من سيرة فأر أبيض


عماد البابلي
2014 / 7 / 12 - 07:57     

الطريق نحو ثلاجة البيت طويل وقطط بشوارب سميكة تجلس حارسة باب الثلاجة ، تضل الفئران طريقها رغم أنها متمسكة بالوصايا جيدا ، هكذا هي قطعة الجبن بالنسبة لها ، ليست وجبة طعام دسمة لكن شيء ما يتعلق بمصيرها وسر وجودها الكوني ، شخص ما سيظهر من السماء ويعيد لجموع الفئران الطيبة الجبن المفقود ، فأر أبيض قصير الحجم ، لا يشبه الفئران كثيرا كانت أمه قد جلبته دون أب ، لم يهتم أحد كثيرا بهذه القضية ، قضية النسب ، كثير من الفئران الإناث قد وهبت نفسهن له ، لكنه كان لا يبالي كثيرا ، ليالي السجن الطويلة التي قضاها بسبب رفضه للغواية من زوجة وزير الفئران علمته جيدا أي نتائج غير جيدة تحصل عند أي معاشرة جنسية نصف مكتملة ، كان يكرز كثيرا لسكان المجاري التافهين ، كان يعلمهم : كلما كانت قطعة الجبن هامة بالنسـبة لك فأنت في حاجة ملحة إلى الأحتفاظ بها رغم ماتواجهه من صعاب ، لكن سكان القاع لم يسمعوا تلك الحكمة ولم يفهموا عمقها ، فراحوا يتناسلون بغباء متحدين ناموس الطبيعة ومعادلة مالثوس المقدسة (عدد السكان يزيد وفق متوالية هندسية بينما يزيد الإِنتاج الزراعي وفق متوالية عددية ) ، ازدحمت بهم العشوائيات ، دون أوراق أصولية ، دون شهادات ميلاد خاصة بهم ، وهل يهم هذا ؟ المهم بطونهم مملوءة بالأغذية الفاسدة التي لا يأكلها حتى كلاب سكان الطوابق العليا ، وغددهم التناسلية تعمل 24 ساعة ، معدل الخصوبة عالي جدا كما في الضفادع تماما ، لكن هناك من يحد من تلك القابلية العمياء للتكاثر ، أنها الحروب ، غريزة التدمير تعادل غريزة الأيروس ( الحياة ) كما يقول فرويد ، وحتى تبقى الحديقة جميلة لابد أن تحمل عوامل دمارها معها ، ( الشهوة إذا حبلت تلد الخطيئة وإذا حبلت الخطيئة تلد الموت ) .. ضاق بهم سكان الأعالي ، ولم تكن سوى نهاية تراجيدوكوميدية لهم ، ليكونوا أيقونات في لعبة رقمية ، قبيلة تفتك بقبيلة وجماعة أقوى تلتهم جماعة أضعف منها ، وبطون العناكب متخمة من بقايا الجثث ، كان على تلك العناكب وفق اللعبة أن تعيد تمثيل الجثث عضويا نحو كائنات جديدة ، اللعبة مرعبة ليس فيها منتصر أو خاسر ، ولكن الأكثر قابلية على التغير هو من يبقى لحد النهاية ، ولهذا كان ذاك الفأر المقدس كان يكرز وهو يركب حماره الأبيض : إذا لم تتغير فأنك قابل للفناء ،، وطبعا كانت أحاديثه غريبة ومشفرة ولم يفهمها أحد ، وأتذكر جيدا مقولة أخرى كنت قد سمعتها منه حين كنت جالسا في بار ليلي : شم رائحة قطعة الجبن من حين إلى أخر حتى تعرف متى يصيبها التفسخ ،، كان يجلس قربي بملابسه الرثة ، كان الكل يضحك عليه ، باستثناء بنت الليل قذرة التي تستطيع أن تشم رائحة كريهة من رحمها من كثرة الفطريات التي تستعمرها من بعد أمتار ، هي الوحيدة التي كانت تشفق عليه ، لهذا جعل منها شفيعة في يوم الدينونة ، تلك المقولة الرائعة جعلتني أدفع حساب الأكل الذي تناوله في تلك الليلة ، لم أعد أراه كثيرا من ذاك اليوم .. بعد الحرب الأهلية التي حدثت في مجاري القاع بين فريقي السنة والشيعة هاجر الكثير منهم نحو سلال القمامة في الطوابق العليا ، كانت تلك السـلال أمنة نسبيا أكثر من القاع ، وهناك وفي تلك العوالم التي تفيض بخيام اللاجئين هبطت ورقة بيضاء مكتوب عليها : إن السير في اتجاه واحد يجعلك تعثر على المزيد من الجبن ،، وطبعا لم يفهم أحد كما هو المسلسل الطويل مع النبوة المشفرة والمعقدة لغويا ، كانوا ينتظرون منه رؤى بورنو كما فعل غيره ولكن بقى معقد داخليا ، ماهي مشكلة هذا الفأر مع باقي المساكين ، لماذا يصر على البحث عن أصفار ، كل الفقراء عبارة عن أواني فارغة ، أوعية فارغة ، تنتظر من كل عاهر أو بطل قومي أن يملئها مجددا بما يريد ، لكنه كان يتابع أحاديثه دائما ، كانت جلسات تنويم ، كان أحاديثه بالغة الذكاء ، لكن هل تحتاج البروليتاريا الرثة للفلسفات المدورة ؟ الغريب عنه كما يقول من شاهده بين غيبته الصغرى والكبرى بأنه كان يؤكد كثيرا على غسل المرحاض ، بياض المرحاض دليل على نقاوة الداخل !! .. الفلسفة مع الجوع نقيضان ، لم يفهم أي نبي تلك المعادلة ، الكل راح يكرز ويكرز بشكل فصام عقلي مقيت ، ماهو الحل لهذا الزمن المملوء بالانبياء وتجار الحروب والفرائس ، إقامة دير في خلف جبال سبعة وخلف بحور سبعة ، لا أحد يصل إليك لكنك تصل لما تريد بســـهولة ، هذا أخر ما توصلت له ... والله المستعان !