أن يهمل بشكل مطلق الوعي العلمي، يعطيه دوراً ثانوياً، فعالم العلم-عالم الموضوعية. ففي العلم ينفصل الموضوع المبحوث عن الذات بل وتناقضه بوصفه شيئاً خارجياً وغريباً. والعلم في ادراك الواقع عن طريق تعميم المفاهيم الكلية المشتقة، يفقد الاتصال الحي مع الطبيعة، يفقد الترابط المباشر مع الذات، ولهذا فان التفكير العلمي كما يؤكد مارسيل يفقد الطبيعة الانسانية للانسان والطبيعة. والمعنى العام، ما هو الا الخلو من اي صفات. لقد كتب مارسيل قائلاً: (يجب أن لا ننسى أبداً انه اذا كان تفوق العلم يكمن في أنه للجميع، فان هذا التفوق يرافقه عقاب ميتافيزيقي تقيل. فالعلم للجميع لأنه عملياً ليس لأحد بمفرده). ومع ذلك، فان مارسيل لا يعني من السر شيئاً خارجاً عن الاحساس. انه وحدة الذات المتوترة مع الشيء، المتجه نحو الاحساس والانفعال الذي يجعل الانسان في وحدة مع ذلك الذي لا يمكن أن يكون محدداً كموضوع. والسر أكثر ما يظهر في عملية الابداع الفني. او في تلك الأحاسيس الشديدة كالحب، الوفاء، الأمل، أفكار الذات وأحاسيس اخرى. وهذا ليس الا صورة فينومينولوجية للعلاقة مع العالم، وهذه الصورة تقود الى رفض معرفة العالم العلمية من أجل الاحاطة العاطفية الأخلاقية به.
وفي الواقع فان (اسبقية السر) على المشكلة هو الرفض لمعرفة العالم العلمية من أجل الوصول الى العالم وصولاً عاطفياً-أخلاقياً كما مر معنا. ومارسيل باعتماده على الدين واحتقاره للعلم انما يرفض اي فكر نقدي، ويقف خارج حدود المعرفة الانسانية، خارج النشاط الانساني البناء.
ولقد احتل الوجوديون في الخلاف الدائر بين المذهب العلمي والانثروبولوجيا موقفاً منحازاً الى الموقف الانثروبولوجي. وهم في طرحهم لأولوية الجانب الذاتي للوجود الانساني حيث تكون القوى العاطفية، اللاعقلانية والغريزية الأساس الهام الحياتي والابداعي، انما يضربون صفحاً عن المدخل العلمي الى الواقع، معتبرينه مذهباً علمياً وحيد الجانب، ومجرداً وتخطيطياً.
والماركسية تناقض هذا الاتجاه السلبي، بل وفي الحقيقة اللاارادي، بفهم دياليكتيكي مادي للعلم. العلم بوصفه البناء المطلق للوحة العالم في شموليته وعيانيته من جانب، وبوصفه ظاهرة اجتماعية معقدة ترتبط بتاريخ الانسانية ككل وبالممارسة المتنوعة الاجتماعية، من جانب اخر. والمعرفة العلمية، معرفة دياليكتيكية، تتطور في تناقض مستمر بين الثراء اللامحدود لصفات وعلاقات الموضوع وبين طموح الذات للمعرفة وصياغة هذه الصفات والعلاقات في منظومة المعرفة العلمية. ويتحدد الضعف الأساسي في الاتجاهات اللاعلمية للوجوديين في الموقف المثالي الذي يقفوه، وفي الثنائية الأنطولوجية، وكذلك في نفيهم موضوعية وقانونية العملية الطبيعية والاجتماعية-التاريخية.

5- الممارسة بوصفها اساس ومنبع المعرفة:
تحتل الممارسة بوصفها نشاط الانسان الابداعي-المادي، وبوصفها طريقة حياته الفردية في العالم، تحتل في الفلسفة الوجودية مكاناً بارزاً. الوجوديون محددين الهدف النهائي للمعرفة عن طريق المشروع الذاتي، يربطون الممارسة بمقولة ذاتية قبل كل شيء: انها ليست الا (تجربة) ذاتية للانسان الفرد، نشاطاً حياً للذات.
وسارتر اذ يفهم من عملية المعرفة لا معرفة (الأفكار)، بل المعرفة الممارسية للأشياء، فانما يؤكد أن معرفة العالم ما هي الا نشاط ممارسي للانسان. والممارسة بالنسبة الى الوجوديين في المطاف الأخير تتطابق مع الوجود، ذلك انها تعني دائماً ما هو ممتحن، ما هو معاش ومحسوس من قبل الفرد. لقد كتب سارتر يقول (الانعكاس لا يمكن أن يكون بالنسبة لنا على انه فطرية بسيطة من المثالية الذاتية، ويمكن أن يكون الانعكاس منطلق اتجاه في تلك الحالة فقط حينما يرمينا في اللحظة ذاتها في صميم الناس، الأشياء وفي العالم. ومن وجهة نظر سارتر فان (النظرية الوحيدة في المعرفة والتي يمكن أن يكون لها قيمة، هي تلك النظرية التي تبرهن على الحقيقة اللاحقة للفيزياء الدقيقة. فالمجرب يشارك في المنظومة المجربة. وهذه النظرية فقط هي التي تسمح بتجنب الوهم المثالي، انها وحدها التي تظهر الانسان الواقعي في العالم الواقعي).
والممارسة بتفسيرها الوجودي تتجه دائماً نحو المستقبل. والدور الهام هنا يلعبه المشروع، تخيل الانسان. الذي يعتبره القوة المحركة للمارسة والمتجهة نحو تحقيق أهدافها. وهذا المستقبل-كما يرى سارتر-ليس كمالاً مثالياً، بل هو الهدف الذي يطمح اليه كل انسان يطمح الى تحقيقه، عن طريق مشاريعه الفردية والذاتية. ويرى سارتر أن هناك امكانيتين للوقوع في المثالية: ادراج كل ما هو واقعي في المثالي أو العكس. تحطيم كل ذاتية واقعية ارضاءاً للموضوعية. والممارسة الوجودية تبدو وكأنها تتجاوز هذين الخطرين، ففي الوجودية يجد (وعي الموضوع) و(وعي الذات) وحدتهما. واذا كان الانسان في كتاب سارتر (الوجود والعدم) انساناً مغترباً عن العالم الخارجي وتحدد العلاقة بينهما على اساس نفيهما المتبادل لبعضهما البعض، ففي كتاب، نقد العقل الدياليكتيكي، تظهر محاولة كشف تأثيرهما المتبادل وترابطهما الداخلي. وما يحدد هذا الترابط مع العالم هي الممارسة، والممارسة هنا لا يبحثها سارتر بصورة مجردة، وليس من حيث هي اتجاه داخلي غير مقيد للفرد نحو تحقيق مشروعه الخاص بل أن العامل الحاسم هنا هو علاقة الممارسة بالوقائع المادية. والممارسة برأي سارتر تتطور في العالم المادي وتتجدس في اشياء مادية. والممارسة المؤنسنة بوصفها عالم الأشياء الانسانية تقوم بدور قوة جعل النشاط الانساني نشاطاً موضوعياً. والانسان هو الذي يخلق هذا العالم، ويعرف نفسه فيه. والممارسة التي اصبحت ممارسة مادية تفتح لكل واحد منا ثراء الواقع أكثر من ذلك الذي توقعه مسبقاً في مشروعه الفردي. وهكذا فان المادة تغني التطلعات الانسانية وتصبح الوسيلة الوحيدة لتحقيقها.
وانطلاقاً من فهم سارتر للمادة المؤنسنة التي تتضمن في ذاتها ليس فقط أدوات ووسائل العمل، بل كل مجال ثقافة الانسانية المادية، يصل بعض الفلاسفة السوفييت الى نتيجة-وخاصةً ياستريلتسوفا-مفادها أن في مفهوم الممارسة التي اصبحت مادية قيض سارتر تجاوز ثنائيته القديمة فيما يتعلق ب(الوجود في ذاته)، و(الوجود لذاته) مستخدماً عوضاً عما سبق مفهوم (لذاته في ذاته).
وسارتر واقفاً ضد التأسيس العلمي المادي لأطروحة (أن الانسان في نشاطه الممارسي يلقى أمامه العالم الموضوعي، متعلق به ويحدد نشاطه) ينظر الى النشاط الذاتي بوصفه مبدعاً للواقع. وهذا الابداع المثالي لا يتحدد بمعطيات موضوعية، بل بارادة الذات. فالانسان في عملية النشاط الممارسي يقوم بدور الذات المؤثرة. ويقيم سارتر تناقضاً بين الممارسة الفردية النشطة والممارسة الدافعة، حيث الانسان خاضع، يحقق على نحو سلبي عمله، مدركاً لمصيره أكثر ما يبدعه لنفسه.
عارضاً العقبات التي تصادفها الممارسة الانسانية في طريقها، يدرج سارتر في عدادها جميع الفرق الاجتماعية، الجماعات والمؤسسات. لقد كتب يقول: (ان المواضيع الاجتماعية على الأقل في جانبهها المتعلق ببنيتها الأساسية ليست الا وجوداً للصيعيد الممارسي الاستمراري. وهذا الصعيد بالذات هو مجال استعبادنا، وهذا يعني ليس فقط وجود العبودية المعنوية بل والخضوع الواقعي (للقوى الطبيعية) (للقوى الالية) (وللمؤسسات الاجتماعية) ).
ويدرج سارتر هذا كله في (الوجود في ذاته). لأنها جميعاً نتائج سلبية، مجبرة، لممارسة الفرد الحية.
ويظهر تناقض سارتر في أنه الى جانب المبدأ السليم لدور الشخصية النشيط والمبدع في الممارسة الاجتماعية للانسانية ينظر الى الممارسة، ممارسة المجتمع بشكل عام بوصفها قوة مناقضة للشخصية. واسرتر ناظراً الى الممارسة الاجتماعية بوصفها تأثير عام، حيث الفردي خاضع للكلي، ولا يستطيع الخروج من حدوده، يؤكد على تقيد المبادرة الخاصة بالانسان الفرد، التي (تجذب لمصالح الجمهور).
هذا النمط من ممارسة الجماعة تظهر أكثر ما تظهر التناقض بين الشخصي والاجتماعي في المؤسسات وأدواتها المتشعبة في التوجيه واتصالاتها الممكنة. فالممارسة الاجتماعية هنا-كما يرى سارتر-فاقدة لسحر العقل الفردي، وتكتسب صفة القسر. وسارتر ينكر تلك الحقيقة المبرهنة تاريخياً، وهي أن ممارسة الانسان الفرد توجد دائماً الى جانب الممارسة الاجتماعية. وأن نشاط الفرد الوحيد، هو بنفس الوقت، نشاط عضو المجتمع، وعلى الرغم من ظهوره بوصفه جزئياً، ولكنه مرتبط عضوياً بهذا العنصر الاجتماعي.
وعلى الرغم من اعتراف سارتر بالممارسة الاجتماعية، لكنه في نهاية الأمر يعزل جميع العناصر الاجتماعية، كل صور الوعي الاجتماعي عن النشاط الفردي للانسان الوحيد-مبقياً، ما هو اساسي في الظل، اي الممارسة الاجتماعية-التاريخية للناس، ونشاطهم الثوري-النقدي الذي يلعب الدور الحاسم في تغير واعادة بناء المجتمع في المسار النامي للعملية التاريخية.
ولينين-الذي اعتبر الممارسة النقطة الأساسية في حياة الانسان وفي التطور التاريخي-بين أن نشاط الانسان الهادف في تعامله مع الطبيعة، هو أحد صور العملية الموضوعية، وأن التفسير الذاتي-المثالي للممارسة بوصفها فقط نشاط فرد منعزل، تخرج الممارسة خارج حدود العلم، ولقد بين البحث المادي الدياليكتيكي للمارسة، الترابط اللامنفصم بين الممارسة والعلم، بين الوعي والنشاط المادي. (ان السيادة على الطبيعة التي تظهر على اساس ممارسة البشرية، ما هي الا نتيجة الانعكاس الموضوعي-الصادق في رأس الانسان لظواهر وعمليات الطبيعة).

6- الوجودية مذهب لا انساني:
لقد عرض سارتر في كتيبه-الوجودية مذهب انساني، بصورة عامة المبادئ الأساسية في الاتجاهات الأخلاقية في الوجودية. وفي خاتمة كتابه (الوجود والعدم)، وعد بأن يؤلف كتباً اساسياً لايضاح مشكلات الأخلاق مقدماً بحث (جوهر الحياة الروحية)، ولكنه لم يف بوعده. كما لا توجد أي أعمال لدى الوجوديين الاخرين خاصة بالأخلاق والمذهب الانساني، على الرغم من أن هذه المشاكل تحتل مكاناً بارزاً في مؤلفاتهم الفلسفية والأدبية.
والوجوديون الفرنسيون-انطلاقاً من مذهبهم حول الفرد المتناقض مع قوانين التطور التاريخي الموضوعية-يجعلون من دور الانسان ووعيه في الحياة الاجتماعية دوراً مطلقاً، مما يؤدي الى وقوعهم في المذهب الفردي والذاتي البرجوازي الصغير. والمجتمع كما يفهمه الوجوديون ليس الا خليطاً من أفراد منعزلين، وهذا الخليط يقع في تناقض مع طبيعة الانسان الأصيلة بوصفه كائناً اجتماعياً. والنزعة الانسانية في الفلسفة الوجودية على اساس مضمونها ومواقها الأساسية هي في الحقيقة لاانسانية. انهم يعدون فقط بحرية الانسان واستقلاله عن القواعد الاجتماعية والأخلاقية، ولكنهم لا يشيرون الى الطريق الواقعي لتحقيق ذلك. ومشيراً الى أنه لا وجود لعالم غير عالم الانسان، غير عالم الذاتية الانسانية. يوحد سارتر على نحو غير عادي مفهوم (الانسانية) مدرجاً اياه في فهم ضيق لنشأة حياة الفرد الروحية الداخلية. وفي تأكيد (الواقع الانساني) باستقلال عن العلاقات الاجتماعية الموجودة وجوداً موضوعياً وباستقلال عن تلك الشروط التي بدون تأثيرها لا يمكن أن تنشأ وتتأكد الشخصية الانسانية.

مقولات الفلسفة الوجودية:
1- الانسان هو الحرية
كثيراً ما عوملت الحرية في أفكار الوجوديين الفرنسيين الفاقدين للايمان بأهمية العالم الموضوعي بوصفها القيمة الأساسية والمبدأ الهام للوجود الانساني.
وهذه الحرية المنظور اليها في اطار التجربة الفردية والذاتية، ليست فقط منعزلة من شروط الحياة المادية والاجتماعية بل وخالقة لها. وتبحث الحرية لدى الوجوديينمن حيث هي مبدأ انطولوجي (الوجود لذاته). وعلى مقولة الحرية يساتند الوجود الانساني، برأيهم. ومن الخطأ الحديث عن وجود الانسان دون أن يعني الحديث عن حريته. لقد كتب سارتر يقول: (الارادة الانسانية تسبق ماهية الانسان، وتجعل من ماهيته شيئاً ممكناً، وما نسميه حرية لا يمكن عزله عن وجود الواقع الانساني. وليس على الانسان أن يوجد مسبقاً من أجل ان يصبح فيما بعد حراً، فلا فرق بين وجود الانسان ووجوده الحر).
فالانسان هو الحرية. لقد أكد البير كامو: (الحرية الوحيدة التي أعرف هي حرية الروح، حرية الفعل).
والحرية المنظور اليها على أنها مساوية لماهية الانسان هي ايضاً القاعدة النظرية ل(علم الأخلاق الوجودي).
والوجوديون اذ ينفون الطبيعة الموضوعية للمبادئ الأخلاقية، للشر والخير، يطمحون للبرهنة (وخاصةً في مؤلفاتهم المبكرة) برهنة نظرية على المبدأ الذي طرحة دستويفسكي (اذا لم يكن هناك وجود للاله، فكل شيء مباح). ولذلك فالحرية بالنسبة لهم تحرر عالم الانسان الداخلي، تحرر فردانيته من جميع التأثيرات الخارجية، من تأثير الوسط المحيط والحياة الاجتماعية، من جميع المؤسسات والحلقات الاجتماعية، والانسان المقذوف في هذا العالم يظل هكذا (عارياً وسط الذئاب) ليس مرتبطاً بأحد وليس خاضعاً لشيء. هذا عملياً يعني انه (لا وجود للانسان بعد)، وعليه فقط أن يصنع نفسه. ولهذا فان سارتر يقترح تعريف الحرية لا كما هي، بل كما يجب أن تكون. والانسيان حر في التطور، في عملية بناء ذاته المبدع دائماً ان يطمح الى الامام، من أجل ان يجد حريته من جديد. وهكذا فان حريتنا تصدم بكل لحظة في شيء جديد، غير متوقع، يجب ان تتجاوزه، من أجل ان لا تتجمد في عالم الأشياء اللاحركي.
ويكم خطأ بحث سارتر للحرية في تأكيده أن جميع الناس احرار بشكل متشابه، فالسجين هو الاخر حر. فلا وجود لمستويات مختلفة من الحرية، ما هو مختلف هو امكانية الفعل فقط. أما الحرية ذاتها كما هي فلا حدود لها.
لا شك أن هذه الأفكار ترجع الى شعور التمرد ضد العنف، في حال الصمود والرجولة، التي كانت تميز مرحلة الاحتلال الألماني، حيث كان من الضرورة الحفاظ على الحرية الداخلية، الشخصية، والحفاظ على الثبات والثقة بالأنا. وبهذا المعنى بحث الوجوديين حرية الانسان من حيث لامحدوديتها. فالانسان وفي مختلف المستويات حر في أن يكون زاهداً حكيماً، قاتلاً. ودوافع نشاطه غير مشروطة بشيء. ولما كان الانسن غير مكتسب بعد على ماهيته، فلا وجود بالنسبة له لمعايير قيمة هذا الفعل أو ذاك، فجميع الأفعال ممكنة، وكلها بدرجة واحدة فاقدة المعنى. ويعتبر الانسان جميع الممكنات ممكناته، ولهذا فلا واحدة من هذه الممكنات بالنسبة له ضرورة بعينها. ها أنا اقف على حافة الهاوية، واني حر أن اقذف نفسي وأتراجع الى الخلف، وخطر الوت يمكن أن يتحول الى موت حقيقي. واذا لم يكن هناك من سبب يجبرني على انقاذ حياتي، فلا شيء يمنعني من القاء نفسي في الهاوية. اني السبب الوحيد والأساسي لهذا الفعل الممكن اللذي لم يتحقق بعد.
والحرية لدى سارتر هي جعل كل شيء حرية المشروع، حرية النية وحرية الخطة. والانسان حر مادام لم يشرع بالحل بعد، وعندما يجد الحل ويحققه يكف عن أن يكون حراً، وعليه من جديد أن يخطط لمستقبله، وهكذا الى ما لا نهاية.
والانسان حر-كما يرى سارتر-لأنه لن يكون وجوداً لامتحركاً ومحدوداً، وهو يقع دائماً في انفصال عن هذا الوجود، انه ليس (في ذاته) بل في حضور ذاته. والانسان ليس الا ما هو، هو لا يمكن ان يكون حراً أبداً. (الحرية هي العدم الذي يقع في ماهية الانسان ذاتها والذي يلزم الواقع الانساني في أن يضع نفسه من أجل ان يوجد).
وهكذا فالحرية ليست الوجود، بل وجود الانسان، اي (لاوجود) وجوده، كما يقول سارتر.
وبحث سلبي كهذا للحرية، ينبع من الفهم الوجودي للوعي من حيث هو (عدم). انه لا ينبع من شيء، يفلت من الأشياء، انه عفوية مطلقة. فالوعي كما قلنا سابقاً ليس وجوداً بل (لاوجود الوجود). والحرية لا تتعلق بصفات الوعي الى جانب صفاته الاخرى، ومن النظر اليها بانفصال عن الوعي، والوعي لا يملك حرية، وانما هو الحرية. ولهذا فالحرية بالنسبة الى سارتر هي حرية المعراضة والنفي: (لقد قادنا النفي الى الحرية).
والانسان حر لا لأنه يقف في تناقض مع العالم، بل لأنه يقف من تناقض مع نفسه، مع أناه. واذا كان الانسان برأي ماركس حر لا بنتيجة القوى النافية، والهروب من هذا أو ذاك، بل نتيجة قوى ايجابية ويظهر فردانيته الحقيقية، فان سارتر يرى الحرية بوصفها امكانية نفي العلاقة بين الانسان والعالم. وهذا التناول المثالي-الذاتي للحرية بوصفها مبدأً داخلياً، مكتفياً بنفسه، ، وأولي بالعلاقة مع العالم الخارجي والمجتمع، يقود الوجوديين الى النظر الى الحرية كشيء روحي، يقع خارج اطار قوانين الطبيعة والمجتمع، ولا يملك اي قاعدة موضوعية.
وسارتر على الرغم من تمسكه بمذهب الارادة، فانه لم يستطه الا انه يعترف ببعض الشروط التي تحد من فعل حريتنا الفردية. فالانسان كما يلاحظ سارتر لا يمكن أن يكون في أي وقت من الأوقات منعزلاً بشكل كلي. فهو الى جانب ارادته، موجود في الحياة الاجتماعية منذ الولادة، مرتبط بمصير عصره، قوميته، طبقته. فالانسان موجود في هذا الوضع وباستمرار.

2- الحرية في الوضع
نسمي التوافق بين الحرية والعلم بأسره (وضعاً)، في تلك الحالة حيث يظهر المعطى ذاته أمام وجه الحرية وليس العكس كما في ضوء الهدف الذي نختاره الحرية. وهكذا فان سارتر مجبر على تضييق شمولية الحرية واذا ما جرى الحديث عن انسان فقير حر، فان ذلك لا يعني ان بمقدوره أن يبيح لنفسه جميع تصرفات الغني، ولكنه يستطيع ان يتلائم مع فقره، أو ان يقف ضده، ان يتذمر منه، أن يحاول ان يصبح غنياً. وعندما نكون في ظروف محددة نستطيع ان نختار هذا الحل أو ذاك بشكل حر. ويقول سارتر: (انه من الخطأ النظر الى هذه الحرية بوصفها سلطة ميتافيزيقية للطبيعة الانسانية. وهي ليست كذلك حرية صنع كل شيء تريده، وهذه الحرية ليست الملجأ الداخلي الذي تحتفظ به حتى في الأغلال.).
فالانسان حر، ولكنه حر خارج الوضع المحدد المعطى. والعالم يفرض علينا وضعاً، وخارج هذا الوضع يكون الانسان حراً بشكل كامل. ويمكنه أن يقبله أو يرفضه. أن يخضع له أو يتمرد عليه.
وهكذا فان سارتر يضيق من اللحظات الموضوعية والذاتية في عرضه للحرية. ولما كان الانسان ليس بقادر الا أن يكون الا في وضع ما، فان حريته محدودة ومشروطة، وهو لهذا السبب لا يمكن ان يكون الخالق المطلق للتاريخ، ولكه خارج الوضع المعطى فان سارتر يؤكد على الحرية المطلقة في اختيار الفرد باستقلال عن اي شروط موضوعية كانت.
والوضع يحد من الحرية من جهة ومن جهة اخرى يستدعي الانسان ارادته للتجاوز تلك الحدود الموضوعة أمامه. وهذا ما يولد حرية المشروع، حرية النية، حرية الخطة. والانسان يقف بنشاطه المبدع المستقل في تناقض مع حدود الوضع. ويصبح النشاط الحر-خارج هذا الوضع-نشاطاً لامحدوداً. والعالم الذي يعيش فيه الناس لا يحدد الا على اساس علاقتهم بالمستقبل، المستقبل الذي يضعونه نصب أعينهم.
وتبحث الحرية خارج اطار الوعي من وجهة نظر المثالية الذاتية، تتجاهل الترابط الدياليكتيكي بين الذاتي والموضوعي. وسارتر يضرب صفحاً عن الدور الحاسم للوضع، الذي يحدد اختيار الانسان، انه-اي سارتر- ينفي نشأة الذاتي من الموضعي. والحرية الشخصية التي تستغرق في ذاتها، لا محال واقعة امام وجه الأوضاع الخارجية، ومتعلقة بها. وتبين ممارسة الانسانية الاجتماعية والعلمية، ان تلك الصورة، اي صورة الوعي التي تعتبر انعكاساً للواقع الموضوعي، وعي قوانين الطبيعة والمجتمع هي التي تقدم للانسان الحرية الحقيقية. والانسان في امتلاكه لهذه الحرية لا يشعر بالخوف والهلع امام حتمية الوضع المعطى. بل على العكس انه يستخدم حريته من أجل التحويل الواعي للشروط الموضوعية المحيطة به.
والوجوديون في تحديهم لموضوعية العلم بل وللعالم الخارجي ذاته يغرون الناس في وهم الحرية المطلقة، ويخفون الامكانيات الواقعية للتحرر الأصيل. والحقيقة أن الانسان كما يتصورهالوجوديون يخضع وجود الأشياء، لأنه يقدم لها المعنى، ولكن لهذا يشعر انه فاقد ماهيتها الثابتة، ييشعر بنفسه أنه مطرود من عالمها. (كل الأشياء تقع في الخارج، الشجرة على الشاطئ، بيتان صغيران على الجسر، الشعاع الوردي الذي يلمع في العتمة، التمثال الفروسي لهنري الرابع... كل شيء له ثقل، وفي الداخل لا شيء، حتى الدخان، في الداخل لا شيء، لا شيء على الاطلاق. انا حر... انا عدم ولا أملك اي شيء. وكذلك أنا لست منعزلاً عن العالم كالضوء، ولكني بنفس الوقت مطرود، كالضوء العابر على سطح الحجارة والماء، زد على ذلك فانه لا شيء يلمسني ولا شيء يمتصني. وفي الخارج، في خارج العالم، خارج الماضي، خارج ذاته: الحرية هي الطرد، وأنا محكوم علي أن أكون حراً).
ويتسائل البير كامو: ترى لأجل اي هدف نعيش، وكيف يجب علينا أن نعيش؟ ترى هل هناك غاية ما للحياة؟ وفي وجودنا الخاص هنا امتلاك امكانية امتلاك كمال السعادة. يجب أن نعيش. ولكن كيف؟ (ان المأساة الحقيقية ليست مأساة المصير، بل مأساة الحرية، مأساة الحرية القاسية للروح، التي تشطرنا الى أنفسنا والى العالم).
ترى ما هي اسباب هذه الفلسفة الفاقدة الأمل، ما هو سبب هذه التشاؤمية المغرقة؟ ان السنوات التي شهدت فيها الوجودية الفرنسية انتشاراً واسعاً، وأصبحت احد الاتجاهات الرئيسية الفلسفية في فرنسا ترافقت مع اكثر المراحل مظلمةً في حياة فرنسا المعاصرة: الحرب (الغريبة)، الهزيمة العسكرية، الاحتلال، جلبت للشعب الفرنسي اللاسعادة، الفقر، وخلقت لديه شعوراً حزيناً بالدنو الأخلاقي. كما أن السياسة التبعية للبرجوازية الاحتكارية، واتفاقها المعيب مع المحتلين الألمان، السياسة اللاوطنية للطغمة العسكرية الحاكمة، كل ذلك أدى بالضرورة بالوطن الى الانهيار. غير ان جزءاً محدداً من المثقفين، وخاصة اولئك الذين ادركوا هذا الوضع، ولم يجدوا الطرق الواقعية للخروج من هذه الأزمة، طمحت لايجاد ملاذها في عالمها الداخلي، وفي التأكيد على حرية اناها المطلقة. ولا شك أن حركة المقاومة (التي اشترك بها عدد من الوجوديين أمثال سارتر، كامو، سيمون ديبوفوار، باتاي) والتي عبرت عن احتجاج الشعب كله ضد العنف الفاشي، اثرت تأثيراً ايجابياً على افكار الوجوديين السياسية، ولكنها لم تغير من مبادئهم الفلسفية.
ان عقدة التناقضات لم تجد حلها بل ظلت حتى بعد تحرير فرنسا. وأن المستوى العالي للتكنولوجيا التي تقع بصورة واضحة في تناقض مع مستوى الحياة الاجتماعية والفكرية، طابع الحياة الاجتماعية والانتاجية التي نمت خاصة في منظومة الرأسمال الاحتكاري، الاعلام الجماهيري (الصحافة، الراديو، السينما، التلفزيون)، تجاهل المشكلات الفردية للشخصية، كل هذا أدى الى ان تكون المؤسسات والتنظيمات البرجوازية ونشاطاتها مجرد قوى ضاغطة، قامعة للحرية الشخصية، وارادة الانسان والفرد. ان سارتر وكامو وبوفوار، اعداء الداء للرأسمالية، انهم محتجون بشدة ضد احتكار كرامة الانسان، ضد اغترابه وتحوله الى شيء، الى عمل. ولكنهم على الرغم من انتقادهم للمجتمع البرجوازي، لم يكن بمقدورهم ان يجدوا خلاً، لم يستطيعوا ان يطرحوا حلولاً. و(السلبية) لدى الوجوديين موجودة بشكل اكبر بكثير من ايجاد حل ايجابي للمشكلات. ولهذا تتحول الحرية لديهم الى مقولات سلبية، الى مجرد نفي، رفض، اي بوصفها حرية من، لا حرية (من أجل).
والاتجاه المثالي للحرية الفردية التي يحولها كل من سارتر وكامو الى مبدأ مطلق، الى جوهر ميتافيزيقي، تتحول عملياً الى مبدأ محدد بذاته، الى مبدأ منعزل عن العالم الواقعي، انها حرية الروح فقط. هذه الحرية غير مرتبطة بالضرورة، مستقلة عن الطبيعة والمجتمع، مستقلة عن شروط الحياة الواقعية، انها لا تشهد على مقدرة وقوة الانسان، بل على العكس من ذلك، تظهر ضعفه وعجزه. ولهذا فان الأمل الذي يتسلل الى حياة ابطال سارتر وشخوصه يجعل منهم انساناً بلا مستقبل: انطوان روكانتينا في (الغثيان)، مانيه ديليارو في (دروب الحرية)، أب واين فرن جيرلاخ في (زهاد التوني).
وهكذا فان سارتر وكامو في اعلانهم الحرية اللامحدودة والمطلقة يعكسون بصورة متشائمة فقدان الطريق امام انسان المجتمع البرجوازي المعاصر، يعكسون فقدان الأمل في خلاصه، ومصيره المأساوي، ولا سيما عندما يضعون قيمة الوعي والتاريخ، بل وفكرة الحياة ذاتها موضع التساؤل.

3- الحرية هي حرية الاختيار:
يظهر فعل الحرية أول ما يظهر في الاختيار، ويعلن سارتر أنه اذا كانت الحرية على اساس الفهم الاختياري هي القدرة على الوصول الى الأهداف المختارة، فان الحرية بالنسبة الى الوجوديين هي (استقلال الاختيار) أن توجد، يعني أن تختار بحرية ماهيتك، ان تصبح ذاتك، أن ترتفع الى مستوى الشخصية.
وأن من يوجد على هذا النحو، هو ذلك الذي يختار بحرية، يصنع نفسه، من يكون خالقاً لاختياره الخاص. اذا أحب الانسان أن يوجد فعليه أن يختار بدون توقف، لأن الحياة تعال دائم. أي أن على الانسان أن يتجاوز ما هو موجود. أجل ان الاختيار الحر لمصيري، لمستقبلي، لكل فعل، هو الذي يخلق الشخصية، كما يرى الوجوديون.
ويكتب سارتر في الوجود والعدم، بالنسبة الى الواقع الانساني: (ان توجد يعني أن تختار ذاتك) وهذا الاختيار يصنع الانسان في علاقته بذاته، بالاخر، بالمجتمع والعالم، في العلاقة بالحياة، بالحب وبالموت. وللاختيار لدى سارتر طابع مجرد، مطلق، ميتافيزيقي، انه يشتق من فكرة الوجوديين حول (شمولية) الانسان، حول الأفعال الحرة بشكل مطلق.
ومع ذلك، فمن الواضع أن الاختيار في هذه الحالة الواقعية أو تلك متعلق بأهدافنا، بتلك الدرجات من القيم التي تدركها. ولكن كيف نختار اهدافنا؟ على اساس اي من القواعد والمثل الموجودة؟ الوجوديون يؤكدون أن اختيار أهدافنا حر بشكل مطلق. أن لا يقوم على نقطة ارتكاز. كل انسان يخلق وبشكل حر قواعد الحقيقي، الجميل والسامي. والاختيار العميق الذي يحدد قرار كل حياتنا يعتبر من وجهة نظرهم في وحدة مع الوعي الذي نملكه عن ذاتنا. والوعي بدوره متوحد مع الوجود ومع تلك الأهداف التي تضعها أناي أمامها، وهذه الأهداف حرة كذلك كالأنا.
ولكن اذا كانت حياتنا الداخلية حرة، ترى الا يعني ذلك أن الانسان انما يفعل تحت تأثير الانفعال، تحت تأثير الفزع الأعمى، وأن حياتنا الداخلية لا تخضع لأي دوافع، ولا تتضمن صوت العقل؟ ان المعيار المجرد في جوهره للاختيار الذي يعلنه سارتر ليس بمقدوره أن يقدم للانسان المعالم في نشاطه، انه غامض الى حد كبير وغير محدد، انه لا يساعد الانسان في اختيار هذه الحل أو ذاك.
ولا شك أن الفهم العلمي للاختيار الحر لا بد وأن يتضمن طبيعة عقلية، فالاختيار الحر دائماً اختيار واع، والانسان يختار بوعي (واقعة ممكنة) من جملة الوقائع. والنشاط الاختياري للانسان ليس نتيجة حريته المطلقة، انه مشروط بجملة معقدة من القوانين الداخلية والخارجية، التي تؤدي الى اختيار واعي، منطقي وحر لهذا الحل أو ذاك. والاختيار الحر بحد ذاته لا يمكن أن يكون منعزلاً كليةً عن الشروط الخارجية، المستقلة عن ارادة الانسان، أو منعزلاً عن قوانين وتطور المجتمع، الذي يعتبر هو جزء منه. ولا شك أن مصير الانسان الفرد في كثير من الحالات مرتبط بذاته نفسها، كما أن تاريخ الانسانية مرتبط بنشاط الناس. ولكن حريتهم تقع دائماً في ترابط دياليكتيكي مع القانونية العامة لسيرورة العالم،مع المسار التقدمي للتاريخ. ولكن ترى، ما الذي تقدمه للانسان حرية الاختيار المطلقة غير المتعلقة بأي من الشروط الموضوعية؟ أسلحه بمعرفة قوانين الطبيعة والمجتمع. أتقدم له المبادئ والمثل الأخلاقية، اتساعده في ايجاد معايير لحقيقة أفعاله وسلوكه؟ طبعاً لا. هذه الحرية الوهمية الساحرة تزيف للانسان ثقل المسؤولية الكبيرة والمخيفة، مسؤولية من أجل مصيره، من أجل مصير الانسانية كلها. لقد كتب سارتر يقول: (في اختياري لنفسي أقوم بخلق العالم)، ويؤكد أن الحرية، هي حرية الاختيار، انني حر في اختيار هذا أو ذاك، ويعني لا استطيع التخلص من الاختيار، ومن هنا ينتج ان الاختيار ما هو الا الوجود الأساسي المنتخب من قبلي، وليس اساس الاختيار ذاته. اذاً فان الاختيار ذاته لا اساس له، وفي جوهر الأمر لا سبب له.

4- الاندراج:
ان وهم الوجود الانساني وزواله غالباً ما يخفف من وقعهما أن الانسان بطبيعته الجسدية، بكليته منذ مولده مندرج في العالم الى جانب ارادته، وفي ذلك واقعية وجوده ومصيره الحتمي. وهذا االاندراج أو (التضمن) الذي يحدده سارتر هو صفة المصطلح الوجودي Engagement الذي يحدد اندراج الانسان السلبي في العالم وارتباط الجسدي المحض معه-من جهة- ومن جهة اخرى يعني هذا المصطلححرية الاندراج المفاعلة ونشاطه.
وفي الكتبات المبكرة لسارتر يجري الحديث عن حرية الحد الأدنى، هذه الحرية التي تقع في علاقة مع العالم في عقل العالم بدون اندراج فيه. اما فيما بعد فان سارتر يؤكد الطبيعة الابداعية للحرية. لقد كتب يقول: (ان الحرية لا تتشكف الا بالفعل، مكونةً معه كلاً واحداً... وليست الفضيلة الداخلية هي التي تقدم للانسان الحق في الانفصال عن الحالات الملحة... بل على العكس من ذلك، ان الامكانية متضمنة في الفعل الحاضر وتبني المستقبل). والانسان المندرج في هذا الوضع، (فحتى لو كنا صماً عمياً كالحجر، فان هذا المصطلح يعني الارتباط. سلبيتنا تبقى تفعل فعلها) فالانسان مرتبط بمصير عصره حتى نشاطه ما هو الا صورة من صور العلاقة، شكل محدد من أشكال الفعل. فاذا ما رفض الانسان الانتخاب (مع) أو (ضد) فان هذا ليعبر عن وجهة نظره، ويندرج بوعي في الوضع، وليس العكس، فان هذا يعني انه في نهاية الأمر اختار ان لا يختار.

5- القلق:
ان ضرورة الاختيار-كما يرى سارتر-والمسؤولية المترتبة عليه تخلق لدى الناس وضعاً مؤلماً من الكابة والقلق. والقلق لا يقدم البرهان على الحرية، ولكنه البنية الأساسية للحرية، ووعيها الخاص. والقلق ما هو الا نتيجة، لأن الانسان مجبر باستمرار على اصدار حكم حول معنى العالم وحول ماهيته.
لقد اكد سارتر في كتابه (تجاوز الأنا) عام 1937 على المعنى الأنطولوجي لهذا المفهوم جاعلاً من القلق الصورة الوحيدة لارتباط العالم مع (أناني) فالانسان لا يملك وجوداً اصيلاً بل يملك امكانية ان يصبح هذا الوجود. أن يشعر بنفسه وقد وقع في (العدم)، ملتصق بالفراغ. ومن هنا القلق والشعور المأساوي بامكانية بناء الذات الحر. والقلق في وقوعه بين الامكانية والواقع يكشف عن الوجود ذاته ويقترح عليه تحقيق ذاته. وأما العالم اللامعروف والخطير، العالم الذي رمي فيه الانسان بدون أي اختيار من جهته، يكون الشعور الأولي هو شعور الخوف والخوف يملك موضوعاً محدداً، أما القلق يعطل. انه ما قبل الشعور المأساوي. وبالخوف أفكر، أما القلق فهو أنا بذاتي. القلق هو عالم الارادة الحرة الدائم، انه الامكانية التي لا تعرف حدوداً. الخوف هو دائماً علاقتي مع شيء ما يقع خارجي. القلق هو احساس بالفراغ (بالعدم) في عالم اناي الخاص.
وهناك واقعة أن الانسان في كل لحظة ليس هو ماضيه، وليس مستقبله، ولكنه من جانب اخر هو هذا الماضي وهذا المستقبل، هذه الحرية أن تكون بنفس الوقت وجوداً ولا وجود، والوجود يستدعي لدى الانسان دائماً شعوراً بالقلق. واذا كان كير كيجارد يسمي القلق قلقاً في مقابل الحرية، وهادغر ما يحيط بالعدم، فان القلق بالنسبة الى الوجوديين الفرنسيين شكل وجود الحرية. في القلق يعي الانسان حريته كما هي وجود، الوجود بذاته بوصفه اشكالية. لقد كتب سارتر في كتابه الوجود والعدم. يقول: (في القلق تمتحن الحرية هذا القلق امام نفسها. (أشعر بنفسي اني حر بشكل كامل، وبنفس الوقت عاجز احول دون ان تتكشف غاية العالم أمامي). هذه فكرة مجردة ما. اما من الخير العام، او العقل المطلق، الحقيقة برهنت الفلسفة البرجوازية قبل كل شيء على قواعد أخلاقية، انطلاقاً من القوة وهذا العجز بنفس الوقت يجعلان من الانسان عبد حريته. والوجوديون (اليساريون) يتحولون الى التناقض المأساوي، الذي يكمن في ضرورة الاختيار من قبل الناس الذين لا يملكون أي مبدأ من مبادئ الاختيار أي معيار من خلاه يمكن أن يحكم على صحة أو عدم صحة الحل الذي يرون.
ويولد غياب قواعد السلوك شعوراً بالقلق والألم لدى الانسان الوجودي واحساساً بالاضطهاد لالقائه في العالم الذي يجب أن يعيش فيه ويختار.

6- المسؤولية
يرى سارتر أن القلق يتزايد عندما يكون حراً ويشعر باستمرار بمسؤوليته أمام العالم والبشر. والمسؤولية مرتبطة ارتباطاً لا تنفصم عراه مع الحرية. انها لتؤكد أن الانسان وحده هو سبب ومعيار هذا السلوك أو ذاك، هذا الفعل أو هذا الوضع. يقول سارتر في كتابه (الوجود والعدم) : (ان الانسان الذي حكم عليه بالحرية يحمل كل ثقل العالم على كتفيه، انه مسؤول عن العالم وعن نفسه بوصفه الشكل المحدد للوجود).
ويعطي سارتر لمفهوم المسؤولية أهمية كبيرة. دون أن يخرج-ومع ذلك- خارج الاحساس الذاتي للشخصية الفردية. فمن وجهة نظر سارتر، كل شيء يجري معي هو لي، كل وضع هو وضعي، لأن هذا الوضع ما هو الا انعكاس لاختياري الحر الذاتي، (لأناي) ولهذا فلا وجود في الحياة لما هو خارج الوضع الانساني، ولهذا لا وجود للصدفة. فلا تنشأ حالة اجتماعية بشكل مباغت، أو تجذبني فجأة، تخلق من الخارج، (فاذا ما جندت للحرب، فان هذه الحرب هي حربي، اني مذنب وانا اشترك بها. اني أشترك بها لأني كنت استطيع أن أتخلف عنها، استطيع أن اصبح هارباً من الخدمة أو انتحر، واذا لم افعل ذلك فهذا يعني اني اخترتها... وأحمل وسؤوليتها).
وهكذات فان سارتر يفهم المسؤولية عن الحالات السياسية والاجتماعية... الخ انطلاقاً من فهم الارادي للحرية. ويعتبر أن الانسان مسؤول عن جميع الظواهر الفردية الاجتماعية التي تجري في العالم. لأن أحداً غيره لا يستطيع أن يحلها. (هذه المسؤولية لم تقدم لنا من الخارج، انها النتيجة المنطقية البسيطة لحريتنا).
الانسان يشعر بمسؤوليته ازاء هذه الحالات بفضل أفعاله الحرة، تقييمه الحر، وبفضل اختياره الحر.
وفي حديث سارتر المتناقض حول المسؤولية الفردية، فأنا لم اسألهم أن يولدني-كما يقول سارتر-ولكني في جميع علاقاتي-بجميع اشكال فعلي أمام واقعة ولادتي: (الخجل أو الكبرياء، التفاؤل أو التشاؤم) اخترت بشكل عام أن أكون مولوداً. فاختياري للخجل والاحتقار من قبل المحتل الألمانء يجب أن اكون مسؤولاً عنهما، اني اخرت ذلك، (اننا لا نفعل كل ما نريد ولكنا مسؤولون على الأقل على ما نحن فيه: انها حقيقة لا جدال فيها).
وسارتر مصيب عندما ينظر الى المسؤولية بوصفها مقولة اساسية من المقولات الأخلاقية، ولكنه في حديثه عن مسؤولية الفرد الشخصية عن اختيار طريقة سلوكهـ فعله يلوذ بالصمت حيال المعنى الاجتماعي لهذه المسؤولية. وفي الواقع فان المسؤولية لا يمكن حصرها في مجال حرية الفرد الشخصية، ووعيه الفردي واختياره.

انثروبولوجيا سارتر
وسارتر في اعلانه بأن (الوجودية مذهب انساني، يعارض بفهمه لهذا المذهب الانساني البحث الماركسي له. ويعتبر أن الانسانية ليست متعلقة بالمجتمع، انها عمل خاص لكل فرد. وانما بمفردي اصوغ حريتي).
وهذا الفيلسوف الفرنسي ينفي الطبيعة الموضوعية للقواعد والمعايير الأخلاقية. ويؤكد انه لما كانت الانطولوجيا تدرس فقط ما هو موجود، فانه من غير الممكن اخراج الأوامر الأخلاقية منها، اياً كانت هذه الأوامر. وسارتر لا يوافق الانسانية الماركسية التي تنظر للانسان نظرة واقعية-تاريخية، اي بوصفه شخصية اجتماعية، لا يريد ان يوافق على تلك الحقيقة المؤكدة تاريخياً وهي (أن الفرد لا يحصل على الوسائل التي تقدم له امكانيات التطور الشامل لمواهبه الا في الجماعة، اذ ان الحرية الشخصية ممكنة في الجماعة فقط).
ومن الاطروحة الوجودية القائلة بأن كل انسان يخلق أوامره الأخلاقية ويستخدم قواعد أخلاقية خاصة به، ينتج أن جميع أنماط السلوك الانساني واحدة، ولا واحد من هذه الأنماط يملك قيمة موضوعية، فالانسان يفعل قبل معرفته بأن نشاطه لا يملك اي قيمة موضوعية، أو قواعد واقعية ما، ولهذا يقول سارتر: (ان الانسان ما هو الا اندفاع غير مفيد).
وعلى الرغم من النزعة الذاتية في تقييم كهذا، فان سارتر محق عندما يجري الحديث حول ذلك الجزء من المثقفين ومن البرجوازية الصغيرة التي في فقدها الثقة في الواقع الرأسمالي المعاصر، وتألمها من مبادئه ومثله، فقدت كذلك الثقة بشكل عام في التقدم الاجتماعي، في المستقبل الأفضل للانسانية. فبالنسبة لها، كل نشاط محتوم عليه بالاخفاق، فاقد لأي معنى، أما بالنسبة للبشر الذين يملكون هدفاً واقعياً، لاعادة بناء المجتمع، الذين يثقون بامتلاك العلم والتقدم التاريخي، والذين يبرهنون علمياً على الاتجاه العام للتقدم، فان هذه التشكيلة الأخلاقية غير مقبولة. أما فيما يتعلق باسرتر فان نظراته الأخلاقية قد اصبها تطور ملحوظ. واذا كانت كتاباته المبكرة بما فيها كتابه (الوجود والعدم قد اصطبغت باتجاه سلبي، ينفي جميع القيم والقواعد الأخلاقية الموضوعية، فانه في (نقد العقل الدياليكتيكي) يحاول أن يجد مخرجاً من أزمة الوعي الفردي الأخلاقي، ويبحث عن طريق لتجاوزه، ولكن هيهات أن يجده، انه يدعو الى وضع اس: مقدمة لكل انثروبولوجية مستقبلية) اي بناء فلسفة وجودية للانثروبولوجيا، بوصفها الامكانية الوحيدة لفهم الانسان، وللكشف عن تطور عن دوره في تطور المجتمع وبناء التاريخ.
وسارتر الذي اعتبر نفسه ماركسياً، يتهم الماركسية بأنها سلخت انسانية الانسان، وأفقدته معناه في تحويله الى مخطط: فالماركسية تلقي جانباً كل حدث واقعي صدفي في الحياة الانسانية، واضعةً هياكل مجردة من العموميات.
ولهذا فالوجودية تدعي أنها تأخذ على عاتقها رسالة عظيمة في استعادة الانسان لحقوقه، اعادة ماهيته الأصلية اليه بوصفه مبدأً حياً مبدعاً، وكائناً تاريخياً واقعياً. وسارتر في هذا الاطار لا ينفي أن تكون التناقضات الطبقية اسلوب الانتاج والعلاقات الانتاجية عاملاً محدداً بشكل عام للعلاقات المباشرة بين الناس بعضهم ببعض، كما أنها تحدد المستقبل الاجتماعي-الانساني (ولكن بمعزل عن البشر الأحياء لا وجود للتاريخ)، ويصرخ سارتر كما
لو أن ذلك ينفي الانسانية.
ان الماركسية-بخاصة- هي التي اثبتت علمياً وعملياً أن التاريخ انما يصنعه البشر، ولكنهم لا يصنعوه بناءاً على اهداف ذاتية شخصية منفردة، كالبطل، أو الزعماء التاريخيين العظماء، بل بناءاً على قوانين التطور التاريخي الموضوعية. وتتميز الماركسية في فهمها للتاريخ، عن جميع النظريات الاشتراكية الاخرى، بوحدة الوعي العلمي في تحليل الوضع الموضوعي للأشياء والمسار التاريخي للتطور، مع الاعتراف الحاسم لأهمية الطاقة الثورية، والابداع الثوري، ومبادرة الجماهير الثورية، وكذلك بأهمية الشخصية، الجمعيات، التنظيمات، الأحزاب التي تستطيع تلمس وتحقيق الارتباط مع هذه الطبقة أو تلك، كما يقول لينين. وفي هذا الاطار، أكد لينين ايضاً ان افكار الضرورة التاريخية لا تقلل من دور الشخصية في التاريخ أبداً. أما سارتر فيؤكد انه اذا ما وصل ماركس الى التقييم الصحيح للشخصية فانه لم يصله الا بعد تحليل عياني للوقائع التاريخية الملموسة، في حين أن الماركسيين (الكسالى)، بلغة سارتر، باستخدامهم منهج (العرض المحض) يقومون بحشر المضمون الحي لعصرنا، وبخاصة انسان هذا لزمن في اطر قديمة مجردة من أطر المادية الميكانيكية.
وسارتر معمماً بشكل تعسفي جملة أخطاء بعض كتاب البحوث الفلسفية والاجتماعية-السياسية، يقوم وبدون اي اساس بالصاق تهمة غياب الانسان في الفلسفة الماركسية كلها. كما يقوم ميرلو بونتي على شاكلة سارتر باتهام الماركسية (بالاقتصادية المبتذلة) عندما يبدو له ان الناس انما يندرجون في الاقتصاد وينظر الى حياتهم الروحية بوصفها نتيجةً للعوامل الاقتصادية.
(يجب ايقاف ضياع الانسان)-هكذا يعلن ميرلو بونتي، وعلى هذا الوتر يعزف سارتر مقترحاً أن تكون الوجودية (انثروبولوجيا الماركسية).
وتنبع الانثروبولوجيا السارترية من المبادئ الأساسية الأنطولوجية المعرفية للوجودية. ومن مفهومها الأساسي حول الموجود بوصفه واقعاً انسانياً ابداعياً متطوراً بشكل جزئي خالقاً لذاته بشكل أبدي.
واذا كانت الماركسية تنطلق من أولوية القوانين الموضوعية، الاجتماعية-التاريخية بالعلاقة مع الارادة الحرة للبشر، من اسبقية المجتمع على الشخصية الفردية، واذا كان تاريخ المجتمع هو تاريخ تطور القوى المنتجة وعلاقات الانتاج قبل كل شيء، زكذلك تاريخ التطور الروحي للانسانية، ثقافتها، علمها، افقها، فان سارتر يحاول أن يقنعنا بأن الشخصية هي الأولى اجتماعياً، انها دياليكتيكية بشكل اصيل، أما المجتمع، الجماعات، فهي الثانوي، الخامل. ان موضوع التاريخ هو الانسان الفرد في شموليته، في جميع افعاله، اهوائه، وحاجاته. ان جزئية السلوك كما يرى سارتر، هي قبل كل شيءالواقع لعياني لوضعها الشمولية المعاشة، وهذا ليس صنعة للفرد، بل الفرد حصل عليها بكليته التي حصل عليها في علمية تموضعها. هذا الفرد الشمل، هو لدى سارتر اساس المجتمع، والتاريخ والدياليكتيك.
ويقبع الدياليكتيك التاريخي بجملته خلف الممارسة الفردية الحرة. والممارسة الفردية بخاصة، اي توجه الانسان في العالم، قواه وابداعه الخاص ما هي الا النقطة الأساسية لمجمل الدياليكتيك. وكذلك للحرية، انها التي تخلق مشروع العملية الكلية.
وماركس متوقعاً تفكيراً على هذا النحو كتب في (العائلة المقدسة) يقول (اذا كان الانسان بطبيعته موجوداً اجتماعياً، فانه اي الانسان لا يمكن أن يكور طبيعته الحقيقية الا في المجتمع فقط، واذا ما حكمنا على قوى طبيعته فيجب الا نحكم على اساس قوى الأفراد المنعزلين، بل على اساس قوى المجتمع ككل).
وسارتر يأخذ على الماركسية (المعاصرة) انها لا تعترف بقيمة ومعنى الموضوع مدرجة هذه لأهمية في المادية الخاملة المحضة، انها تجعله فاقد المعنى، وتخرج الحق من الواقعة-طبعاً كما يرى سارتر جاعلاً من الماركسية فلسفة مبتذلة.
ومعنى الفعل وقيمته يمكن وعيها في المستقبل فقط، من خلال الحركة التي تحقق الامكانية، وتكشف عن الحقيقة المعطاة، والانسان في واقعيته موجود له (معنى) اي حاملاً المعنى ليس فقط في ذاته وفي البشر الاخرين، بل وفي العالم أجمع.
ومن هنا يستنتج سارتر: انه اذا كان من الحق ان تحرر العلوم الطبيعية من التشبيهية (أو التجسيمية) فمن الخطأ ان نطرد التشبيهية من فلسفة الانثروبولوجيا. ويؤكد سارتر أن ما هو صحيح وهام عند دراسة الانسان هو أن ندرس الصفات الانسانية بخاصة. وكلن كيف يرى سارتر بناء (فلسفة الانثروبولوجيا) على هذا الأساس غير الثابت كالحياة الداخلية للانسان الفرد، وتوتره الفردي وممارسته الخاصة؟ ان الماركسية لا تنفي، بل على العكس تؤكد أن التاريخ ما هو الا مجموع أفعال الشخصيات، الذين يعتبرون بلا شك شخصيات فاعلة.
ولكن قيمة السؤال تكمن في: هل تفهم هذه العملية التاريخية يوصفها ثمرة نشاط وحدة ميكانيكية من الأفراد، الذين يظهرون ويتغيرون صدفةً، ام اظهار مفهوم التشكيلة الاجتماعية-الاقتصادية، بوصفها مجموعة العلاقات الانتاجية، اظهار ان تطور تشكيلات كهذه ما هو الا عملية طبيعية-تاريخية).
ان العيانية التاريخية التي يقدمها سارتر بدلاً من (مجردات الماركسية الخاوية)، هي بحد ذاتها تجريد محض، لأنها، أي (العيانية التاريخية) منعزلة عن العلاقات الموضوعية، وقانونية الواقع الاجتماعي-التاريخي ذاته. وسارتر من حيث هو مفكر وكاتب، اسير جملة من المبادئ الاجتماعية-الفلسفية المثالية، التي تقوده الى نتائج سياسية رجعية. وعلى الرغم من العلاقة النقدية لسارتر اتجاه المجتمع البرجوازي، ورذائله التي يسخر منها بحدة، وتعاطفه الأبيض مع الاشتراكية، فان وعيه المتردد البرجوازي الصغير المتجه نحو دور النشاط الذاتي في تقصير العالم والمتجاهل الشروط الواقعية الموضوعية للحالة التاريخية، جعلته متوحداً مع المجموعات اليسارية المتطرفة بكل نتائجها.
ويظهر افلاس سارتر أكثر ا يظهر في تأكيده ان اساس الوجود الاجتماعي ليست الشروط المادية للحياة، بل التجربة المتوترة الداخلية للانسان قبل كل شيء.
والانسان يحتل وسط الموجودات الحية مكاناً خاصاً، لأنه:
1- الوحيد الذي يمكنه أن يكون موجوداً تاريخياً، أي، هو الكائن الذي يعين ذاته باستمرار عن طريق ممارسته الخاصة.
2- لأنه الوحيد وسط الموجودات الحية (الموجودة).
ويعود سارتر للتأكيد، ان الواقع الانساني هو الانسان الموجود. ان الوجود الانساني (الذي يستدعي الاستفهام)، اي، ماهية الوعي الانساني، هو الذي يحدد كل الممارسة الاجتماعية-التاريخية. والوعي كما يفسره سارتر وعي ممارسي حتماً، انه هو الذي يغير ما هو معروف، تماماً كما تشكل التجربة في الفيزياء الدقيقة موضوعها بشكل ضروري.
وعلى ذلك، فعلى الرغم من أن الوجودية انطلاقاً من مبادئها الأساسية، لا يمكن أن تكون دراسة مطابقة للماهية الانسانية، غير قادرة على الكشف عن الطبيعة الانسانية، فانها تدعي أنها قادرة على الكشف عن تأسيس نظري للوجود الانساني، اي تعلن عن نفسها انها الانثروبولوجيا الفلسفية الأصيلة. وهذه الانثروبولوجيا الوجودية تظهر بشكل جديد تحت اسم (ايديولوجيا الوجود).

دياليكتيك الشخصية، ودياليكتيك التاريخ
من السمات المميزة للأيديولوجيا الوجودية (الجديدة) كما يعتقد سارتر، انها طبيعة دياليكتيكية. ذلك لأنها تنظر الى الواقع الانساني في عملية (صنع الذات) المتطور في المجتمع، الذي هو الاخر يقع في حركة مستمرة في خلق الشمول. والشخصية الانسانية المتعرضة لتأثير معين من الشروط الخارجية هي بالنسبة الى سارتر (جنين اساسي نشط) لتطور المجتمع، بوصفه (اي الشخصية) نقطة متحركة في العملية التاريخية، وجميع الكميات الاجتماعية تنمو من الوجود الكلي للفرد المنعزل.
طبعاً، اذا لم يكن هناك من شخصيات فرده، ما كان المجتمع موجوداً اصلاً، ولكن سارتر يخظئ خطأً فادحاً. اذ انه يعتبر الشخصية الفدية السبب الأساسي للمجتمع. فالشخصية وفي كل ثراها الداخلي وتنوعها الفردي تبقى دائماً جملة العلاقات الشخصية، وثمرة المجتمع، وفي هذا يكمن دياليكتيك تطور الشخصية. انها لا تنحل الى مادة خاملة، لا تذوب في المجتمع كليةً، لا تتحول الى (شيء عديم الشخصية)، بل على العكس من ذلك، انه يتحول داخلياً، ويتغير. (وكما أن المجتمع بنفسه يخلق الانسان، بوصفه انساناً، وكذلك الانسان يخلق المجتمع). وفي هذا تكمن العملية الدياليكتيكية العميقة للترابط المتبادل الواعي للبشر، وبين الضرورة التاريخية الموضوعية. اننا لا يمكن أن ننظر الى الانسان بوصفه جزء منعزل، منفصل عن العالم والبشر الاخرين، ومهما كان الانسان مغرقاً في عالمه الداخلي، فانه لا يستطيع الوجود خارج الترابط مع العالم الخارجي، فأنا أعيش في عالم محدد ومشروط تاريخياً، أعيش في تشكيلة اقتصادية عيانية، في عالم العلم المعاصر، والتقنية والفن والأدب والسياسة والأخلاق. لا أستطيع بناءاً على رغبتي أو ارادتي الحرة أن أقفز عن هذا العالم الحاضر. ويقع هذا العالم في تغير مستمر، في صيرورة أبدية، وأنا أعيش وأتطور معه. وفي هذا العالم الخارجي، والواقع الموضوعي يشكلان اساس علاقاتي مع الاخرين، ومع المجتمع بشكل عام. وروسو في وقتهمعطياً الأهمية القصوى للاحساس، وتعلق كل واحد منا بالاخر، لاحظ أن ما يميز تطور المجتمع، هو تعقد العلاقات الاجتماعية نتيجة التعلق المتبادل بين الناس بعضهم ببعض وبالعالم الكل.
ويستند الفهم الوجودي للانسان على الاعتراف بالدور الأولي للوجود الانساني ونشاطه الفردي وممارسته، غير اخذ بعين الاعتبار المنظومة الواقعية للقوانين الموضوعية التي تحيط بالانسان، والتي تعينه في المحصلة الاخيرة.
وفي ذلك، تظهر الطبيعة الذاتية المبالغ بها لاتجاه سارتر حول الانسان، الذي ينطلق من أن الظواهر الاجتماعية، العلاقات المتبادلة بين الطبقات، والجماعات الاجتماعية المختلفة، ان التجربة الفردية تحددها، أي انها مشروطة بالنهاية بعوامل نفسية.
والحقيقة، أن سارتر في مؤلفه الأخير يطمح الى اجراء تحليل لدياليكتيك العقل الانساني الفرد، ورفعه الى مستوى التعميم النظري. كما يطمح الى اظهار (شمولية هذا العقل) في اطاره التاريخي، والكشف عن حقيقة الانسان وحقيقة التاريخ. ولكن سارتر مبالغاً بدور العامل الذاتي في العملية التاريخية، لا يرى ضرورة لتقديم البرهان العلمي على القانونية الضرورية لهذا التطور. ويصبح الدياليكتيك برأي سارتر التاريخ أو العقل التاريخي على اسس الوجود الفردي فقط. ولا نستطيع الشكف عنه بدون الحاجات، بدون التسامي وخيال الشخصية الانسانية. وهكذا، محرفاً الترابطات الواقعية للتطور الاجتماعي بوصفها الدياليكتيك الموضوعي للعملية الطبيعية التاريخية، يستعيض عنها بالعالم الداخلي (للانسان الشامل).
ويعلن سارتر (ان الانثروبولوجيا تبقى دوماً من أخطاء المعرفة التجريبية، والاستدلالات الوضعية. والتفسيرات الشاملة اذا لم تقر بقانونية العقل الدياليكتيكي، اي لم يكن لدينا الحق في دراسة الانسان، الجماعات، الناس او الموضوع الانساني على اساس تحليل شامل لأهميتها، اذا لم نعترف بأن كل معرفة جزئية لهؤلاء الناس او ثمارهم يجب أن تتجاوز وترتفع الى (الشمولية الكاملة)، وألا يجب أن تظل هذه المعرفة جانباً بوصفها لا قيمة لها.
والاتجاه الدياليكتيكي الذي يعرضه سارتر في كتابيه (الوجود والعدم) و(نقد العقل الدياليكتيكي) انما ينطلق من المبدأ الأساسي في تقسيمه العالم الى مجالين متناقضين: عالم الوعي، وعالم الأشياء. وسارتر مجزءاً وحدة العالم المادية والتي يسميها (الوحدة المادية الذائعة) يؤكد أن الدياليكتيك يجد موقعه الحقيقي في (العالم الاجتماعي والتاريخي)، ولا وجود له على الاطلاق في الطبيعة. ومن وجهة نظر سارتر لا يمكن أن يكون في الطبيعة أي من الدياليكتيك. وأن انجلز في فرضه قوانين الدياليكتيك على الطبيعة وجعل العلم يؤكد هذه القوانين انما (شوه الدياليكتيك)، وسارتر في تسميته لاكتشافات انجلز لقوانين دياليكتيك الطبيعة (قوانين لا عقلية، صورية، غير مناسبة)، انما يغلق عينيه امام واقعة ان قوانين دياليكتيك الطبيعة اصبحت بشكل عفوي وغير محدد قوانين الحياة والتطور لمجمل العلوم الطبيعية المعاصرة.
لقد لاحظ ديدرو في عصره أن من الضرورة تطوير فكرة التتابع المنطقي في الطبيعة، ولقد أكد جملة من العلماء الفرنسيين العظام هذه الفكرة أمثال: يوفون، لامارك، جو فرواسنت. لقد برهنوا على أن تاريخ الأرض والطبيعة تطورت تطوراً دياليكتيكياً، كما برهن الفلاسفة الفرنسيين على ان الدياليكتيك في تفسير الوجوديين والفلاسفة البرجوازيين الاخرين يغدو فقيراً الى حد كبير.
والفلاسفة البرجوازيين، طارحين جانباً كل ثراء النظرية المادة في التطور، ينظرون الى الدياليكتيك من حيث هو نشاط ذهني للفرد، بوصفه ثمرة الوعي، وغير متعلق باالعالم الخارجي. وأن نفي الدياليكتيك الموضوعي وقانونية التطور الطبيعي التاريخي يجد اساسه من الفهم الخاطئ للدياليكتيك المادي، الدياليكتيك بوصفه انتقال ميكانيكي من الأدنى الى الأعلى.
ولقد وقف الماركسيون الفرنسيون بدءاً من الثلاثينات ضد تحريف كهذا للدياليكتيك الماركسي. لقد اكدوا انه بدون الدياليكتيك في الطبيعة لم يكن من الممكن وجود الدياليكتيك في الفكر. ذلك ان دياليكتيك المعرفة ذروة الدياليكتيك الذي يسم العالم أجمع. والفلاسفة الماركسيين الفرنسيين داحضين الفكر الضد-ماركسي الذين يعتبرون أن الماديين يجعلون من التاريخ شيئاً طبيعياً، ذلك انهم ينقلون قوانين الدياليكتيك من الطبيعة الى المجتمع، وفي هذا يفقدون الانسان تنوعه.
ان نفي الدياليكتيك في الطبيعة، والاعتراف بأن المجال الوحيد للدياليكتيك هو مجال الفكر والنشاط الانساني، هو سمة تسم اغلب الفلاسفة البرجوازيين المعاصرين. و(ميرلو بونتي) يعتبر بعد أن يصوغ اتجاهه الدياليكتيكي الضد-ماركسي في كتابه (مغامرة الدياليكتيك).
ان المجتمع يتطور لا على اساس قوانين موضوعية، بل يتطور بناءاً على (اختيار ارادي) لهذا القائد السياسي أو ذاك. ان هذا الاتجاه الارادي يبرر كل نظام رجعي، وكل سياسة اعتداء وعنف. وميرلو بونتي مخترعاً (الماركسية الغربية) يقوم بابراز تناقضها مع ماركس ولينين، ودياليكتيكه يفتقد الى اي طابع علمي. ويبقى دياليكتيكيه نظرية فينومينولوجية، نسبية من النظريات المثالية. ولقد قامت الصحافة الفرنسية التقدمية بكشف الاتجاه اللاعلمي لميرلو بونتي، وفضحت موقفه السياسي الرجعي.

الماركسية والوجودية
لقد أكد سارتر في اتهامه ل(الماركسية المعاصرة) بفضلها النظرية عن الممارسة، في تحويل النظرة الى معرفة متحجرة، أكد أن الماركسية وقفت عن التطور وبالامكان بعضها على اساس الوجودية فقط. كما أنه في طموحه بناء نظرية علمية للتطور الاجتماعي، تكون تطوراً مبدعاً للماركسية، يظل في حقيقة الأمر في موقف ضد-ماركسي. فرفض الاعتراف بالدور المحدد الذي تلعبه قوانين تطور المجتمع الموضوعية في تكوين الانسان، بفتح الطريق أمام مذهب الارادة. وكما لاحظ كلاسيكيو الماركسية أن حذف العناصر المادية من التاريخ يجعل بالامكان فسح المجال-وبسهولة اعطاء نزع اللجام عن حصان التطور.
ان تجاهل الأهمية الأولى لحا التناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الانتاج في المجتمع الرأسمالي، وعدم فهم العلاقات الطبيعية يقود الوجوديين الى نتيجة مثالية مجردة، ميتافيزيقية فيما يتعلق بالمسار اللاحق لتطور البشرية الاجتماعي.. ان سارتر-وبخاصة في الجزء الأول من كتابه (نقد العقل الدياليكتيكي) باحصاً عن الصور المختلفة للعلاقات الاجتماعية المتبادلة بين البشر-علاقات الجماعة، الحلقات، الفرق-يستبدل عملياً التحليل الطبيعي بوصف الأحداث الاجتماعية المختلفة، ولكنه في هذا الوصف لم يكشف عن أهميتها الاجتماعية ولم يظهر دورها في تطور المجتمع والتاريخ. وسارتر-في الحقيقة-يؤيد المبدأ العام لكل الوجوديين اللذي يكمن في أن الانسان يفقد فرديته، في وقوعه في اطر تنظيم اجتماعي ما. واتهام سارتر الماركسية بالتخطيطية و(التجريد) يجعله لا يرى فيها منهجاً لدراسة شاملة (عيانية) للانسان والتاريخ.
لقد برهنت الماركسية نظرياً وعملياً على أن قوانين تطور المجتمع لا تنفي كلية أهمية العامل الذاتي. بل على العكس من ذلك، فان هذه القوانين تتحقق وتصبح واقعية بفضل النشاط الممارسي للبشر. لقد كتب لينين مشيراً الى الدور المتنامي للعامل الفردي في التاريخ، والى تغير حامله التاريخي، يقول: (منذ مائة عام ونيف قام نبلاء الجبال ومجموعات المثقفين البرجوازيين بصنع التاريخ بينما كانت جماهير العمال والفلاحين حالمة ونائمة. حينئذ استطاع التاريخ أن يسير بقوة هؤلاء، ولكن ببطئ شنيع. أنه (اي التاريخ) يطير الان بسرعة القاطرة. ان من يصنع التاريخ في هذا الوقت ملايين وعشرات الملايين من الناس وحدهم).
وملخصين ما قيل يجب أن نؤكد، أن الاختلاف الكامن في أبحاث الوجوديين حول الشخصية، كنظرية مارسيل الدينية-التصوفية، وانثروبولوجيا سارتر الوجودية، تقف عملياً ضد الفهم الماركسي للانسان والتاريخ. ولكن اذا كان مارسيل لا يخفي عاطفته العدائية نحو الماركسية، فان سارتر الذي وصف الماركسية بأنها فلسفة العصر التي لا يمكن القفز فوقها، وبشكل صريح، غير أنه وفي الفترة الأخيرة ودون اي ثنائية في التفكير وقف ضد الماركسية. وهو عملياً يرفض الموقف الماركسي-اللينيني في فهم الشخصية: الحتمية التاريخية والانسان، اهميته الاجتماعية، البحث العلمي للحرية الانسانية، المذهب الانساني المتفائل، الذي لا ينفصل عن التحول الاجتماعي والنضال الثوري ومثل الانسان الاجتماعية، المتطابقة مع طموحاته الخاصة، والاعتراف بالمعايير الأخلاقية السامية، الثقة بالتقدم والمعرفة العلمية.
وتجاهل دور العمل بوصفه عاملاً محدداً لتطور الشخصةي سمة تطبع جميع الوجوديين، العمل الذي ما هو الا (الشرط الطبيعي الخالد للحياة الانسانية) كما يقول ماركس. والوجوديين باهتمامهم الكبير (باغتراب) الانسان الذي يفهومنه لا بوصفه اغتراب العمل، بل اغتراب (الواقع الانساني) ابدياً عن الوجود بشكل عام، لم يؤكدوا قط على الدور الابداعي الخالق للنشاط العملي-الذي كما أظهرت الماركسية-جعل من الانسان انساناً.
وبالمناسبة، فمن أجل ان يكتسب الانسان ويحفظ الوحدة امنسجمة الشاملة للشخصية، ومن أجل ان يكشف قيمتها وأن يشير الى هدف ومعنى الحياة الانسانية لا بد من الاعتراف بأن الحياة الانسانية، العالم الاجتماعي يجب تغييره واصلاحه عن طريق نشاط البشر العقلي، عن طريق عملهم وانتاجهم. وهدف الوجود الانساني لا يكمن في تطوير العقل الدياليكتيكي المجرد، بل في النضال الابداعي الفاعل من أجل الخير الاجتماعي من أجل سعادة الناس. ولهذا فالوجودية استناداً الى الفهم الماركسي ليست مذهباً انسانياً، على الرغم من جعلها الانسان مركز بحثها.
لقد أصبح المذهب الانساني في الفترة الأخيرة موضوع نقاش كبير، وعلى الرغم من طبيعته الانسانية العامة والعالمية، ولكنه الان موضوع معارك ضارية في الصراع الأيديولوجي الحاد. وانعكس في هذا الصراع-وبشكل واضح-المدخل الطبقي الى ظواهر الحياة الاجتماعية. ومعظم الفلاسفة البرجوازيين المعاصرين العاكسين لأيديولوجيا الطبقة السائدة يفتقدون الى التقليد الانساني الأصيل. وبعض الوجوديين يدافعون وبشكل واضح عن الأسس اللاانسانية للنظام الرأسمالي، ويزيفون الطرق الواقعي لتحقيق الانسانية الحقيقية، (ميرلو بونتي). اما الوجوديين الاخرين (سارتر، كامو، دي بوفوار) فانهم يناضلون بشكل مخلص عن الحرية وكرامة الانسان، وينظرون الى المذهب الانساني بوصفه تحرير وتطوير الشخصية الفردة، متجاهلين جانبه الاجتماعي وهذا يجعلهم يرون الانسان خارج صفته الاجتماعية. اما التصوف الديني فانه يطبع أفكار مارسيل الانسانية. والوجوديون في تحويلهم المبادئ الفردية للمذهب الانساني لبرجوازي الى مبدأ اساسي لاتجاهاتهم الفلسفية انما يقفون في موقف الانثروبولوجيا اللاعلمية المجردة. والوجودية تريد ان (تغني الماركسية) باتجاهها الانساني حول الانسان، ولكنها في الحقيقة تحرفها وتفقرها. ترى ما هو المثل الانساني الذي يضعه سارتر في تناقض مع المذهب الانساني الماركسي؟ انه حرية الشخصية اللامحدودة، المشروع المبدع، الاخيار الذي لا يقف وراءه اي اساس. ولكن هذا لا يقود الى اي طريق.
ان الخلاف حول الانسان اصبح موضوعاً اساسياً في عصرنا لكثير من الأبحاث الفلسفية. لأن هذا الموضوع انما يعكس وجهتي نظر مختلفتين، وأنظمة اجتماعية متناقضة. وتصطدم في هذا المجال الثقة المتفائلة بالمجتمع المستقبلي الجديد، بالانسان القوي المتنوع، ولكن اقوى في انسجامه مع المجتمع، تصطدم مع التأكيد المتشائم على (الانسانية الزائلة)، التأكيد على أزمة الانسان، الذي تتحدث عنه معظم الأبحاث الفلسفية البرجوازية المعاصرة. وهذه التشاؤمية تشدد على الاحساس الخفي، بافلاس النظام الرأسمالي الحتمي، بانهيار قيمه الأخلاقية والاجتماعية، وكذلك على مسار التاريخ المرتجى.
والتفسير الماركسي للانسان يختلف اختلافاً جذرياً سواءاً عن الاتجاهات السابقة عليه أو الاتجاهات الانثروبولوجية المعاصرة. والماركسية مستبعدة النظرات المجردة اللاتاريخية الى الشخصية الانسانية بوصفها موجوداً غيبياً منعزلاً عن الحياة والمجتمع، طارحاً جانباً البحث البيولوجي لصفات الانسان حيث تقدمه بوصفه المبدأ الأساسي لحاجاته ورغباته.
وفي اساس هذا العلم يقبع المدخل العلمي الى دراسة الانسان بوصفه انساناً واقعياً فاعلاً واجتماعياً، كما تقف وراء هذا العلم النظرة الى المجتمع بوصفه تنظيماً اجتماعياً، قائماً على الانتاج المادي ومتطوراً على اساس قوانينه الموضوعية الخاصة. ولقد أظهرت الماركسية أن المذهب الانساني المجرد وحديثه بشكل عام، ما هو الا وهم يخفي التضادين العمال والرأسماليين، ويزيف طبيعته الطبقية.
وعلى خلاف جميع أشكال المذهب الانساني البرجوازي يعتبر المذهب الانساني االماركسي مذهباً محارباً، طبقياً. وكما أعلن فالديك روشيه منعلى منصة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفرنسي فيما يتعلق بمشكلات الأيديولوجيا والثقافة عام 1966 أن هذا المذهب الانساني (اي الماركسي)، تحدده مصالح الطبقة العاملة: ولكنه في الوقت نفسه هو تعبير عن الأهداف الانسانية العامة. لأن الطبقة العاملة اذ تحرر نفسها فانها تخلق الشروط لتحرير جميع البشر).
والماركسية في رفضها للمضمون اللاطبقي للمذهب الانساني، وصلت الى حل مشاكل الانسان حلاً عيانياً-تاريخياً، وفي كشفها لمستقبل تطوره بينت الشروط الواقعية لتحريره (اي الانسان).
ان عدم قدرة التيارات البرجوازية المعاصرة وبخاصةً الوجودية على حل المشكلات التي تواجه البشرية، وغياب التصور الايجابي والمبادئ المؤكدة للحياة الانسانية، ادى بهذه التيارات في وقتنا الحاضر-وكما اشار-الفيلسوف جان لاكرو الى فقدانها خاصية التطور.

جزء من حوار فلسفي مع المفكر هشام غصيب
نعتبر هذه المحاورة، استكمال نهائي، لسلسلة "المبادئ المعرفية للفلسفة الوجودية" التي وردت هنا
حاوره: أحمد إبراهيم العتوم

سؤال: هل لكم موقف من الفلسفة الوجودية ؟ يرى على سبيل المثال كارل ياسبرز أن السبيل الوحيد لإيقاظ الحقيقة الباطنية هو قانون حرية الإنسان.. هو وجودنا الحميم؛ فهناك الموت والألم والعجز والإخفاق وإدراك لاتناهي العالم، وهناك الخيال السابح والتجربة الجمالية.

جواب: يحضرني في هذا المقام قول سارتر بأن فلسفة العصر هي الماركسية، لكن الوجودية ضرورية لإذكاء النار في فلسفة العصر هذه؛ فالوجودية تسد الثغرات الموجودة في البناء الشامخ والمعقد لفلسفة العصر. من دون شك أن الوجودية نشأت في ظروف معينة في أوروبا .. ظروف الإحباط التاريخي المتمثل في عشوائية الثورات الاجتماعية وهزائمها المتكررة، ونشوب الحروب العبثية، وضياع الفرد في عالم يسوده العنف العشوائي، والانهيارات الاقتصادية والاجتماعية. لكن وجود الفرد وإشكالية حياة الفرد، تجعل من الوجودية مشروعاً متجدداً. إن هناك لاعقلانية غير مستحبة في المدرسة الوجودية على تنوعها. ولا شك أن هناك ظلامية ضارة سياسياً فيها؛ ألم يشكّل هيدجر قاعدةً فكريةً للنازية الألمانية، وألم يشكّل جنتيلي الإيطالي مثل هذه القاعدة للفاشية الإيطالية، ولكن مع ذلك فإن هناك حاجةً متكررةً للوجودية برغم لاعقلانيتها، لأنها تخاطب جوانية الإنسان بطريقة لا نجد مثيلاً لها في الفلسفات الأخرى. إن مشكلة محدودية الفرد الإنساني تظل قائمةً حتى في المجتمع الشيوعي. ومهما صلُح وضع المجتمع يظل الفرد مشروع قلق وجودي، وهذا هو أساس تجدد الوجودية. إننا نجد نزعات الوجودية في الفلسفة والأدب على مدار تاريخهما. وأحسب أن المستقبل المنظور سيولّد أشكالاً جديدةً من الوجودية على هذين الصعيدين.

مداخلة: هذه الإجابة القيمة والثرية حول الفلسفة الوجودية، توقظ تساؤلاً لدي أخذ غفوةً من الزمن.. نفهم من الإجابة أن الفلسفة الوجودية ستستمر وستتجدد، مادام الفرد سيمضي كمشروع قلق وجودي. والسؤال هو: إذا كان القلق الوجودي عصياً على التوقف والانتهاء، ألا يعني ذلك أننا بصدد واقعية صلبة متماسكة ومتواصلة لا تقل أهمية عن الواقعية المادية كالتي نجدها في البنى التحتية مثلاً؟ لماذا لا تكون الوجودية عقلانية بقدر ما، في سعيها لمساندة القدر التاريخي للإنسان؟ ولماذا لا تكون أيضاً، عقلانية بقدر ما، تفرض نفسها في منطق دينامية القلق والصراع الإنساني؟

جواب: الأساس في الوجودية هو الفرد بالمطلق.. مقدمة الوجودية هي الفرد بالمطلق. والفرد ليس بصفته عقلاً، وإنما بصفته ذاتاً، ذلك الفرد الحائر، الفرد المتألم، الفرد التائه، الفرد الضائع. هذا هو الأساس في الوجودية، وهو المعطى الأول، بمعنى أنك لا تستطيع أن تختزل الفرد إلى ما هو أكثر جذرية ويقينية منه. لذلك احتج كيركغور، أبو الوجودية، على هيغل، الذي عدّ الفرد ألعوبة في يد قوانين التاريخ.كيركغور يقول إن الفرد هو الحقيقة الأساسية، وليس الفرد بصفته ذاتاً عاقلة، وإنما الفرد بصفته ذاتاً متألمة، ذاتاً قلقة. هذا الفرد هو الذي يخلق المعنى أو القيم أو المعايير. الفرد هو الوجود الذي يسبق الجوهر مثلما عبّر عنه سارتر، بعكس ديكارت الذي يرى أن الشيء اليقيني الوحيد هو الأنا المفكرة، بينما في الوجودية الشيء اليقيني الوحيد هو الأنا القلقة، المتألمة، الأنا اللاعقلانية، الأنا الشاعرة.

هناك تركيز في الوجودية بوصفها مجموعة من الفلسفات، على الجوانب اللاعقلانية في الإنسان، كالعواطف والإرادة العمياء والرغبة والقلق الميتافيزيقي، ونجد ذلك بجلاء لدى كيركغور، ونيتشه، وهيدجر، وياسبرز، وسارتر. فهناك نزوع لاعقلاني في قلب الفلسفة الوجودية وبعكس ديكارت، الذي جعل العقل محور اليقين، أو هيغل، الذي جعل العقل محور التاريخ والوجود، فإن الوجوديين يهمشون العقل لصالح الملكات البشرية الأخرى، ويعتبرون الفرد معطى يفسر كل شيء عداه، أي أنهم يخرجون الفرد خارج إطار التفسير العقلاني، ويعتبرون الفرد المشيئة المطلقة التي تخلق القيم والمعايير والمعنى. لذلك قال سارتر إن الوجود يسبق الجوهر. إن الفرد- اللغز وفق الوجوديين يحل محل الله في فلسفة العصور الوسطى. وهذا الأساس هو لاعقلاني في جوهره. وهنا، لا أدين الفلسفة الوجودية، ولكن أبيّن حدودها. إنها بلا شك تعبر عن الوضع الإنساني بصورة من الصور، وعن الرعب الذي نعيشه بوصفنا أفراداً وحيدين في النهاية. لكنها لا تستوعب التجربة الإنسانية برمتها، فلها حدودها التي ينبغي تذكّرها دوماً. لذلك لا أستطيع أن أتصور وجودية عقلانية، (ربما كانت الوجودية نوعاً من الترف البرجوازي).

سؤال: قال سارتر عبارةً مشهورةً بشأن الماركسية: إن “الماركسية هي الأفق الذي يتعذر تجاوزه في عصــرنا”. السؤال: برأيكم أين وصلت الماركسية من هذا القول، وما موقفكم اليوم منها؟

جواب: من المعلوم أن سارتر كان دائماً أسير صرعات عصره في فرنسا، وأسيراً أميناً لهذه الصرعات. وعندما أصبحت الماركسية صرعةً في فرنسا في خمسينيات القرن العشرين وستينياته، بدأ يترنم بها بطريقته المثالية المتميزة. فنشر عام 1960 كتابه “بحثاً عن منهج”، وطرح فيه فكرة أن الماركسية هي فلسفة العصر الحديث، وعنى بذلك أن لكل حقبة فلسفتها الرئيسة التي تعبر عن جوهرها وآمالها وطموحاتها وتناقضاتها؛ فكانت الديكارتية فلسفة عصر الميركانتيلية، وكانت الكانطية فلسفة عصر البرجوازية الصناعية، وحلّت محلها الماركسية بوصفها فلسفة عصر تخطي الرأسمالية. وعلى هذا الأساس اعتبر سارتر كل الفلسفات الحديثة، إما إعادة إنتاج للماركسية بصورة أخرى أو رجوعاً إلى الوراء إلى الفلسفات ما قبل الماركسية،أو فلسفات هامشية تعالج الإشكالات الجزئية للماركسية، كالوجودية مثلاً. ومع ذلك فقد نقد سارتر في الكتاب نفسه الشكل الستاليني للماركسية، وانتقد بشدة مادية الماركسية، ومعنى ذلك أن سارتر أعاد صوغ الماركسية بما يتناسب مع وعيه المثالي قبل أن ينصبها على عرش الفلسفة الحديثة. وبذلك كان وفياً لصرعة عصره. وأحسب أنه لو عاش حتى يومنا وشهد انحسار تأثير الماركسية التي لم تعد صرعةً في الأوساط الفكرية العالمية، لتراجع عن فكرته بأن الماركسية هي فلسفة العصر، ولتبنى موقفاً شبيهاً بموقف فلاسفة ما بعد الحداثة. وأعني بذلك أنني لا اعتدّ برأي سارتر في هذا المجال، ولا آخذه على محمل الجد. ولعل جاك دريدا كان أقرب إلى الجدية بكثير حين صرّح في كتابه “أطياف ماركس” أن ماركس هو فيلسوف القرن الواحد والعشرين بامتياز؛ لأن دريدا أعلن هذا الموقف الجريء ضد التيار الكاسح المعادي للماركسية، وفي مجابهة الهجوم الكاسح على الماركسية. وأرى أنه بغض النظر عن رأي سارتر، تبقى الماركسية متميزة في مجابهة تناقضات الرأسمالية والإشكالات الفعلية التي تعاني منها البشرية، وهي متميزة أيضاً في واقعيتها التاريخية العميقة. لذلك أعتقد أنها تظل أكثر الفلسفات ضرورةً في حل المشكلات الحياتية الفعلية. فجُلّ الفلسفات الأخرى هي فلسفات هروبية تساعد في تغييب الواقع، لا في حل إشكالاته. وبهذا المعنى المحدد، فإن الماركسية هي فلسفة الحقبة الحديثة، حيث إنها جاءت تتويجاً لمسيرة العقلانية الحديثة، وسلاحاً لا بديل عنه في حل إشكالات التاريخ الفعلية.