عن الفلسفة والتاريخ وماركس وتوينبي

يزن حداد
2014 / 10 / 4 - 12:20     


في عصر سيطرة قاموس الرأسمالية على وعينا، نقف اليوم على تخوم المعرفة المنتجة، لكننا لا ندركها. تزول الحدود المعرفية الفاصلة بين السحر والواقع، فيصبح العلم، من خلال منطق التسطيح السائد؛ تكهنات غيبية لا شأن لها بالواقع المادي. وننظر إلى الأمور بعين التجريد فيستحيل التاريخ حشداً رتيباً من الروايات المبعثرة، أو سلسلة من الأحداث العشوائية، التي لا يربط بينها سوى التعاقب الزمني.


كيف نقرأ التاريخ؟ ربما كان هذا السؤال تحديداً هو الأكثر أهمية من حيث المضمون المعرفي، ما يستتبع بالضرورة أن نطرح جملة من الأسئلة الأُخرى بغية تحديد الإجابة. فمثلاً، هل للتاريخ علم؟ وهل يمكن بناء قراءة علمية للتاريخ؟ لكن قبل كل ذلك، ما هي ماهية التاريخ في البداية؟ وما هي أدواته العلمية؟

فلسفة التاريخ أم علم التاريخ؟

على مدى عدّة قرون مضت، بنيت تصورات عديدة للتاريخ البشري وحيكت حوله النظريات؛ تأرجحت تارة بين وهم الأساطير وما وراء الواقع، وبين الفهم الميكانيكي لحركة التاريخ تارة أُخرى. ناهيك عن التصور القروسطي الذي ساد بين الأوساط الاجتماعية الواقعة تحت نير الأفيون الديني والجهل، والذي يضفي الغموض والسحر على الماضي ليؤبّد الحاضر من خلال استمرار الماضي فيه، أي أن التاريخ لحظة زمنية مجمدة من الواقع، لا شأن لنا سوى تأملها، أو يرى فيه حركة تكرار متواصل لجوهر ثابت (أي حركة هيغلية، أو “تشامل” كما يسميها، ومن المعروف أن النزعة الهيغلية-الفويرباخية قد تركت أثراً في الكتابات المبكرة لماركس الشاب بالمناسبة).

إذا أردنا أن نستبق التحليل بإضاءة عامة ننطلق منها، يمكننا القول أن التاريخ هو سيرورة تطور المجتمعات البشرية وحركتها وفق قوانين موضوعية معينة، وكما يشير ماركس وإنغلز في البيان الشيوعي، فإن “تاريخ أي مجتمع حتى الآن ليس سوى تاريخ صراعات طبقية” مما يعني أن الصراع الطبقي هو قاطرة التاريخ أو التفسير المنطقي لحوادثه. ولكن يبقى السؤال ذاته مبهماً للأغلبية وبالتالي راهناً لنا: ما هو التاريخ؟

رزحت آراء وتفسيرات الكثيرين لردح طويل من الزمن تحت راية المنظور الغيبي والميتافيزيقي للتاريخ (الفلسفة المثالية)، في حين حاولت الفلسفة المادية شقّ طريقها ضمن هذه المعركة. حيث جاءت نتيجة تساؤلات مؤرقة تعتمل داخل وجدان البشرية باتصال منذ فجرها. لسنا بصدد استعراض مفصّل لأهم التيارات الفلسفية التي حاولت تفسير مفهوم التاريخ في تلك الحقبة، ولكن ربما يعنينا هنا الإشارة إلى الطابع العام الذي كان يغلب على هذه التيارات الفكرية وحسب.

لقد سُبغت معظم التفسيرات التاريخية -حتى القرن الثامن عشر على الأقل- بوهم “المقدّس” غير القابل للتمحيص أو التدقيق، وهو ما عُرف سابقاً باسم “المفهوم اللاهوتي للتاريخ” ضمن الإطار الفلسفي، حيث يرتبط ارتباطاً مباشراً بالاجتهادات الأولى التي قدّمها الفكر البشري في مجرى استكشاف العالم الذي يحيط به. وما يحدث اليوم من محاولات رصد التاريخ (أو تسطيح التاريخ إن صح التعبير) هو امتداد للوهم “المقدّس”، ولكن بثوب مختلف، بمعنى أن واقع الأيديولوجيا المهيمن يفرض منظوراً “ما-قبل علمي” لاستقراء التاريخ، مما أنتج تيه سياسي واضح وتخبط في المواقف. ويتجلى ذلك المنظور على صعيدين، الأول: المؤسسة التربوية-الإعلامية المنوطة بوظيفة ضبط الوعي الجمعي، والثاني: القاعدة التكنولوجية، التي تم إحلالها على المستوى الاجتماعي لتتوسط علاقات البشر فيما بينهم، وبالتالي سيطرة الوعي التقني على المنهج التاريخي.

ثمة أمر هنا يمكن ملاحظته بوضوح، وهو أن الطريقة التي يُطرح بها التاريخ داخل “مناهج” التعليم في المدارس والجامعات بصفة عامّة، تعطيك الانطباع أنكَ بحاجة لمعرفة أي عائلة حكمت هذا العرش أو ذاك، وفي أي عام فقط، وكأن التاريخ ساحة معركة بين القوى الحاكمة، أو أنه ثابت لا يتغيّر فيه إلا “شخوص” ما، وما عليك أنت سوى أن تعرف بعض الأرقام والأسماء لإدراك التاريخ بتعقّد حركته وقوانينه.

قد يبدو التوصيف السابق منقوصاً في تعليل خواء الفهم التاريخي اليوم، لكنه يعطينا مفتاحاً لفهم وتفكيك هذا المنطق الصوري بوصفه جزءاً من الوعي الجمعي، أي المنظور ما-قبل العلمي. وفي سياق متصل، يقفز إلى المشهد سؤالٌ إبستمولوجي بصدد علمية المنظور: على أي أرضية نظرية يمكن تحديد ما هو علمي في قراءة التاريخ؟

يميّز الفيلسوف الروسي جورجي بليخانوف بين فلسفة التاريخ وعلم التاريخ من حيث المفهوم، ويرى أن التاريخ باعتباره علماً هو “التاريخ الذي لا يكتفي بمعرفة كيف حدثت الأمور، بل يريد معرفة لماذا حدثت الأمور على نحو معين وليس على نحو آخر”. وعلى هذه القاعدة النظرية يتبلور منهج الفهم المادي للتاريخ، أو الفهم العلمي لقوانين الاجتماع البشري في سياقها التاريخي.

في معرض الحديث عن علمية التصور المادي للتاريخ، يحضرني عنوان كتاب مهدي عامل (في علمية الفكر الخلدوني)، والذي أكد على أن مادية الفكر هي علميته. ويتقاطع عامل هنا مع بليخانوف في رؤيته للتاريخ من حيث أن له مفهومين متناقضين، فهناك “مفهوم يقف عند ما هو من التاريخ ظاهره، ومفهوم يخترق الظاهر إلى الباطن في بحث عن حقيقة التاريخ، ليجعل منها موضوعاً لعِلم”. ويستمر عامل في ذلك التحليل باستعراض الجوانب العلمية (المادية) في الفكر الخلدوني، داخل الحقل الاجتماعي والحقل التاريخي، لكنّه يؤكد أولاً على أن الفصل بين الحقلين جاء من باب ضرورة منطق العرض المنهجي، ومن ثم فإن مفهومي التاريخ والاجتماع البشري هما جزئين في عضوية واحدة، لا يمكن دراسة أحد عناصرها بمعزل عن الآخر.

ليس هناك شك أيضاً أن مادية خلدون تختلف عن مادية أبيقور أو ديموقريطس مثلاً، أو مادية ماركس التي هي محور النقاش، حيث أن مادية ماركس أسست على فلاسفة عصره وتجاوزتهم في آن معاً، فقد بدأ ماركس بتوجيه سهام النقد لمادية فويرباخ الميكانيكية بعد أن تمكن من تخطّيها صوب مادية أكثر مرونة وفاعلية، المادية الجدلية. وعلى الرغم من أن مادية ماركس هي الأكثر اتساقاً وتماسكاً بالقياس إلى المدارس الفلسفية الأُخرى، لكن ذلك التحديد العام لا ينفي بالمقابل علمية الفكر الخلدوني، ولا ينزع عنها الطابع الملازم للفكر العلمي في قراءة ظواهر التاريخ.

إذاً، نستطيع أن نلخص ما سبق في نقطتين أساسيتين، أولاً: إن حركة المجتمعات البشرية في المجال الطبقي المشحون بالتناحر هي المعادلة التي تغزل خيوط التاريخ وتصنعه، مما يعني أن علاقات الإنتاج السائدة تعبّر عن مرحلة اجتماعية تاريخية محددة. ثانياً: إن النظر إلى التاريخ وفق المعادلة السابقة يعكس مادية الفكر وعلميته، أي أن علم التاريخ يرتسم بدلالة البناء المادي للمنظور التاريخي، الذي يعيد ظواهره إلى علاقات مادية من الداخل، وليس عوامل روحانية أو غيبية تُفرض عليه من الخارج، ومن جهة أُخرى فإن المادية التاريخية تترجم التحام العِلم بالفلسفة في جسم واحد. ولئن كانت الدولة، بالإضافة إلى ما سبق، تعد جهازاً طبقياً له أشكال متعددة (دولة سياسية، دولة طائفية، دولة استبدادية، ..إلخ)، فإن تمرحل أطوار الدولة في التاريخ يعكس حركة المجتمعات البشرية في ضوء شبكة العلاقات التي تربطها.

آرنولد توينبي، مؤرخ أم فيلسوف؟

وُلد آرنولد توينبي عام 1889 في العاصمة البريطانية لندن، في نهاية القرن التاسع عشر الذي عبّر فلاسفته الكُثر عن مشروع الحداثة، وكان أبرزهم مؤسسا الاشتراكية العلمية كارل ماركس وفريدريك إنغلز. يُعد توينبي أحد أهم مؤرخي القرن العشرين، ومن أكثر مؤلفاته شهرة كتاب (دراسة للتاريخ)، وكتاب (التاريخ البشري).

ربما ستدفعنا نظرة أُخرى أكثر عمقاً لفكر توينبي أن نعيد الحسابات، ونصيغ السؤال من جديد، هل هو فيلسوف أم مؤرخ؟ قد يكون توينبي لا هذا ولا ذاك أيضاً، وقد يكون الاثنين معاً! حاول آرنولد توينبي رصد التاريخ البشري وتعيين أسباب تقدمه أو تأخره (وفق المنطق التحليلي الذي يتبعه)، بأن أضاف للتأريخ مفهوماً جديداً غاب منه الاقتصادي ضمن مؤلفاته، أو أصبح دوره هامشياً. يبرر مهدي عامل غياب الاقتصادي في الفكر الخلدوني بإعادة هذا النقص -الذي لا يعيب مادية الفكر بالمناسبة- إلى أن نمط الإنتاج السائد في الفترة الزمنية التي كتب فيها ابن خلدون مقدمته المعروفة (القرن الرابع عشر ميلادي)، لم يكن قائماً على منطق التوسع الرأسمالي الحديث الذي يفرض انتقال قوة العمل إلى دائرة الإنتاج على شكل سلعة، وإعادة الإنتاج فيه بالتالي لم تكن شاملة كما ندركها اليوم، وكان تأخر الاقتصاد حتى نهاية القرن الثامن عشر ليتشكل علماً مستقلاً نتيجة لذلك. مما يعني أن الفكر التاريخي لدى ابن خلدون متماسك داخلياً على قاعدة غياب الاقتصادي منه في الأساس.

لا يمكن تبرير ذلك الآن في فكر آرنولد توينبي بوضعه تحت مجهر التاريخ، حيث أنه استبدل مفهوم أنماط الإنتاج والعلاقات الاجتماعية القائمة عليها، بمفهوم “الحضارة” لتفسير سيرورة التاريخ المادي. وبعبارة أُخرى، فقد استبدل مقاييس النقد التاريخي العلمية (المادية بالضرورة)، برؤية أقرب إلى السباق الحضاري بين ركبٍ من الحضارات المتنازعة، والتي تنشأ وتزدهر ومن ثم تتلاشى الواحدة تلو الأُخرى، كما تتساقط أوراق الشجر في الخريف. هكذا يفهم توينبي حركة المجتمعات البشرية. وللتلخيص نحصر هذا الفهم بصورة عامة في ثلاث نقاط:

أولاً، لا بد في البداية من وجود أقلية مسيطرة لتتمكن من توجيه المجتمع، وحدوث أي تراجع في قدرتها على إدارة الدفة هو العامل الأول في تقويض استمرارية “الحضارة” القائمة.

ثانياً، تململ الأغلبية المحكومة وانكفائها عن الخضوع لتلك الأقلية الحاكمة.

ثالثاً، انقسام المجتمع على نفسه عقب تحقق الشرطين السابقين.

ألا يبدو لكم هذا التوصيف مبهماً بعض الشيء؟ ولماذا لا تسمّى الأشياء بأسمائها؟ أليست “الأقلية” الحاكمة التي يتحدث عنها هي طبقة تتمتع بسلطة سياسية، وتقوم بينها وبين “الأغلبية” علاقات اقتصادية اجتماعية قائمة على الاستغلال واستثمار قوة العمل؟ ألا يعبّر انقسام المجتمع على نفسه عن حركة صراع طبقي وتناقض اجتماعي، مؤداها اندلاع ثورة اجتماعية ترمي إلى تغيير نمط الإنتاج المتهالك؟

ينظر توينبي إلى هذا التغيير من خلال عدسته التي ترفع مفهوم “الحضارة” إلى المطلق وكأنه جوهر ثابت في التاريخ. وبرغم اعترافه بوجود الطبقات، إلى أنه لا يحيل لها الدور الحاسم في التاريخ.

ولنستعرض هنا فقرة قصيرة من كتاب (تاريخ البشرية) جاءت تحت عنوان “المجال الحيوي 1763-1871″ للفصل الذي ورد فيه الاقتباس: “وقد أثارت مصائب العمال الصناعيين وموافقة الطبقة الوسطى عليها، موجة كارل ماركس (1818-83)، فأعلن عن ديانته الجديدة. وأساسها “الحتمية التاريخية” التي تحل محل الإله الخالق. وقد أراد ماركس أن يعزي البروليتاريا عن مصيبتها القائمة بإعلانه أنه من المحتم أن تقوم، في النهاية، “ثورة خير” فتزول الخصومة بين البروليتاريا والطبقة المتوسطة، ويقوم مجتمع “لا طبقات فيه” .. ولم يعمّر ماركس بحيث يرى أن الظلم الاجتماعي زال ضرره”.

مكمن الخلل في فكر من هذا النوع له أكثر من وجه، والنقد كذلك ينطلق من ذات الموقع. وبمجرد قراءة الجملة الأولى من الفقرة ستقع في مطب هائل، حيث أن بدايات تشكّل الفكر الاشتراكي والحراكات العمّالية كان سابقاً لماركس بعشرات السنين، ومن أمثلة ذلك الاشتراكيون الطوباويون فورييه وأوين، وغراكوس بابوف قائد أول تمرد شيوعي على الجمهورية الفرنسية حديثة العهد. وفي كتاب (عصر الثورة) يقدّم المؤرخ الماركسي إيريك هوبزباوم تحليلاً تاريخياً معمقاً حول هذه المسألة.

أما من الناحية العملية، فالقول بأن ماركس ابتكر ديانة جديدة هو ضرب من الجنون وتسطيح للفكر، كما لم يكن شعاره “الحتمية التاريخية” (التي تأخذ منحى قدرياً) على الإطلاق. وذلك لأنه كان يرى في الثورة الاشتراكية وتقدم الجنس البشري “ضرورة” تاريخية لتحرير الإنسان من عبودية رأس المال و”الحتمية” الاقتصادية، التي تحل محل الإنسان الخالق لواقعه في ظل استفحال سيطرة المنظومة الرأسمالية على مختلف جوانب الحياة. وفيما يتعلق بمسألة “الخصومة” بين البروليتاريا والطبقة الوسطى، فهو بالتأكيد فهم خاطئ للماركسية ولحركة التاريخ ذاتها.

يشير إيريك هوبزباوم في هذا السياق إلى أن جماهير الفقراء الكادحين في فرنسا، والتي كانت تلقّب بـ “اللامتسرولين” كانت تساند يعاقبة الطبقة الوسطى إبان الثورة الفرنسية، وحتى في خلافهم مع الجيرونديين واستمرار “حكم الإرهاب” للجنة السلامة العامة التي كان ماكسمليان روبسبيير وسان جست أبرز أعضائها، استمدّت اللجنة شرعيتها من جماهير الفقراء الكادحين، إلى أن أُعدم روبسبيير عام 1794 على يد معارضيه داخل المؤتمر الوطني في العاشر من شهر ثيرميدور، وفق التقويم الثوري الفرنسي، ليسجّل بذلك آخر فصول ما كان يسمّى بـ “حكم الإرهاب”.

أطلق ماركس مسمّى البرجوازية الصغرى على “الطبقة الوسطى”، وكان يعدّها طبقة مترددة اجتماعياً يمكن لها أن تنحاز إلى البروليتاريا وجماهير الفقراء، أو إلى البرجوازية الكبرى المسيطرة، أي أنها تميل إلى المكان الذي تجد فيه تحقيقاً لمصالحها.

ولو أن ماركس بقي حيّاً حتى القرن العشرين، أو حتى يومنا هذا على سبيل الافتراض، لربما احتاج إلى وضع عشرات المجلدات والكتب إلى جانب مجلدات رأس المال الثلاثة، كي يتمكن من تحليل التطورات التي طرأت على المنظومة الرأسمالية، وازدياد وتيرة الحروب والانقسامات والكوارث، وتضخم الهوّة الطبقية بمعدلات غير مسبوقة، وتعمق الظلم الاجتماعي، على العكس تماماً مما تنبأ به توينبي.

وأخيراً، هناك نقطتان في فكر توينبي لا بد من الوقوف عندهما بغية طرح صورة شاملة للمؤرخ.

أولاً: يرى آرنولد توينبي طبيعة العلاقة بين الشرق والغرب على أنها علاقة بين ذات وآخر، أي علاقة أبدية بين النصف الغربي من الكرة الأرضية ونصفه الشرقي. وبصرف النظر عن تأكيده في أكثر من مكان على انقلاب العلاقة وتغيّر مجالات التوسّع الجغرافي من الغرب إلى الشرق، إلّا أنه يعيد ذلك التبدّل إلى فكرة انهيار “الحضارات” القديمة وظهور “حضارات” جديدة في الغرب تمكنت من السيطرة على العالم بأكمله. بينما نجد أن هوبزباوم يعمل على إحالة هذا التغيير إلى أسباب تاريخية اقتصادية أكثر علمية، كالثورة الصناعية في بريطانيا على سبيل المثال، وعدم قدرة بعض الدول على مجاراة هذه القفزة التي أحدثتها الثورة المزدوجة في العالم، مما أدى إلى عكس الاستقطاب وتحويل الهيمنة الاقتصادية والعسكرية نحو دول الشرق، لكن ذلك لا يعني أبداً أن الشرق والغرب هما وحدات تاريخية ثابتة لا تتغير، كما يفهمها توينبي.

ثانياً: يربط آرنولد توينبي بين الدين وبين التحليل التاريخي للمجتمعات البشرية في مؤلفاته، فهو يرى أن الدين عامل أساسي وضروري لقيام “الحضارات” وازدهارها. ولا يدور النقاش هنا حول الدين في نصوصه، بل عن النزعة الدينية (الغيبية) التي تغلب على منهج توينبي في التحليل، عوضاً عن تغليب العقل المادي العلمي على حساب التفسيرات الدينية (أو شبه الدينية) للتاريخ وحركة المجتمعات. يقول توينبي في كتاب (دراسة للتاريخ) بأن وظيفة المؤرخ “هي في النهاية سعي لرؤية الله وهو يعمل في التاريخ”. ومن هنا، فإن توينبي يلغي تأثير الإنسان الفاعل في حركة التاريخ المادية، ويمنح ذلك الدور إلى الدين بما هو عامل خارجي يُفرض على العقل البشري ومنهج التحليل. إذاً، فالأولوية لا بد أن تكون بدايةً للإنسان، وعلاقات وأنماط الإنتاج، بإعادة الإنسان من اغترابه عن موضوع العمل، وعن العالم الخارجي.

خلاصة نقدية

توفي آرنولد توينبي عام 1975 تاركاً خلفه جملة من الؤلفات والدراسات التاريخية، التي لا يمكن سوى أن نعدّها في إطار فلسفة التاريخ ما-قبل العلمية، وإن كان هذا الحكم مجحفاً بعض الشيء. لكن لا مجال للمهادنة هنا، فنحن نخوض اليوم معارك قاسية على جبهات متعددة مع المنظومة الرأسمالية، يندرج التاريخ تحتها كذلك. لم يعد الأمر مقتصراً على الحقل الاقتصادي وحسب، فقد نجحت الرأسمالية بتوسيع مجالاتها في الهيمنة، وعلينا أن ندرك جيداً أين أوقفنا التغلغل الإمبريالي للرأسمالية الذي خلق دولاً تابعة، وأعاد عجلة التاريخ بنا إلى ما قبل العصور الوسطى.

ففي مملكة الضرورة، تسود ديكتاتورية الطبقة، طبقة الأغلبية المسحوقة. هذه هي ضرورة عصر الرأسمالية والفقر والتهميش والحروب والاغتراب وتدمير الإنسان والطبيعة، إنها ضرورة التاريخ اليوم، إما أن نهلك ونحن نقف خلف التاريخ، أو أن نكون في مقدمته. فالثورة الاجتماعية التي تؤطرها نظرية علمية قادرة على صناعة تاريخ الشعوب، قادرة على الدفع بعملية التطور الاجتماعي قدماً، باتت راهنة في هذه الظروف القائمة أكثر من أي وقت مضى.