في الطريق إلى النهوض: نقاشٌ حول النظرية والممارسة


هاني عضاضة
2014 / 10 / 10 - 03:02     

ما سأكتبه الآن هو موضوع نقاش ضروري، بحسب اعتقادي الخاص، وبحسب شروط المرحلة وما تتطلّب من إعادة شحذ للهمم، وبسبب المعاناة والانحطاط الذي وصل إليه اليسار بشكل عام.

أعتقد بأنه هناك مشكلة نظرية سائدة لدى الشيوعيين، يجب معالجتها حتماً، فهي تقع في صلب ترهّل الحركة الشيوعية بأكملها.
المشكلة هي تقديس النظرية وبالتالي المنهج ووضع اللوم على ما يسمى بـ "أدوات التطبيق العملي" فقط.
هذا المنطق الديني غريب عن الماركسية وروحيتها، وهو انزلاق لا محالة إلى الطوباوية والمثالية، وتعليبٌ غير مقصود ربما لكل ما أنتجه ماركس وإنجلس ولينين، وضربٌ لأهمية الأدوات المعرفية العلمية التي استعملها ماركس وغيره من المنظّرين الثوريين طوال عقود منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم عبر جعلها غير متحرّكة.
برأيي، أن المنهج والنظرية وجهان لنفس العملة، المنهج أداة إنتاج النظرية، والنظرية لكي يتمّ إنتاجها باستمرار بحسب ما يناسب من زمان ومكان معيّنين عليها أن تهتدي بما يناسب من أدوات بحثية ومنهجية ومعرفية نقدية، ليست بالضرورة ثابتة هي الأخرى. أما التطبيق العملي، أو الممارسة، فهي حكماً مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنظرية، ولا يمكن الفصل بينهما وحصر الأخطاء الممارسية بـ "الطبيعة البشرية" للأفراد، وكأن النظرية ليست نتاج فكرٍ بشري، بل فكر غيبي ماورائي، مع الأخذ بعين الاعتبار طبعاً التباينات في الوعي والمعرفة لدى الأفراد، ولكن لا يصحّ برأيي فصل الممارسة لدى الحركة ككلّ عن النظرية.
كما يجب أخذ "التجريب" بعين الإعتبار، وبشكل أساسي أيضاً، فهو جزءٌ لا يتجزّأ من شروط إعادة الإنتاج النظري، والشطارة يجب أن تكمن في تحويل العناصر التجريبية إلى استثناء ضروري لا قاعدة سائدة، عبر عقلنة الممارسة بالمعرفة العلمية على الدوام، ولكن "استثناء" العنصر التجريبي بشكل كامل من طاولة البحث المعرفي تحت شعارات دينية تلبس لبوس الفكر العلمي، برايي هو التالي ضربٌ آخر لروحية الماركسية التي تنطلق من الواقع الملموس لا من المختبرات.
هذا الإنزلاق نحو تقديس النظرية التي يجب أن تكون دائمة التغيّر والتطوّر لا يؤدي إلا إلى المزيد من الترهّل والعصبوية في جسد الحركة، والمزيد من الانكماش على الصعيد الممارسي، فيصبح "الخطأ" خطأ الأفراد "المنفّذين" فحسب، أما المنظّر فتلفّه هالة من القدسية كما نظريّته بالرغم من المتغيّرات المادية على أرض الواقع (مع ضرورة وأهمية الإطلاع والبحث العميق في كل ما أنتجته الحركة الشيوعية على الصعيد النظري طوال عقود طبعاً)، وفي هذا أيضاً انزلاقٌ آخر لا يقلّ ضرراً عن الأول نحو ما أنتجته الرأسمالية من تقسيمٍ ميكانيكي للأدوار، بحيثُ يُعتبَرُ انتشار المعرفة "تعدّياً"، والتطوّر المتعدّد الأوجه ابتعاداً عن "التخصّص" وبالتالي انخفاضاً في "الإنتاجية"، لتصبح البيروقراطية العفنة شرطاً من شروط "النموّ" و"الصمود" تحت حجّة "الظروف الموضوعية القاهرة"، وكأن على الظروف الموضوعية أن تراعي العنصر الذاتي وترسم له طريقاً معبّداً بالورود نحو التغيير!؟
المسألة بحاجة إلى نقاشٍ جدي ومستمرّ، يمتدّ إلى القواعد التنظيمية ولا يبقى حكراً على أفراد خلف شاشات الانترنت، مشكوكٌ بنشاطيتهم التنظيمية، أو حتى انتماءهم الفكري، أو مجموعات مغلقة من "المنظّرين"، الذين هم بمعظمهم للأسف منفصلون في يومياتهم عن واقع التردي الممارسي، والذين لا يبذلون جهداً كافياً لانتشال اليسار من المستنقع الذي وقع فيه، ويكتفون بترديد شعار "الأزمة" كالببغاوات. ليس لأنهم عاجزون كأفراد، بل لأنهم إما نخبويون أو شعبويون، لا يدركون حجم الجدار الكبير الذي اتّسع بينهم وبين الواقع والناس وحاجاتهم. هذا الفكر الأزموي الذي يعيد إنتاج نفسه في دوامة نخبوية مفرغة، المنفصل عن الحياة التنظيمية اليومية، وبالتالي عن الأداة التي تربط بين النظرية والتطبيق العملي، لا يمكنه معالجة هذه المسألة، بل سيزيدها تعقيداً. ومن المطلوب - بل من الضروري - أن يبادر كل من يملك القدرة على إعادة أجواء النقاش الديمقراطي الحرّ، الفكري والسياسي، في القواعد التنظيمية، إلى عقد هذه النقاشات. وهذه الخطوة ستكون الخطوة الأولى نحو تفكيك الأزمة ومعالجتها، لا من خلال بيانات قيادية تقليدية، ولا من خلال مؤتمرات نخبوية في الفنادق، ولا من خلال التشديد على روح "الأخوة" و"الرفاقية" تنميةً لحالات العصبوية الفارغة، بل عبر نقاشات جدّية مستمرة في القواعد التي لم تعد تعي درجة انفصامها عن الواقع في حركتها اليومية، الغارقة في الأفكار المسبقة، والمفتقدة للخطة الواقعية المنطلقة من البحث المادي في الواقع الملموس.

إن هذه مسؤولية تقع على عاتق كل منا.
إلى الأمام، رفاقي.