-ديمقراطية- بدون ديمقراطية!

خالد الصاوي
2005 / 8 / 10 - 11:19     

هل الديمقراطية الليبرالية هي الحل؟ سؤال يحتاج لتفكير عميق..
مدخل تاريخي ومنهجي:
لمئات القرون قبل بدايات الثورة الصناعية والبشرية تعيش في اطار القطيع الذي تحكمه تراتبية السلطة تلك التي تحددها أشياء كثيرة خارجة على تحكم الجماعة -كسلالة الدم والعرافة وقوة التغلّب البحت- سواء في عصور المشاعة البدائية التي لا زالت آثارها عالقة ببعض القبائل المنعزلة في أطراف الأرض، أو عبر عصور المجتمعات العبودية ثم الاقطاعية المختلفة حيث تم تجديد دور زعيم القبيلة وكاهنها بالملك والاقطاعيين ورجال الدين بعد تقسيم العمل والثروة تقسيما طبقيا في خدمة الأقلية الحاكمة وضد الأغلبية الكادحة.
ومنذ وقوع المجتمع في الانقسام الطبقي والاحتجاجات والانتفاضات الفلاحية والحرفية لم تتوقف ولكن كانت سمتها الغالبة هي الفشل، انتصرت الأديان للفقراء صحيح ولكن في كل مرة تحول فيها الدين الى دولة كانت الثورة تضمحل تباعا ويعود التحالف السلطوي بين الكهنة والطبقة الحاكمة لتعود المنظومة الثلاثية للمجتمع الطبقي: الاستغلال/القمع/واستلاب الوعي.
وتضافرت العوامل والظروف المهيئة لمولد طبقة جديدة أفلتت من تحكم الاقطاع في اوروبا –هي الطبقة البرجوازية- دعمت استقلالها بالمال والعلم والسلاح، وبلورت رؤية ثورية للعالم حتى كتب لها النجاح في الوثوب الى السلطة على أكتاف الفلاحين والحرفيين أثناء الثورة البرجوازية الكبرى في فرنسا، وبالفعل أسقطت البرجوازية طبقة الاقطاع وحلفاءها، وباسم "الجماهير" انفردت وحدها بالسلطة والثروة ولكن بأسلوب شديد الالتواء والتركيب حيث غيرت في مقادير وأسايب المنظومة الثلاثية -الاستغلال/القمع/وسلب الوعي- وان حافظت على المزيج النهائي بنكهة جديدة يزيد فيها وهم تحرير الانسان على تحريره الفعلي.
وبينما احتفلت البشرية بخلاصها من سياسة القطيع التي صبغت مشوارها الطويل، كان النظام الجديد يكرّس فوضى من نوع آخر وأخطر وفلسفة جديدة لامتطاء القطيع ولكن دون أن يحس القطيع نفسه بذلك أغلب الوقت بعد أن وقع في وهم الحرية.
ان الفكرة السياسية التي لعبت هذا الدور الخبيث لم تبدأ خبيثة مطلقا، بل كانت ثورية فعلا وهادفة لخير البشر، ولكن مجموعة من المشكلات التاريخية والمنهجية قادتها الى هذا التحول.. وكما يقول شاعر الثورة الروسية ماياكوفسكي:
"لم يكن الرأسمال أيام شبابه سيئا
كان مثلنا في هذه الأيام
وتقدم مثلنا وأشعل الثورات..
حتى سمن مثل بقر الانجيل..
وصار لسانه-البرلمان- يلحس أكفاله!"..
فالتطور الصناعي والنقدي وما صاحبهما من أخلاق ملائمة مشيدة على المصلحة الشخصية المباشرة، وتراكم الثروات والمعارف في أيدي البرجوازيين دون الفلاحين والحرفيين، وطغيان الفلسفة الفردية، واختزال الحريات في حرية التجارة عمليا (دعه يعمل دعه يمر)، وخلق البرجوازية للطبقة العاملة الصناعية واحتكاكها المستمر بها، كل ذلك وغيره كثير حول الفكرة السياسية الأصلية من "الديمقراطية الليبرالية" الى "دكتاتورية البرجوازية"، وبدّل الطبقة البرجوازية من طبقة ثورية تتبنى مطالب الطبقات الأخرى الواقعة تحت الاستغلال والقمع الى طبقة مستغلة وقمعية جديدة أكثر براعة في سلب وعي الجماهير، فتحولت الديمقراطية من حكم الشعب للشعب وبالشعب الى ايهام الشعب بحكمه لنفسه من خلال ممثليه البرلمانيين وحكوماته "المنتخبة" دوريا، وصار "المواطن" صوتا انتخابيا يدعى مرة كل 4-6 سنوات لاختيار من يخططون وينفذون برامج استغلاله وقمعه لحساب السادة البرجوازيين ملاك الثروات والحكومات وأرزاق البشر دون سيطرة منه عليهم بعدها.

الجاذبية والوهم في الديمقراطية الليبرالية:
"المواطنون سواء".. هكذا تنص كافة الدساتير البرجوازية ولكن الحقيقة الملموسة غير ذلك، "الحكومات تعبر عن الجماهير".. ولكن الحقيقة على الأرض غير ذلك، وبالتدريج تم افراغ حرية التعبير وحرية العلم والحريات الأخرى الكثيرة التي تبنتها الديمقراطية الليبرالية من مضمونها، حتى حرية التجارة التي كادت البرجوازية تعبدها زمنا تنهار الآن أمام الاحتكارات العالمية، وتحول الوعد البرجوازي بعالم حر وعادل الى كابوس للفقراء والمضطهدين، وتركزت ثروات العالم وسلطاته في طبقة العولمة الرأسمالية السفاحة التي انتهكت البيئة وقادتنا الى تواجه الأديان والحضارات، وانفلت السلاح من يد وعقل البشر وصار قوة مضادة للحضارة البشرية في مجملها فزادها اغترابا، وانتشرت الهمجية على مستوى الأرض.. ودخلت البشرية مع الليبرالية الجديدة نفقا قاتما وخانقا لم تشهده من قبل..
كيف حدث هذا التحول الجذري في فلسفة الديمقراطية الليبرالية؟
انها قوة رأس المال التي اشترت تباعا كل أدوات "الدولة الديمقراطية" من البرلمان والحكومة والقضاء الى الجيش والشرطة والأحزاب الكبيرة الى الاعلام والفنون السائدة.. الخ، ومع الرسملة المستمرة للمجتمع الزراعي وكافة الميادين المهنية والعلمية سطت الليبرالية الجديدة على مقود العالم لتقوده في اتجاه احدى الهاويتين: العولمة الرأسمالية الكاملة أو الانهيار الكلي للحضارة حيث لم يعد هناك في عالم اليوم الا طريقان لا ثالث لهما: نظام مركزي للعالم.. أو انفجار همجي ونكوص لعهود بدائية.
تتنوع الأوهام الجذابة للديمقراطية الليبرالية بين الأسلوب النيابي المعتمد بها، ونظرية "تداول السلطة سلميا"، و"خضوع الأقلية للأغلبية"، و"الفصل بين السلطات"، و"من جدّ وجد" وأمثالها من الأكاذيب جيدة الصنع حسنة الزينة.. صحيح أنها تتفوق كثيرا على دول الاستبداد الشرقي المعاصرة ودكتاتوريات العالم الثالث عموما –الرابع حاليا بعد حصول الكتلة الشرقية على اللقب!- في الحريات العامة والشخصية ومستوى المعيشة بشكل عام، ولكنها أيضا تتفوق عليها كثيرا في آليات الكذب والتزييف.
تقسّم الدولة الديمقراطية داخليا أقساما جغرافية ينتخب سكانها القيادات المحلية والبرلمانية والرئاسية، نظريا من حق الجميع تقريبا أن يرشحوا أنفسهم لتمثيل الأهالي، عمليا لا ينجح الا من يسانده الرأسماليون، قد تكسب الانتخابات الأحزاب "الاشتراكية" في "الديمقراطيات" الأوروبية بقوة أصوات العمال والمهنيين ولكنها لا تستمر في السلطة أبدا الا برضاء الرأسماليين.. وفي التاريخ الحديث والمعاصر أمثلة لا حصر لها..
وفور فوزهم يكتسب الفائزون صك الدولة ويستلمون صولجان الادارة والمثلث الذهبي المقدس (الاستغلال-القمع-سلب الوعي) ويغتربون عن الجماهير تماما، فينقلون كل احتكاك أو جدل بين الطبقة الحاكمة والجماهير الكادحة الى أروقة البرلمان وأنفاق المحاكم وصالونات الجمعيات الخيرية والبرامج التليفزيونية المكررة حيث الثرثرة الجوفاء والخطب الممجوجة والقرارات المائعة والقوانين التي تسبغ الشرعية طوال الوقت على كافة صنوف وأنواع الاستغلال..
لماذا يحدث هذا دائما؟ لأن الأوجه والأحزاب والحكومات تتبدل في الديمقراطيات الغربية (واليابان) ولكن السلطة –والثروة بالتالي- لا تفارق كف الطبقة الحاكمة والتي تدير العالم كله من وراء الستار.
فبينما يدعي البرلمان استقلال قراره نراه تابعا في الحقيقة لأسياده الرأسمالين الذين يملكون وحدهم تقريبا دعمه أو اسقاطه، ذلك أن الأقسام الجغرافية للدولة الديمقراطية هي أصلا أسواق ومناطق نفوذ متناحر عليها أحيانا بين الكتل الرأسمالية الكبيرة أو موزعة بالمساومة بينها وفي كلتا الحالين تكون الغلبة لقوة الحملة الانتخابية وجاذبية وهم تحسين الأحوال التي تغلفها وتبروز رموزها، قد يرشح عامل نفسه للبرلمان أو الرئاسة وينجح بالفعل اعتمادا على تاريخه النضالي والنقابي، ولكنه لن ينجح دون حزب تابع للطبقة الحاكمة -ولو بشكل غير مباشر ظاهريا- ليتم رميه فور نجاحه في خرّاطة الدولة الرأسمالية حيث يأخذ شكل القالب المطلوب، تقطّع جذوره بالجماهير تباعا بينما تتوطد علاقاته برجال المال والأعمال والنفوذ، وينفتح أمامه باب الفساد على مصراعيه، يتعلم لغة الصفقات ويتبنى قذارات السياسة البرجوازية، ومع ادراكه لبواطن الأمور يتغير تصوره للعالم تماما حيث يميل يوما بعد يوم للخضوع للمؤسسات الرأسمالية العالمية ومجلس الأمن والأحلاف العسكرية الكيرى، يتورط في التصريحات الكاذبة حول تحسين الأحوال والدفاع عن المصالح "القومية" وتبرير قمع المعدمين المحتجين حينما يهددون نفوذ الطبقة الحاكمة من منطلق "وطني"، وعلى القوى الثورية والاتجاهات المتمردة التي تنادي بتفكيك دولة الظلم الطبقي يتورط صاحبنا في شن حرب دموية حرصا على رفاهية الأمة كما يدعي أو كما يظن المسكين فعلا..
وهكذا ففي البرلمان وفي القصور الرئاسية يتحول أشد العمال نقاء وشعبية الى خادم للرأسمالية من حيث لم يحتسب أصلا، وفي التاريخ أيضا أمثلة معادة تؤكد صدق هذا التقرير.
ليست هناك أية ديمقراطية في "الديمقراطية الليبرالية" الا فيما بين كتل المتنافسين على أرزاق ومصائر الجماهير، أما الجماهير نفسها فلا تحكم لأنها لا تملك، وهي لا تملك لأنها لا تحكم، وحيث أن الطبقة الرأسمالية هي الطبقة المالكة فهي الطبقة الحاكمة، وهي الطبقة الحاكمة لأنها الطبقة المالكة.. وهكذا يعيد الاستغلال انتاج نفسه باعادة خلق دولة الاستغلال لشروط الاستغلال أصلا، أي بفصل الجماهير عن السلطة حتى لا ينفذ لمنابع الثروة – وبالتالي السلطة التي تؤمنها- الا محامو الطبقة الحاكمة ومندوبو دعايتها ووكلاؤها "الشرعيون".. أي نواب الشعب ورؤساؤه.
وحيث تبقى الثروة بعيدا عن أيدي الجماهير، يعمل الوهم الديمقراطي عمل السحر في النفوس، ليس فقط من زاوية تأثيره الكبير على العقول بل بالشعوذة العميقة في ثناياه، فلا يبقى للمواطن الا انتخاب "نجم" مزيف جديد ظنا منه أن ذلك النجم يستطيع انتزاع بعض الثروة لحسابه، ولكن هذا مستحيل طبعا لأن الديمقراطية الليبرالية تقدس رأس المال وتسجد له كل دساتيرها ويدور حوله الانتاج والتبادل والخدمات جميعا، فينتهي الأمر بشكاوى الفقراء والمضطهدين الى أن تكون مجرد فقرة على هامش أجندة البرلمان والحكومة وأطنانا من الأوراق في سراديب الوزارات والمحاكم.
ليست هناك أية ديمقراطية في "الديمقراطية الليبرالية" بل دكتاتورية لطبقة واحدة هي طبقة الرأسماليين.

هل ينجح تصدير الديمقراطية خارج الغرب؟
للاجابة على هذا السؤال الصعب لابد من فحص اللحظة العالمي بدقة، لقد تم تصدير النموذج الديمقراطي الليبرالي بالفعل فور اندلاع ثورة فرنسا 1789 لما تلاها من ثورات أوروبية، ثم لدول المستعمرات تباعا، وعلى مدار القرنين ال19 وال20 تم تحرير غالبية شعوب الأرض من التأخر العلمي والتكنولوجي ونمط الستغلال والاستبداد العتيقين ولكن مع تكبيلها بآليات السوق الرأسمالية وجيوش الاستعمار القديم، وبديناميكية جدلية تم تبني الديمقراطية الليبرالية -التي هبطت على الشعوب غير الأوروبية من أعلى- من قبل الطبقات البرجوازية المستنسخة في المستعمرات رغم تناحرها مع الاستعمار الرأسمالي العالمي، وقادت البرجوازيات الممسوخة حركات التحرير فعليا متوسلة للسلطة بكل الأدوات المناسبة من الانتفاضة الشعبية الى الانقلاب العسكري ومرتدية جميع الأزياء الممكنة من القومية الى الدينية ومن رأسمالية الدولة الى الطفيلية المنحطة.
لقد قاتلت جماهير العالم الثالث دفاعا عن الاستقلال والديمقراطية والتنمية والتحديث منقادة للبرجوازيات الممسوخة، وبينما كرس حكم رأس المال قواعده في بلاده المتقدمة بالمزيد من تزييف الوعي والرشاوى العابرة للطبقات الكادحة لشراء صمتها وتسويف نضالاتها بالمخدر طويل المدى، كرست رأسمالية الدولة في الاتحاد السوفييتي والصين وأشباههما نفسها بالمزيد من القمع، وفي العالم الثالث كله راحت الرأسماليات المشوهة تدور في فلك العملاقين حائرة ومترددة بين مختلف أساليب القمع وسلب الوعي التي تعلمتها من كلا العسكرين مع اضافة ابداعاتها المرتجلة في اذكاء منظومة الظلم البشري الثلاثية اعتمادا على تراثها الفسيح من الاستبداد والشعوذة وعلى أرضية فسيحة من الفقر والجهل والمرض.
وانفجرت الأوضاع في النصف الثاني من الستينيات من أكثر من مركز ثوري واحتجاجي (فيتنام/العنصرية في أمريكا/المنظمات الثورية للجماهير وللعمال بالذات.. الخ)، وأسفرت الديمقراطية الليبرالية عن وجهها الدموي كما فعلت رأسمالية الدولة الروسية قبلها بسنوات، فنزلت الدبابات الى شوارع باريس في 1968 لتفض الثورة العمالية بعد سنوات قليلة من اقتحام الدبابات الروسية لشوارع بودابست في 1956 ، وكما حدث مع الموجات الثورية العالمية السابقة في عشرينيات وأربعينيات القرن ال20 خرجت الجماهير بمكاسب كثيرة ولكنها خسرت المعركة الأكبر أي معركة التوزيع العادل للثروة لأنها خسرت معركة انتزاع السلطة من الطبقات الحاكمة، وبالتالي لا يمكن القول ان متوالية الثروة-السلطة-الثروة-السلطة هي قانون أبدي لا يمكن كسره، بل المقصود ان الطريق الوحيدة لكسر هذه المتوالية وهذا القانون هي انتزاع السلطة بالذات من أيدي الطبقة الحاكمة-المالكة- بواسطة منظمات الجماهير ولجانها المشكّلة من مواقع العمل والأحياء الشعبية لا بأي شكل بديل، وهو التمهيد المنطقي لانتزاع الثروة عبر هذه المنظمات الجماهيرية ولجانها لصالح جماهيرها وبتمثيل نيابي مباشر وبسيط وتحت سيطرة هذه الجماهير لا فوقها عكس ما يحدث في الاطار الديمقراطي الليبرالي.
ومع انحسار الموجة الثورية التابعة لعام 1968 تدريجيا، تعاظمت الليبرالية الجديدة على مدار الثمانينيات وفق انتعاش مؤقت للسوق الرأسمالية العالمية وتراجع الاتحاد السوفييتي والكتلة "الاشتراكية" –اسما دون مسمى- وحوصرت الحركات الثورية (التقليدية) وبدأ عهد انتزاع المكتسبات الجماهيرية في كل بقاع الأرض، وفي العالم الثالث تحديدا انهارت الحوائط الواهية للاستقلال وانكشفت الجماهير على فوهات جيوش العولمة الرأسمالية ومحارق مؤسساتها المالية دون حائط صد واحد عسكريا أو اقتصاديا أو سياسيا بالتبعية.
وانهارت كتلة رأسمالية الدولة –الاتحاد السوفييتي- بشكل فج وفاضح مما أوقع أغلب الثوريين اخلاصا في الحيرة والاحباط، ومر عقد من التراجع المهين على مستوى النضال الثوري، وانتشرت مراجعات الاشتراكية الراديكالية -تحت اسم أزمة الاشتراكية وانهيارها- للمنظّرين المأزومين وعبر كتاباتهم المنهارة.
ومع ذلك كله فقد بقيت في سجل التجارب الثورية للبشرية نماذج للبديل الواقعي لليبرالية الديمقراطية ودكتاتورية رأس المال.. أي سلطة مجالس العمال والفلاحين واللجان الشعبية الثورية التي تشكلت تباعا كجزر منعزلة متتابعة من روسيا 1917 الى ايران 1979، وهو ما يحتاج لتفكير أعمق يأتي في موقعه.

-ما مدى التلازم بين الديمقراطية والرفاهية؟
لعقود طويلة كانت المجتمعات الديمقراطية الليبرالية الكبرى نماذج مبهرة لمجتمع الرفاهة في عيون الجميع، ففي ظلها تتطور التكنولوجيا والعلوم والفنون ومستوى الخدمات وتتكاثر البرامج التليفزيونية التي تحرج الرؤساء والأحزاب الحاكمة، تنتشر الحريات بدءا من الحرية الدينية الى الحرية الجنسية، يراقب البرلمان الميزانية العامة ويفصل القضاء في النزاعات بالقانون، يعمل القادرون ويترقون تبعا لجهدهم المشكور وتصرف الدولة اعانات للمتعطلين، ينفق الأغنياء على تنمية الثقافة ويتمتع بمنجزاتها الجميع.. وهكذا.
ولكن العالم الآن في لحظة مختلفة تماما عن كل تاريخه السابق بدءا من تبلور الليبرالية في القرن الثامن عشر وحتى الأزمة الحالية لليبرالية الجديدة، فالدولة البرجوازية التي بنتها ثورة 1789 لتحمي التنافس الشريف للرأسماليين تحولت الى النقيض التام حيث تأكل الاحتكارات العالمية الآن كل ما في وجهها من تنافس أو شرف.
فبالرغم من كل هذه المحسّنات البديعية في الخطاب الليبرالي الجديد وتشدقه الدائم بالديمقراطية، فقد انكشف للجماهير العريضة كذبه ونفاقه اللصيقان بوجوده، والمتابع للأحداث منذ نهايات القرن المنصرم ليجدن تعاظم القوة الجماهيرية عالميا ضد مشروع الليبرالية الجديدة في تلك الحركة الجبارة المناهضة للعولمة الرأسمالية والتي انبثقت من بلاد الديمقراطيات الكبرى نفسها لتضم شتاتا فقيرا ومستغلا ومقهورا بدءا من المرأة التي لمست الآن أنه لا تحرر مع الفقر والطبقية، الى الأقليات المضطهدة داخل المعسكر الديمقراطي نفسه من الأديان والألوان المغايرة، الى العمال المحاصرين بالغلاء والتسريح، الى الفلاحين الذين تأكلهم الصفقات الكبرى خارج علمهم وسيطرتهم تماما، الى أفواج من الاحتجاجيين في صفوف المهنيين والطلاب والفنانين وأنصار البيئة ومناهضي الحرب، وباختصار.. كل من يشكو من أن قطار العولمة الرأسمالية يدعسه جسدا أو روحا أو كليهما معا، وبمعنى أوضح.. تجددت المناوشات الطبقية بين الطبقة الحاكمة في العالم وجماهير العالم أجمع.
وما بين انتفاضة الأقصى والمقاومة المستميتة في العراق تعالت الاحتجاجات العالمية داخل وخارج الديمقراطيات الكبرى، ودفعة واحدة سقط كل مكياج الليبرالية الجديدة وبدت تشوهاتها المرعبة دون استحياء، انها الأزمة الاقتصادية الرأسمالية الدورية تأتي بأوجاعها كما اعتدنا، ولكنها تحمل معها هذه المرة الكثير من الهستيريا الطائفية وبارانويا القمع والسيكوباتية النووية، ويا له من مزيج!!
ما مدى التلازم بين الديمقراطية والرفاهية اذن؟ في الحقيقة لا تلازم بعد اليوم بينهما طالما بقيت الديمقراطية مفرغة من معناها وحتى تكون الديمقراطية في العمل والانتاج والثروة هي المقدمة المنطقية للديمقراطية السياسية، ولكي يحدث هذا لابد من انتزاع السلطة -والثروة بالتبعية- من الطبقات الحاكمة أولا ولن يتم ذلك بالديمقراطية الليبرالية لأنها ببساطة هي بذاتها أسلوب وشكل سلطة رأس المال، والمشير على الجماهير اليوم بهذا المنهج اما عدو طبقي لها أو مجرد واهم جديد، فتحرر الجماهير من هذه الرمال الناعمة لا يتأتي بالمزيد من الخوض فيها بل بهجرها تماما وتبني الاتجاه النقيض كليا أي بانتزاع الغالبية الكادحة من الأجراء للسلطة والثروة من الأقلية الرأسمالية، وبالنضال الثوري عبر مواقع الانتاج أساسا، وبالبناء الاشتراكي من أسفل -ان جاز التعبير- من خلال المجالس القاعدية واللجان الشعبية بحيث تظل الجماهير مسيطرة على مسارها متمتعة بثرواتها قريبة دائما من مستوى القرار ومشاركة وفعالة دائما في تشكيله.
ان البديل الوحيد لدولة الديمقراطية الليبرالية بهذا المعنى هو "شبه الدولة" الاشتراكية أو "الاتحاد الحر لمنتجي المجتمع" أو ما شاءت الجماهير من مسميات تتولى ابداعها بنفسها وعبر حركتها الثورية لتطهير المجتمعات تباعا من كابوس العولمة الرأسمالية المرعب.

-هل الديمقراطية الغربية هي الخيار الأمثل لتبادل السلطة في العالم العربي؟
بالتأكيد لا! حتى لو كانت تبدو وكأنها أفضل الخيارات الممكنة في اللحظة الحالية، وحتى لو كانت قنطرة للثورة الاشتراكية العالمية أو محطة للوثوب اليها كما يؤمن أغلب اليسار، تظل الديمقراطية الغربية بما وصلت اليه الآن بالذات اختيارا خاطئا وخطيرا، صحيح أنها أرحم من الفاشيستية بكل صورها، ولكنها تظل بالنسبة للثوري الذي يعرف هدفه جيدا مجرد ضرورة تغلبه عليها الظروف ولا يختارها هو بنفسه ولا يقع مطلقا في فخ تبريرها أو التبشير بها.. ولنوضح ذلك..
تقدم العولمة الرأسمالية الآن وصفتها السحرية الغامضة لجماهير الأرض، تعرض منحة الديمقراطية على شعوب المستعمرات الاقتصادية عبر ضرب سلطاتها العتيقة المستبدة واحلال حلفاء طبقيين جدد لها مكانها هم من رجال المال والأعمال التابعين لها تبعية الكلب لسيده، بها أتوا للحكم وعلى احساناتها يعيشون، واذا تجرأ أحدهم عليها يوما ما فقد رأينا ردها الحاسم على أمثاله عدة مرات مؤخرا.
وفي المقابل تربط العولمة الرأسمالية هذه الشعوب بها بأحبال سرية متنوعة، فتمتص ثرواتها وتنقل لها أزماتها الداخلية، وعبر مناوراتها مع جماهيرها الكادحة والعاطلة والفقيرة والمضطهدة (مثلنا بدرجة أو بأخرى)، يتم تجييش التحالف الأنجلو-أمريكي وأذياله لخوض حروب كبرى تحت ستار صراع الأديان وتحت شعار "تصدير الحضارة الغربية الديمقراطية للعالم"، ولو مددنا الخط على استقامته لوجدنا عالما موحدا و مركزيّ الادارة -خلال عقد أو عقدين بالأكثر- ولكن على الطراز الديمقراطي الليبرالي، أي تنفرد الطبقة الحاكمة بكل السلطة والثروة البشرية، ويتحقق مشروع العولمة الرأسمالية المرعب.
ستتم عندئذ طبعا تصفية كل جيوب المقاومة عالميا، سيتم تركيع المناضلين وقد أصبحوا خارجين على القانون العالمي وتتولى شرطة العالم فض كل أشكال الاحتجاجات الجماهيرية، ولكن المقاومة غريزة انسانية أصيلة، ولهذا سيخرج القتاليون من صفوف المظلومين لينفجروا بالعبوات الناسفة هنا وهناك ويفجروا معهم الجميع، وتتجدد الاشتباكات العرقية والدينية من قلب سيادة النمط الديمقراطي المزيف على الأرض، فيخرج المبشرون بعالم جديد ولكن يتم ايداعهم فورا مستشفيات الأمراض النفسية باعتبارهم معادين للمجتمع العالمي، وينشد الشعراء ضد روما القديمة –كالعادة- فيعتقلون لتحريضهم على الارهاب، ستزور الانتخابات العالمية كما زورت انتخابات الولايات المتحدة دورتين متتاليتين، ويسود عصر ملعون أحلى ما فيه مرّ حيث التفكير الأحادي والعبودية الآلية، وحتى اذا تجاوزت البشرية احتكاك القوى النووية بسلام وسيطرت على الارهاب المضاد وأنجت البيئة من خرابها المحتمل، فسوف تواجه الهبة الجماهيرية العالمية المنظمة وقتها ضد أسس الاستغلال والقمع أصعب الحواجز بما يتجاوز خيالنا بمراحل وبتضحيات لا يمكن اقرارها أو حسبانها أصلا بحيث يلعن أحفادنا وقتها اختياراتنا الخاطئة الآن، والآن بمعنى الآن.. فورا!
لدينا الآن لحظة عالمية مناسبة تماما -عكس ما يتخيل الكثيرون- لانتصار الثورة العالمية وطرح المسار الاشتراكي "الحقيقي" وبناء الأممية الاشتراكية بديلا عن العولمة الرأسمالية.
فهذه النسب المختلطة من الأشياء تصلح للثورة كما تصلح للبديلين الأخرين: عالم قمع مركزي أو همجية تدميرية، فالفوضى تستعر والتناقضات تتلاطم مما يساهم في عرقلة محاولات العدو الطبقي لحسم السطوة النهائية على العالم، كما أن ذهول وتخبط التحالف الأنجلو-أمريكي-الصهيوني أمام المقاومة العربية والاسلامية يخلخل جبهة العدو، واحراج ايران وكوريا الشمالية لأباطرة التسليح والتناقضات بين الكتل النووية شرقا وغربا يمنح الجماهير فسحة من الوقت لشن هجوم مضاد على منطق التسليح النووي أصلا، ، وتعاظم الحركات الجماهيرية عالميا يقترب أكثر وأكثر من الانفجار الثوري بعدما عجز معسكر العدو الطبقي عن تقديم تنازلات لها وصار سلاحه الوحيد هو العنف الفاضح، وبانهيار البناء الأخلاقي والروحي بالديمقراطيات الكبرى وبالمستعمرات الاقتصادية سواء صار الاحتياج الى فلسفة أخرى ملحا، وصار نجاح الثورة العالمية ممكنا جدا.
-مستقبل الديمقراطية الغربية من وجهة نظر المفكرين الغربيين:
لم يكد الاتحاد السوفييتي ينهار حتى طلع علينا منظرون برجوازيون لا يقارب انحطاطهم الا انحطاط اللحظة التاريخية نفسها، منهم من نظّر بشغف لنهاية التاريخ لصالح الليبرالية الجديدة ومنهم من عاب على الماركسية الثورية ثوريتها (!) ومنهم من نقل المعركة الى الساحات الخلفية للصراع (صراع الحضارات-حوار الثقافات.. الخ) ومنهم من انغمس في ابداع برنامج وهمي لانقاذ البشرية، أو في التنظير للمجتمع المدني والجهد الخيري المهدر، ومع ذلك بقي تيار واحد مؤمنا بالثورة العالمية وبالاشتراكية من أسفل ولكنه بالطبع ظل خفيض الصوت حتى عادت الموجة الثورية العالمية بدءا من سياتل ثم انتفاضة الأقصى فأصبح له مستمعون.
ولكن شعلة الثورة العالمية انتقلت الآن الى الشرق الأوسط، صحيح أنها قد تشمها قدور الزيت المغلية في أي بقعة في العالم من نيو يورك الى طوكيو ومن ستوكهولم الى جنوب افريقيا، الا ان جبهة الصراع العالمية ومسرح أحداث هذا الفصل الحاسم من تاريخ الاميراطوريات "الديمقراطية" انما يدور على الأراضي العربية في هذه اللحظة، ففيها تتواجه الجماهير العارية بالترسانة الشيطانية وتلحق بها الهزائم رغم ذلك، وفيها يتم تفكيك الدول العربية وأنظمتها العتيقة لبناء الديمقراطيات المستنسخة وهو ما يعبّد الطريق لانتصار الثورة الشعبية على كلا الخصمين، وفيها يبدو جليا حجم التمييز العنصري والطائفي على الأرض، وفيها -وهو الأهم لأنه الأوضح- تتفجر التناقضات العميقة بين ثروات لا حد لها وافقار مقيم، وفيما بين مدن وأحياء متجاورة تنتمي لعصور شديدة التباين.
وقبل التسليم بمقولات المفكرين العالميين الحاليين من فوكياما لجارودي لتشومسكي وغيرهم، على المفكرين الثوريين في البلاد العربية (وايران) تقديم رؤية عميقة لواقعهم وواقع نضالات جماهيرهم من منظور أممي يربطها بنضال الجماهير في العالم كله صحيح ولكن بتحليلات مبتكرة وابداعات توازي حجم تضحيات أهالينا وفقرائنا، وصولا لطرح برامج عمل واقعية وتكتيكات يومية هادفة الى حسم هذه المعركة لصالح سلطة التحالف الطبقي للمأجورين ضد سلطة حلف رأس المال.