سحر الشرق في الأدب الروسي - ايفان بونين في الأراضي المقدسة

إبراهيم إستنبولي
2005 / 8 / 23 - 13:36     

إعداد و ترجمة د . إبراهيم إستنبولي

في آب من عام 1953 توفي إيفان بونين ( 1870 – 1953 ) .. الذي نال جائزة نوبل للآداب عام 1933 .. و قد اشتهر بونين بشغفه بالشرق مما دفعه اكثر من مرة إلى زيارة بلدانه المختلفة ، حيث تعرّف على حياة شعوبها و على عادات أبنائها و تقاليدهم .. و قد انعكس إعجابه بالشرق و بأهله في أشعاره و في قصصه و مذكراته ..
امتد طريق الإبداع عند ذلك الإنسان حوالي 70 عاما ، إذ صدر لـه أول ديوان شعر في منتصف الثمانينات من القرن التاسع عشر . و قد اتسم الإبداع الفني لإيفان بونين في ذروة عطائه بسعة الأفق و بعمق النظر إلى درجة مدهشة ... فقد صارت قريبة إلى عقله و قلبه جميع الأزمان و البلدان ، المبادئ الإنسانية العامة بخصوص الخير ، الجمال و العدل . لم يكن هناك ، على الأرجح ، كاتب مماثل استطاع أن يتحسس بدرجة عالية و أن يستوعب وعيه بنفس الحدّية تلك العصور البعيدة ما قبل التاريخية ، روسيا ، الغرب و الشرق . و قد ساعد في إنضاج و تفتح مواهبه ترحاله المستمر – تنقلاته في بلدان العالم . في عام 1907 ، و خلال استعداداته للسفر إلى الشرق الأوسط ، من أجل القيام برحلة حج نوعاً ما إلى " الأراضي المقدسة " ، قام بونين بدراسة وتعلم الإنجيل والقرآن ، و بالاطلاع على الدراسات المتعلقة بالشرق القديم – بمصر .

القدس ، فلسطين . أثناء تنقله لم تكن تفارقه قصائد الشاعر الصوفي المفضّل لديه سعدي ، الذي كانت حياته موضع إعجاب الكاتب الروسي : " بعد ولادته ، استثمر ثلاثين عاما لاكتساب المعرفة ، ثلاثين عاما في الترحال و ثلاثين أخرى في التفكر ، التأمل و الإبداع " . و قد عبّر الكاتب عن الغاية من تنقلاته مستعيراً كلمات الشاعر المسلم العظيم : " ... أنا ، كما قال سعدي ، سعيت لكي أتعرف على الدنيا و لكي أترك فيها انسكابة من روحي " . لقد زار بونين اكثر من مرة كل من تركيا ، شواطئ آسيا الوسطى ، اليونان ، مصر بما في ذلك بلاد النوبة Nubia ؛ كما تنقل عبر سوريا ، فلسطين ، وزار الجزائر ، تونس و أطراف الصحراء الغربية ؛ سافر بحراً إلى سيلان ، و براً عبر كل أوروبا . " أما بخصوص تنقلاتي و أسفاري ، فقد نشأت لدي فلسفة خاصة – كتب بونين في عام 1912 – أنا لا أعرف ما هو أفضل من الترحال " .
البحث عن أجوبة على الأسئلة التي تهم البشرية جمعاء بشكل دائم : حول معنى الحياة ، حول الغاية من خلق الإنسان ، عن العلاقة المتبادلة و الارتباط المتبادل بين أشكال الوجود ككل ، حول المغزى من التاريخ ، حول أسباب نهوض و موت الحضارات ، و كذلك الأفكار حول الاعتقاد و الإيمان ، حول سعي الشعوب إلى الحقيقة ، الخير و الجمال ، و في ذات الوقت التعطش الدائم لأن يرى بنفسه العالم الشديد التنوع – كل هذا كان يغذي الخيال الجامح للفنان ، يوقد فكره و كلمته .
و أكثر ما جذبت اهتمام بونين تلك البلدان و العصور ، حيث التقت البدايات و النهايات ، حيث تجذّرت " منابع الأيام " ، حيث تصادمت الطاقة الخلاقة للروح مع البربرية ، الإبداع و الاستبداد . لقد شاهد أنقاض البارثينون اليوناني و قرطاجة الفينيقية ، الأهرامات الهائلة في مصر ، أضرحة الفراعنة الموغلة في القِدم ، أطلال حيفا في فلسطين مع الجدران الضخمة و مقابر يفوق عمرها أربعين قرناً . لكن أكثر ما أدهشته بعلبك ، بقايا معبد الشمس ، " الذي تفوق مقاييسه كل ما أنجزته يد الإنسان " . لقد سحرت بونين تلك المنحوتات الصخرية ، التي كانت قد صنعت في تلك الأزمان الغابرة ، " عندما كانت الأساطير عن العمالقة ما زالت تضج بالحياة " .

" معبد الشمس " – هذه هي التسمية التي أطلقها على الطبعة الأولى من ديوان قصصه النثرية التي كتبها خلال أسفاره ، و الذي اسماه في طبعته الثانية بطريقة لا تقل شاعرية : " ظِلّ الطير " . الغريب هو أن الروايات – الأسفار الشرق أوسطية كتبها بونين بالتزامن مع الكتابات ذات الطابع الروحي الروسي الأصيل مثل " القرية " و غيرها ، التي كتبها خلال الأعوام 1907 – 1911 . لقد وضعها بونين إلى جانب بعضها و خصّها باعتبارها الأكثر أهمية . في بعضها – روسيا ، الحياة الروسية اليومية . في البعض الآخر – الشرق ، الطبيعة الخلابة ، العراقة و العاديات . هذه هي العناوين العربية لقصائده : " ليلة القدر " ، " محمد في المنفى ( الهجرة ) " ، " امرؤ القيس " ، " البدوي " ، ، " القاهرة " ، " القافلة " . و هذه بعض قصصه عن الشرق الأوسط : " الدلتا " ، " بحر الآلهة " ، " اليهودية " ، " ظِلّ الطير " ، " معبد الشمس " ، " صحراء الشيطان – كلها تحكي عن مصر ، لبنان ، فلسطين ، عن الخلود و لحظية الحياة .
أما القصائد " الإسلامية " فهي كثيرة جداً عند بونين لدرجة أنه لو لم تكن معروفة تفاصيل حياته اليومية و كينونته ، لكان من الممكن الاعتقاد أن هذا الأخير بين الكتاب الروس الكلاسيكيين العظام – لم يكن يفارق القرآن أبدا ، كما لو انه كان يحمله معه في حقيبة سفره طوال حياته . بل إن الواقع هو كذلك . فقد كانت نسخة من القرآن بترجمة أ . نيكولاييف ( لقد تم التثبت من أنها نسخة صادرة في موسكو عام 1901 ) بالنسبة لأيفان الكسييفيتش بمثابة واحد من أهم و اكثر الكتب المقروءة لديه . ففي القصائد ، المملوءة بنفحة الشرق الإسلامي ، نجد أن الشاعر الروسي كان يتبع القرآن بشكل مباشر ، و أحيانا كان يكرر آيات الكتاب المقدس للمسلمين . عدا ذلك ، إن بونين قد تابع بإحساس الوارث الشرعي الخاص تقاليد بوشكين و " محاكاته للقرآن " .
و مع ذلك ، إن قصائد بونين الشرقية لا تعتمد مصادر كتابية و حسب . ففي تلك الأشعار يمكن تلّمس ليس فقط الافتتان بالزخرفة لوحدها، التي تمتاز بها عادة القصائد السطحية للشعراء – الرمزيين .
لقد سافر بونين في أرجاء الدنيا أكثر بكثير من جميع أولئك الشعراء . و رغم ذلك ، فإنه كان من جديد يلبي النداء القاهر و يعود إلى بلاد الإسلام ... لكن القصائد ، التي تم نظمها أثناء الرحلات أو التي ظهرت إلى الحياة عن طريق الذكريات ، كانت تخرج قبل كل شيء من الإحساس المباشر بالأرض و الهواء في البلدان المكتشفة ، المدن و البلدات ، الحدائق و الصحارى التي اغرم بها .

هنا مملكة الأحلام . على امتداد مئات الفراسخ
الشواطئ مقفرة عارية مالحة .
لكن الماء فيها – بلون الزمرد و السماء
و الحرير الأبيض أشد بياضاً من الثلج .
في حرير الرمال مجرد نبات الشيح الأزرق
يرعاها الله لأجل قطعان الغنم الرحّل ،
و السماوات هنا زرقاء لدرجة لا تصدق ،
و الشمس فيها – كما نار جهنم ، سَقر .
و في ساعة القيظ ، حين السراب المصقول
يُغْرِقُ العالمَ بأكمله في نوم عميق ،
في بريق لا نهائي ، خلف حدود الأرض الحزينة ،
يحمل الروح إلى حدائق الجنة .
و هناك يجري ، هناك يصب خلف الضباب
نهرُ كل الأنهار ، الكوثر اللازوردية ،
و لكل الأرض ، لكل القبائل و البلدان
يمنح الهدوء . اصبر ، صلِّ – و آمن .

إن قصائد بونين ( و كما هي قصصه ، بالمناسبة ) كانت تستند بشكل أساسي على المعاناة الشخصية العميقة . بغض النظر عن الموضوع . فقد كان قادراً أن يكتب في نفس اليوم عن سماوات الشمال الروسي ، شواطئ نهر الدنيبر أو نهر أوكا ، كنائس صقليا و غابات سيلان ... ففي العشرات من قصائده نجد هذا المسيحي الارثوزكسي الغيور ، الذي يفاخر بأصوله الروسية النبيلة ، و قد استطاع أن يتقمص بالكامل شخصية المسلم ، الدرويش المتجول ، و الحاج إلى المقدسات ... و تارة يتحول إلى مغنٍّ يتغنى بالهناء في أجواء الحريم ، و أحيانا أخرى إلى شاهد على خلق العالم من قبل الله و شاهد عيان على يوم الحساب العظيم .
لقد شاهد بونين مختلف جوانب العقيدة الإسلامية و الحياة الإسلامية . كان مستعداً ، وهو في رمال الليالي ، أن يثق بالمثل العربي : " أيها المسافر ، لا تخفْ ! هناك في الصحراء كثير من الروعة و السحر . هذه ليست أعاصير ، بل إنها الجن تُقلِق الصحراء . هذا هو الملاك ، خادم الرب الرحيم ، قد قذف شياطين الليل بسهم ذهبي " . ففي بعض القصائد ، مثل " ليلة القدر " ، " تسبيح " ، " الحجر الأسود للكعبة " ، " المقام المقدس " ، " أبراهام . القرآن ، السورة السادسة ) ، " إبليس و الإله " ، " الطير " ، محمد في المنفى " ، " الفقير " ، " الخالد " ، " عرش سليمان " ، " الحجيج " ، " يوم الحساب " و في مجموعة أخرى من القصائد المكتوبة في أعوام مختلفة ، نجد أن الشاعر الروسي يتحول إلى روحاني إسلامي متحمس ، بل و يظهر كمتصوف حقيقي .. و تعتبر قصيدة " السر " من عيون الكنوز الشعرية عند بونين ، تلك القصيدة المرفقة باقتباس من القرآن : " آلم .. " .

زفر على المِدية – و إذ بشفرةِ
خنجرهِ السوري
تلمع في الدخان الأزرق :
و في الدخان لمعت بوضوح أكبر
على الفولاذ رسوم ذهبية
محفورة بزخرفة من ذهب .
" باسم الله و النبي ،
اقرأ ، يا عبد السماء و القدر ،
نداءك المهين : قل ، بأي
شعار قد زُيِّن خنجرك ؟ "
قال هو : " شعاري رهيب .
إنه – سر الأسرار : ألف . لام . ميم " .
" ألف . لام . ميم ؟ و لكنها إشارات مبهمة
كما الطريق في ظلمة الحياة الآخرة :
أخفى سرّها محمد ... "
" اصمت ، اصمت ! – قال بحدة –
لا إله إلا الله ،
أكثر الأسرار بأساً – لا سّر اكبر " .
قال ، لامس بالسيف ذو الحدين
الجبين تحت عمامة الحرير ،
و ألقى على أتميدان القائظ
نظرة فاحصة كسولة كطير جارح –
و أخفض رموشه الزرقاء الهادئة
من جديد على السيف ذو الحدين .

كما إن قصائد بونين الكثيرة في الغزل هي الأخرى حسنة ، و التي تبرز فيها الحان و صور إسلامية . مثلاً ، قصيدتان عن الحسناء – اليهودية صفية ، زوجة الرسول . في إحداهما ، الثمانية الرائعة و التي تسلب شغاف القلب ، نجد كيف أن النبرة الدنيوية ، الخفيفة بعض الشيء ، تتحول فجأة إلى احتفالية :

صفيّة ، و قد استيقظت ، راحت تجدل بيد
زرقاء ماهرة خصلات الجدائل السود :
" الكل يعيرني ، يا محمد ، باليهودية " –
تتكلم عبر الدموع ، و دون أن تمسح الدموع .
محمد ، وهو ينظر مع ابتسامة ساخرة و بحب ،
يجيب بوداعة : " قولي لهم ، يا صديقتي :
أبراهام – أبي ، موسى – عمي ، و محمد - زوجي " .

إن النبي و بكلمات قليلة يؤكد صلته بالتوراة ، و التعاقبية في رسالته .
لقد امتزجت الألحان و الموضوعات الإسلامية في إبداع بونين مع الحان و موضوعات التوراة و الإنجيل . و بمعنى ما إن " الديانات السماوية " الثلاث كانت بالنسبة له ديانة واحدة . لكن بونين استطاع أن يشعر بخصوصية الإسلام . ففي قصيدته " الراية الخضراء " ، و التي تبدو كما لو أنها دعوة غير متوقعة نهائياً من فم مسيحي أرثوزكسي - إلى الجهاد المقدس ، نرى الشاعر مغموراً بإلهام حانق :

.. لقد غفوتِ ، لكن نومك – أحلام ذهبية .
أنت ِ عبْرَ أربعين ثوباً من الحرير
تتنشقين رائحة الورود و تتنفسين العفونة -
عطر القرون .
و لكنك تنامين بسلام ، يا مجد الشرق !
و قد فّتنتِ القلوب
إلى الأبد . ألستِ أنتِ التي شيِّدكِ جبرائيل
فوق رأس النبي ؟
و ألستِ أنتِ تسبحين فوق الشرق إلى اليوم ؟
استديري ، انهضي –
و سينهض الإسلام ، كما لو " سموم " الصحراء ،
إلى الجهاد المقدس !

إن القرن العشرين المليء بالكوارث البشرية قد غيّر بشكل جذري حياة الشعوب الإسلامية . فقد انعكست عميقاً في شعر بونين الأمواج العاتية للعصر الحديث ؛ و كانت بعض قصائده مثل " أمواج " و " أحفاد النبي " عبارة عن صدى مباشر لما يحدث في السياسة العالمية . لقد كانت عزيزة على قلب الشاعر الروسي مشاعر الاعتزاز و الكرامة لدى المسلم في وجه المحتلين و المستعمرين الأوروبيين . و قد ظلَّ بونين حتى نهاية عمره يحلم بذلك التمازج الساحر بين الحكاية الشرقية و الحياة المنفتحة و كانت تدعوه باستمرار إلى السفر :

الصحراء في ضوء خافت ، ملتهب .
و خلفها – ظلمة وردية .
هناك مآذن و مساجد ،
و قببها المزخرفة .
هناك صخب النهر ، السوق المسقوفة ،
حلم الأزقّة ، ظلال الحدائق –
و ، هي تغفو ، تفوح بالعسل
على الأسطح أوراق الزهور .

نجد أن إدراك الطبيعة ، الشواهد الأثرية القديمة و الحياة المعاصرة لشعوب الشرق الأوسط يتماهى في سلسلة اليوميات - الروايات الشعرية " ظلّ الطير " مع تأملات مستفيضة – فلسفية ، تاريخية ، دينية ، أخلاقية و جمالية . هكذا تتحول الرحلة في المكان إلى ارتحال في الزمان أيضا . إذ أن بونين يزيل حدود الزمان و الفضاء ، يجعل من قرائه مشاركين له في مختلف التنقيبات عند الشعوب بدءاً من أيام أبراهام قبل التاريخية و حتى أيامنا هذه .
و في مصر ، عند هرم خوفو العظيم ، و هو يلمس " الأحجار ، التي هي ربما من أقدم الأحجار التي اقتطعها البشر " ، عاش بونين إحساس الاتحاد الأخوي مع ذلك الأسير العربي المجهول ، الذي شيّد هذه الأحجار . إن هذه المشاركة الوجدانية مع الماضي قد ألهمت أفكاره بخصوص مسيرة التاريخ ، دافعة إياه إلى التفكير حول أسباب انهيار الحضارات و حول سبل التطور الإنساني . اليوم ، في هذا الزمن الصعب الذي يعيشه الشعب الروسي ، و دولته و ثقافته ، فإن بعض صور بونين تبدو كما لو أنها نبوءات حقيقية ذات قيمة لا تزول . لقد جذبت بونين مساعي الإسكندرية القديمة " لأن تتحول مركزاً لجميع الديانات و جميع المعارف القديمة و التاريخية " . لقد أعجب بالشعب المصري العريق ، الذي " لم يعرف مثيلاً له لا في العمل ، لا في تشييد الآثار ، لا في المعارف ، و لا في الأخلاق ، و لا من حيث الشجاعة ، التي كانت تتواجد إلى جانب تواضع جم و ثقافة مدهشة بالنسبة لعصره " . كما أدهشته إنسانية هذا الشعب ، الذي " لم يعرف عبودية المرأة " ، " و كان يقدس الحياة بكل أشكالها و تظاهراتها " ؛ كما كان يقدّر عالياً الخير ، الذي اصبح " الحجر الأساس في عقيدته و في جميع تشريعاته اليومية " .
أما في تركيا ، في مدينة استنبول المعاصرة للكاتب ، فقد كانت مدعاة للسعادة عند بونين الحرية و العيش المسالم المشترك للشعب المكافح من مختلف القوميات . لقد لحظ هناك ولادة توجهات إنسانية جديدة ، التي أعلنتها تركيا فيما بعد للعالم ؛ كما شاهد " التسامح الذي لا مثيل لها تجاه جميع اللغات ، تجاه جميع العادات و التقاليد ، تجاه جميع المعتقدات " .
لقد تنقل بونين كثيراً في بلدان الشرق الأوسط ، التقى مع الناس ، و كان يكتب ملاحظاته باستمرار .
" فلسطين . 8 أيار . استيقظت في الساعة الخامسة صباحاً . خرجت في السادسة . الدرب مُملّة بشكل لا يطاق – جبال عارية و واد صلصالي طويل إلى ما لا نهاية ، أحجار أحدها فوق الآخر . لا أجمة ، لا أعشاب ، و لا أية علامة واحدة تدل على الحياة . فقط صحراء مزروعة بأحجار رمادية قاتمة . و في البعيد شبح العربي في عباءة سوداء ... و في المنخفضات حيث توجد الآبار ، تشاهد آثار توقفات البدو : رماد المواقد ، أحجار موضوعة على شكل دائرة أو مربع ، حيث يتم فيها تثبيت أعمدة الخيم ... و عندما جئت في المرة التالية بمفردي إلى حيث نصب البدو خيامهم فقد استقبلوني كصديق . كانت خيمة الشيخ عيد هي الأكبر و الأوسع ، و عندما دخلت وجدت هناك عدداً كبيراً من المشايخ العجزة ، الذين كانوا يجلسون حول الحيطان اللبادية السوداء للخيمة و قد رفعت جوانب المدخل . خرج الشيخ عيد لاستقبالي ، قام بالانحناء و بوضع اليد اليمنى على الشفاه و على الجبين ... و في هذا الوقت كانوا يحضرون وراء الخيمة الطعام لي و للضيوف ... " " ثم تابعنا رحلتنا . كادت الجبال أن تصبح الآن من حولنا مرعبة . يضجّ نهر مياهه عكرة – خضراء . نسير راكبين .. و النهر يمشي وراءنا . راحت تظهر الحدائق ، يقولون – هذه دمشق الآن . وهدة واسعة وسط الجبال ، بحر من الحدائق ، و فيها – المدينة الصفراء – الكبريتية بأكملها ، و فيها نهر ضعيف ، مليء بالغبار ، تتخلله أماكن كبريتية ، يجري بسرعة نهر بردى العكر – مع بعض الاخضرار ، الذي يختفي في الأرض بالقرب من المحطة... نزلنا في فندق الشرق . على مسافة ساعة من السير راكباً في عربة – ينكشف منظر رائع على دمشق . أنا صعدت عالياً إحدى التلال ، رأيت الشمس منخفضة و جبل حرمون ، و إلى الجنوب ، على طريق القدس ، شاهدت ثلاثة مرتفعات ( اثنان مع بعضهما ، و واحد – منفرد ) زرقاء . و في الصباح صعدت إلى المئذنة . تحتنا الوهدة الهائلة بأكملها و المدينة كذلك . و في البعيد حرمون تغطيه الثلوج ( من جهة جنوب - غرب) . و من جديد الخطاطيف تدور و تخترق الهواء . و المدينة كما لو أنها تلمع في لون أصفر باهت طيني ، و هي مملوءة بالسطوح المستوية ، تكاد تبدو بسطح واحد ملتحم . بعد ذلك ذهبنا إلى البازار . يا للروعة !... "
كم هي مهمة و ذات مغزى تلك الرسومات ، التي رسمها بونين للأوروبيين على تلك الخلفية . و إنها لمميزة تلك الملاحظات التي كتبها بخصوص اتباع الإمبراطورية البريطانية : " في أورشليم ، في الناصرية ، في أريحا كان المواطنون الإنلكيز ، الذين نزلوا معي في نفس الفندق ، يستيقظون في الصباح الباكر جداً ، و كانوا يقومون بالتزيّن الصباحي دون استعجال ، يتناولون فطوراً دسماً ، ثم تحت إشراف دليل من قبل الوكالة الإنكليزية للسياحة كانوا يخرجون لزيارة الأماكن المقدسة مع إنشادهم المستمر للتراتيل ... إلهي ، كم كان الأمر يبدو كريهاً بكل ما للمعنى من كلمة !
و في مصر ، بالقرب من الأهرامات و المعابد ، كنت من الصباح حتى المساء اسمع أصوات العصي على رؤوس العرب : كان العرب يحيطون بالسياح مع صرخات مسعورة ، و هم يعرضون عليهم خدماتهم ، حميرهم ، بينما رجال الشرطة الإنكليز راحوا يضربونهم بصمت على اليمين و على الشمال ، و بكل قسوة و مهارة ، بحيث أن العصي كانت تتراقص فقط ... أما في كولومبو فلم أصدق ما رأته عيناي : كيف أن الإنكليز يسيرون في الشوارع بحذر و بترقب .. – كانوا يخافون أن يتنجسوا من مجرد لمسة عابرة من التاميل ، أو من أي شخص " ملوّن " ، أو من ملامسة أي " متوحش حقير " حسب تعبيرهم . و كم كانت كثيرة المشاكل التي سببتها لي محاولاتي السفر في قطارات الدرجة الثالثة ! ... " هكذا كتب بونين في قصته " الدرجة الثالثة " في عام 1921 .
لم يكن الكاتب العظيم يطيق الاستعمار و لا العنصرية نهائياً .
و قد صب جان غضبه على مواطني الإمبراطورية الروسية أيضا : " البارحة غادرنا بور سعيد في الثالثة . تناولنا الفطور عند القنصل الروسي – شخص سمين ، بعينين صغيرتين كعيني خنزير ، يدعي معرفة كل شيء ، و يشتم الكل و كل شيء ... " تجدر الإشارة أن مؤلف هذه الملاحظة زار الكثير من البلدان العربية الصديقة للاتحاد السوفييتي في عهد ليونيد بريجنيف : للأسف ، إن مثل أولئك القناصل كانوا موجودين في الشرق الأوسط و بعد مرور سبعين عاماً على زيارة ايفان بونين .
و الآن ، في عام 1998 ، لم تعد موجود لا الإمبراطورية البريطانية العظمى و لا الاتحاد السوفييتي . لكن عندما تتذكر عشرين رحلة إلى بلدان الشرق ، إلى البلاد العربية ، إلى بلدان آسيا و أفريقيا ، بالطبع سوف تحسب : إن مثل تلك الصور السلبية هي ، و الحمد لله ، قليلة و لا تنقص من قيمة الانطباعات الإيجابية ، المشاعر و الذكريات عن الناس و السنين ، التي مرّت بسرعة أمام أعيننا بكل جمال ألوانها ، عاصفة كالمياه ، و لن تُنسى كما لم تُنسَ الكنوز الأثرية في الشرق الأوسط .
" مياه كثيرة " – هذه التسمية أطلقها على واحدة من ذكرياته حول الإبحار إلى الشرق مواطنيّ العظيم ايفان بونين في شباط 1911 . " أول ليلة في اليونان . قال القبطان أننا نسير بهدوء غير مسرعين . فكان ما سبق و حلمنا به شتاءً في مصر : أن تتاح لنا إمكانية السفر في واحدة من السفن ، التي بالأصل هي للركاب ، و لكنها تحولت إلى نقل البضائع بسبب قِدَمها و عدم توفر شروط الراحة و بسبب العدد المحدود من الغرف و لطول توقفها في المرافئ . و اليونان بلد عظيم للغاية ، بسيط و قديم ، لكنه نظيف ، متين و يقف عميقاً . خيم الهدوء في السفينة منذ فترة طويلة .
الأيقونة التاريخية من مدينة سوزدال في إطار فضي اكتسب لوناً اسود ، و التي لا تفارقني في جميع رحلاتي ، تلك الأيقونة المقدسة التي تربطني بخيط رقيق و فاضل مع أهلي ، مع موطني ، مع المكان حيث كانت ولادتي و طفولتي - كنت قد علّقتها فوق سريري في السفينة .
" لا تشتهِ بيت قريبك ، و لا زوجته ، و لا عبده ، و لا حماره ، و لا أي شيء من ممتلكاته ... " لا يحتاج الأمر إلى كبير عناء من التفكير لكي يتمكن المرء من فهم أبدية و عمق تلك الوصية من قلب سيناء . كلا ، مهما بلغت حماقات الغباء البشري و الحسد الإنساني ، فإن ممتلكات القريب تبقى محرمة و مقدسة بالفعل ، و هي التي يتم اكتسابها ليس دائما بالصدفة و ليس لقاء حياة الشخص المعني و حسب ، بل لقاء حياة شعب بأكمله . و لهذا فإنها مقدسة ثلاثة أضعاف تلك النخلة المزروعة من قبل والده و بالتالي لا يمكن أبدا أن تكون ملكية عامة ؛ و مقدسة البئر التي حفرها جدّه ، أي أنها ( البئر ) كما لو تحفظ بعضاً من جدّه ، من عمل الجدّ ، من فكره و من روحه ، و بالتالي كما لو أنها تحفظ خلوده نوعاً ما ، استمراريته ، إطالة عمره ... فأي دمٍ يمكنه أن يغسل اقتحام الغريب في تلك " المملكة " ، في قدس أقداس الإنسان ! " .
هذا ما كتبه ايفان بونين في طريقه من روسيا إلى سيلان ، بين فلسطين و مصر . كتبه و هو يراقب الحياة التي تركض من حوله كأمواج البحر . هذا ما كتبه ابن روسيا و كل العالم ، الحائز على جائزة نوبل لاحقاً ، دون أن ينسى مطلقاً الوطن ، حتى وهو موجود في المنفى الطويل ، و في نفس الوقت القريب لكل شعوب الأرض كفنان و كإنسان .
" ... في الساعة الثانية ظهراً تجاوزنا جزيرة جبل الطير . لا تشبه نهائياً جزر البحر الأبيض المتوسط . و لونها جديد بالكامل بالنسبة للعين – بلون الجمل ... الساعة الثانية ليلاً . لا أستطيع أن أغفو – اشعر بسعادة غامرة . الأرض ، الجنة تقترب اكثر فأكثر – طوال الليل غيوم ، و طوال الليل يشع القمر من بينها و هو يضيء أطرافها بلون فضي .
" دربك في البحر و مجدك في الماء و آثارك غير مرئية ... " هذا هو أنا – كما لو وحيد في العالم كله .- للمرة الأخيرة أجثو على الركبتين على ظهر السفينة المضاء بنور القمر . كما لو أن الغيوم تفرقت عن قصد ، و وجه القمر يشع بفرح و بسلام في الأعالي فوق رأسي ، و في الأسفل ، في الفضاء الشفاف و المضيء لقبة السماء الجنوبية ، تتدفأ بهدوء لآلئ الصليب الجنوبي . تتراقص بفرح لطيف و سرمدي ليلتُك الوضّاءة . كيف لي أن أشكرك ؟ "