نقد [العولمة] .. لسعاد خيري (1)


موسى راكان موسى
2014 / 8 / 29 - 02:19     

على غلاف كتاب [العولمة] للدكتورة سعاد خيري _من ناحية الخلف_ .. قالت الدكتورة : { الكتاب قراءة ماركسية في الإقتصاد السياسي المعاصر و متابعة منهجية لتطور الرأسمالية حتى مرحلتها الحالية (عولمة الرأسمال) أخطر مراحل الرأسمالية على البشرية } , و أضافت : { و إنطلاقا من المنهج المادي الديالكتيكي يدرس العولمة كوحدة و صراع بين النقيضين (عولمة الرأسمال) و (عولمة الإنسانية) } .

و كان هذا كافيا لأبد بدراسة الكتاب و نقده فطرحه ها هنا على أجزاء , و في هذا الجزء الأول أتناول المقدمة و الفصل الأول المعنوّن بعنوان : العولمة في عصرنا إتحاد أضداد , و لكن قبل البدء نعود لنمارس حق النقد على ما أوردته الدكتورة سعاد على غلاف الكتاب بالأسئلة التالية مجيبين عليهن في ختام الأجزاء بشكل مباشر :

1) هل الكتاب قراءة ماركسية في الإقتصاد السياسي المعاصر حقا ؟ أو هل هو ينطلق من المنهج المادي الديالكتيكي في قراءته حقا ؟ .
2) هل العولمة رأسمالية أم الرأسمالية عولمة أم ماذا تكون بالضبط كما يقوله الكتاب ؟ .
3) هل الديالكتيك الذي يفترض (رأسمال) و (إنسانية) ضمن إطار أو نمط العولمة هو ديالكتيك ماركسي / مادي أم ديالكتيك هيجلي / مثالي .. أم شيء آخر ؟ .

========================================

في مقدمة الكتاب :

تبدأ الدكتورة بالقول :{ أدى إنهيار التجارب الإشتراكية الأولى إلى فقدان الثقة بالماركسية } و { ضعفت المناعة ضد الإيديولوجيا الرأسمالية (...) المضللة و لاسيما عن إنتصار الرأسمالية الحاسم و نهاية التاريخ } .

و رغم عمومية الحديث إلا أنه من الممكن أن نفهم من ذلك أن العلاقة مع الماركسية كانت علاقة (( ثقة )) لا (( وعي )) .. و كانت الدولة أو الدول الإشتراكية هي منبع هذه الثقة بدون الإشارة إلى (هل كانت الدول الزاعمة رفع الراية الإشتراكية إشتراكية حقا ؟) .. و غالب الظن أن ما يُقصد بالإنهيار ها هنا هو إنهيار الإتحاد السوفييتي 1991 (البنية الفوقية) _و قد سبق ذلك إنهيار البينة التحتية بإلغاء الإشتراكية في فترة خروتشوف_ .

و أما نقطة ضعف المناعة ضد (الإيديولوجيا) الرأسمالية لا يجعل الرأسمالية منتصرة بلسان الدكتورة .. فلما إذا تعتبرها موجودة على أرض الواقع كنمط إنتاج عالمي (حاليا) ؟ , تبقى (الإيديولوجيا) الرأسمالية تعبير عن جزء من البنية فوقية فقط .. و التي هي الأخرى لا تزول مباشرة بزوال البنية التحتية للنمط الرأسمالي .

و تقول : { مرحلة عولمة الرأسمال لا تهدد الطبقة العاملة فقط بل البشرية عموما بخطر الفناء , و أصبحت الماركسية لذلك ليس أداة الطبقة العاملة من أجل تحررها من الإستغلال و الإستعباد فقط و إنما أداة البشرية عموما للتحرر من خطر الفناء } .

و إن كانت الدكتورة مصيبة حقا في مسألة خطر الفناء إلا أن الدكتورة تلمح إلى كون العولمة نمط .. و الرأسمالية هي جزء منه , بالمثل كأن تقول أن الرأسمالية جزء من نمط الإمبريالية .. و كأن هناك إمبريالية إقطاعية و أخرى عبودية أو إنسانية (!) , و هذا الخلط و إن كان يؤدي إلى أخطاء علمية إلا أن خطره يطال الواقع في قراءته و تقييمه و وضع خطة العمل .. فالخطأ خطر واقعي (تجريبي) مبني على خطأ نظري (تجريدي) .

لكن رغم ذكر (( خطر الفناء )) إلا أن الدكتورة لم تذكر حقيقة هذا الفناء فيما يتمثل .. فإن كانت تعني (( الإستغلال )) و (( الإستعباد )) , فهل هما يؤديان إلى (( الفناء )) ؟! هل يتفق هذا مع جوهر الرأسمالية ؟! , لربما تجيب الدكتورة بإستفاضة فيما بعد .

{ أتمنى أن يحظى الكتاب بمناقشة علمية و نقد واسع يسهم في تطوير الإقتصاد السياسي المعاصر , الذي يشكل القاعدة المادية لتطور كفاح البشرية } .. و هذا هو هدف هذا العمل .

========================================

في الفصل الأول / العولمة في عصرنا إتحاد أضداد :

{ أصبحت الكوارث و المآسي التي تسببها عولمة الرأسمال عالمية شاملة , و الإنتصارات التي تحققها العولمة الإنسانية على قلتها عالمية أيضا } .

يبدو أن العولمة عند الدكتورة سعاد بمعنى العالمية و يتأكد ذلك من قولها : { فالعولمة و تعني لغويا تعميما أو شمولا عالميا سواء للخير أو للشر , و هي عملية تاريخية بدأت منذ تبلور وعي المجتمع البشري , و تطوّرت مع تطور قوى الإنتاج } .

إذا فالعولمة بدأت مع (( تبلور الوعي البشري )) و تطوّرت مع (( تطور قوى الإنتاج )) [!] , إذا فالعولمة أقدم من الرأسمالية .. بل و أقدم من الإقطاعية و العبودية , و هذا و إن رجع في معناه إلى المرجع اللغوي .. إلا أن المرجع الإصطلاحي يخالف في ذلك .. خاصة و إن العولمة أساسا ليست عربية الأصل , و الماركسي لا يقع في ما يقع فيه التجريبي من تسطيح و سذاجة الظاهر .

{ فالرأسمالية كما أكد ماركس تحتفظ بجميع مراحلها و تسخرها لخدمة مرحلتها المتقدمة و تحتفظ بكل تناقضاتها و تعمقها أكثر فأكثر و تضيف في كل مرحلة تناقضات جديدة و تعزز القاعدة الإجتماعية المناهضة للرأسمالية , فهي كما قال كارل ماركس (تحفر قبرها بيدها) } .

فإن كانت الرأسمالية هي كذلك حقا , فهل ما نعيشه اليوم رأسمالية ؟ .. هل إحتفظت الرأسمالية بتناقضاتها إلى اليوم ؟ .. هل تعززت القاعدة الإجتماعية المناهضة للرأسمالية ؟ .. هل ما يزعم أنه رأسمالية حاليا تحفر قبرها بيدها ؟! , لكن مهلا .. ماذا قصدت الدكتورة حين قال { تضيف في كل مرحلة تناقضات جديدة } ؟! .. نعرف ذلك من خلال تقسيم مرحلي للرأسمالية أقرته الدكتورة : {
1) التناقض الرئيس بين العمل و الرأسمال في مرحلتها الأولى , مرحلة المنافسة الحرة يشمل عمال العالم .
2) شمل التناقض الرئيس في مرحلة الإمبريالية عمال العالم و شعوب المستعمرات .
3) في هذه المرحلة من الرأسمالية حيث هيمنة الرأسمال المالي العالمي و رأس رمحه الإمبريالية الأمريكية و أداته العسكرية حلف الأطلسي التي أخذت تهدد البشرية بالفناء أو الخضوع لعولمتها التي لا تعترف بالحدود الدولية (...) أصبح التناقض بين الرأسمال و البشرية عموما هو التناقض الرئيس و أصبح الشعار (( إيتها البشرية إتحدي )) } .

نقطة مهمة .. هي في كون المرحلة الثانية شهدت ظهور (( مركز إشتراكي )) .. و عليه قام (( المشروع اللينيني )) الذي زاد على شعار (( يا عمال العالم إتحدوا )) ب (( و شعوب المستعمرات )) , و لا ننسى أن تناقض (( الرئيس )) لا يعني إلغاء للتناقضات الأخرى , فالمرحلة الثانية و إن كان هناك تطور للرأسمالية إلا أنه لا يجب أن نغفل المشروع اللينيني و المركز الإشتراكي في وعي الصراع و دوره فيه .

و قد وقعت الدكتورة في المرحلة الثالثة في خلط آخر .. فيما بين (( العولمة )) و (( الإمبريالية )) , فإن إفتراض وجود إمبريالية يعني اللا عولمة .. و العكس صحيح , و لكن في قول { أصبح التناقض بين الرأسمال و البشرية عموما هو التناقض الرئيس } عبثية .. ماذا يعني أن تقول أن التناقض الرئيس هو تناقض (( الرأسمال )) و (( البشرية )) ؟! , ما هو قصدها ب (( الرأسمال )) .. هل قصدت نمط الإنتاج الرأسمالي بما يحتويه من طبقات و علاقات ؟! .. فإن كان كذلك فهل من المعقول أن تجعل البشرية _بإطلاق دون تحديد_ نقيضة للرأسمال بكل ما فيه من علاقات و طبقات ؟! , فإن سلمنا جدلا بالقول القائل أن العولمة وحدة واحدة تضم تناقضين (( الرأسمال )) و (( البشرية )) .. فهل يعني أن (( البشرية )) جزء من الكل (( العولمة )) لكنها ليست جزء من النقيض (( الرأسمال )) , يمكن ذلك بإجتماع ثلاث شروط .. إجتماع مستحيل :

الأول في كون العولمة نظام إقتصادي مختلف عن الرأسمالية .. كما الإقطاعية تختلف عن الرأسمالية , الثاني في كون البشرية أتت من الفضاء دون أن تعرف أو تخضع للرأسمالية , الثالث في كون الرأسمالية كنمط إنتاج في العولمة .. مع بقاء العولمة نمط إنتاج مختلف عن الرأسمالية .

بالإضافة إلى أن المرحلتين (( التنافسية )) و (( الإحتكارية )) لم يغب فيهما [ الصراع الطبقي ] , بينما في المرحلة المزعومة (( العولمة )) الطبقات فيها مختزلة كلها في (( البشرية )) لكنها جزء من (( العولمة )) لكنها ليست جزء من (( الرأسمالية )) .. كمثل أن (( الأقنان )) جزء من (( الإقطاعية )) لكنها ليست جزء من (( الأسياد )) [!] .

{ لم يعد للرأسمالية أية إمكانية في تطور البشرية و إنما على العكس أصبحت عائقا مدمرا لقدراتها و مهددا بفنائها .. و لكن البشرية لم تستطع حسم الصراع إلى جانب عولمتها حتى الآن و ذلك لعدم تناسب تطورها العلمي و التكنولوجي مع تطورها الثقافي و الإجتماعي و الأخلاقي } .

و تضيف : { و لم تصمد في هذا الكفاح التجارب الأولى للإشتراكية في الكفاح فإنهارت نتيجة لأسباب عدة أهمها ضعف الوعي الإجتماعي و الفكري لعموم البشرية فلم يجر تطوير الماركسية لتلائم تطور العصر فضعفت وسائل و أساليب كفاحها و ترهلت } .

إن الدكتورة بقولها : { البشرية لم تستطع حسم الصراع (...) لعدم تناسب تطورها العلمي و التكنولوجي مع تطورها الثقافي و الإجتماعي و الأخلاقي } إنما تخرج على زعمها أن منطلقها هو مادي ديالكتيكي إلى ما هو أقرب إلى المثالية الديالكيتيكة , فإن كانت القضية قضية (( عقلنة البشرية )) بتوعيتها و تثقيفها .. و بالتالي تتطور ثقافيا و إجتماعيا و أخلاقيا فهي قضية طوباوية , و يتأكد لنا ذلك من خلال قولها فيما يتعلق بأسباب إنهيار التجارب الإشتراكية : { إنهارت لأسباب عدة أهمها ضعف الوعي الإجتماعي و الفكري لعموم البشرية } .. (( أهمها )) ضعف الوعي لعموم البشرية [!] , إن كان أهم أسباب إنهيار التجارب الإشتراكية أو لنقل الإتحاد السوفييتي هو ضعف الوعي لعموم البشرية .. فهل يمكن أن نقول أن قيام المركز الإشتراكي و الدول الإشتراكية كان قائما على وعي عموم البشرية [!] , أبدا .. إن الأهم و الأصل في نهوض أو سقوط أي مجتمع إنساني كبنية فوقية إنما هو نهوض أو سقوط في ذات البنية التحتية [ الأصل المادي / الإنتاج / الإقتصاد ] , و ما البنية الفوقية (بوعيها أو بضعفه أو حتى بعدمه) إنما مرتبط بالبنية التحتية التي تحدده , فأي تغيير في البنية الفوقية لا يتبعه تغيير في البنية التحتية لكن أي تغيير في البنية التحتية يتبعه حتما تغيير في البنية الفوقية _لكن لا يكون مباشرة كما يتمثل للتجريبيين_ .

{ فلم يجر تطوير الماركسية لتلائم تطور العصر فضعفت وسائل و أساليب كفاحها و ترهلت } , يخطىء البعض عن قصد أحيانا و أحيانا عن دونه في التفريق بين (( تطوير الماركسية )) و (( قراءة معاصرة ماركسية )) , فالأولى تفترض وجوب تجاوز الماركسية إلى غيرها سواء بإبتذالها أو تحريفها أو الردة عنها .. و الثانية تفترض مواكبة العصر أو التطور و قراءته و تحليله ماركسيا , لكن هل قصدت الدكتورة أن ضعف الوعي لعموم البشرية مرتبط بعدم تطويرهم للماركسية أو قراءتهم العصر بتطوره و تقدمه قراءة ماركسية ؟! , إن عموم الشعب في الإتحاد السوفييتي _عمالا و فلاحين بالأخص_ .. لم يكونوا ماركسيين كلهم , حتى و إن وافقوا على بناء دولة إشتراكية و التوجه نحو الشيوعية , إن مسألة الوعي و القراءة المعاصرة الماركسية مرتبط بحزب الطليعة بالدرجة الأساس .. و هو المحاسب في ذلك إذ تجب عليه .

{ ظهرت العولمة الإنسانية فكريا من خلال الحلم بالعدالة الإجتماعية عبر المعتقدات الدينية و تصورها للجنة , و ظهرت الأفكار الإشتراكية بدءا من أفلاطون إلى الإشتراكيين الطوباويين الفرنسيين إلى الإشتراكية العلمية التي وضع أسسها ماركس و إنجلز و محاولات تحقيقها } .

هذا ما فمهمته : ظهور (( العولمة الإنسانية )) مرتبط ب (( الحلم بالعدالة الإجتماعية )) عبر (( المعتقدات الدينية )) .. و لتحقيقها ظهرت (( إشتراكية أفلاطون )) و (( الإشتراكية الطوباوية )) و (( الإشتراكية العلمية )) .. [!] .

بغض النظر عن الرابط العجيب في البناء السابق , إلا أنه لا يمكن غض الطرف عن فكرة (( العدالة الإجتماعية )) بربطها ب (( الإشتراكية العلمية )) , إن إفتراض عدالة إجتماعية هو إفتراض طوباوي فلا يمكن أن يكون بين الطبقات بحكم وجودها كطبقات أي عدالة إجتماعية _فالعدالة بالنسبة للبرجوازية هي مصلحتها .. و كذلك للبروليتاريا .. إلخ_ .. و لا أكثر طوباوية منه إلا إفتراض تحقيقه , و الإشتراكية العلمية شرط من شروطها (( ديكتاتورية البروليتاريا )) و في ختام هذا الطريق الشديد الصراع _أي الإشتراكية_ ننتهي إلى محو كل الطبقات بما فيها طبقة البروليتاريا التي تمحي نفسها بنفسها بحكم محو الطبقات الأخرى , و بذلك لا عدالة إجتماعية سواء في الطريق (الإشتراكية) بحكم الصراع الطبقي و المتزايد .. و لا حتى في آخر الطريق (الشيوعية) بحكم محو الطبقات .

فالعدالة الإجتماعية (( حلم )) .. و لا يمكنه أن يتجاوز حدود (( الحلم )) .

{ محاولات تحقيقها (...) لم تنجح لحد الآن لعدم توفر الشروط الذاتية و الموضوعية (...) أما الآن و قد حققت الثورة العلمية و التكنولوجية العوامل الموضوعية لتحقيق حلم البشرية بالتحرر الكامل و عولمة الرفاه و الحرية فلا تزال البشرية عاجزة عن تحقيق العامل الذاتي } .

و العامل الذاتي هو ذاته الوعي ضمن إطار بشري [!] , بغض النظر عن التحفظات الغير بسيطة بالمرة فيما يتعلق بالشروط أو العوامل الموضوعية في حقيقة توفرها لتحقيق (( حلم )) البشرية , إلا إنه من الواضح جدا أن الدكتورة تولي مسألة (( الوعي )) / (( الشروط أو العوامل الذاتية )) أهمية أكثر و أكبر من (( الأساس الإقتصادي / المادي / نمط الإنتاج )) / (( الشروط أو العوامل الموضوعية )) , فهل من الماركسية القول بأن العوامل الموضوعية إن تحققت فإن التغيير أو التقدم لن يكون إلا بتحقيق العوامل الذاتية ؟! .

{ فالثورة العلمية التكنولوجية فرضت تطورا نوعيا في الصراع الطبقي و عمقت محتواه الإنساني و وسعت قاعدته الإجتماعية لتشمل الإنسانية في مواجهة الرأسمال , و لذلك فرضت تطور الأممية البروليتارية إلى العولمة الإنسانية (...) و ما على الواعين إلا فهم هذا الواقع و تطوير الماركسية وفقا لمتطلباته و الإستفادة من جميع الإمكانيات التي توفرها الثورة العلمية التكنولوجية بتحقيق أهدافهم , أهداف الإنسانية عموما } .

فإن كانت الثورة العلمية التكنولوجية أدت إلى تطور نوعي أو كيفي في الصراع الطبقي لتشمل الإنسانية في مواجهة الرأسمال , فما الذي يمثله الرأسمال ها هنا ؟ .. فإن كان يمثل علاقات إنتاج فالواقع يخبرنا أن الطبقة السائدة اليوم ليست هي البروليتاريا كما أن العلاقات السائدة ليست علاقات النمط الرأسمالي [!] .

إن (( فهم الواقع )) ثم (( تطوير الماركسية )) يختلف حتما مع (( قراءة العصر قراءة ماركسية )) , فمما يبدو أن فهم الواقع فتطوير الماركسية يفترض إلغاء الصراع الطبقي لأن النضال نضال بشري أو إنساني و المسعى إلى أهداف الإنسانية عموما [!] .

و قد ذكرت الدكتورة عدد من السلبيات التي أنتجتها الرأسمالية .. لكن عدد من النقاط رأيناها تنقض الرأسمالية أو أنها غريبة عن الرأسمالية : { بدل إنتشار العلم و المعرفة أدت إلى إغراق البشرية بمتاهات الجهل و الأمية , و بدل إستخدام المنجزات العلمية في مجال الطب لمكافحة الأمراض أخذت تنتج الأسلحة البكتريولوجية لنشر الأمراض و إنتاج أسلحة الدمار الشامل مثل الأسلحة النووية الجبارة و التكتيكية (...) بل و إستخدام هندسة الجينات لتشويه البشرية و مسخها } .

فيما يتعلق بتفشي الجهل و الأمية .. هذا غير صحيح , فنسبة الأمية في أمريكا تقترب من الصفر إن لم تكن صفرا , و أما في العالم الثالث و منطقتنا العربية جزء منه .. فالأمية إلى الإندثار , كما أنه و في حالة وجد أميّ بيننا اليوم فهو يجيد إستخدام الآلات و النظم التكنولوجية و المعلوماتية بشكل لا بأس به , فعلى العكس أن الإنتشار العلمي و التكنولوجي قاما بدور هائل في القضاء على الأمية و الجهل , طبعا بغض النظر إن كان هذا العلم أو هذه المعرفة على قدر كافي من التمكن الإختصاصي .. فهذا شأن دارسي الدراسات العليا , أما قضية الوعي فهذا أمر آخر .

أما فيما يتعلق بالأسلحة و التشويه و الأمراض المتعلقة بالإنتاج العسكري .. فالإنتاج العسكري هو خروج على نمط الإنتاج الرأسمالي .

{ و يهدف الرأسمالييون من إطلاق مفهوم العولمة على عولمتهم إلى إشغال علماء الإقتصاد و المفكرين في نقاش يشغل الرأي العام العالمي عن التمايز بين العولمتين الرأسمالية و الإنسانية } .

نفهم تأكيد أن العولمة وحدة (رأسمالية) و (إنسانية) .. و هما نقيضين عند الدكتورة سعاد , لكن الإضافة هنا في كون أن الرأسماليين يطلقون مفهوم العولمة فقط على (الرأسمالية) دون العولمة (الإنسانية) , و ذلك لإشغال علماء الإقتصاد و المفكرين .. لكن ما هو الشيء المرجو أن ينشغل عنه علماء الإقتصاد ؟! .. أهو الإقتصاد العولمي المختلف عن الرأسمالية ؟! , لا أعتقد ذلك .

{ فالشيوعييون بتخطيهم النهج الماركسي في تحليل الواقع تحليلا ديالكتيكيا لا يرون العولمة وحدة و صراع أضداد (...) أما الشيوعييون فأفضل من فيهم لا يرى السمات الجديدة لعولمة الرأسمال التي تفرض أساليب و وسائل جديدة في الكفاح و تطوير النظرية الماركسية لتستوعب هذه السمات و تسلح البشرية بالإستراتيج و التاكتيك الملائمين لخلاصها مرة و إلى الأبد , و يعتبرها بعضهم مرحلة من مراحل الإمبريالية التي بدورها مرحلة من مراحل الرأسمالية ! } .

إن الديالكتيك الذي يرى في العولمة وحدة صراع بين نقيضين (( الرأسمالية )) و (( الإنسانية )) حتما ليس ديالكتيك مادي [ماركسي] و أيضا ليس ديالكتيك مثالي [هيجلي] , فإن النقيضين ليسا من ذات الجنس _هذا إن سلمنا جدلا بكونهما نقيضين مباشرين لبعضها البعض_ , صدقا لو كان هذا الديالكتيك هو ذاته ديالكتيك ماركس لكان رأى أن التاريخ هو ذاته العولمة و لكان التناقض التاريخي مستمر بين طرفين أحدهما ثابت : (العبودية – الإنسانية) .. (الإقطاعية – الإنسانية) .. (الرأسمالية – الإنسانية) , إن ديالكيتك سعاد خيري هو ديالكتيك سعاد خيري و ليس ديالكتيك ماركس أو حتى هيجل .

طبعا أتفق مع الدكتورة في مسألة المعاصرة و قراءة العصر قراءة ماركسية , لكن في المقابل لا يعني ذلك بالمطلق التحرر من المنهج العلمي .. أو وصف أبحاث و دراسات [تجريبية] على أنها [ماركسية] و بالتالي العمل على أساسها .

في الجملة الأخيرة : { يعتبرها بعضهم مرحلة من مراحل الإمبريالية التي بدورها مرحلة من مراحل الرأسمالية ! } , لقد فهمت أن هذه الجملة إستنكارية على من يعتبر العولمة مرحلة إمبريالية من مراحل الرأسمالية .. إذ يجب أن يعتبرها إمبريالية من ثم رأسمالية من ثم عولمة , و العولمة تضم (الرأسمالية) و (الإنسانية) ... [!] .

{ فلو تابعنا ما أنجزته الرأسمالية منذ بلوغها هذه المرحلة في النصف الثاني من القرن العشرين و حتى يومنا هذا لرأينا أن ما هدمته و أفنته أكثر مما بنته و أحدثته (...) و أنتجت من أسلحة الدمار الشامل أكثر مما أنتجته من وسائل الإنتاج (...) و طوّرت العلوم في المجالات الهدامة أكثر مما طوّرته في مجال خدمة البشر } .

إن فترة النصف الثاني من القرن العشرين شهدت أحداث كانت كافية لدفع الرأسمالية إلى اللجوء إلى حالات إستثنائية خارجة عن طبعها كالدفع في الإنتاج العسكري _على غرار النظام الإقطاعي حين لجأ إلى توظيف الأحرار بدل الأقنان الذين خرجوا في الحروب الصليبية .. و كان هذا خروجا عن النظام الإقطاعي و الذي أدى إلى تصدعه فإنهياره_ , و الدكتورة سعاد خيري في ذلك إقتربت و لعل السؤال الذي تطرحه دليل على ذلك : { فأين حيوية الرأسمالية ؟ و أين إيجابياتها ؟ } .. و إن (( حيوية )) النظام الرأسمالي هو المهم , فهل النظام الرأسمالي (( حيّ )) ؟! .

{ على الإنسانية تطوير الماركسية وفقا لما تفرضه عالمية الرأسمال التي أصبحت تهدد البشرية عموما دون تفريق بين شغيلة يد أو فكر .. بين شغيل و عاطل .. بين أمم فقيرة و أمم غنية , فالفناء يهدد الجميع و لابد من تطوير النظرية التي توحد البشرية عموما , توحد كفاحها و توحد تضامنها , توحد مصالحها و أهدافها النظرية العلمية الديالكتيكية و ليس نظرية عدمية (...) إذ لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية تستطيع أن تواجه جميع متطلبات العصر و إستخدام إمكانياته الهائلة لتمكين البشرية من تحقيق حلمها , و إنتقالها من مرحلة البشرية بذاتها إلى البشرية لذاتها } .

رغم التحفظ من (( عالمية الرأسمال )) إلا أن الدكتورة سعاد محقة فيما تدعي إليه من قراءة العصر قراءة ماركسية _مع حسن الظن فيما يتعلق ب (( تطوير الماركسية ))_ , و محقة كذلك في قولها { الفناء يهدد الجميع } , كما أن الدعوة إلى دراسات و بحوث تنظيرية معاصرة ماركسية أمر دائم .. لكنه بالذات في هذه الفترة ضرورة قصوى .

أما الإشارة إلى (( عدمية )) البعض .. فهي إشارة في غير محلها , فمن لم يقدر أن يقدم نظرية علمية فلن يكون تقديم نظرية سيزيفية أفضل .

و في ختام هذا الجزء .. أوّد القول أن تناول كتاب [العولمة] للدكتورة سعاد خيري يستحق أن نتناوله لتقديمه أفكار تختلف عما نتناوله غالبا في موضوع [العولمة] .. و إن كان التناول ها هنا [نقدي] .

:: الكتاب [العولمة] , للدكتورة سعاد خيري , دار الكنوز الأدبية , الطبعة الأولى 2000 ::