بورقيبة وانتصارُ الحداثة


عبدالله خليفة
2014 / 9 / 16 - 08:33     

مقاربة الرئيس السابق بورقيبة للحداثة الفرنسية والثورة الأوروبية أقيمت فوق فئة وسطى حرة في خمسينيات تونس، مثلها هذا المحامي الشاب المقاتل وطنياً والذي انتزع حرية تونس من بين مخالب الدبابات الاستعمارية، والذي أقام التحالف مع العمال التونسيين، هذه المقاربة الاجتماعية السياسية تشكلت فوق حراك طبقتين حرتين إلا من هيمنة المستعمر، تراكمت معها ثقافة تنويرية انتشرت بفضل شبكة المكتبات الخاصة وأجهزة التعليم غير الخاضعة لإدارة وحزب مهيمن.
فئة المحامين حينئذ لم تكن تلتصق بجهاز دولة متنفذ بل بمبادئ الثورة الفرنسية التي أُهدرت على يد القوى الفرنسية العليا، ولهذا كان التلاقي بين الشعبين الفرنسي والتونسي في حراك ثنائي متقارب في جوانب مهمة عبر ظروف مختلفة.
وبانتصار الحزب الدستوري وإعلائه للدستور والحريات أمكن تشكيل نهضة ديمقراطية للشعب التونسي من خلال تحرير النساء من الهيمنة الذكورية المستبدة وتحرير الثقافة من هيمنة الملأ المحافظ.
لهذا خطت تونس في عقود متعددة خطوات كبيرة في إرساء زمنية الأوربة، زمنية التقدم الحديث، بأشكال وطنية متجذرة في الواقع والتراث والعصر.
الحياة التونسية تلحظ عليها هذا الظهور البارز للنساء، فهن قوى العمل المتفجر صباحاً في المطاعم والمقاهي والدوائر والمصانع، الأرصفة تُنظف من قبلهن، والمحلات تفتح وتقدم خدماتها منذ الفجر.
وتغلغلت الحريات في التشريعات القانونية وأجهز على الكثير من القوانين العائدة إلى زمنية الإقطاع والتخلف.
تغلغلت أفكار الحرية في العلاقات بين الرجال والنساء وفي نشأة العائلة الجديدة واتساع الثقافة وانتشارها في الأرياف والمدن.
الحزب الدستوري أصيب بنكسة حين هيمن على الملكية العامة نشأت من خلاله فئة بيروقراطية راحت تسمي هذه السرقة بالاشتراكية والوطنية الدستورية، وانعكست سيطرتها على تراجع الحريات وضرب البرجوازية الحرة وإعلاء البرجوازية الحكومية!
خلق هذا تردداً سياسياً وتقلب بورقيبة بين تيارين لم يحسم أمره بينهما حتى أواخر حياته، لكن هذا الاتجاه الحكومي المسيطر لم يُكتب له البقاء والنجاح، فاتساع الفئات الوسطى والعمالية ازداد، وعواصف التقدم والحريات وسعت تأثيرها فقادت تونس أول مقاربة عربية لثورة برجوازية ديمقراطية حديثة توسع تأثيرها في البُنى الاجتماعية العربية على حسب وجود الطبقتين ونفوذهما السياسي.
ازداد تأثير الحضارة المتقدمة مع هذه التحولات ولم تُمسخ الشخصية التونسية ولم تتغرب بل تعربت وتأصلت وازدهرت بالتقدم.
توسع الثقافة بين قوى الشعب العاملة، وانتشار الجرائد الحرة بشكل واسع معبرة عن مختلف القوى السياسية المعتدلة والمتطرفة تجعل مقاهي تونس وورشها ومشاربها ساحات نقاش وحوار وإغناء مشترك فيزدهر الوعي بمعدلات متصاعدة مختلفة عن البلدان ذات الاستبداد المنغلقة.
يرجع ذلك إلى قيادة بورقيبة المؤسسة، فلولاه لما تشكلت تلك القيادة المناضلة من أجل الديمقراطية والتي تغلغلت في شرايين الأحزاب والصحافة والحياة الاجتماعية الأسرية.