تقديرات اولية عن العدوان الاسرائيلي على القطاع


نعيم الأشهب
2014 / 8 / 16 - 18:10     

أولا - على الجانب الاسرائيلي : من المعلوم أن اسرائيل درجت ، منذ نشوئها،على خوض حروبها العدوانية على أراضي الغير - فلسطينية وعربية. لكن هذا الحال راح يتغيّر ، منذ سقوط الصاروخ الأول من عراق صدام حسين عام 1991 داخل الأراضي الاسرائيلية . وقد عرف هذا الحال تطورا نوعيا بسقوط صواريخ المقاومة اللبنانية ، عام 2006، على مواقع مختلفة من الداخل الاسرائيلي . أما خلال العدوان الاسرائيلي الأخير على قطاع غزة، فان صواريخ المقاومة الفلسطينية كانت قادرة على الوصول الى أية بقعة في اسرائيل. ورغم أن هذه الصواريخ ما زالت بدائية في إصابة الهدف ، لكنها سجلت في مداها تطورا نوعيا ، بالقياس الى مثيلاتها التي انطلقت من القطاع خلال العدوانين الاسرائيليين عامي 2008 و2012، وما يعنيه ذلك من آفاق تطورها واتقانها اللاحق. لكنها برغم بدائيتها وعدم ايقاعها خسائر تذكر في الطرف الإسرائيلي، أحدثت هلعا عاما في كل المجتمع الاسرائيلي وأربكت حياته وتسببت في توقف رحلات الطيران الدولي لإسرائيل لبعض الوقت. وقد فشلت نيران العدوان الكثيفة من الجو والبر والبحر في إيقاف اطلاقها. وهذا يعني إصابة قوة الردع ونظرية الأمن الإسرائيليتين بشرخ خطير ومزمن . وهذا يمثل الفشل الاستراتيجي الأول للعدوان الاسرائيلي الأخير على القطاع.
ومعلوم في هذا السياق أن واشنطن التي أقلقها الأداء القاصر لما يسمى ب" القبة الحديدية"، أعلنت على الفور عن رصدهل مئات ملايين الدورات لتطوير هذه الشبكة ؛ وحين فرغت ذخيرة آلة العدوان الإسرائيلية ،بادرت واشنطن بمدها بالذخيرة المطلوبة من احتياطيها الاستراتيجي المخزون في المنطقة بما في ذلك في دول عربية، كما انفردت واشنطن في لجنة حقوق الإنسان في الدفاع عن المعتدين الإسرائيليين واستعمالهم لإسلحة محرمة دوليا ؛ وكل هذا يفند الزعم بوجود خلاف أميركي - إسرائي حول هذا العدوان . ف"الخلاف" ، في حقيقته،هو في استعجال واشنطن الإسرائيليين في إنجاز أهداف عدوانهم ، لتجنيب واشنطن المزيد من انتقادات الرأي العام المحلي والعالمي.
أما الفشل الاستراتيجي الثاني ، فكان العجز المطلق لأجهزة الإستخبارات الإسرائيلية عن رصد واكتشاف عملية امتلاك الصواريخ وبناء قواعد إطلاقها ، وحفر الأنفاق التي تصل الى الداخل الإسرائيلي ، رغم القمر الاصطناعي العسكري الإسرائيلي الذي يرصد ، مع الطائرات بدون طيار، على مدى الساعة ، كل تحرك في الأراضي الفلسطينية : الضفة والقطاع ؛ هذا ،عدا شبكة الجواسيس على الأرض التي حرص الاحتلال منذ يومه الأول على إقامتها وتطويرها. لقد أحدث هجوم رجال المقاومة من خلف خطوط العدو وداخل أرضه ، ارباكا ومفاجأة غير متوقعة لقادته.
وبرغم الفارق الهائل في توازن القوى ، وبرغم صغر مساحة القطاع المطوق من مختلف الجوانب ، ورغم الخسائر الفادحة في الأرواح ، وبخاصة المدنيين، والدمار المريع الذي سببه هذا العدوان، فإن المقاومة الفلسطينية ليس فقط صمدت أفضل وأشد من أي وقت مضى في وجه المعتدي، بل وأوقعت به خسائر جسيمة في النخبة من قواته تفوق كثيرا الأرقام المعلنة. وكلما كانت هذه الخسائر تتصاعد ، كان المعتدي يصاب بالهستيريا ويصّعد من قتل الأطفال والنساء والعزل.لكن نوعية القتلى من الطرفين سجّلت تفوقا أخلاقيا كاسحا للمقاومة الفلسطينية على جيش العدوان الإسرائيلي ، وأدت الى تفجّرالمظاهرات الجماهيرية الغاضبة على االقتلة الإسرائيليين في العشرات والعشرات من الدول بما فيها الأوروبية والأميركية ، حيث معاقل التأييد لإسرائيل، مسجلة بذلك انعطافا هاما في الرأي العام الدولي ، مما يخلق مناخا مواتيا لتوسيع نوعي لمقاطعة اسرائيل وعزلها . وهذا يمثل الفشل الإستراتيجي الثالث لهذا العدوان.
ثانيا- على الجانب الفلسطيني : تمثل الإنجاز الهام الأول الذي تحقق لصالح القضية الفلسطينية نتيجة هذا العدوان ، رغم الضحايا والدمار ، في عودة القضية الفلسطينية الى مركز الصدارة في اهتمامات المجتمع الدولي والرأي العام العالمي ، بعد أن غمرها النسيان وبخاصة في أجواء الحراك الشعبي في العديد من البلدان العربية ، حين تخلّفت الساحة الفلسطينية عن هذا الحراك؛ كما شدّ هذا العدوان لحمة الوحدة الوطنية أكثر من أي وقت مضى ، ممهورة بالدم الغزيرالذي أريق في القطاع مع ذاك الذي سفكه جنود الاحتلال في الضفة ، التي هبّت جماهيرها الغاضبة للتضامن مع أهلهم في القطاع ؛ ولو توفرت القيادة الثورية المطلوبة لهذه التحركات الشعبية العفوية ، لربما تحوّلت الى انتفاضة ثالثة ؛ ولأحدث هذا انعطافا نوعيا في مسار المعركة مع الاحتلال،ولتحوّلت الى معركة شاملة للشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع ضد الإحتلال، بأشكال متنوعة من المقاومة.
أما على الجانب الفلسطيني الرسمي ، فإن الأمر اتخذ ، ولا سيما في البداية ، منحى مغايرا تماما ؛ فبدل الدعوة الفورية للقاء القوى الوطنية الفلسطينية بلا أي استثناء ، ولا سيما أولئك الذين يتصدّون للعدوان ، للإتفاق على استراتيجية لقيادة المعركة ، سارع الرئيس عباس لإعلان تبنيه للمبادرة المصرية، التي تشير الدلائل الى أنها صيغت بالإتفاق مع الإسرائيليين. ولم يكن صدفة تبني نتنياهو الفوري لها ، ور فضه التعاطي مع سواها. إن إسراع عباس لتبني هذه المبادرة دون تشاور وطني ودون تضمينها المطالب الفلسطينية المشروعة أدى الى التالي :ظهور عباس منحازا الى أحد المحورين المتنافسين في المنطقة، والمرتبطين في آخر المطاف بواشنطن : محور السعودية - مصر من جانب ، وقطر - تركيا من الجانب الآخر؛ وبهذا جرى إقحام القضية والدم الفلسطينيين كمادة للمماحكات المشبوهة بين هذين المحورين، وذلك بدل الحرص على تجنب أي تورط في هذه المحاور، والسهر بدل ذلك على علاقات متوازنة مع الجميع لصالح القضية الوطنية ووحدة قواها وبخاصة خلال احتدام المعركة، ذلك أن رفع أي تناقض داخلي فوق التناقض مع الإحتلال يمثل جريمة لا تغتفر؛ هذا أولا ، وثانيا - يكون عباس بهذه الخطوة قد برّر لقيادة حماس السياسية تحديدا الإرتباط بالمحور الآخر، وما يعنيه ذلك من مخاطر شق الساحة الفلسطينية خلال المعركة؛ وثالثا:أن عباس بهذا التبني المتسرّع للمبادرة المصرية قضى على حقه في قيادة هذه المعركة المصيرية مع الإحتلال ، إن لم يكن ما هو أكثر من ذلك.ولم يكن بلا معنى ، في هذا الصدد، ما أعلنه خالد مشعل من الدوحة ، خلال احتدام المعركة ، أن من يريد البحث في وقف إطلاق النار عليه التوجه الى غزة وليس الى رام الله! وقد تكرر مضمون هذا الإعلان. ولولا تدارك هذا الموقف البائس ، بتضمين أية مبادرة للمطالب الفلسطينية العادلة وفي المقدمة رفع الحصارالظالم عن القطاع ، لما أمكن تشكيل الوفد الفلسطيني الموحد في مفاوضات وقف النار.
ثالثا - على الجانب العربي : سجل النظام العربي ، خلال هذه المعركة، تراجعا سافرا في الموقف من القضية الفلسطينية . فإذا تظاهرهذا النظام ، في المراحل الأولى للقضية الفلسطينية ، باحتضانه لها، فقد تحوّل ، وبخاصة بعد اتفاقات كامب ديفيد المصرية - الإسرائيلية ، الى دور "الوسيط" بين الشعب الفلسطينية وإسرائيل ، ليصل حاليا الى " المحايد" شكليا والمنحاز فعليا لإسرائيل.ومعروف أن أبواقا رسمية عربية خرجت مع بدء العدوان الإسرائيلي الأخير تحمّل حماس - لا المعتدين الإسرائيليين - مسؤولية القتل والدمار. وهذا يعيد الى االأذهان ما بادر اليه حسني مبارك وحكام السعودية ، من تحميل المقاومة اللبنانية مسؤولية العدوان الإسرائيلي على لبنان ، عام 2006. وليس بلا مغزى ما صرّح به شمعون بيرس مؤخرا بانه لم يعد هناك عالم عربي معاد لإسرائيل ، وما صرحه نتنياهو وغيره بهذا المعنى ، بل وما يتجاوزه. وبينما تجلّت العديد من الأنظمة الأميركية - اللاتينية في موقفها التضامني الحازم مع الشعب الفلسطيني ضد العدوان الإسرائيلي ، فإن دولا عربية أساسية حرمت شعوبها حتى من حق التعبير ، بالتظاهر، تضامنا مع شقيقها الشعب الفلسطيني. بمعنى آخر: فالإستقطاب القومي الزائف للنظام الرجعي العربي مع القضية الفلسطينية يخلي مكانه ، اليوم ،أكثر من أي وقت مضى، لاستقطاب طبقي ، يجمع اسرائيل والنظام العربي القائم في معسكر واحد!
وإذا كان من السابق لأوانه تحديد مجمل نتائج هذه الجولة من العدوان الإسرائيلي ، بعد فشله الواضح في تحقيق أهدافه المعلنة واضطرار قواته للإنسحاب من أرض المعركة ، فإنه يمكن الإعتقاد الجازم بأن ما بعد هذا العدوان الفاشل لن يكون كما قبله. عدا ذلك ، أكدت هذه المعركة استنتاجات أخرى منها:أولا - على الشعب الفلسطيني أن يضاعف الإعتماد على نفسه ،الى أن يتغير النظام العربي القائم بآخر يتحمل مسؤوليته القومية تجاه القضية الفلسطينية، ليس لاعتبارات عاطفية، وإنما لكون إسرائيل الصهيونية لا تستهدف الشعب الفلسطيني وحده ، وإنما المحيط العربي كذلك؛ وثانيا- أن تجربتي المقاومة اللبنانية 2006 والفلسطينية الحالية بنوع خاص تؤكدان جدواهما الواضح في التصدي للعدوان الإسرائيلي ، طالما الجيوش العربية تستنكف عن هذه المهمة؛ وثالثا- أن أية مفاوضات هي ركض وراء السراب الفارغ دون استنادها الى نضال فعال على الأرض .
نعيم الأشهب
16/8/2014