أسطورة الامبريالية (3)


محمد المثلوثي
2014 / 9 / 26 - 23:47     

الجزء الثالث: نظرة اخرى حول الاستعمار
سنتطرق الآن إلى ميزة أخرى من ميزات إمبريالية لينين، ألا وهي الاستعمار.
لقد بدأت الموجة الأولى للاستعمار الحديث منذ أواخر القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر، بقيادة البرتغال وإسبانيا ثم هولندا، لتلتحق بريطانيا بعد ذلك عبر أسطولها البحري الضخم وصناعتها الناشئة، ثم لتتوج تفوقها الصناعي والتجاري مع أواخر القرن الثامن عشر بتوحيدها للنظام الاستعماري تحت هيمنتها المطلقة.
ولقد شهدت الحملة الاستعمارية فترة خمود نسبي إلى حدود النصف الأول من القرن التاسع عشر، ليشهد الربع الأخير من نفس القرن قيام موجة استعمارية ثانية أكثر توسعا من ناحية شمولها تقريبا لكل بقاع العالم، عكس الموجة الأولى التي بقيت منحسرة في مجالات جغرافية محدودة، وأكثر عنفا من حيث تطور الوسائل الحربية بفضل تطور الصناعة. ولقد مثلت بريطانيا وفرنسا (روسيا، اليابان، ألمانيا...بدرجة ثانية) أهم قوتين استعماريتين، بحيث أن التقسيم الاستعماري قد خلص إلى شبه اقتسام ثنائي للعالم بينهما.
وهكذا يتبين لنا تاريخيا أن الاستعمار في ثوبه الرأسمالي قديم قدم الرأسمالية نفسها، بل إن النظام الاستعمار مثل الأساس التاريخي الذي قامت عليه هذه الرأسمالية. لذلك فالحديث عن كون الاستعمار هو ميزة خاصة بمرحلة محددة (الرأسمالية الاحتكارية الامبريالية) أمر خاطئ تاريخيا.
ولينين لم يكن بمقدوره القفز على هذه الحقيقة التاريخية، لذلك فإنه لجأ إلى التمييز بين نوعين من الاستعمار: استعمار رأسمالية المنافسة الحرة، واستعمار الرأسمالية الاحتكارية. فهو يقول: [Même la politique coloniale du capitalisme dans les phases antérieurs (libre concurrence) de celui-ci se distingue foncièrement de la politique coloniale du capital financier (impérialisme…p34)]
] السياسة الاستعمارية للرأسمالية في المراحل السابقة (مرحلة المنافسة) تختلف جذريا عن السياسة الاستعمارية للرأسمال المالي]
بالنسبة له فإن المميز التاريخي للموجة الاستعمارية الأولى هو تصدير فائض البضائع، بينما المميز التاريخي للموجة الثانية هو تصدير فائض رأس المال.
بداية سنقدم بعض الملاحظات التمهيدية التي نراها ضرورية في تناول هذا الموضوع.
1- الطبيعة العالمية للرأسمال:
إن ما يميز كل أساليب الإنتاج الماقبل رأسمالية هو بالضبط طابعها المحلي. وإن محدوديتها تلك هي من جهة تعبير عن درجة متدنية في تطور وسائط النقل والتبادل، ومن جهة أخرى، تعبير عن كونها أساليب إنتاج تعتمد رئيسيا على الإنتاج من أجل الاستهلاك وليس من أجل التبادل. فالطابع المهيمن على هذه الأساليب الإنتاجية التقليدية هو طابع الاكتفاء (اكتفاء قوى الإنتاج واكتفاء الحاجات الاجتماعية) وما التبادل إلا حالة استثنائية متقطعة، تزدهر حينيا وموقعيا وتتراجع لفترات طويلة من الركود، إضافة لارتهانها لعوامل لا اقتصادية (طبيعية، سياسية...).
وبحكم هذا التدني في التبادل ووسائله المادية، فإن تطور القوى الإنتاجية يبقى هو أيضا محليا وعرضة للانتكاس والتدمير (فما يضمن استقرار وتعميم تطور القوى الإنتاجية هو استقرار وتعميم التجارة، وهذا بالضبط ما كان ينقص تلك الأساليب الإنتاجية القديمة)، إذ نلاحظ كيف أن الازدهار الصناعي والتجاري الذي شهدته بعض المدن القديمة وبعض الأسواق التجارية المحلية كان ينقطع تماما حالما تظهر عوامل معيقة مثل الحروب والكوارث الطبيعية، وينقطع معه التطور ويحل الخراب وتنتكس القوى الإنتاجية إلى ما قبل تلك الفترة الزاهية. ولعل أثينا وروما والإسكندرية....خير دليل على ذلك.
وبدون الدخول في عرض تاريخي مفصل، فإن الرأسمالية كأسلوب إنتاج لم تظهر إلا بتحقق شروط تاريخية محددة هي بالأساس:
- تطور شامل (أي غير محلي) لوسائط النقل وخاصة النقل البحري.
- تطور التجارة العالمية وأخذها طابعا شموليا.
- ازدهار العديد من المراكز الصناعية المتطورة بالمقارنة مع التجمعات الحرفية للقرون الوسطى، واستقلالها في إطار مدن بورجوازية متوجهة أساسا للإنتاج من أجل المبادلة.
- استقرار خطوط التجارة وتأمينها، ونشأة العديد من المراكز التجارية. كما اكتشاف خطوط تجارية جديدة كسرت العوائق والاحتكارات القديمة.
- اكتشاف مجالات جغرافية جديدة، وربط وتقريب المجالات الجغرافية القديمة بعضها ببعض (اكتشاف القارة الأمريكية، اقتراب أوروبا من الهند عبر الطريق البحرية المكتشفة حديثا وإنشاء العديد من المراكز التجارية على طول السواحل الإفريقية...)
ولقد مثلت المرحلة الاستعمارية الأولى مرحلة تمهيدية لتوحيد العالم في إطار أسلوب الإنتاج الرأسمالي الناشئ. فكانت حصيلتها من جهة كسر (لا يزال جزئيا في حدود تلك المرحلة) الانغلاق المميز لأساليب الإنتاج التقليدية وضرب الاحتكار الإقطاعي للأسواق التجارية المعروفة. ومن جهة أخرى إنشاء مراكز تجارية عالمية تسمح للرأسمال بمواجهة التجمعات الحرفية وقنص اليد العاملة في شكل عبيد أو أجراء، وخاصة الحصول على المواد الأولية التي ستكون المحفز الأكبر لظهور الصناعات الكبيرة. يذكر ألان بيهر في نصه القصير المعنون (pour en finir avec l’impérialisme) كيف أن القطن، بمميزاته الطبيعية المتفوقة على الصوف، قد مثل أهم حافز للتطور العظيم الذي عرفته صناعة النسيج التي تمثل أول صناعة رأسمالية بالمعنى الحرفي للكلمة، وكيف أن الفحم الحجري قد وفر مادة تطور الصناعات الميكانيكية ومن ثمة مد السكك الحديدية ووسائل النقل. ومعروف الدور الذي لعبه اكتشاف كميات كبيرة من الذهب والفضة في القارة الأمريكية ومساهمته في تطوير التبادل التجاري وتسهيله. كما هو معروف دور ازدهار زراعة وتحويل السكر في أمريكا الجنوبية ووقعه العظيم على التبادل العالمي ومن ثمة على دفع الصناعة الحديثة.
إن المرحلة الاستعمارية الأولى مثلت بدرجة أكبر، وعلى المستوى العالمي، ما مثلته المرحلة المسماة "التراكم البدائي" للرأسمالية في أوروبا. يقول ماركس بهذا الصدد: " إن اكتشاف مناجم الذهب والفضة في أمريكا، واقتلاع سكانها الأصليين من مواطنهم واستعبادهم ودفنهم أحياء في المناجم، وبدايات غزو ونهب الهند الشرقية، وتحويل إفريقيا إلى ساحة محمية لصيد ذوي البشرة السوداء، إن ذلك كله يميز فجر عهد الإنتاج الرأسمالي. إن هذه العمليات الرغيدة هي العناصر الرئيسية للتراكم الأولي. ثم جاءت في أعقابها، الحرب التجارية التي خاضتها الأمم الأوروبية جاعلة الكرة الأرضية ساحتها. فقد اندلعت بانفصال هولندا عن أسبانيا، واتخذت أبعاداً هائلة في حرب إنكلترا ضد اليعاقبة، وما تزال مستعرة في حروب "الأفيون" ضد الصين، وهلم جراً. –ماركس –رأس المال". فهي قد ساهمت في تدمير (مازال جزئيا في تلك الفترة) أساليب الإنتاج القديمة، وأطلقت العنان لتطور عام للقوى الإنتاجية لا على المستوى المحلي، هذه المرة، بل على مستوى يشمل مجالات جغرافية تتجاوز البلدان والقارات، وهذا ما خلق الأساس المادي لتطور غير قابل للانتكاس لقوى الإنتاج والتبادل، وأخذ هذه القوى الإنتاجية نفسها طابعا عالميا. فأصبح كل اختراع تقني جديد يجد صداه في الأرجاء البعيدة من الكوكب، ويتم تعميمه عبر المنافسة والتبادل الذي وصل هو بنفسه إلى درجة من التطور ليخلق الأساس المادي للسوق العالمية. هذه الأخيرة التي مثلت التمهيد التاريخي لنشأة أسلوب الإنتاج الرأسمالي وتطوره وأخذه طابعه العالمي.
وهكذا فإن اختزال الموجة الاستعمارية الأولى في "تصدير فائض البضائع" لا يقوم على أي أساس تاريخي. وأكثر من ذلك فإنه يخفي الطبيعة التاريخية للاستعمار في إطار أسلوب الإنتاج الرأسمالي.
فالاستعمار الرأسمالي هو بالأساس "تراكم بدائي" للرأسمال. فهو قد استهدف بوسائل اقتصادية وعسكرية:
- فصل المنتجين عن وسائل إنتاجهم وخاصة الأرض وتحويلهم إلى عبيد حقيقيين، أو أجراء أو إلى مشردي المدن.
- مركزة وسائل الإنتاج واحتكارها الطبقي، أي خلق الأساس الذي تقوم عليه الرأسمالية: طبقة منفصلة عن وسائل الإنتاج وبالتالي تمثل المادة الخام لبضاعة قوة العمل. في مقابل طبقة تحتكر ملكية وسائل الإنتاج.
- تدمير الطوائف الحرفية وتأسيس المراكز الصناعية المدينية الحديثة، والانتقال بالرأسمال من حالته كرأسمال طبيعي إلى رأسمال اجتماعي.
- تأمين الطرق التجارية وضرب احتكاراتها القديمة، وفتح الأسواق وربطها بعضها ببعض في إطار السوق العالمية. وفي هذا الباب فقط (على أهميته) يمكن الحديث عن تصدير البضائع الذي هو ميزة الرأسمالية كأسلوب إنتاج وليس كمرحلة محددة (رأسمالية المنافسة الحرة).
- وفي الأخير وخاصة تشكل أقسام الرأسمال في إطار الدولة الوطنية (الرأسمال الوطني، أي مستوى من مستويات مركزة الرأسمال). والإلحاق الاستعماري بشكل مباشر، أو في إطار مواقع النفوذ العالمية، هو تتمة تاريخية (مؤقتة ومتغيرة) لهذا "التشكل الوطني" للرأسمال في إطار نظام المنافسة العالمية. ونلاحظ كيف أن الاستعمار الرأسمالي يمثل صورة مطابقة للتراكم البدائي الذي قام به الرأسمال في أوروبا، لكن ميدانه لم يعد حدودا جغرافية معينة، بل الكوكب كله.
لكن هذه الموجة الاستعمارية الأولى على ضخامتها، فإنها كانت ملائمة فقط لتطور محدود للرأسمال. فنحن هنا مازلنا في حدود مرحلة ظهور المانيفاكتورة وما قبل اختراع الآلة البخارية، أي قبل ظهور وتطور الصناعات الكبيرة. ولذلك فإن احتياجات رأس المال سواء للمواد الأولية أو للأسواق التجارية مازالت محدودة أيضا.
وهكذا فإن بروز الصناعات الكبيرة وما طرحته من احتياجات حتم على الرأسمال إعادة موجة استعمارية جديدة على نطاق أوسع وفقا لتلك الحاجات الإنتاجية المتنامية بالذات. فاكتشاف الطاقة البخارية، ثم المحرك الذاتي الحركة قد استوجب لا البحث عن مواد أولية جديدة فحسب (القطن، المعادن...) بل عن مواد طاقية جديدة أيضا (الفحم الحجري في مرحلة أولى ثم البترول في مرحلة ثانية...)، وهذا ما كان ممكنا في الحدود التي وصلت إليها الموجة الاستعمارية الأولى. وهنا أيضا يظهر الاستعمار الرأسمالي كموجة جديدة من "التراكم البدائي" للرأسمال. حيث أن التطور العظيم للقوى الإنتاجية في إطار هذا الأسلوب الإنتاجي الجديد قد بعث الحاجة الملحة للرأسمال لا لتوسيع المجال الجغرافي الاستعماري القديم وسحبه على بقية العالم فحسب، بل دفع عملية تدمير أساليب الإنتاج التقليدية وتجريد المنتجين من وسائل إنتاجهم، وتوسيع السوق العالمية شروطا ضرورية لتطوره الخاص. وأكثر من ذلك، فإن هذه الموجة الاستعمارية الجديدة كانت تعبيرا عن حاجة الرأسمال لتحويل تقسيم العمل من ظاهرة محلية إلى المستوى العالمي، بحيث تتخصص مناطق معينة بإنتاج المواد الأولية (المنجمية، الطاقية والزراعية..)، بينما تحتفظ البلدان الصناعية بتخصصها في إنتاج المواد المصنعة ذات الإنتاجية العالية والتي تستوجب يد عاملة أكثر تخصصا وأكثر كفاءة (وهذا التقسيم العالمي للعمل سيشهد تغييرات كبيرة خاصة خلال النصف الثاني من القرن العشرين). إضافة لكل ذلك فلقد مثلت هذه الموجة الاستعمارية الثانية تغييرا في التشكل الوطني لأقسام رأس المال وملاحقه الاستعمارية ومواقع نفوذه (وهذا أيضا ما سيشهد تغييرا من خلال صعود أقطاب بورجوازية عالمية جديدة).
وهكذا مرة أخرى، فإن اختزال الموجة الاستعمارية الجديدة في "تصدير فائض رأس المال"، ومعارضتها بالموجة الاستعمارية الأولى المختزلة في "تصدير فائض البضائع"، هو من جهة لا يقوم على أي أساس تاريخي (أنظر خاصة أبحاث جاك فرايموند: لينين والامبريالية http://books.google.tn/books?id=M4yWjZ3NXZsC&pg=PA80&lpg=PA80&dq=critique+du+l%C3%A9ninisme&source=bl&ots=YBBS5A_MXt&sig=PD0OUuQQF-UoyWuUJyC1yuPkSTg&hl=fr&sa=X&ei=_nK0U6IbxMvRBfH2gfgL&ved=0CCgQ6AEwAzg8#v=onepage&q=critique%20du%20l%C3%A9ninisme&f=false)، ومن جهة أخرى يموه على الطبيعة التاريخية للاستعمار نفسه ويفصله عن الرأسمال بصفته أسلوب إنتاج عالمي لا من حيث تطوره التجريبي فحسب، بل من حيث طبيعته التاريخية نفسها.
2- الطبيعة التاريخية للاستعمار الرأسمالي:
إن الاستعمار (أو الغزو بصفة عامة) لا يمكن فهمه من خارج إطار أسلوب الإنتاج التاريخي الذي يقع فيه هذا الاستعمار سواء من ناحية الطرف المستعمر (بكسر الميم) أو من ناحية الطرف المستعمر (بفتح الميم). فالقول العامي بأن الاستعمار هو "نهب الثروات" لا علاقة له بالتحليل المادي التاريخي لهذا الاستعمار. كأن نقول بأن الإنتاج هو استعمال وسائل الإنتاج لتحويل الطبيعة من طرف الإنسان. فهذا لا يشرح لنا لا طبيعة تلك الوسائل ولا طبيعة العلاقات التاريخية التي يقيمها البشر فيما بينهم في هذا الإنتاج. أي أن الإنتاج يصبح مقولة ما فوق تاريخية وليس أسلوبا إنتاجيا تاريخيا معينا.
فالثروة ليست ثروة إلا في إطار أسلوب إنتاج تاريخي محدد. إذ أن أسهم البورصة مثلا لا تمثل أية ثروة لقبيلة منعزلة في إحدى الغابات، مكتفية في إطار أسلوب إنتاجها المحلي. بينما تمثل هذه الأسهم كنزا لا يقدر بالنسبة لرجل يتعامل في وولت ستريت. وكمبيالة تجارية لا تمثل سوى ورقة عديمة الفائدة بالنسبة لمزارع في إحدى إقطاعيات القرون الوسطى. بينما هي ثروة فعلية لتاجر الجملة في سوق البضائع.
والمواد الأولية (وهي ليست أولية بالمرة، إذ أنها تحتاج للمرور بالعمل لتصبح كذلك) فإنها لا تصبح ثروة إلا في إطار أسلوب إنتاجي محدد، وفي تطور محدد للقوى الإنتاجية. فالبترول لا يمثل سوى سائل ملوث بالنسبة لفلاح يستعمل المحراث الخشبي، واليورانيوم مادة قاتلة لا غير بدون العلوم الطبيعية... وهذه المواد الأولية (المنجمية والأحفورية) لا تقدمها الطبيعة في شكل تلقائي جاهز بل إنها تحتاج لوسائل إنتاج لاستخراجها وتكريرها ومن ثمة تحويلها إلى مواد إنتاج أو وقود...
وهكذا فإن "نهب الثروة" يستوجب أن تكون تلك الثروة ثروة بالفعل بالنسبة لأسلوب الإنتاج التاريخي. لذلك فالاستعمار الرأسمالي لا يمكن أن "ينهب الثروة" بدون أن يقوم بتحويل تلك "الثروة" إلى رأسمال. لكن الرأسمال ليس مجرد "ثروة"، إنه بالأساس علاقة اجتماعية. وبذلك تتحول عملية "نهب الثروة" إلى عملية تفكيك لأسلوب الإنتاج القديم، حيث الثروة إما أنها غير موجودة بالنظر لغياب وسائل إنتاجها، وإما أنها لا تمثل أي نوع من ثروة إلا في إطار ذلك الأسلوب الإنتاجي القديم، إلى عملية إرساء أسلوب إنتاجي جديد ينفخ في المواد الطبيعية روح "الثروة".
أما الثروة في إطار أسلوب الإنتاج الرأسمالي فإن قياسها الوحيد هو كمية العمل الاجتماعي. إذ لو أن البترول مثلا لا يحتاج لأي عمل في إنتاجه فلن تعود له أية قيمة من زاوية الأسلوب الرأسمالي في الإنتاج، وسوف لن يكلف أحد نفسه مشقة ومخاطر "نهبه".
إن الثروة الوحيدة التي يعترف بها الرأسمال (كعلاقة اجتماعية) هي العمل. وإن ما يجعله مستعد لإراقة دماء الملايين من أجله هو العمل. لكن ليس "العمل" بشكل مطلق، بل العمل في شكل تاريخي محدد، أي العمل المأجور. لذلك فإن "الثروة" لن تكون ثروة بالنسبة للرأسمال إلا إذا كان إنتاجها خاضعا لأسلوب العمل المأجور. وهكذا فالنهب الرأسمالي للثروة يشترط تعميم العمل المأجور، ليس في البلد المستعمر (بكسر الميم) بل أيضا في البلد المستعمر (بفتح الميم). وتعميم العمل المأجور هو بالأساس فصل المنتجين عن وسائل إنتاجهم وتحويلهم إلى بضاعة قوة العمل، في مقابل الاحتكار الطبقي لتلك الوسائل الإنتاجية.
وهكذا فالاستعمار الرأسمالي هو في الواقع توسيع لدائرة "التراكم البدائي" وسحبه على المستوى العالمي. وإذا كانت الموجة الاستعمارية الأولى (القرن 15..أواخر القرن 18) محدودة على مستوى الرقعة الجغرافية التي شملتها، فذلك يتلاءم مع محدودية تطور الرأسمال نفسه. أما الموجة الاستعمارية الثانية (بداية من النصف الثاني من القرن 19) فكانت تعبيرا عن تكامل الشروط التاريخية لبسط هيمنة أسلوب الإنتاج الرأسمالي على كل الكوكب.
3- حول تصدير فائض البضائع:
إن خطأ لينين بشأن مقولة "تصدير فائض البضائع" كسمة مميزة لرأسمالية المنافسة الحرة يتمثل في الآتي:
* إن البضاعة هي نفسها رأسمال. لذلك فتخيل تلك الصورة حيث الرأسمال منغلق على نفسه فيما يسمى "المركز" ينتج البضائع ليصدرها إلى عالم خارجي المسمى "الأطراف" منفصل عن الرأسمال، هذه الصورة التي بنت عليها روزا لوكسمبورغ مثلا كل تحليلاتها، هي صورة ذهنية لا علاقة لها بالواقع التاريخي وبالطبيعة التاريخية للرأسمال.
فالبضاعة لا تكون بضاعة إلا ضمن الشروط التاريخية لتحققها كبضاعة. وإلا فإنها لن تكون إلا مجرد كمية من المواد الطبيعية، أو قيمة إستعمالية، بحسب قاموس الاقتصاد السياسي. فلا يكفي أن يسبغ المنتج على إنتاجه صفة البضاعة، حتى تصبح كذلك، بل لابد لهذا الإنتاج أن يظهر لطالبه في شكل بضاعة. أي لا يكون للإنتاج قيمة استعمالية فحسب، بل أيضا وخاصة، أن يكون لها قيمة تبادلية. أي أن يتضمن كمية من العمل، وليس أي عمل، بل العمل الاجتماعي الضروري في ظل أسلوب إنتاج رأسمالي.
فإذا "صدر" رأسمالي بضائعه، فإنه لا ينتظر في مقابل ذلك كمية من المواد الاستعمالية، بل ينتظر قيما تبادلية معادلة لقيمة بضائعه. وهذا ما يؤكده لينين نفسه: [le romantique dit : les capitalistes ne peuvent consommer la plus value et doivent par conséquent l’écouler à l’étranger. On de demande si les capitalistes ne donnent pas gratuitement leurs produits à l’étranger -;- ou s’ils ne les rejettent pas à la mer. Ils les vendent, donc ils reçoivent un équivalent -;- ils exportent certains produits, donc ils en importent d’autres (Editions sociales, paris tome 2, 1958. P160- cité par Christian Palloix)
[الرومانسي يقول: إن الرأسماليين لا يستطيعون استهلاك فائض القيمة وبالتالي عليهم تصديرها للخارج. نتساءل إن كان الرأسماليون يتصدقون ببضائعهم على الخارج، أو يلقون بها في البحر. إنهم في الحقيقة يبيعونها، لذلك فإنهم يتلقون معادل قيمة بضائعهم تلك. وهكذا فإنهم يصدرون إنتاجهم ليستوردوا آخر]
وحتى لو كان أسلوب الإنتاج المباشر الذي ينتج ضمنه المنتج الذي سيصدر له الرأسمالي بضائعه لا يزال أسلوب إنتاج ما قبل رأسمالي (أي أنه مثلا يعتمد العمل في شكل عبودي أو في شكل قنانة)، فإن التبادل هنا غير ممكن بدون أن يستوعب أسلوب الإنتاج الرأسمالي تلك الأساليب الإنتاجية التقليدية ضمنه، أي أن يحول العبودية أو القنانة إلى مجرد قناع شكلي للعمل المأجور (وهذا موجود حتى ضمن الأسلوب الرأسمالي في الإنتاج المباشر). وهذا ما نجده عند ماركس في تحليلاته حول الهيمنة الشكلية للرأسمال على العمل (أنظر le Capital- chapitre inédit)، ويكفي أن ندفع نفس تلك التحليلات إلى الميدان العالمي حتى نصل لنفس النتائج.
* على عكس التبادل في إطار أساليب الإنتاج القديمة، حيث تشكل مواد الترف (أي المواد التي تختص الطبقات الغنية باستهلاكها) الجزء العظم من مادة التبادل، فإن التبادل في إطار أسلوب الإنتاج الرأسمالي يعتمد أساسا على مواد الاستهلاك (أي المواد ذات الاستهلاك الواسع). وهذا الأمر يستوجب أن الطلب على البضائع لا ينحصر في فئة قليلة من أعضاء الطبقات الغنية، بل يتوسع إلى الدائرة الأوسع من أغلبية الطبقات الفقيرة. لكن تحويل الطبقات الفقيرة الى مستهلكين لتلك البضائع مشروط بظهور الحاجة لهذه البضائع لدى تلك الطبقات. فطالما أن الأغلبية الواسعة من الطبقات الفقيرة تعيش ضمن دائرة أساليب الإنتاج القديمة، وهي أساليب تعتمد على الإنتاج من أجل الاستهلاك الخاص. أي في إطار الاكتفاء المغلق ضمن القبيلة أو المشاعية أو الاقطاعية أو النظام الأسري الموسع... فإن الاتجاه نحو استهلاك البضائع من السوق الرأسمالية سيكون عملية محدودة جدا، ولا تفي بالطابع الشامل للتبادل البضاعي الرأسمالي. وهكذا فشرط "تصدير فائض البضائع" هو انتزاع غالبية المنتجين من الدائرة المنغلقة لأساليب الإنتاج التقليدية، ودفعهم للدخول في دائرة إنتاج جديدة تجعلهم بالفعل مرتبطين بالبضاعة ونظام التبادل البضاعي.
* إن البضاعة، وقبل أن تكون مادة محولة بالعمل، فهي بالأساس علاقة اجتماعية. وإن "تصديرها" هو في الواقع "تصدير" لتلك العلاقة الاجتماعية بالذات. وهكذا يتحول "تصدير البضائع" إلى "تصدير" العلاقة الرأسمالية.
4- حول تصدير فائض رأس المال:
إذا كان الحديث عن "تصدير فائض البضائع"، أي تبادل البضاعة مع أساليب إنتاج ما قبل رأسمالية، أمرا ممكنا بالصيغة التي تحدثنا عنها في الفقرة السابقة، فإن "تصدير فائض رأس المال" أمر غير ممكن إطلاقا إلا في إطار هيمنة الأسلوب الرأسمالي المباشر في الإنتاج. ولا يغير في شيء كون هذا الأسلوب الإنتاجي الرأسمالي قد يتخذ من علاقات الملكية القديمة قناعا له (وهو وضع انتقالي لا غير). لذلك فإن ما يعبر عنه لينين ب"تصدير فائض رأس المال"، وكأن الأمر يقع بين عالمين مختلفين (الدول الرأسمالية من جهة والدول المستعمرة وشبه المستعمرة من جهة أخرى)، هو في الواقع تغيير أسلوب إنتاج بآخر على المستوى العالمي. لكن هنا، كما في كل الوقائع الاقتصادية، فإن لينين، كأغلب الاقتصاديين، ينظر للأمر من جانب أحادي. فهو من جهة يعتبر أن تفكيك أساليب الإنتاج التقليدية من طرف الرأسمال "عملا ثوريا" و"تقدميا" إذا قام به "الرأسمال الوطني"، بينما يظهر له ك"نهب للثروات" عندما يتكفل "الرأسمال الأجنبي" بهذه المهمة، أي عندما يقع الأمر بصفته حدثا في السوق العالمية. فتدمير الطوائف الحرفية مثلا، يظهر كعمل "ثوري" إذا حدث في إطار "السوق الوطنية"، لكنه يتحول إلى "حرب ظالمة" إذا أنجزته الصناعة البريطانية أو الفرنسية. وتدمير الاحتكار الإقطاعي للملكية العقارية، وتحويل الزراعة إلى فرع من فروع الصناعة، هو أمر "إيجابي" إذا قامت به "البورجوازية الوطنية"، لكنه يتحول إلى "سلبي" حالما يقع ذلك على يد "البورجوازية الامبريالية". وحتى تدمير "الثقافة القروسطية" هو "عمل تنويري" إذا كان على يد "النخبة الوطنية المثقفة"، لكنه يصبح "إعتداء على الهوية القومية" حالما ينتشر وباء الثقافة العالمية بصفتها بضاعة بورجوازية لا يمكن لميدانها إلا أن يكون السوق العالمية. وتشكل الدول الوطنية هو عمل "تقدمي" تنجزه البورجوازية، لكن حالما تظهر الدولة الوطنية بصفتها جماعية وهمية واصطناعية بالفعل، وأنها مجرد مستوى من مستويات مركزة الرأسمال، حالما يقع ذلك في شكل الإلحاق الاستعماري، فإنه يصبح "امبريالية". وما الإلحاق الاستعماري، بغض النظر عن شكله، سوى تشكيل وإعادة تشكيل للدولة الوطنية، أي للمستويات المتغيرة من مركزة الرأسمال، وذلك وفق شروط المنافسة البورجوازية على احتكار وسائل الإنتاج وخاصة منها الأرض، أي احتكار الشروط المادية للإنتاج وبالتالي احتكار الحق في استغلال جزء من طبقة عبيد الأجر.
بعد كل هذه الملاحظات التمهيدية، نستطيع أن نقول مع ألان بيهر، بأنه وعلى عكس ما ذهب إليه لينين، فالمرحلة الاستعمارية ليست "المرحلة العليا للرأسمالية"، بل هي بالأحرى "المرحلة الأولية للرأسمالية". أو هي مرحلة "التراكم البدائي" للرأسمال مسحوبا على الكوكب كله. لكن "التراكم البدائي" (ونضع هذا المصطلح بين معقفين بالنظر لغموضه والتباسه في مستوى التعبير عن الظاهرة المعنية) يمثل في نفس الوقت الآلية التي ينهض من خلالها أسلوب الإنتاج الرأسمالي ويبسط هيمنته على بقية أساليب الإنتاج السابقة له، والآلية لتجديد وجوده، أي لإعادة أنتاج نفسه كأسلوب إنتاج تاريخي. ففصل المنتجين عن وسائل إنتاجهم، الذي يمثل أهم حصيلة تاريخية للتراكم البدائي للرأسمال، هو عملية "بدائية" إذا نظرنا للأمر من زاوية نشوء وتطور الرأسمال كعلاقة اجتماعية، أي أنه يمثل التمهيد الأولي لخلق الأساس المادي الذي يقوم عليه الرأسمال. لكنه في نفس الوقت شرط دائم لوجود وتواصل هذا الأسلوب الإنتاجي. وهكذا فآليات اشتغال الرأسمال تقود حتميا إلى الفصل الدائم واليومي للمنتجين عن وسائل إنتاجهم، وبالتالي الاحتكار الطبقي المتعاظم لهذه الوسائل الإنتاجية بيد الطبقة السائدة. و"التراكم البدائي" يصبح تراكما "طبيعيا" للرأسمال. لذلك فالاستعمار، وبقدر ما هو التمهيد التاريخي لنشأة وتطور الأسلوب الرأسمالي في الإنتاج واتخاذه طابعه العالمي، فإنه يمثل الآلية "الطبيعية" و"اليومية" للتراكم الرأسمالي ودفع مجالات هذا التراكم، وبالتالي دفع كل تناقضاته وأزماته واختلالاته إلى أخذ طابعها الشمولي.
ونخلص من هنا إلى كون عملية فصل الاستعمار عن الرأسمالية، أي عدم النظر للاستعمار الحديث بصفته آلية للتراكم الرأسمالي على المستوى العالمي، أو كأن الاستعمار هو علاقة بين عالم رأسمالي وآخر غير رأسمالي، هو في الواقع، وبغض النظر عن الشعارات والتعابير الفضفاضة، وحتى ذات الطابع الأخلاقي، تبرئة للرأسمال من آثامه وتناقضاته ومن الاختلالات التي يؤدي إليها. كذلك هو تعمية عن طبيعة الصراع العالمي بين طبقتي البورجوازية العالمية وطبقة الشغيلة. من خلال بث الأوهام حول "الأمم المضطهدة" و"الحرب العادلة" و"حق تقرير المصير".... أي الاستعاضة عن النضال الطبقي ضد الرأسمال بصفته علاقة استغلال عالمية، استغلال طبقة لطبقة، واضطهاد طبقة لطبقة.... بإثارة النزعات القومية، وجر العمال في حروب المنافسة بين البورجوازيات باسم "الدفاع عن الوطن" و"ضد الامبريالية".....
انتهى