المحرقة .. وكيف نجوت منها ..؟ !


علاء مهدي
2014 / 10 / 22 - 12:04     

قد يتبادر إلى الأذهان، لدى قراءة اسم "المحرقة" في العنوان، ان لهذا الموضوع علاقة ربما بمحارق شهدها الانسان، في سالف الأيام والزمان، أو ماخلفته الحربان الكبيرتان العالميتان، أو ما زال يشهده العالم حتى الآن، من حملات إبادة جماعية وعنصرية وشوفينية وغيرها من الجرائم التي تقشعر لها الأبدان، والمحارق التي حدثت في تاريخنا المعاصر وما زالت تحدث حتى الآن، من قبل أنظمة وقوى تتنافي أعمالها وممارستها مع كل القيم والأخلاق والأديان.

المحرقة التي سأتحدث عنها في هذا الموضوع، ليست من هذا النوع، وهي لا يعرف عنها شيئا غير ضحاياها وشهودها، وسأتناول في هذا الموضوع بعض ما شهدته هذه المحرقة، وهي غرفة صغيرة أطلق عليها هذا الاسم، تقع في الطابق الثالث من بناية شركة المخازن العراقية التي عرفت باسم (اوروزدي باك) في شارع الرشيد ببغداد بمنطقة سيد سلطان علي ، والتي شغلت فيها بعض المناصب المحاسبية والإدارية منذ بداية السبعينيات وحتى بداية الثمانينيّات من القرن الماضي

غرفة المحرقة هذه سميت كذلك كونها تسببت في إنهاء خدمات كثير من المسؤولين في الشركة في حينها حتى بات واضحاً ومعروفاً ان من تناط به مسؤوليتها هو بالتأكيد من غير المرغوب بهم في الشركة، وان اناطة هذه المسؤولية به إنما هي محاولة لإنهائه او بمعنى اخر - حرقه - ، وهذا تعبير اعتاد العراقيون على استخدامه وربما لازالوا

الغرفة صغيرة، وهي تقع في نهاية رواق طويل ضمن قسم مديرية الاستيراد في الشركة، ويتولى مسؤولية إدارة مخزونها مامور مخزن. اما المواد التي تخزن فيها فهي نماذج البضائع التي ترسل عادة من قبل المصدرين من كل أنحاء العالم للشركة برفقة عروضهم، لتسويقها من قبل الشركة التي كانت هي الشركة الرئيسية والوحيدة المملوكة للقطاع العام العراقي التي تتولى استيراد وتسويق البضائع الاستهلاكية مثل الألبسة النسائية والرجالية وألبسة الأطفال ، المشروبات الكحولية بأنواعها ، العطور والمكياج ، الأدوات المنزلية ، الزجاجيات، الاثاث ، الأزرار والخيوط ، الموسيقى ، السجاد ، ألعاب الأطفال ، المفروشات والبياضات والكثير من البضائع الاخرى التي تدخل في استعمالات المواطن اليومية والتي كانت الشركة تسوقها عبر فروعها المنتشرة في كل المحافظات العراقية واغلب الأقضية وحتى النواحي ومراكز الاصطياف وكذلك عبر وكلاء بيع معتمدين في كل أنحاء العراق.

وقد جرت العادة بعد مناقشة لجنة الاستيراد للعروض المقدمة وبرفقتها نماذج، اتخاذ القرار بقبول استيرادها او رفضه لأسباب منها ربما توفر بديل او منتج محلي او بسبب ارتفاع سعرها او أسباب اخرى، ثم يتم تحويل كل نموذج الى مخزن النماذج - المحرقة - مع الإشارة الى كونه مرفوضا او مقبولا ويتولى مامور المخزن حفظه دون اي ترتيب في مخزنه. بمرور الزمن ، تكدست البضائع في المخزن لكثرتها أولاً ولصغر مساحة المخزن ثانياً ولعدم تصريف تلك النماذج ثالثاً وكان لابد من إيجاد طريقة مناسبة للتخلص منها. وحيث ان البضائع المخزونة فيه هي منفردة اي ان الكمية المخزونة هي واحدة لكل بضاعة لهذا السبب كان من الصعب تسعيرها وبيعها في معارض الشركة. لذا قررت الشركة ان تنسب احد مدراء الأقسام ليتولى مهمة إدارة مخزن النماذج اضافة لوظيفته والعمل مع مامور المخزن على اعادة ترتيب وتصنيف البضائع في المخزن وبالتالي إيجاد طريقة لتصريف البضائع المكدسة فيه

هنا بدأت - المحرقة - أعمالها. فالنماذج المخزونة على الأغلب نادرة وغير موجودة في الاسواق العراقية والرغبة في الحصول على اكبر عدد منها وباسعار رمزية ليس من السهل مقاومتها كما ان المخزن والنماذج ليسا تحت منظور المراقبة والتدقيق لذا كان المجال واسعا لاستغلال الفرصة والاستفادة من الحصول على اكبر عدد ممكن من النماذج وباسعار اقل من رمزية من قبل المدير الذي تم تنسيبه للمهمة وتحت أنظار مامور المخزن !.

ففي خلال فترة قصيرة لم تتعد السنتين ، قضى مخزن النماذج على عدد من مدراء الأقسام ، بعضهم أُحيلوا للتحقيق ، وآخرون تمت معاقبتهم اداريا ، وهنالك من بذل قصارى جهوده للنقل الى خارج الشركة خوفا من الفضيحة وهكذا. بعدها ساءت الأمور عندما تولى احد المدراء العامين الجدد والذي تم نقله من وظيفة مضمد - موظف صحي - من المستشفى الجمهوري ليتولى مسؤولية مدير عام اكبر شركة تجارية استهلاكية في البلد تطبيقا لمبدأ "الشخص المناسب في المكان المناسب"! وكان ذلك بقرار من ما كان يسمى بمجلس قيادة الثورة. الغريب ان النظام الحالي لازال يطبق نفس المبدأ ويمارس نفس التصرفات في تعيين المسؤولين دون مراعاة للاختصاصات والخبرات ولمدى تناسبها مع المهام الوظيفية المناطة بهم او التي يكلفون بها لذا نرى التدهور المبرمج للأعمال الرسمية بصورة عامة وتأثيرات ذلك واضحة للعيان.

المدير العام الجديد لم يقاوم الرغبة بالحصول على بعض من تلك النماذج فقرر ان تتولى سكرتيرته التي نقلها من شركة اخرى لتتولى رعاية مكتبه في منصبه الجديد فأناط بها مسؤولية مخزن النماذج لتتولى تنفيذ رغباته وبدلا من ذلك جذبتها الرغبة بالحصول على بعض الملابس النسائية الفرنسية والايطالية الثمينة التي كانت تغير ملابسها داخل المخزن لتتأكد من حجم الملابس الجديدة الملائم لها وفي خلال أسبوع أصبحت ألوان ملابسها الداخلية محط تندر موظفي الشركة ، فانتهت بفضيحة حولتها إلى موظفة بمنصب صغير في احد أقسام الشركة.

يبدو ان المدير العام قد انتبه للدور الذي يلعبه مخزن النماذج، وربما نقل له اخرون قصصا عما حدث لبعض من أنيطت بهم مهمة إدارة المخزن فقرر ان يستخدم هذا السلاح ضد مدير حسابات الشركة ، انا، فاستدعاني وكلفني بالمهمة مع الكثير من النصائح التي لم افهم منها شيئا! لم ارفض المهمة او في الواقع لم أكن املك خيار رفضها فالموظف الحكومي العراقي على الأغلب لم يكن يملك حق الإعتراض أو الرفض ! فكرت مليا بالمهمة فوضعت خطتي وعلى اساسها زرت - المحرقة - في اليوم التالي وجلست مع مامور المخزن في اجتماع مغلق لوضع برنامج عملنا المستقبلي. في اليوم التالي قمنا بإعادة ترتيب وتصنيف وتسعير البضائع وتلك كانت من ضمن صلاحياتي. أصدرت تعليماتي بضرورة حفظ النماذج التي تم قبولها في مكان معين بانتظار وصول شحناتها ومن ثم إضافتها للكميات المستوردة وتسعيرها بنفس أسعار البضاعة المستوردة وبالتالي بيعها لجمهور المستهلكين. اما النماذج المرفوضة فقمت بتسعيرها وتهيئتها للعرض والبيع ومن ثم وضعت جدولاً شهريا يحدد قسما واحدا يحق لموظفيه شراء النماذج وبمعدل ثلاث قطع فقط لكل موظف وبالتالي يستفيد من النماذج اكبر عدد ممكن من موظفي الشركة. كما قررت ان ادعو مدير عام الشركة ومعاونيه لزيارة المخزن لشراء مايودون شراءه قبل أن تفتح أبوابه لبقية الموظفين.

نجحت خطتي بدليل انني لم اتعرض لأية مساءلة ولم تثر ضدي أية تهمة وكان الجميع سعداء بما يحصلون عليه حسب دورهم. توليت هذه المهمة لأكثر من سنتين وعندما زرت المدير العام مودعا إياه بسبب نقلي الى وظيفة مدير تأمين وتعويضات في الشركة العامة لاستيراد وتوزيع الأجهزة الدقيقة ، سألني عن السر في نجاحي بمهمة إدارة مخزن النماذج طوال تلك المدة. فكرت في عدم مصارحته به لكنني عطفت على سذاجته فأخبرته بأنني في كل مرة افتح بها أبواب مخزن النماذج للبيع كنت أولاً استدعي كافة الفراشين والسواق ليطلعوا على البضاعة ويشتروا بأسعار أراعي فيها مداخيلهم المتدنية دون تحديد للكميات المسموح بشرائها. أيضاً ، كنت اسمح لمأمور المخزن بالشراء بدون أية حدود. كنت واثقا من انهم لن يقتنوا سوى البضائع الصغيرة والرخيصة مثل ملابس الأطفال والالعاب البلاستيكية الصغيرة والأدوات المنزلية مثل الملاعق والصحون والاقداح وغيرها. فهؤلاء هم من ينقل البضائع التي يشتريها المدراء الى سياراتهم او بيوتهم وهم بشر مثلنا لديهم عوائل تستحق أن تنعم بالحياة شانهم شأننا ويتمنون ان يحصلوا على مايفرح عوائلهم وأطفالهم ومتى ما أشبعنا رغباتهم فانهم لن يطالبوا بما لا يستطيعون شراءه..

كان هذا سر نجاحي بتلك المهمة.
-;--;--;-