أسباب وعواقب الأزمة بين عبدالناصر والشيوعيين في 1958 و195


أحمد القصير
2014 / 8 / 20 - 08:49     

عن الإشكالية
شهدت الفترة التي أعقبت تأميم قناة السويس عام 1956 تعاونا بين حدتو وعبدالناصر. وبرزت صورة ذلك بوجه خاص في مشاركة حدتو بدور هام في مقاومة الغزو وعملية انزال القوات البريطانية والفرنسية في بورسعيد أثناء العدوان الثلاثي 1956. كما برز في عملية تنظيم المقاومة لذلك العدوان حتى جلاء القوات المعتدية في23 ديسمير1956.  وفي ديسمبر1957 ذهب جمال عبدالناصر إلى بورسعيد واحتفل بمرور عام على جلاء القوات المعتدية عن بورسعيد. وحضر ذلك الاحتفال رسميا أعضاء حدتو الأبطال من أبناء مدينة بورسعيد الذين كان لهم دورا في مقاومة الغزو والاحتلال. وأبرز هؤلاء الرفاق ابراهيم هاجوج وأحمد شوقي المرجاوي.
لكن بعد مرور عام، أي في23 ديسمبر1958، شن عبدالناصر هجوما علنيا ضد الشيوعيين من بورسعيد ذاتها. واتهم الحزب الشيوعي السوري بأنه يقف ضد الوحدة المصرية السورية التي تحققت في 22 فبراير1958. وكانت وحدة اندماجية وفقا لما طلبه السوريون خاصة ضباط الجيش. وكان عبدالناصر يريد وحدة فيدرالية. وعندما أصر السوريون على الاندماج قام عبدالناصر بفرض شروطه. ومن بينها أن يكون "الاتحاد القومي" هو التنظيم السياسي الوحيد وأن يتم حل الأحزاب السياسية. وأعلن الحزب الشيوعي السوري رفضه لحل الأحزاب وصيغة الاتحاد القومي. وفي مصر دعت حدتو بأن يكون "الاتحاد القومي" هو الشكل السياسي لجبهة وطنية تضم مختلف القوى الوطنية وليس بديلا للأحزاب.
تحدث عبدالناصر أيضا عن التصنيع وضرورة الثورة الاجتماعية وهاجم أعداء تقدم مصر. وشن هجوما على الاستعمار العالمي والصهيونية والرجعية العربية واتهمها بالوقوف ضد الوحدة بين مصر وسوريا وضد القومية العربية. هنا نقول إن الوحدة تعرضت بالفعل إلى التأمر من جانب قوى رجعية وأجنبية. وكان هذا من أسباب انهيارها وحدوث الانفصال في28 سبتمبر1961.  لكن التآمر لم يكن السبب الوحيد في هذا الصدد. فإن كبت الحريات وعدم مراعاة خصائص الأوضاع في سوريا كان من ضمن العوامل التي أسهمت في انهيار تلك الوحدة.  
تكلم عبدالناصر أيضا عن سقوط حلف بغداد لكنه تجنب الكلام عن ثورة 14 يوليو العراقية التي أدت إلى سقوط هذا الحلف رسميا. تجنب عبدالناصر الحديث عن ثورة العراق مع أنه بذل جهودا عند قيامها من أجل حمايتها ومن أجل عدم تدخل الدول الغربية لإجهاضها. وقام بزيارة موسكو سرا لهذا الغرض. وبعد عودته تجمعنا في مظاهرة داخل حديقة مجلس الوزراء وخرج عبدالناصر إلى شرفة المجلس وألقى كلمة شدد فيها على أهمية حماية ثورة العراق. فما هو السر وراء اختلاف موقف عبدالناصر في ديسمبر 1958 عنه في يوليو من نفس العام؟
بعد أسبوع واحد من خطاب عبدالناصر في بورسعيد يوم 23 ديسمبر 1958 بدأت في أول يناير1959 حملة اعتقالات واسعة ضد الشيوعيين أعقبها محاكمات عسكرية. وبعد المحاكمات تعرضوا لعملية تعذيب. فما هي الأحداث أو التطورات التي كانت وراء ذلك المشهد واختلاف موقف عبدالناصر في 1958 عنه في العام السابق، أي في 23 ديسمبر1957؟ 
لقد تناولنا من قبل أحد جوانب هذا الموضوع في كتاب "حدتو ذاكرة وطن". لكن لم أطرح هذه التساؤلات. لهذا أتناول الموضوع الآن من جوانب أخرى. وأضع مزيدا من النقاط فوق بعض الحروف بهدف إلقاء الضوء على خلفية بعض الأحداث وعلى مسؤولية الأطراف المختلفة عن هذه الأزمة. وهي أزمة يتحمل مسؤوليتها جمال عبدالناصر. كما يتحملها الشيوعيون العراقيون ومعهم بعض المنتسبين للشيوعية في مصر. وقد كان موقف عبدالناصر شديد العدوانية في إدارته لتك الأزمة. كما تنكر خلالها لتاريخه المشترك مع حدتو ودورها في التحضير لثورة 23 يوليو وفي تنفيذها. وذلك علاوة على دورها في بورسعيد أثناء العدوان الثلاثي1956. أغفل عبدالناصر كل ذلك وقام بالهجوم على الشيوعيين واعتقلهم، وشكل محكمة عسكرية لمحاكمة قادة حدتو وكوادرها وبقية الشيوعيين. 
لم يكن عبدالناصر وحده مسؤولا. بل يتحمل العراقيون خاصة الحزب الشيوعي العراقي جانبا كبيرا من المسؤولية. كما جر العراقيون معهم في هذه المقامرة بعض الشيوعيين المصريين الذين انتسبوا لحزب الراية ومنظمة طليعة العمال. ولم يشعر هؤلاء المصريين الذين انزلقوا للمقامرة بأي قدر من المسؤولية عما اقترفوه. فقد استجابوا لطلب العراقيين الذي كان دافعه خلق محور بغداد في مواجهة القاهرة وزعامتها للعالم العربي. ولا ينبغي أن نكتفي بالقول بأن الخلافات حول صيغة التنظيم السياسي الواحد في دولة الوحدة المصرية السورية قد ألقت بظلها على العلاقة بين القاهرة وبغداد في أعقاب قيام ثورة 14 يوليو 1958 في العراق. وذلك لأن العلاقات بين عبدالناصر وبعض الأطراف السياسية في العراق دخلت على طريق الأزمة قبل قيام الثورة العراقية ذاتها. وهذا هو جوهر حديثنا الآن.
ويجب أيضا التنويه بأن أزمة عبدالناصر مع الشيوعيين كانت وراء توتر العلاقات مع الاتحاد السوفيتي. وقد تبادل عبدالناصر والرئيس خروشوف الانتقادات علنا. وعلاوة على ذلك جرت بينهما مراسلات واتصالات سرية ترتبط بالموضوع. وقال خروشوف خلالها لعبدالناصر إن إعلان الحرب على الشيوعية لن يجلب المجد ولا الصواب.   
مقامرة شيوعيين عراقيين مع مصريين
تمثلت المقامرة التي قام بها قادة الحزب الشيوعي العراقي في اتصالهم بعناصر شيوعية مصرية وطلبوا منهم أن يتخلصوا من قادة حدتو بحجة أنهم حلفاء عبدالناصر. والعناصر الشيوعية المصرية هي تحديدا فؤاد مرسي زعيم حزب الراية وابوسيف يوسف زعيم منظمة طليعة العمال وآخرين كان من بينهم محمود أمين العالم. فما هي أولا حكاية حلفاء عبدالناصر، أي ما هي مواقف وسياسة حدتو التي أثارت انزعاج العراقيين وآخرين؟  وما هي سياسة أولئك الشيوعيين المصريين الذين كانوا يعادون ثورة يوليو ونصيرتها حدتو؟
موقف حدتو من ثورة يوليو وموقف معارضيها
كان العراقيون يعلمون أن حدتو شريكة لجمال عبدالناصر في ثورة يوليو. ولهذا اتصلوا بشيوعيين مصريين كانوا يعارضون موقف حدتو المؤيد لهذه الثورة. أيدت حدتو الثورة منذ لحظة قيامها بينما عارضها الآخرون ووصفوها بأنه مؤامرة وانقلاب. وهذا الوصف قاله د. سمير أمين.  ونستند في عرض موقف حدتو وموقف معارضيها إلى ما كتبه سمير أمين بنفسه الذي كان من أعضاء حزب الراية الذي اعترض على ثورة يوليو وعلى موقف حدتو. وهو الحزب الذي كان قادته أحد أطراف المؤامرة مع العراقيين. فقد عرض د.سمير أمين الموقفين في تقرير كتبه في 1955 باسم حزب الراية تحت عنوان "تحليلان .. سياستان". وأعاد نشره في 2014 في كتاب "قضايا الشيوعية المصرية". واستند ذلك التقرير إلى مطبوعات حدتو ومطبوعات حزب الراية. وأوضحت تلك المطبوعات أن حزب الراية يرى أن التمرد في مصر يتصاعد في الفترة السابقة على ثورة يوليو. ولذلك "قرر الأمريكان أن يتقدموا الصفوف" . كما قال هذا الحزب "وكان هناك احتياج لنظام أقوى، ولكن ديماجوجي وشعبي. والانقلاب الذي باركه الامبرياليون كان سيخلق هذا النظام". هكذا اعتبروا أن ثورة يوليو انقلابا رحب به الغرب الاستعماري.   
 بعد ذلك قام سمير أمين بعرض موقف حدتو من ثورة يوليو وانتقده وأعلن معارضته له. فقد قال إن حدتو كان لها موقفا مختلفا حيث "إدعت أن تنظيم الضباط الأحرار يمثل التحالف بين البرجوازية الوطنية والبرجوازية الصغيرة". ثم واصل عرض موقف حدتو في تلك الفترة. وخلال ذلك وصف ثورة يوليو بالمؤامرة والانقلاب.  فقد قال "ينبغي هنا التنويه أن حدتو كانت على علم بالمؤامرة والانقلاب. فقد اشترك فيها عضوان من التنظيم العسكري في حدتو وهما يوسف صديق وخالد محي الدين.  وعقب الانقلاب مباشرة دشنت حدتو "الحركة الشعبية للجيش" لتصف بها الأحداث. ونادت الشعب ليساند جيشه. وشحذت همم المثقفين للكتابة في جريدة الحركة وهي التحرير".
كان لحدتو بالفعل دورا فعالا في قيام ثورة يوليو وحشدت التأييد لها. وكان موقفا صائبا. ولم تكن مؤامرة ولا انقلابا. كما  دعت بوصفها فاعلة في الأحداث إلى استمرار الجبهة التي أسقطت الملك فاروق وسيطرة الاقطاع. وقالت حدتو في هذا الصدد "يجب علينا السعي لبناء جبهة مع الشريحة الاجتماعية التي في السلطة، أو بالأحرى، أن نعيد البناء مع هذه الشريحة للجبهة التي أدت إلى إسقاط فاروق وإنهاء السيطرة الاقطاعية في مصر". يعبر هذا عن دور حدتو ومكانتها في التاريخ. ولكن تم توجيه الاتهام لها ومحاربتها من جانب بعض الماركسيين ومن بينهم الحزب الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي البريطاني وشيوعيين مصريين. وكانت حدتو تعرف مكانتها وأن موقفها يواجه معارضة. لكنها معارضة خاطئة. ولهذا قالت في مطبوعاتها "ألم يؤخذ علينا اشتراكنا في أحداث يوليو1952؟ كما استنكرت موقف المعارضين لثورة 23 يوليو قائلة: هل كنتم تريدون أن نقف في صف الملك فاروق؟
إن هذه المواقف لحدتو كانت وراء طلب العراقيين التخلص من قادتها. وهو أمر كان من ضمن خلفيات الآزمة بين عبدالناصر والشيوعيين. فقد كان ذلك الطلب من جانب العراقيين ضمن عوامل تفاقم تلك الأزمة على أكثر من مستوى. الأول مستوى العلاقة بين مصر والعراق. والثاني مستوى العلاقة بين عبدالناصر والشيوعيين في مصر وفي العالم العربي. ولم تكن الحملة الإعلامية ضد الشيوعيين في نهاية 1958 بعيدة الصلة عن كل ذلك. وقد بدأها عبدالناصر شخصيا، وأعقب ذلك بحملة اعتقالات واسعة في أول يناير1959. وكنت شخصيا أحد المقبوض عليهم. كما تصاعدت الحملة الإعلامية والأمنية ضد الشيوعيين خلال الشهور الأولى من عام 1959. وتزايدت حدتها بعد إجراء العراق محاكمات شملت أنصار لتوجهات عبدالناصر.
الهدف من طرح هذا الموضوع
هناك أكثر من دافع وراء تناولنا هذه القضايا. فأولا نريد إلقاء الضوء على قضية كان لها تأّثيرات سياسية بالغة ومع ذلك لا يتناولها المؤرخون والمعنيون بتاريحنا الوطني. ونريد ثانيا توضيح أن المغامرات السياسية غير المسؤولة لبعض الشيوعيين ينتج عنها الكثير من الكوارث. ونود ثالثا توضيح أن الأزمات من ذلك النوع كان لها تأثيرات سلبية على التضامن العربي وعلى الوحدة بين مصر وسوريا. كما كان لها رابعا تأثيرات سلبية على علاقة مصر بالاتحاد السوفيتي. ونريد خامسا إلقاء مزيدا من الضوء على قهر عبدالناصر للقوى الوطنية الديمقراطية ومحاربته لها حتى وإن كانت حليفة له. كما أن محاصرة عبدالناصر للقوى السياسية الوطنية التقدمية كانت بداية لتجريف الحياة السياسية. بل كانت النتيجة النهائية هي عدم استمرار تجربة عبدالناصر السياسية والاجتماعية ذاتها. 
قام عبدالناصر قبل شن حملاته الإعلامية والأمنية بتوجيه تحذير للشيوعيين نقله لهم أنور السادات. وكان الدافع لذلك متعدد الجوانب.  فقد أراد إنهاء وجود الشيوعيين، وذلك في سياق رفضه التعددية الحزبية وفرضه صيغة التنظيم الواحد المتمثل في "الاتحاد القومي". وقد اتخذت هذه الصيغة اسم "الاتحاد الاشتراكي" بعد تأميمات الستينات.
كما أراد عبدالناصر ثانيا، وهو الأمر الأكثر خطورة، مواجهة وإحباط خطة العراق إلى تحويل قيادة العالم العربي من القاهرة إلى بغداد. وهي عملية دبرها الشيوعيون العراقيون وأبلغوها لبعض الشيوعيين المصريين الذين كانوا تاريخيا يعادون منظمة حدتو ويقفون ضد توجهاتها. في هذا السياق طلب الشيوعيون العراقيون من الذين يعادون حدتو أن يتخلصوا من قادتها حتى لا يكونوا عقبة أمام عملية نقل زعامة العالم العربي إلى بغداد بدلا من القاهرة. ويقتضي فهم هذه الأمور أن نشير أولا إلى عملية تأسيس الحزب الشيوعي المصري في 8 يناير1958 وعلى السلبيات التي ترتبت على الأخطاء التي شابت عملية الوحدة التي تأسس بموجبها ذلك الحزب. 
تأسيس حزب 8 يناير1958 بداية التآمر على الحركة الشيوعية
وانهيار مرحلتها الثانية
في 8 يناير 1958 توحدت ثلاث تنظيمات هي حدتو وحزب الراية وحزب العمال والفلاحين الذي كان يعرف من قبل بمنظمة "د.ش" ثم "طليعة العمال". وتشكل بذلك الحزب الشيوعي المصري. وحمل الحزب عوامل عدم الاستمرار نتيجة الخطأ في اتفاق الوحدة. وأبرز أشكال الخطأ هو أن حدتو تخلت عن حقها في الحصول على أغلبية مقاعد القيادة. فقد كانت هي الأكثر عددا ويزيد أعضاؤها عدة مرات عن مجموع عدد أعضاء التنظيمين الآخرين. كما كانت حدتو هي صاحبة النفوذ السياسي والجماهيري. وأدى هذا التنازل من جانب حدتو إلى أن أغلبية قيادة الحزب الجديدة جاءت منعزلة عن جسد الحزب والخبرات النضالية لأعضائه. فقد وقع الحزب الوليد في قبضة عناصر قاصرة سياسيا، وعديمة الخبرة نضاليا، ومقامرة، وتتأرجح بين اليمين واليسار، وهمها الأول هو مساومة الحكومة للاشتراك في الحكم. 
وفي الفترة التالية لقيام هذا الحزب مباشرة حضر إلى القاهرة قادة من الحزب الشيوعي العراقي والتقوا ببعض قادة الحزب الجديد فاقدي الخبرة النضالية والمقامرين. وتم هذا اللقاء من وراء ظهر زعماء حدتو وبخاصة زعمائها الأساسيين والتاريخيين الذين يمثلوها فكريا. وهما كمال عبدالحليم وشهدي عطية. والأشخاص الذين تقابل معهم العراقيون هم: د. فؤاد مرسي وكان ينتمي إلى حزب الراية، وأبوسيف يوسف وكان ينتمي إلى حزب العمال والفلاحين المعروف تاريخيا باسم د. ش، ومحمود امين العالم ولم يكن تاريخيا حدتاوي الأصل لكنه تبنى مواقفها السياسية. وفي ذلك اللقاء قام العراقيون بإبلاغ الذين التقوا بهم بما يلي:
سوف تقوم قريبا ثورة في العراق سيترتب عليها قيام محور تقدمي في العالم العربي تتزعمه بغداد في مواجهة محور رجعي في القاهرة بزعامة عبدالناصر. كما طلبوا أن يستعد الشيوعيون المصريون لذلك لآن زعامة العالم العربي سوف تنتقل من القاهرة إلى بغداد. ولهذا على الشيوعيين المصريين أن يتخلصوا من زعماء حدتو لأنهم حلفاء لجمال عبدالناصر. وقد قال محمود أمين العالم أنه اعترض على هذا الكلام. لكننا نقول إنه لم يفضحه في حينه رغم النصائح التي قدمت له من قادة حدتو وقادة الحزب الشيوعي السوداني. وهو بذلك شريك في الجريمة بالصمت على الأقل لسنوات طويلة. 
تنفيذ المؤامرة
في 4 يوليو 1958 قامت مجموعة فؤاد مرسي وابوسيف يوسف ومن خلال المكتب السياسي بفصل 4 من قادة حدتو على رأسهم كمال عبدالحليم وشهدي عطية بوصفهما قادة حدتو سياسيا وفكريا. وكان كمال عبدالحليم عضوا في اللجنة الثلاثية الدائمة ممثلا لتيار حدتو السياسي والفكري في الحزب الذي تأسس في 8 يناير1958. وهي أعلى هيئة في الحزب. وكان معه في اللجنة الثلاثية فؤاد مرسي ممثلا لحزب الراية. كما كان ابوسيف يوسف ممثلا ل "د. ش". وفي 14 يوليو قامت ثورة العراق. وفي 24 يوليو صادقت اللجنة المركزية على فصل الأربعة بالإضافة إلى آخرين. وتم بعد ذلك فصل بقية قادة حدتو في اللجنة المركزية. وكانت النتيجة هي تمزيق الحزب الذي تأسس في 8 يناير 1958. وعادت حدتو لمزاولة نشاطها باسم الحزب الشيوعي المصري حدتو.
  ذكرت آنفا أصحاب هذه المقامرة المصريين الرئيسيين. لكن كان لهم شركاء في عملية التنفيذ. ومن بين هؤلاء الشركاء د.عبدالعظيم أنيس ود. اسماعيل صبري عبدالله وسعد زهران الذي تم في منزله تنفيذ مؤامرة فصل رفاق حدتو. وقد قال سعد زهران في حواري معه حول هذا الموضوع يوم 26 مارس 2014 إنه لم يتقابل مع شيوعيين عراقيين، ولم يكن على علم بأنهم طلبوا التخلص من  قادة حدتو. لكن هذا القول لا يعفيه من المسؤولية خاصة أنه كان أحد تلاميذ شهدي ويعرف أدواره الرائدة. وعلاوة على ذلك فإن سعد زهران يرى أن كمال عبدالحليم هو "الممثل الأمثل لكتلة حدتو وهي الحركة التي كانت غالبة عدديا وسياسيا وجماهيريا في الحركة الشيوعية المصرية". وقد حرص سعد زهران على التدقيق في اختيار هذه الكلمات وقام بإملائها كلمة كلمة. ومع ذلك اشترك في مؤامرة ضد ضد كمال عبدالحليم وبقية رفاقه. وهي مؤامرة كان لها عواقب عديدة. فقد أدت إلى انقسام الحركة الشيوعية المصرية ذاتها. بل كانت في نهاية المطاف من عوامل أنهاء مرحلتها الثانية. وقد ابتعد هؤلاء الذين قامروا وتآمروا عن الحركة الشيوعية ولم يشتركوا في تأسيس المرحلة الثالثة للحركة الشيوعية التي بدأت في 1965. وعلاوة على ذلك أدت تلك المؤامرة إلى خلق محاور وصراعات بين القوى الوطنية في العالم العربي. وهو ما أضعف هذه القوى في مواجهة الرجعية العربية والاستعمار العالمي.
مأساة د. عبدالعظيم أنيس
أما مشاركة د. عبدالعظيم أنيس في تلك المؤامرة فتعبر عن مأساته. فقد لفظته تلك المجموعة بعد أن تم استخدامه في فصل شهدي ورفاقه. كان عبدالعظيم أنيس عضوا بحدتو لكنه لم يكن ضمن قيادتها المركزية. وفي عام 1957 خرج من حدتو بعد خروجه عن قراراتها وإصراره على أن يترشح في دائرة العباسية ورفضه اقتراح حدتو بأن يترشح في دائرة أخرى، فهو من المثقفين المعروفين ولا يرتبط بدائرة معينة. وكانت حدتو تؤيد مرشحا عماليا هو رئيس نقابة عمال شركة  الترام. والغريب أن الحكومة اعترضت على كافة المرشحين الشيوعيين باستثناء عبدالعظيم انيس. وكان الضابط أحمد حمروش ومحمود أمين العالم، على سبيل المثال، من بين الذين تم الاعتراض على ترشيحهم.
انضم د. عبدالعظيم أنيس بعد انفصاله عن حدتو لجماعة فؤاد مرسي. وأصبح قياديا في الحزب الذي تشكل في 8 يناير 1958. لكن تم ابعاده في أغسطس من نفس العام. أي بعد ستة أشهر فقط. فقد استبعدوه من القيادة بمجرد أن تم استخدامه في فصل كمال عبدالحليم وشهدي ورفاقهما. وعندما تقدم عبدالعظيم أنيس في1961 بطلب العودة إلى حدتو هو ومحمود العالم رفضت حدتو قبول طلبه بينما قبلت طلب محمود أمين العالم. وأعلنت حدتو بيانا عن أسباب ذلك الرفض. ومن بينها أنه اعتاد ترك حدتو دون إخطار سعيا إلى مصالح خاصة. ومن أمثلة ذلك قبوله في بداية خمسينات القرن العشرين منحة لدراسة الدكتوراه خارج مصر قدمها له فؤاد سراج الدين وزير داخلية حكومة الوفد. وكان ذلك ضمن خطة أعدها ونفذها سراج الدين لإبعاد عدد من الشيوعيين عن مصر وعن العمل السياسي. وكانوا جميعا من المتفوقين علميا. وظل د.عبدالعظيم أنيس منذ أن رفضت حدتو قبوله في1961 حتى وفاته غير منتمي إلى أي تنظيم شيوعي.
مسؤولية محمود أمين العالم في المؤامرة
أعلن محمود أمين العالم عدم موافقته على طلبات العراقيين، لكن ذلك لا يعفيه من المسؤولية عن الجريمة بسبب تردده وتستره. فلم يفضحها علنا إلا بعد عدة عقود من حدوثها. فقد تم نسج خيوط المقامرة السياسية وتنفيذها ما بين مارس – يوليو1958، لكنه ظل صامتا ولم يكتب عنها إلا عام 2001. وذلك على الرغم من النصائح التي قدمها إليه آنذاك عبدالخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي السوداني الذي أعدمه الرئيس نميري فيما بعد. وعلى الرغم من صمت محمود أمين العالم طويلا فإن كلامه يفيدنا في فهم التاريخ. فقد قال في الجزء الخامس من توثيق تاريخ الحركة الشيوعية الصادر في2001 ما يلي:
" وقابلت كذلك زعيما ثالثا من قيادات الحزب الشيوعي العراقي قبل قيام الثورة العراقية وأبلغنا أن شيئا سيحدث في العراق بقيادة الحزب الشيوعي العراقي، وأن العالم العربي سينقسم إلى نظامين وقيادتين. نظام وقيادة ثورية في العراق ونظام وقيادة رجعية هي قيادة عبدالناصر. لم تكن ثورة عبدالكريم قاسم قد قامت بعد في العراق، وقال لنا إننا يجب أن نعد أنفسنا وحزبنا لذلك. وكنت ضد هذا الكلام بشكل كامل، وأذكر أني أدركت بعد ذلك أنه كان وراء هذا الرأي إيحاء بل كلام شبه صريح حول ضرورة استبعاد العناصر الموالية لعبدالناصر من الحركة الشيوعية المصرية، وهذا ما يفسر فصل الرفاق الأربعة من قيادات حدتو". هنا أقول ياليتك نطقت في حينه. فقد ظل محمود العالم صامتا على الرغم أيضا من التقرير السياسي التفصيلي الذي كتبه كمال عبدالحليم حول سياسة مجموعة فؤاد مرسي وأبوسيف يوسف والآخرين. وقد أطلق عليها اسم "التكتل". وقال في تقريره إن سياسة ذلك التكتل سوف تؤدي إلى تصفية الحزب وتدميره. والجدير بالذكر ان كمال عبدالحليم شاعر طليعي وصاحب نشيد "دع سمائي". وكان مسؤولا عن مكتب الأدباء والفنانين في منظمة حدتو.
كمال عبدالحليم يتهم "التكتل" بمساومة الحكومة للاشتراك في الحكم
تم نشر تقرير كمال عبدالحليم  يوم 2 سبتمبر1958 بعد أن وقعه معه شهدي عطية وزملاؤه. واتهم كمال عبدالحليم في ذلك التقرير "تكتل" المجموعة التي تضم د. فؤاد مرسي وابوسيف يوسف ود. اسماعيل صبري عبدالله بأنهم يقامرون بنضال الشيوعيين بهدف مساومة الحكومة للاشتراك في الحكم.
كما أوضح التقرير أن هذه المجموعة تتخبط سياسيا، وتنتقل من اليسار إلى اليمين والعكس، وتمثل تيارا انتهازيا. وقال إن سياستها ستؤدي حتما إلى تصفية الحزب الشيوعي تنظيميا وسياسيا. وتوجد نسخة من هذا التقرير ضمن مضبوطات شهدي عطية في القضية التي جرت محاكمته فيها عام 1960 أمام محكمة عسكرية خاصة. وكنت شخصيا بين زملائه المتهمين في تلك القضية. وفي أعقاب المحاكمة تم تعذيبنا وتم قتل شهدي تحت سياط التعذيب.
وقد اتضح من تطور الأحداث أن كمال عبدالحليم كان صاحب بصيرة سياسية في توصيفه لتلك المجموعة وحديثه عن انتهازيتها وأنها تساوم للاشتراك في الحكم. فبعد الخروج من المعتقلات في عام 1964 التحق زعماء تلك المجموعة بنظام عبدالناصر. فقد قام محمد حسنين هيكل بتعيينهم في الأهرام رغم أنهم وقفوا ضد ثورة 23 يوليو وقالوا انها انقلاب أمريكي وأن قادتها يلعبون دور البورجوازية الكبيرة. واتهموا حدتو بأنها شاركت فيما أسموه انقلابا ومؤامرة. ثم قالوا بعد ذلك أن عبدالناصر يمثل الاحتكارات الأجنبية. وبلغت المأساة- الملهاة ذروتها بقيام الرئيس أنور السادات بتعيين د. اسماعيل صبري ود. فؤاد مرسي وزراء. كما قام بتعيين أبوسيف يوسف عضوا في البرلمان.
إننا أمام حالة تثير كثير من التساؤل وتضعنا أمام تناقض غريب. فإن هؤلاء الذين استوعبهم الرئيس السادات وقفوا من قبل ضد حدتو وهاجموها لآنها تعاونت مع عبدالناصر وأيدت ثورة يوليو. ومن هذا المنطلق تأمروا أيضا ضد قادتها مع العراقيين. لكنهم في نهاية المطاف وضعوا أنفسهم سياسيا في معسكر السادات صاحب كامب دافيد.
يوضح ذّلك صحة كلام كمال عبدالحليم بأنهم كانوا يساومون بنضال الشيوعيين بهدف المشاركة في الحكم. وقد تمت هذه المساومة على  حساب مناضلين دفعوا حياتهم من أجل الوطن. وعلى حساب الحركة الوطنية وليس الحركة الشيوعية وحدها. أما كمال عبدالحليم وشهدي عطية فكان مصيرهم على نحو آخر. فمن جانب لم يلتحق كمال عبدالحليم بنظام عبدالناصر. ولم ينضم مثلا  إلى تنظيمه السري المسمى "طليعة الاشتراكيين". كما تعرض للاعتقال طوال عام 1966 ثم طوال عام 1967. وكان ذلك بسبب مواصلته النضال وتزعمه تأسيس "التيار الثوري" في 14 مارس 1965 الذي شكل بداية للمرحلة الثالثة للحركة الشيوعية. وكنت شخصيا ضمن المجموعة الصغيرة التي أسست ذلك التيار والتي ضمت الرفاق محمد عباس فهمي وطاهر البدري. أما شهدي عطية فقد تم تعذيبه وقتله بالمعتقل في يونيو 1960 في سياق تداعيات جريمة التآمر مع عراقيين. ومن المفارقات أن الذين قامروا وأجروا المساومات تم إلحاقهم بنظام عبدالناصر وتم بعد ذلك استيعابهم في نظام أنور السادات.
مسؤولية عبدالناصر وتنكره لحدتو ودورها
بالرغم من كل شئ فإن عبدالناصر يتحمل مسؤولية الوصول بأزمة عامي 1958-1959 إلى أبعاد خطيرة. فقد قام بقمع الشيوعيين وفي القلب منها حدتو. وذلك بالرغم من تشكيلها الصف الأول للقوى الوطنية الديمقراطية. وأصر أيضا على فرض صيغة الحزب الواحد. وكان ذلك من عوامل تجريف الحياة السياسية. كما أن النهضة الثقافية والفنية التي تمت في عهده قامت أساسا على أكتاف مجموعة كبيرة من كفاءات نوعية ومبدعين تكونت في فترة النظام الملكي. وكانت أغلبية هؤلاء المبدعين من الشيوعيين وأنصارهم. ولم يظهر أو يتشكل في عهد عبدالناصر مثل هذه النوعية من الكفاءات والمبدعين. ومن جانب آخر تنكر عبدالناصر للتاريخ المشترك بينه وبين الشيوعيين الذين تمثلهم حدتو تحديدا. ولم يضع ذلك التاريخ في اعتباره أثناء تصديه للأزمة مع العراق. كما تجاهل حقيقة أن تاريخه المشترك مع حدتو كان من عوامل نجاح ثورة 23 يوليو ذاتها. وفيما يلي مجرد إشارات توضح أن عبدالناصر تنكر للتاريخ:
               1- اشتركت حدتو في تاسيس تنظيم الضباط الأحرار. وكان خالد محي الدين وهو حدتاوي من بين الأعضاء الخمسة الذين أسسوا التنظيم. كما كانت حدتو هي التي تطبع منشوراته ويقوم ضباطها في الجيش بتوزيعها.
               2- قامت حدتو أيضا بدور رئيسي في تنفيذ الثورة. وقد أشاد الجميع وأولهم عبدالناصر بالدور البطولي الذي قام به يوسف صديق ليلة الثورة. وهو من كوادر حدتو. وتم ضمه لمجلس قيادة الثورة تقديرا لذلك الدور.
               3- لم يقتصر دور حدتو على المشاركة في ثورة يوليو سواء في التحضير أو في التنفيذ. فقد قامت بدعوة الشعب إلى تأييدها والالتفاف حولها. وطبقا لكلمات د. سمير أمين فإن حدتو وصفت حركة الجيش بأنها حركة شعبية "ونادت الشعب ليساند جيشه. وشحذت همم المثقفين للكتابة في جريدة الحركة". ويقصد سمير أمين بذلك مجلة التحرير. وهي مجلة صدرت في أعقاب قيام الثورة. وكان رئيس تحريرها في البداية الضابط أحمد حمروش الذي كان مسؤولا سياسيا عن قسم الجيش التابع لحدتو. كما كان حسن فؤاد وهو من كوادر حدتو وأبرز الفنانين التشكيليين هو المسؤول الفني للمجلة.
4- ساهمت حدتو بدور هام في مقاومة غزو القوات البريطانية والفرنسية لبورسعيد. كما قامت بالدور الرئيسي في تنظيم المقاومة في بورسعيد أثناء العدووان الثلاثي عام 1956. 
لقد أخطأ عبدالناصر عندما قام بالتنكيل بالشيوعيين وتعذيبهم. ومن المآسي في هذا الصدد أن يتم إجبار المعتقلين الشيوعيين على القيام بأعمال سخرة وتكسير أحجار الجبل في أبوزعبل. كما ارتكب خطيئة بتجاهله أن حدتو وقادتها كانوا أول ضحايا خطة العراقيين ومحاولتهم نقل قيادة العالم العربي من القاهرة إلى بغداد. تجاهل عبدالناصر ذلك وقام بتقديمهم للمحاكمة أمام محكمة عسكرية خاصة برئاسة هلال عبدالله هلال قائد سلاح المدفعية. لقد كان عبدالناصر يدرك أن حدتو هي القوى الفاعلة في الحركة الشيوعية، ويخشى وجودها بعد انفراده بالسلطة خاصة بدءا من أبريل 1954. وكانت لا تزال ماثلة في ذهنه "الجبهة الوطنية الديمقراطية" التي شكلتها حدتو عام 1953 لإعادة الحياة النيابية. وهي الجبهة التي اشركت حدتو فيها كلا من حزب الوفد والحزب الاشتراكي. وبسبب تلك الجبهة تعرض قادة حدتو وكوادرها للتعذيب بالسجن الحربي ما بين نوفمبر1953 وفبراير1954. وليست مصادفة أيضا أن تم تعذيب رفاق حدتو على نحو بشع ثانية في 1960 حيث تم قتل شهدي عطية الذي تم التآمر عليه من قبل في 1958 هو وبقية رفاق حدتو. وقد أفضت المحصلة النهائية لتلك التطورات إلى إضعاف القوى الوطنية في العالم العربي في مواجهة القوى الرجعية والاستعمارية.