في استفراغ الجمهوريّة-الجثّة اللبنانيّة


خليل عيسى
2014 / 11 / 14 - 10:23     

"التمديد ب95 صوتًا: القوّات تمنع الفراغ" (جريدة "المستقبل")، القوات تنقذ الجلسة...وحزب التمديد الكتلة الاكبر" (جريدة "النهار")،"التمديد باسم الشعب" (جريدة "الاخبار")، "تمديد التديد في دولة "الفراغ" (جريدة "السفير"). هي مانشيتات الجرائد اللبنانيّة الناطقة باسم الفصائل المختلفة للبورجوازية اللبنانية الحاكمة صبيحة يوم الايغال في انقلابها على الشعب من دون استحياء أو مواربة. يريد تيار "المستقبل" إقناع جمهوره أنّ ما حصل لم يكن فقط الخيار "الوحيد" لا بل كان بطولة ما بعدها بطولة، بينما الحقيقة أنّ ما حصل يناسبه تمامًا هو الذي تدهورت شعبيته بشكل عميق مؤخرًا، ولم يعد يضمن نتائج تعيده الى المجلس النيابي بصفته الكتلة الاكبر. أمّا "حزب الله" والناطقون باسمه فيدّعون بشعبوية صمّاء، أنّه لا يمكن إلقاء الملامة عليهم لانّ "الشعب"، الذين يشاركون بتجويعه مع أقرانهم في الحكومة، هو المُلام، إذ أنه ببساطة ..."لا يقول كلمته لمنع ما يحصل"! كما لو أنّ هذا الفريق ليس جزءًا من السلطة البورجوازية التي تصادر العمليّة الديموقراطية عند شعبها كما عند إرادات باقي الشعوب العربيّة. كما لو أنّ لا مصلحة لديه فيما يحصل وهو المهتم حصرًا الآن في تركيز جهوده الحربيّة الاسناديّة العابرة للحدود، والتي لا يروق له أن تعمل الآلة الدستورية "الداخلية" فتشوّش عليه. في أثناء ذلك يزعق "التيار العوني" مولولا حول "عدم ميثاقية التمديد"، بينما هو نفسه يمنع انتخاب أي رئيس جمهورية ما عدا ماريشاله العتيد، لكنّ في هذه الحالة فإنّه يصرخ يبأنّ ذلك هو التصرّف "الميثاقي الديموقراطي الاصلاحي" للغاية.
لقد قام أفراد الطبقة الحاكمة اللبنانية بانقلاب متكرّر على الشعب والدستور والقانون بعد 20 حزيران 2013. وهو انقلابٍ بدا إجرائيا فقط، حين مثّل النواب السابقون للمجلس النيابي المنتهية ولايته مسرحية أسموها "التمديد" بعد انتهاء الدورة النيابيّة الاخيرة. لكن لا يمكن لأي برلمان أن يمدّد لنفسه من دون الرجوع لسلطة الشعب، وذلك عندما يحصل لا يمكن أن يكون سوى إنقلاباً على الديموقراطية البرلمانية. بيقى ذلك صحيحًا حتى لو ادعى الانقلابيّون أنّ "الاحداث الأمنيّة" التي تشتعل بضراوة، صدفةً كلّ مرّة، وقبل مدّة قليلة من كلّ عمليّة انقلابيّة يخططون لها، إنّما هي التي تمنع قيام الانتخابات. إذ ذاك يحقّ طرح السؤال التالي: لماذا لا يقوم اللبنانيون بثورة شاملة على محكوميهم حين قام المغتصبون للسلطة ومن طرف واحد، بالغاء العقد الاجتماعي الذي يربط المواطنون بهم؟
بعيدًا عن الشعبوية النخبويّة الشبه-يساريّة السائدة في لبنان، والتي لا تتوقف عن شتم الشعب على "تخاذله" والمزايدة عليه في حين أكثر من يقول بذلك يعمل كتبة ومهرّجين لدى البورجوازية الحاكمة نفسها، فإنّ الجواب يبدأ من سنة 2005 بعيد انسحاب الجيش السوري من لبنان والانقسام السياسي العميق الذي بدأ بين 8 و14 آذار. حينها بدأ التذرّر البطيء للمواطنة عبر نسف الإجماع الاجتماعي للبنانيين على المستوى النفسي أوّلا، ليتحوّل التمترس السياسي بين 8 و14 آذار الى ما يشبه حربًا ضروسًا بين عدوّين لدودين بدلًا من خصومة سياسية "ديموقراطيّة" بين أبناء بلد واحد، حيث قام كلّ طرف بتغذية وسائل إعلامه مذهبيّا وعنصريَا ضدّ الآخر الى درجة الافناء المتبادل الكامل على المستوى الرمزيّ والمعنويّ. لقد أدّى ذلك الى بناء ما يشبه الجدران النفسيّة السميكة جدًا بين اللبنانيين التي يصعب كسرها. أتت بعدها حرب تمّوز 2006 على لبنان، فاتهمّ 8 آذار الآخرين مع جماهيرهم، بأنّهم كانوا يتمنّون انتصار اسرائيل على "حزب الله" بلهفة، مما ولّد شعورا عميقًا بالنقمة والتخوين لدى نصف اللبنانيين تجاه النصف الآخر. توالت بعدها سلسلة من الحشودات المليونيّة المتبادلة بين 8 و14 آذار التي رسخت الانقسام المذكور، معطوفًا على الاتهامات التي أصبحت تساق ضد النظام السوري و"حزب الله" باغتيال رفيق الحريري. كان بعدها أيار 2008 حين لم يتورّع "حزب الله" عن استعمال قوته العسكرية داخليًّا في مواجهة 14 آذار الذين كانوا يُدارون من قبل السفيرين الاميركي والفرنسي، مما ولّد شعورًا معاكسًا بالمرارة والنقمة.
لقد طالت هذه الشحنات المتبادلة من النقمة والعدائية عامة الناس في حياتها اليوميّة، أما أفراد الطبقة الحاكمة فبقوا يتشاركون الغذاء على موائدهم العامرة كما لو أنّ شيئا لم يكن، وبقيت مختلف أطياف البورجوازية تقيم الصفقات فيما بينها على حساب الناس بكل محبّة ووئام. والدليل البيّن على ذلك أنّ أوّلى مراحل الانقلاب الدستوري الذي أصبح ناجزًا اليوم، بدأ "اقتصاديًا" منذ عام 2006 مع عدم ارسال الحكومات المتعاقبة مشاريع الموازنة الى مجلس النواب. الترجمة الفعلية لذلك مفادها أنّ المال العام الذي بات من ذلك الوقت يصرف من غير وجه حق، توافق الطرفان 8 و14 آذار على عمليّة نهبه خارج الاطار الدستوري. والضوابط الدستورية القليلة جدًا بالمقاييس العالميّة للاقتصاد الرأسمالي المتوحّش بنسخته اللبنانية، أصبحت تمثل عبئًا تقنيّا على السلطة الحاكمة التي قامت بتجاهلها باستمرار.
تعايش اللبنانيون مع كلّ ذلك بصبر وترقّب لتخيّلهم أنّ النهب المنظّم والمستدام الذي يتعرّضون له من قبل الرأسماليين الحاكمين والزعماء الافذاذ، لن يتغيّر كثيرًا سواء أكان هنالك مشاريع ميزانيّة أم لا. وبما أنّه لم يكن هناك من حزب أو أحزاب يساريّة تواجه بشكل جديّ تلك الدينامية، فإنّ معظم اليساريين اللبنانيين انقسم وراء كلّ من الفريقين اليمينيّين، وتبيّن ببطء أن الحظوظ الممكنة للخروج من هذا النفق كانت قليلة منذ البداية. بعد 2011 تغوّل الانقسام بين اللبنانيين الى حدود تصدير عداواتهم الطائفية الى الساحة السورية. أصبح هنالك قسم يناصر الثورة السوريّة بمنظور مذهبي في كثير من الأحيان، وقسم معادٍ لها تحوّل الى جيش غزو مذهبيّ. عنى ذلك أنّ ما تبقى من العقد الاجتماعي كان يجب أن يلغى بين بين اللبنانيين ليتمّ لكل طرف ما يريده. لقد كان ذلك أمرًا محتومًا. وما تمثّل يوم 20 حزيران 2013 انقلابًا على دستور البلاد، كان مجرّد النتيجة النهائية الشكلية لما كان يحصل يوميًا بسرعة كبيرة: لقد كانت الجمهورية اللبنانية الثالثة تصارع المرض العضال كلّ يوم والتي أصبحت منذ 2011 عمليًّا جمهورية-جثّة.
يحسّ اللبنانيون كلّ يومٍ تقريبًا، أنّ اللعبة السياسيّة في مكان ما أفلتت من بين أيديهم، وأنّ الطبقة الحاكمة التي كانت منذ زمن بعيد غير معنية بمصائرهم كشعب، باتت الآن تنتظر المنتصر في سوريا لتحصد في لبنان الأرباح.لقد طغى على الجميع الاقتناع بأنّ الحسابات الخارجيّة لن تسمح بقيام سياسة شعبيّة ضد من يحكمهم. إذ ذاك لم يكن هناك أيّ حظّ ليهبّ اللبنانيون في ثورة شاملة موحّدين ضد ما يحصل، هم المحاصرون في قوتهم اليومي والمقسّمون والخائفون من بعضهم البعض حدّ المذهبية الفجّة والذي يتمّ التلاعب فيهم إعلاميًّا طوال الوقت. والأهمّ أّنه ليس هنالك من جهة سياسية مستقلّة شعبيّة، جهة لا علاقة لها "بحراك مدني" يلعب دورًا تطهّريا إعلاميًّا يقوم بالتعوّيض عن فقدان البديل الفعلي. نتكلّم هنا عن قيام جهة شعبيّة يمكن من خلالها أن يعيد اللبنانيون تنظيم أنفسهم لمواجهة ديموقراطية لتحصيل حقوقهم المسلوبة. و مع أنّ الوقت ليس في مصلحة من تبقى من الديموقراطيين في هذا البلد فإنّ المحاولات الجادة في الفترة الأخيرة لإعادة لإحياء الحركة النقابية قد تشكّل نواة الأمل في ذلك. ولذلك فحين سيربح أيّ من الاطراف في سوريا مع وكيله اللبناني، فإنّ القيء البورجوازي اللبناني المتمثّل في الاستفراغ السياسي الذي نعيشه، والذي يشتمّ جميع من هم في الغرفة رائحته ما عداههو تفسه، سيعيد ابتلاع نفسه مجددًا وينظّم "المسيرة الديموقراطية" الظافرة في الجمهورية-الجثّة اللبنانية. لكنّ في حياة الشعوب كما في حياة الأفراد، لا يمكن إحياء الجثث. الجثث تدفن فقط. وحتى أنّ إكرام الميت دفنه.