الفول والماركسية


يعقوب ابراهامي
2014 / 8 / 30 - 16:37     

"ولكن السؤال الذي اوجهه للاستاذ الزيرجاوي هو : هل تعتبر الديالكتيك علما ام هو مجرد افكار او فرضيات؟" - (حسقيل قوجمان، مكتشف قانون "فناء الضدين"، يخترع علماً جديداً هو علم الديالكتيك).

ما هي العلاقة بين الفول والماركسية؟
إنسان بسيط قد يجيب على هذا السؤال بالقول أن ليست هناك علاقة، ولا يمكن أن تكون هناك أية علاقة، بين وجبة من الفول (ومن باب الشفافية نذكر إن كاتب هذه السطور لا يأكل الفول) وأفكار كارل ماركس في الإقتصاد والمجتمع البشري.
ولكن، بخلاف الإنسان البسيط، "المفكر الماركسي" حسقيل قوجمان يقول، في الحلقة الثانية من سلسلة مقالاته حول "الزيرجاوي ومأساة الديالكتيك" ("الحوار المتمدن" - 2014 / 8 / 19)، أن هناك علاقة مباشرة بين الإثنين (أي بين الفول والماركسية) وأن تحوّل حبة فول إلى نبتة فول يثبت في الواقع صحة أفكار كارل ماركس حول مستقبل الجنس البشري.
هل هذه فكرة غريبة؟ لا عندما يعلنها من أعلن في مقالٍ سابق، وهو يرتدي بزة عالم الكيمياء، أن في مقدوره تحويل الحديد إلى ذهب بفعل قوةٍ كونية خرافية لا وجود لها إلاّ في مخيلته.
لا أعرف إذا كان مقال حسقيل قوجمان (الذي نال إعجاب علاء الصفار) قد أقنع أحداً من القراء بوجود علاقة أياً كانت بين الفول والماركسية (ربما باستثناء علاء الصفار نفسه). لكن من المؤكد إن هذا المقال المذهل هو نموذجٌ لِما أقصده أنا عندما أتكلم عن ماركسية محنطة، عن ابتذال الماركسية وعن تحويل أفكار كارل ماركس إلى مهزلة.

"كل قوانين هيغل وماركس الثلاثة (ثلاثة؟ أين اختفى الرابع؟ - ي.أ.) تتحقق في حبة الفول" - يخلع حسقيل قوجمان قبعة الكيماوي ويضع قبعة الباحث في شؤون الفول - ثم يشرح: "حبة الفول هي الصورة التي يوجد فيها تناقض العنصرين المتناحرين المحتويين في الحبة ويسميها كارل ماركس حركة الديالكتيك (أين ومتى سمّاها كارل ماركس حركة الديالكتيك؟ هل كان كارل ماركس عالم نبات بحيث يسمح لنفسه أن يتكلم عن حركة الديالكتيك داخل حبة الفول؟ هل يحق لكل خبيرٍ فاشل في علوم الفول أن ينسب لكارل ماركس كل ما يحلو له؟ - ي. أ.). اي هي مادة يتحقق فيها قانون وحدة النقيضين وتناحرهما من قوانين الديالكتيك الهيغلي والماركسي".
القيمة العلمية لكل هذا العبث الكلامي هي طبعاً صفر. صفر مطلق. لكن حسقيل قوجمان لا يكتفي بهذا الصفر المطلق بل يذهب حتى النهاية في ابتذال أفكار كارل ماركس: "وحين تتوفر لحبة الفول الظروف المناسبة لنمو النقيض الساكن، البرعم، (أو البروليتاريا داخل علاقات الإنتاج الرأسمالية - ي. أ.) فانه يبدأ بالنمو على حساب المادة الغذائية المتوفرة في نقيضه تحميهما قشرة الفول السميكة (كما تنمو الطبقة العاملة تحت قشرة النظام الراسمالي – ي. أ.). وحين يبلغ نمو البرعم الى درجة ضرورة التحول عليه ان يثور (كما تثور الطبقة العاملة – ي. أ.) على القشرة (على النظام الراسمالي - ي. أ.) التي حافظته طيلة فترة نموه واصبحت عائقا في مواصلة نموه لكي ينطلق منها كنبتة الفول، انها الثورة الضرورية (يا عمال العالم اتحدوا! – ي. أ.) او التغير الفجائي لتحقيق الطفرة الكيفية من برعم الى نبتة (ومن النظام الرإسمالي إلى النظام الشيوعي - ي. أ.)".

من الإنصاف أن نقول إن حسقيل قوجمان هو ليس أول من حاول تطبيق "قوانين" الديالكتيك على المنتوجات الزراعية. سبقه في ذلك تروفيم ليسنكو: محتال ومشعوذ ماركسي سوفييتي أراد أن يفرض خرافة "قوانين" الديالكتيك على العلوم الزراعية فكانت النتيجة أن زرع الرعب والموت في صفوف الأكاديمية السوفيتية للعلوم الزراعية وأنزل الخراب والدمار بالزراعة السوفييتية.
("برافو، الرفيق ليسنكو، برافو!" – هتف ستالين من مكانه في المؤتمر الثاني للمزارعين التعاونيين في الإتحاد السوفييتي، عام 1935، بعد أن أنهى ليسنكو أحد خطاباته المسمومة ضد "الأعداء الطبقيين" في صفوف العلماء).

لماذا يبذل حسقيل قوجمان كل هذا المجهود الفكري في البحث داخل حبة الفول عن عناصر متناحرة، نقيض ونقض النقيض، ثورة ضرورية (انتبهوا إلى كلمة "ضرورية". سنعود إلى ذلك فيما بعد – ي. أ.) وتغير فجائي (كيف عرف أنه فجائي وليس تدريجي؟) ل-"تحقيق الطفرة الكيفية من برعم إلى نبتة"؟ ما هي الكفاءات العلمية لحسقيل قوجمان التي تؤهله للكتابة عن عمليات كيميائية وفيزيولوجية تجري داخل حبة الفول؟ كيف قرّر إن البرعم هو نقيض الحبة؟ ولماذا النبتة هي نقيض البرعم؟ وما الفائدة العلمية من كل هذه البهلوانيات الكلامية؟ أي عالم نبات يحترم نفسه مستعدٌ أن ينطق بمثل هذه الترهات؟ ما للماركسية وحبة الفول؟
حسقيل قوجمان يبذل كل هذا المجهود الفكري (كما حاولتُ أن أبين ذلك في الجمل الإعتراضية التي أدخلتها في النص المقتبس أعلاه، وكما عبّرعن ذلك جيداً علاء الصفار في واحدةٍ من تعليقاته المفهومة النادرة) لكي يثبت حتمية الإنتقال من المجتمع الراسمالي ألى المجتمع الشيوعي.
كيف انتقلنا من حبة الفول إلى المجتمع الشيوعي؟ إقرأوا ما يلي:
" الديالكتيك حركة (ما معنى إن الديالكتيك حركة؟ نغض الطرف عن ذلك الآن. هذا ليس أول تعبير غير دقيق لحسقيل قوجمان – ي. أ.) تصح على كل وحدة نقيضين في الطبيعة (حبة الفول مثلاً – ي. أ.) وتصح على وحدة النقيضين في المجتمع البشري، قوى الانتاج وعلاقات الانتاج . . . منذ نشوء المجتمع البشري حتى ضرورة تحوله الى المجتمع الشيوعي (متى؟ - ي. أ.)".
هل فهمتم الآن؟ هل انتبهتم إلى كلمة "ضرورة" الواردة في الحديث عن تحول حبة الفول إلى نبتة وفي الحديث عن تحول المجتمع البشري إلى مجتمع شيوعي؟ نفس "القوانين" التي تحوِّل حبة الفول إلى نبتة فول تتحكم ب-"الضرورة" في تاريخ الإنسان الواعي صاحب الإرادة وتقرر مصيره بالإستقلال عن إرادته ورغم إرادته. بالضبط كما أن حبة الفول تتحول إلى نبتة فول بالإستقلال عن إرادتها ورغم إرادتها.
أمرٌ تافه واحد نسى "المفكر الماركسي" حسقيل قوجمان وهو أن للإنسان وعياً وإرادة ما ليس لحبة الفول.
هذه هي الماركسية المحنطة في أعلى مراحلها. هذا ما أعنيه بابتذال الماركسية
الديالكتيك، وفقاً للماركسيين المحنطين، هو ليس طريقة في التفكير والبحث والتحليل (الطريقة الديالكتيكية في التحليل التي كثيراً ما تحدث عنها كارل ماركس) بل قوانين حتمية مفروضة على الإنسان رغم إرادته. الديالكتيك ليس طريقة لفهم الطبيعة والمجتمع البشري بل قوانين مغروسة في الطبيعة. القوانين نفسهاالتي تحكم المادة الجامدة الخالية من الوعي تحكم تقدم الإنسان الواعي صاحب الإرادة وتقرر تاريخ المجتمع البشري.
ملخص الخرافة: قوة كونية واحدة، قوة حتمية، قوانين ديالكتيكية "ضرورية" واحدة، تعمل على الطبيعة الجامدة، على الحيوان والنبات، على الإنسان ذي الوعي وعلى المجتمع والتاريخ البشري على حدٍّ سواء.
ولكي تكتسب هذه الخرافة صفة العلمية ابتدع حسقيل قوجمان اسماً جديداً لم أجد له مثيلاً في كل الأدبيات الماركسية التي اطلعتُ عليها حتى الآن: علم المادية الديالكتيكية.
هذا المُصطلح طبعاً (علم المادية الديالكتيكية) هوالتناقض بعينه. لكن حسقيل قوجمان (كما أشار إلى ذلك الزميل جاسم الزيرجاوي في أحد تعليقاته) يتكلم بلغة هي غير لغتنا نحن.
ويبقى السؤال الأهم: لماذا يحاول "مفكر" ماركسي أن يثبت أن التاريخ البشري يسير وفقاً ل-"قوانين" كونية، أزلية سرمدية، خارجة عن إرادة الإنسان؟