رحلة في فهم طبيعة العلم


مصطفى الصوفي
2014 / 8 / 22 - 21:43     

كان غاليليو غاليلي يدرس كوكب المشتري من تلسكوب صنعة هو بنفسة حينما حقق اكتشافا بان رصد ثلاثة اجسام قريبة من الشمس ، في بادئ الامر اعتقد انها نجوم خافتة ، لكن بعد مراقبة لمدة من الزمن وجد انها تتحرك كما لاحظ انها تختفي خلف بعضها وتظهر ، فعرف انها تدور حول الشمس وليس حول الارض .عام 1632 تعرض غاليليو للمحاكمة و التهديد بمعاقبته بالحرق بتهمة الهرطقة بعد نشر كتابة (حوار بين النظامين الرئيسين في العالم) و على رغم من موافقة البابا اوريان الثامن في حينها لكن تمت هذا بسبب تهمتين أساسيتين وجهت الى غاليليو قبل محاكم التفتيش :
الاولى : ان نظريته تتفق مع نظرية كوبرنيكس في دوران الارض حول الشمس ،وهذا ما يخالف الحقيقة التي تؤمن بها الكنسية !.
الثانية : انه نشر كتابة باللغة الايطالية وليس اللاتينية !
الثانية قد تبدو غير منطقية لكنها كانت تهمه في حينها ، فالمؤسسة الدينية كانت تحرص على بقاء المعارف تحت سيطرتها عن طريق تحديد اللغة ، الحقائق تاريخية و القضايا الفلسفة و العلمية تقرأ وتحتكر من قبل رجال تلك المؤسسات فلا تنقل للعامة الا بعد الموافقة على ذلك وعن طريق رجال تلك المؤسسات ، لذا كان من المحرم نشر المعارف لتتداولها العامة بلغتهم و هذا يضمن ان لا تنشر الافكار و العلوم التي تهدد سلطة رجال الدين الذين كانوا وحدهم يجيدون اللاتينية مع النخبة المثقفة التي تتشارك معهم في السلطة أو النفوذ !.
بفضل حركات التغيير الاجتماعي و المفكرين الذين ازاحوا تلك السلطة الكهنوتية على المجتمع ومع انتشار التكنلوجيا خصوصا الطباعة تغير هذا الوضع بمرور الزمن حتى لم يبت للجاهل حجه في جهلة بالعلم وما يقول اليوم! فبضغطات ازرار بسيطة يستطيع ان ينال من نتائج ابحاث العلوم في القضية التي يبحث عنها دون خوف من محاكمات و حرق .
لكن على الرغم من كون العلم قد فسر لنا الكثير و اجاب على الكثير من الاسئلة مثل مكونات الجسد البشري و البحث اصل الانسان وكانت اجاباته اكثر اثارة وجمال ودقة من تلك القصص الادبية الموروثة التي لاتزال ترددها تلك المؤسسات، الا ان هناك عدد هائل من الناس وعلى الرغم من كل هذا البحث و الاجابات التي احتاجت جهودا عظيمة وقت طويل نجدهم متكلين و مستبدلين المعلومة الدقيقة بالخرافة القائمة على الايمان وليس على العلم ، والسبب الاساسي لذلك هو كونها منقولة عن الاباء والاجداد بشكل موروث مقدس ، و كثيرا ما نجد ان هناك عدد غير قليل من الناس في الشرق الاوسط متقبلا للعيش وهو مؤمن باعتقادات مبنية على الموروث في حياة مليئة بالمعاناة والعوز والمشاكل الاجتماعية على ان يتقبل نقاش العلم وطرحة في الكثير من القضايا والمواضيع ، ان عقدة الخوف من التحرر من منظومة الاباء والاجداد لاتزال حاضرة بشدة وبدل ان نمتلك مؤسسات تعتمد على العلم والمعرفة الحديثة نجد ان الكثير من المؤسسات الاعلامية والثقافية تتبنى الترويج للأفكار الخاطئة والفلسفات البالية و الاعتقادات الاسطورية .

ان انكار جهود عدد كبير من الباحثين في المجال العلمي و غض النظر عن تضحياتهم في سبيل تنوير البشرية و الخروج بها من ظلمات الخرافة الى نور المعرفة لن يغير من واقع التطور الدائم للفهم البشري وتوسع المعرفة وانتشارها بين عامة الناس ، ومهما حشدت محاكم التفتيش ورجالاتها في معابد الموروث من جهود لؤد المعرفة وحرمان البشرية من فوائدها عن طريق تكميم الافواه والتخويف وحرق الجاهرين بما يتوصلون له من معارف او تجيش الاتباع لتحريف الحقائق العلمية وشيطنة من يطرحها لم تتوقف الاسئلة يوما و لن يتوقف البحث عن الاجابات بعيدا عن عبودية الفكر وسلطان العقل العقائدي والاجوبة الجاهزة المليئة بالغيبيات ، فالباحثين عن الحقائق العلمية لا يكلون من هدم حصون الجهل و اصنام المحرمات بمعاول المعرفة فها هي فكرة غاليليو لم تحترق مع كتبة ولم تحجبها اي محاكمة و بقيت تدور !.

ان معرفة المستقبل مرتبطة بمعرفة الماضي والحاضر ، فمن خلال الماضي سنعرف سبب احداث الحاضر و سنتنبأ بما يحدث في المستقبل ، فعن اصل الانسان نبحث وعن السؤال الاقدم الذي شغل البشرية حينما باتت المعرفة اساس لبقاء النوع البشري وبات تقدمة الثقافي والحضاري معتمدا على الاجابة على الاسئلة لحل المشاكل التي تواجهه، كان فلاسفة الازمنة السحيقة هم اول من اجاب على هذا السؤال حتى ظهر بعدهم بما يسمون بمؤسسين الديانات ، وعلى مدى زمان الحضارة البشرية وتطورها الثقافي تعدد الاجابات و ظهرت الآلاف من القصص والفرضيات التي احتوت على الكثير من التأويلات التي اعتقد بها البشر حتى ظهور العلم الذي كان له الدور الاساسي في تغير طريقة تفكيرنا وتفاعلنا مع محيطنا البيئي والاجتماعي ، خصوصا بعد ان بحث العلماء في الموضوع واجابوا على هذه السؤال الذي فتح لنا العديد من الاسئلة .

اذا كنا ساعين للإجابة الادق عن اصل الجنس البشر ، سيكون من الحماقة ان نتجاهل العلم صاحب الفضل و الوسيلة الافضل والمثبتة جدارتها لفهم القضايا الطبيعية واحداث الكون وظواهره ونتكل على الاسطورة والخرافة بحجة كونها تركه ، لأننا نعرف اننا و بفضل منهج العلم نلنا كل هذا الرخاء والرفاهية التي لم يدركها اسلافنا السابقين الذين الفو تلك الاساطير ونقلوها لنا .

ربما لو عاد احدنا اليوم و سافر عبر الزمن الى الماضي واستعرض ادواته التكنلوجيا التي يملكها الى جانب معارفة (التي تبدو لنا عادية جدا في ايامنا ) حول الارض والاتجاهات وحركة البحار والعواصف وتفسيرات حدوث البرق وسقوط المطر والطاقة الحرارية ، واستخدام الهندسة الميكانيكية والتي بات فهمها واستخدامها من الاساسيات اليومية للإنسان مع ادواته التقنية من الالكترونيات والحواسيب التي بات يحملها اين ما يحل ويرحل فربما اعتقد الاجداد بكونه حامل لقدرات الهية خارقة ، وربما وصفوه بالساحر العظيم ، او نصبوه الها عليهم !.

يعتقد لويس وولبرت في كتابة (طبيعة العلم غير الطبيعية ) ان يجب علينا التمييز بين العلم و التقنيات و يضع حدا فاصلا بين الاثنين في قوله" ان العلم يعطينا افكارا ، لكن التكنولوجيا تعطينا أشيائنا تستعمل" وبهذا هو يفترض ان البشرية كانت منذ بداياتها تمارس صناعة التقنيات والادوات عن طريق الاختراع والابتكار الذي لم يكون من شروطه التفكير العلمي وفق منهج العلم وعلى سبيل المثال اذا حققنا في تاريخ صناعة المعادن في حضارة وادي الرافدين القديمة او في الحضارة الفرعونية فنلاحظ ان صناعة المعادن مرتبطة بطقوس دينية واعتقادات تتخللها تقديم القرابين و ترديد الكلمات السحرية والصلاة الى الالهة القديمة وطلب البركة و قد عثر على مخطوطات تشرح عملية صناعة البرونز ولم تكن اكثر من وصفات طبخ (اضف هذه المادة فوق تلك المادة واخلطها مع تلك تحت النار وقل تلك الكلمات المقدسة ) .

لكن في حالة العلم نجد ان العملية مختلفة وطريقة التفكير والطرح لن تكون بهذا الشكل فالعلم سيوضح خصائص المواد ويفسر لنا تلك التفاعلات ويتنبأ بالأحداث والظواهر مما نتوصل الى تفاعلات اخرى جديدة و الوصول الى اشياء جديد .
بقيت البشرية على حالها للإلاف السنين معتمدة على التقنية في حياتها لكنها لم تمتلك المستوى المعرفي التفسيري الذي ادى الى هذه القفزات السريعة في عالمنا اليوم . ولفهم الفرق بين التكنولوجيا والعلم بصورة اكثر يضرب لويس مثلا اخر في صناعة العجلة فمبتكرين العجلة قاموا بذلك على اساس التجريب والخطأ للبحث عن الفائدة ، لكن حينما ينظر الذي يفكر بطريقة علمية للموضوع فهو ينظر لها من ناحية كون العجلة تقلل من الاحتكاك بين سطح الارض و سطح العربة بتأثير القوى الميكانيكية وهو لا يهتم او يبحث في قيمة في الفائدة المرجوة من ذلك لكنه يمهد بصورة كبيرة لاختراعات اخرى اكثر تطور و افضل !.

حتى القرن التاسع عاشر كانت البشرية ومعارفها لاتزال في حالة ركود ولم تتقدم اشكال التكنلوجيا الى شكلها الحالي المتطور اليوم الا بعد بروز التفكير العلمي و وضع اسسه من قبل فلاسفة العلم ، فلقرون طويلة كان العلم مجرد اداة معرفية للنخبة للإجابة على الاسئلة التي لم تكن لتؤثر شيء في حياة المجتمعات البشرية كانت الخبرة التكنلوجية اداة لتسهيل الحياة والعيش و لم يكن الاختراع وسيلة علمية بقدر كونه وسيلة ابداعية لسد الحاجة البشرية ، و من المهم نركز على ظهور العلم ادى الى تكوين مؤسسات تعاونية للعمل في مشاريع علمية لكسب الخبرات والمعلومات فالعلماء يتعاونون وسط المجتمع العلمي في ما بينهم بطريقة تراكمية معلوماتية لبناء المعرفة و يتنافسون في ما بينهم على الاسبقية في الاكتشاف .

في حين يكون المبتكر شخص فردي يكون العلم مرتبطا بعمل عدد من الاشخاص لكون الباحث بحاجة الى المساعدة دوما من الاخرين سواء كان بكسب المعلومات الضرورية لأجراء بحثة او للترويج لما توصل له بينهم وقد نجد ان غالبية البحوث يشترك بها عده باحثين يصل الى خمسين باحث ، ان احد اهم اعراف المؤسسات العلمية هو انعدام وجود الاسرار و من غير الشريف حجب المعلومة عن اي جهة او الامتناع عن تقديم المساعدة ، لكون كل الباحثين سيحتاجون الى المساعدة عاجلا ام اجلا لذا تبقى جميع القنوات مفتوحة لتقديم المساعدة ومشاركة المعلومة بالإضافة ان طرح اي نتيجة بحث بدون الاستناد على ابحاث الغير والاستشهاد بنتائج بحوث الغير لن يجعل من تلك الدراسة او البحث رصين او معترف به في الوسط العلمي .

اما اذا قارنا هذا في المجال الابداعي فسنجد ان الرسام مثلا لا يحتاج الى مساعدة الاخرين بنفس الطريقة للوصول ورسم اللوحة ، مثله مثل الشاعر و كاتب الرواية لكن الفرق الاساسي هو في النتيجة بعد ذلك ففي حالة الاكتشاف التكنلوجي (الابداعي) نجد انه ممكن التكرار ، اي من الممكن جدا اعادة التصميم والتنظيم لأنشاء كشف جديد لكونه متغير ويحدد حسب الفائدة لكن في حالة الاكتشاف العلمي فهو غير قابل للتكرار وثابت لكونه حقيقة ثابته ، فمن الممكن اعادة صياغة رواية فرينكشتاين عشرات المرات بسيناريوهات واضافات عديدة واضافة مشاكل وحلها بطرق مختلفة وسيبقى ابتكارا جديد مثلما اعاد احمد سعداوي صياغة قصة فرينكشتاين لماري شيري بعنوان جديد وصيغة مبتكرة وكسب بهذا جائزة البوكر العربي لسنة 2014، لكن اكتشاف (DNA)لا يمكن تكراره . فاعادة الاكتشاف لا يعني اي شيء في المجتمع العلمي بعد الاكتشاف ، ولو لم يتوصل واطسون وكريك لحل شفرته لتمكن احد من ذلك عاجلا ام اجلا لكن لو لم تكتب ماري رواية فرينكشتاين لما تمكن احدهم من كتابتها اطلاقا ! . ان اكتشاف الحقائق والظواهر مختلف تماما عن الابتكار !. هذا يجب ان نذكر ان الكشوفات العلمية وتكرارها ضروري في مساله البحث العلمي ومنهجه .

وقد تنطبق الفكرة على ما اكتب هنا ايضا فانا هنا لا اقوم بكتابة نص ادبي او ابتكاري ! بل انه نص يشرح قضية علمية لذا سأستمر بتلقي المساعدة من الاخرين ومن نتاجهم المعرفي لإسناد ما اعتقد به واطرحه و هم بدورهم كانوا قد استفادوا من الذين سبقوهم وهذا هو منهج العلم . لكن هناك مشكلة صغيره في العلم وهي ان من النادر وجود باحثين مشهورين بنفس شهرة المبتكرين لان الابحاث تندمج مع بعضها بمرور الزمن خصوصا كونهم متخصصين في ظواهر فردية وكل منهج يخطو خطوه لإضافة معرفة ، لا احد يهتم بالباحث العلمي بقدر اهتمامه بالكشف العلمي الذي قام به الا في حاله متخصصين التاريخ العلمي او الباحثين الذين يكشفون اكتشافات تسلط عليها الاضواء من قبل وسائل الاعلام وعلى كل حال فالمنهج العلمي متشدد في قضية ذكر اسم الباحث مرفقا مع اسم البحث كمصدر للاقتباس او المعلومة في حالة استخدامها في اي بحث .

بالتأكيد ان الفضل الاول لظهور مفهوم العلم بشكلة الحالي كان من الفلسفة وفرعها (فلسفة العلم) التي اسس فلاسفتها مبادئ المنهج العلمي وطوره ليكون بهذا الرصانة والاستقلالية والدقة، لكن اصول التفكير العلمي ليست بحديثة تماما فقد كان فلاسفة الاغريق الرواد في وضع اسس هذا التفكير المتجرد و على الرغم من الاستنتاجات الخاطئة التي توصل اليها بعضهم في تفسير الكون و الحركة وغيرها لكنهم يبقون اصحاب الفضل في هذا المجال ففي حين امتزت العلوم الشرقية في الروحانيات والغيبيات كان الاغريق مهتمين بالتفكير المستقل واستخدام المنطق ، وقد كان طاليس اول من حاول تفسير مكونات الكون وافترض كون اصل الكون هو من الماء باعتبار ان الماء متغير الحالة من الصلبة والسائلة والغازية .
اعتقد ان ملامح العلم بدأت تتضح الان لنا بعض الشيء ، فنحن نعرف الان انه سبب لقفزة تقنية عالية في تاريخنا الثقافي ، لكن هل هذا كاف بالنسبة لنا ؟.

ينسب للعلم التسبب بالدمار والخراب ، وقد ينظر للعلماء بكونهم هؤلاء المغرورين بشعورهم الكثة ونظاراتهم السميكة و احاديثهم المليئة بالمصطلحات الغير مفهومة فهو سبب رئيس لصناعة احدث الاسلحة واكثرها فتكا وتدميرا ! . انه هاتك اسرار المقدسات او (اللاعب بدور الاله) حينما قام اتباعه بأعاده برمجة الجينات لتصميم الكائنات الحية ، انه مغتصب السحر من الحيرة التي تملأنا اثارة في هذا الكون !.
فكيف نثق بالعلم كي يحدد لنا اصل الانسان بعد كل هذا ؟.

يتبع