يوميات عمال فلسطينيين بتل ابيب كالموج الى الشاطئ... دائما يعودون


اسماء اغبارية زحالقة
2005 / 8 / 10 - 11:15     

يونتان بن افرات واسماء اغبارية

"ماذا تعرفون عن العامل علي ابو الرب؟"، سؤال اخذناه معنا الى مجموعة من العمال الفلسطينيين المتجمهرين في مفترق "جيها" بمنطقة تل ابيب. هناك وقفوا وبعضهم افترش ارض الشارع، بانتظار ان تتوقف سيارة اسرائيلية لتحملهم الى يوم عمل. فتشنا عن شذرة معلومات لحسر الغموض عن مصرع العامل ابن العشرين ربيعا من منطقة جنين. مطيع (28 عاما) من قرية قصرة قضاء نابلس، يعمل في اسرائيل دون تصريح ويسمى، "مقيم غير قانوني". كان مطيع الوحيد الذي سمع بالحادثة: "كل ما اعرفه انه مات في السجن". هكذا، بدم بارد، لقي علي ابو الرب حتفه وكل جرمه انه دخل للعمل في اسرائيل، دون تصريح.

قُتل علي ابو الرب بعد ثلاثة اسابيع من تحريره من السجن الاسرائيلي، ضمن صفقة تحرير الاسرى الاخيرة الموقعة بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية في شرم الشيخ. روتين الحياة في السجن استُبدل بروتين حياة آلاف العمال الفلسطينيين الباحثين عن رغيف خبز في اسرائيل. انعدام فرص العمل في المناطق الفلسطينية، استمرار الاحتلال ومنع العمال من دخول اسرائيل يجعل من العمال "مجرمين"، لانهم يتسللون الى اسرائيل دون تصاريح. حسب التعليمات الاسرائيلية يُسمح فقط للعامل البالغ من العمر 35 عاما فما فوق بالحصول على تصريح عمل، شرط الا تكون له اسبقيات امنية. ولكن حتى لمن تتوفر فيه هذه الظروف، تعتبر هذه التصاريح نادرة.

المرة الاخيرة التي رأت فيها عائلة ابو الرب ابنها حيا كانت في 8 حزيران. بعد يومين، في 10 حزيران، عثر على جثته في معتقل بلدة روش بينا في الجليل الاعلى، التي تبعد ساعة سفر عن معتقل الجلمة.

تدعي الشرطة ان علي انتحر ووُجد ميتا في المعتقل. ولكن لمطيع، العامل الذي التقيناه عند مفترق "جيها"، تحليل آخر: "من غير المعقول ان يكون علي قد انتحر. فهو لم يحكم بالسجن المؤبد، والعمال معتادون ان يسجنوا. انهم يعرفون انهم سيسجنون اربعة اشهر في اقصى الاحوال. وهذا ليس سببا للانتحار.

"انا شخصيا تعرضت ثلاث او اربع مرات للضرب. انهم يضربون دون مثول ضابط مسؤول، يضربون باقدامهم، بالهراوات، باعقاب الاسلحة. في احدى المرات اعتقلوني مع نحو 50 آخرين، وفرضوا علي "وظيفة" غريبة ان اراقب العمال المتجمهرين في المعتقل واتأكد من انهم لن يتحدثوا فيما بينهم. المهمة كانت مستحيلة بطبيعة الحال، فتعرضت للعقاب وقام اثنان بضربي، ولما قاومت انضم اليهم ثلاثة آخرون. وراحوا يكيلون لي الضرب في كل انحاء جسمي مع التركيز على البطن، حتى ظننت انهم لو زادوني ضربة واحدة لقتلوني".

عائلة ابو الرب اعتمدت في معيشتها على علي واخيه محمود (22 عاما). والآن بعد وفاة علي، واعتقال محمود ايضا بسبب تواجده دون تصريح في اسرائيل، يبقى المفر الوحيد امام العائلة ابو الرب هو اخراج احد ابنائها الصغار من المدرسة، وارساله للبحث عن عمل في الجانب الثاني من الحواجز والاسوار. رغم الموت والسجن، لا بديل عن المخاطرة.

قصة حياة وموت عمر مطيع عبد عصراوي، اقل تعقيدا. عمر، عامل اعتاد الدخول للعمل في اسرائيل في الزراعة، وتعرض لاطلاق النار والموت الفوري عند الحاجز.

ملف عصراوي موجود بين ملفات المحامية بركات. المرحوم عصراوي كان في الثانية والعشرين، اب لثلاثة اطفال، سكن في طولكرم واعتاد الدخول للعمل في اسرائيل بشكل قانوني. في ساعات الصباح من يوم 16 ايار، وصل عمر كعادته الى حاجز جبارة في محاولة لدخول اسرائيل. ولكن حسب المعلومات التي وصلت الى عائلته، قام الجنود باطلاق النار عليه فاردوه قتيلا. تم نقل المغدور الى مستشفى "ثابت ثابت" في طولكرم بعد ان فارق الحياة.

حسب تقرير المستشفى وجد في جثة عمر مدخل رصاصة من العنق من الخلف مع مخرج بالعنق من الامام وتهتك بالانسجة العضلية. كذلك وجد مدخل رصاصة في الظهر من الجهة اليسرى ومدخل من الكتف الايمن دون مخرج. التقرير الذي وصلنا من المحامية بركات، يؤكد ان عمر لم يشكل خطرا على حياة الجنود، وهو ما اكده ايضا شهود عيان. (الملف موجود بين ايدي المستشار القضائي للحكومة، ميني مزوز).

ترى اي واقع كان ينتظر علي ابو الرب فيما لو نجح في الدخول لاسرائيل؟ لاستكشاف هذا المصير توجهنا الى مفترق جيها، التي تبعد مسافة عشر دقائق سفر من تل ابيب. مفترق جيها، احد المفترقات الكبرى في منطقة تل ابيب، تحول الى ملجأ يؤوي خلال الاسبوع مئات الفلسطينيين، جمعيهم عمالا غير قانونيين.



مفترق جيها

ثلاثة طوابق تحت الارض، بين اعمدة مجمع تجاري لا يزال طور البناء، دون نور، هواء او ماء، وفي اجواء خانقة، تبعثر في الزوايا فراش للنوم، وامور اخرى جُمعت من الشوارع، هي بقايا لحياة عمال يسعون لحفظ انسانيتهم، في ظروف غير انسانية. قابلنا العمال في السادسة والنصف صباحا، ينتظرون فرصة توقف سيارة "ترانزيت" تأخذهم للعمل مقابل 150 شيكل يومية.

لم يشأ اي من العمال ان يرينا المكان الذي ينامون فيه. خجلا ربما، وربما خوفا من الشرطة. ولكن محمود عطالله وعاصم وافقا ان نرى ما يمكن للكاميرا ان تراه، كما قال فاروق: "سترى كيف ننام على فراش نأتي به من القمامة. ستصور جرذانا بحجم القطط. هكذا يريدنا الاسرائيليون ان نعيش. ليبقوا هم الشعب المختار".

بين الجيش المتباهي بقدرته على القضاء على الارهاب، وبين حركة حماس التي بعملياتها تزود اسرائيل بالحجج لبناء الجدار الفاصل، يقع مئات آلاف العمال الفلسطينيين، عرضة للضرب، واحيانا للموت، في سعيهم وراء الرغيف.

كل العمال تحدثوا عن الضرب والملاحقات التي يتعرضون لها من الشرطة. انه جزء من المخاطرة التي يتحملها العامل داخل اسرائيل. احيانا ينتهي الامر بصفعة، لمجرد الردع والتخويف، واحيانا يصل الى الضرب المبرح بهدف اعادة العمال الى قراهم واعاقتهم عن العمل لبضعة اشهر.

"قبل عدة اشهر"، يروي لنا مطيع، "وقع عامل واصيب اصابة بالغة، في احد دهاليز المجمع التجاري، هربا من ملاحقة الشرطة. عامل آخر من قرية طمون سقط هو الآخر وكسرت ثلاث فقرات في ظهره، واليوم يقبع في بيته، عاجزا عن العمل".

الحكومة والسلطات تعرف بوجودكم هنا ولكنها لا تطردكم نهائيا مع انها قادرة على ذلك. ومن جهة اخرى تواصل التنكيل بكم، كيف تفسرون ذلك؟ الاجابات المختلفة الجزئية التي اعطاها العمال، يمكنها معا ان تشكل الصورة الكاملة:



المناورة الاسرائيلية

العمال الفلسطينيون يدركون جيدا تقلبات سوق العمل الاسرائيلية، فهم منذ عام 1967 باتوا يشكلون جزءا لا يتجزأ منها. اليوم، وفي ظل تقلص عدد العمال الاجانب الارخص، عادت السوق لتطلب الايدي العاملة الفلسطينية. اما بقية العمال الذين لن يحصلوا على التصاريح فسيتسللون للعمل في اسرائيل بكل ثمن وفي اي ظرف، ولو على الاقل لاعادة ال150 شيكل التي يحتاجها كل منهم لاجتياز المعابر في الضفة في الطريق الى القدس ومن هناك الى مركز الدولة.

محمد من بيت فوريك، يفسر: "الحكومة معنية بان نعمل، انها تفضلنا على العمال الاجانب لاننا نستهلك اموالنا في السوق الاسرائيلية".

محمد نصاصرة: "اسرائيل غير معنية بتمرد ضدها، لذا فهي تتيح المجال لتشغيل العمال، ولكنه يبقى مجالا محدودا جدا. من جهة اخرى، يواصلون الضغط عليك حتى تيأس وتتوقف عن طلب ترخيص عمل يجيز لك دخول اسرائيل، او حتى توافق على التعاون معهم وتتحول الى عميل".

لا يدور الحديث عن افراد، بل عن آلاف. يحيى اب لستة اولاد من منطقة نابلس، يقول: "اعتقلت قبل عام لمدة شهرين. قبعت في سجن الدامون مع 1500-2000 عمال آخرين. لماذا؟ فانا لا سلاح لي ولا متفجرات، كل جريمتي اني لم امتلك ترخيص عمل. اطفالي تضوروا جوعا، لم يجدوا من يطعمهم وانا في السجن".

العمال يفهمون التناقض. فمن جهة الاسرائيليون يغضون الطرف، ومن جهة ثانية كما يقول فاروق "لا يريدون رؤيتنا هنا، لاسباب عنصرية. فنحن نشوه لهم المنظر العام. ولكنا لسنا مجرمين. لم نأت من الشوارع بل من بيوت محترمة. البحث عن لقمة العيش، هو الذي يضطرنا ان نأتي الى هنا".

رايق يؤكد هذا القول: "لو كان هناك ما يضمن لنا الحصول في مناطق السلطة على 50 شيكل يومية، لما تحملنا عناء السفر من نابلس، ثم حوارة، زعترة، عناتا، القدس ومن هناك التسلل الى هنا، والتوجس خيفة كل الطريق من ان يتم القبض علينا واعادتنا ادراجنا بعد ضرب واذلال، ودون لقمة عيش".

الكثيرون من "سكان" المجمع التجاري الارضي في شارع جيها، يعودون الى بيوتهم بعد اسبوع كامل، دون قرش. ماذا تقول العائلة، سألنا، فاجاب ابراهيم (27 عاما) من قرية جوريش قضاء نابلس، "عندما يحدث هذا فاننا ببساطة لا نتحدث في الموضوع. من المحرج ان يفسر الرجل كيف لم يتمكن من الحصول على عمل، وبدل ذلك يحتمل حياة الذل هذه. العائلة لا تعرف في اي ظروف نحن نعيش. انها لا تسأل ونحن لا نجيب".

ولماذا تعودون؟

"لا بديل"، جواب ردده دفعة واحدة العمال المتحلقون حولنا. عاصم شاب من نابلس، يقول: "علي ابو الرب هو قصة من مليون قصة لشباب يتم القبض عليهم لانهم صغار في السن ودون تجربة، يتعرضون للضرب المبرح، للاذلال، والطرد الى قراهم. ولكنهم دائما يعودون".