الحل الارجنتيني


يوسف يوسف المصري
2014 / 7 / 8 - 08:12     

الحل الارجنتيتي
----------------------
التفسيرات التي تقدم لرفع الدعم على نحو ما حدث مفهومة تماما في سياقها الاجتماعي – السياسي أي بالنظر الى رؤية النظام القائم وموضعه وفي سياقها الاقتصادي والمالي بالنظر الى العجز الهائل في الموازنة واستحالة الاستمرار وفق نفس المنطق الى الابد.
وحين تطرح المسألة داخل هذين السياقين على النحو الذي طرحت به فلابد من ان يقود ذلك الى النتائج التي رأينا أي الى رفع الدعم. بعبارة أخرى يبدو النهج الذي طرحت به القضية من قبل أجهزة الاعلام مثلا وكأنه يقود بالحتم الى النتيجة التي رأيناها. وحين يحاول اليسار مثلا "تخليص ذمته" بالقول انه كان يجب مراعاة الفقراء فانه كمن يقول لا ترفعوا الدعم اذ ان محدودي الدخل هم الأغلبية الساحقة من السكان أي من مستهلكي الكهرباء والوقود. واذا طالبنا برفع الدعم عن الاغنياء وحدهم فان ذلك لن يؤدي الى حل مشكلة الموازنة. بعبارة أخرى فحين يقول اليسار "لا تزيلوا الدعم المقدم لمحدودي الدخل" فانه كمن يقول "لا تزيلوا الدعم بالمرة". وان كان هذا هو ذاك فان على من يقولون به ان يقدموا اذن حلا آخر لمشكلة العجز في الموازنة (غير الاستيلاء على السلطة بعد الغد في الثامنة صباحا عبر ثورة شعبية كاسحة وما الى ذلك من يوتوبيات رومانسية ثورية شائعة).
وواقع الحال ان هناك حلا آخر لم يطرح او على الأقل لم يطرح بصورة جادة. وهذا الحل ليس تنظيرات خالية من أي محتوى عملي بل انه حل استخدم وطبق ونجح وكان نموذجا ملهما لكثيرين في العالم. والمقصود هنا هو ما فعله الرئيس الارجنتيني اسابق نستور كيشنر حين اعلن ببرود في العام 2002 انه قرر ان يضع سقفا لحجم ما تدفعه الارجنتين للمؤسسات المقرضة من فوائد واصول وان الارجنتين لن تستطيع ان تدفع ما هو اكثر "واعلى ما في خيلكم اركبوه".
كانت المؤسسات المالية قد حددت للارجنتين يوم 25 فبراير 2002 لكي تتلقى عقابا قاسيا ما لم تنهي التجميد المؤقت اذي فرضته على عمليات تبادل الأوراق المالية وتعود الى مفاوضات إعادة هيكلة ديونها التي بلغت آنذاك نحو 82 مليار دولار. والقى كيشنر خطابا في ميونيخ خلال زيارة لألمانيا هو العالم آنذاك. فقد قال "اريد ان أقول لصندوق النقد الدولي كلمتين باختصار: هناك حياة بعد صندوق النقد الدولي. وهي حياة افضل كثيرا من حياتنا الحالية".
كانت المعادلة آنذاك واضحة. فقد حلت كارثة اقتصادية ماحقة بالارجنتين جراء تفاقم الديون. وحين بدأت المفاوضات مع الصندوق كانت الشروط جاهزة. يتعين اشراك كل المقرضين ووضع خريطة للسداد مقابل اقتراض المزيد. لماذا اقتراض المزيد؟ حتى يتسنى للارجنتين ان تدفع الديون المتراكمة السابقة. وان لم تفعل الارجنتين ذلك فان الصندوق سيعلن افلاسها ومن ثم استحالة اقترابها من أسواق الائتمان العالمية. وبدا ان الارجنتين باتت محاصرة بالفعل بخيارات احلاها بالغ المرارة.
وبدأت المفاوضات مع المقرضين. وشرح المسؤولون الارجنتينيون الموقف للمقرضين بان عليهم خفض الأقساط وترحيل حصة من الفوائد بنسبة فائدة منخفضة نسبيا ان كانوا يريدون ان يستعيدوا قروضهم. ووافق 76,6% من المقرضين على ذلك وابدوا استعداهم للتفاوض. ولكن 24,4% "ركبوا راسهم" فكان موقفهم هو الرفض ومنطقهم في ذلك ان الارجنتين وقعت على عقود واتفاقيات وان عليها ان تلتزم بها. طيب يا جماعة ما فيش فلوس نلتزم. اعلنوا الإفلاس اذن او بيعوا اصولكم الوطنية (بسعر بخس بطبيعة الحال في ظل ظروف الصفقة).
وبدأت المفاوضات مع الموافقين أي مع ال76.6% فيما بقي الفريق الآخر وكان له 20 مليار دولار من الدول المستحقة التي توقف دفعها خارج غرفة التفاوض. وحين بدأت ملامح اتفاق في الظهور خرج صندوق النقد لدولي بموقف غريب. فقد قال انه لا يمكن اعتماد أي اتفاق طالما انه غير موقع من الجميع وان على الحكومة الأرجنتينية ان تتفاوض مع ال 24,4% والا فان الصندوق لن ينظر الى أي اتفاق.
وسبب غرابة الموقف هو ان الصندوق وضع الحكومة الأرجنتينية في مأزق حقيقي. فمن جهة لم يمكن الكيل بمعيارين أي تطبيق اتفاق إعادة الهيكلة مع الأغلبية ثم التفاوض حول اتفاق إعادة هيكلة مختلف مع الأقلية الرافضة. ومن الجهة الأخرى فان الأقلية ظلت "راكبة راسها" ومصممة على كل شيء او لا شيء. وبدا ان كل شروحات المسؤولين الارجنتينيين للاقلية وللصندوق غير مجدية.
والطريف في الامر ان تلك الأقلية كانت تتشكل في اغلبيتها من مضاربين على الدين البرازيلي نفسه. أي ان مسببي الورطة كانوا يضاربون على نتيجة عملهم بالذات. وكأن مصائر البشر يجب ان تعلق بمجموعة من الطفيليين الذين يتسمون برذالة استثنائية.
وكان يتعين وقتها تطبيق تصوير شكسبير الفلسفي الموحي للعدالة الناجزة في تاجر البندقية. رطل من اللحم مقابل رطل من اللحم. ولكن هذا لم يكن عصر شكسبير بل عصر المؤسسات المالية العالمية وهي مؤسسات تربح من تجارة الفلوس لا اكثر أي انها لا تنتج شيئا مفيدا للإنسان وتكسب عشرة اضعاف منتجي الأشياء المفيدة.
وحاول كيشنر ان يقنع الصندوق بالا يقف في وجه الاتفاق مع الأغلبية لان ذلك يعني انه لا اتفاق بالمرة بسبب عدم قدرة بلاده على مواجهة كل تلك الذئاب في وقت واحد. وساعتها فقط اخرج الصندوق "لبة الموضوع" من كمه. فقد طالب اتطبيق "إصلاحات اعمق" كشرط لبحث طلب الرئيس الارجنتيني. كانت "الإصلاحات الاعمق" تعني من الوجهة العملية تعميق الكارثة التي حلت بمتوسطي الدخل والفقراء في الارجنتين الى مدى لا يمكن إنسانيا تحمله.
وبطبيعة الحال فان الصندوق لا يريد البؤس للناس كهدف اسمى له. انه ليس صندوق توزيع البؤس. ولكن المشكلة ان الفلوس حين تشح فان من المحتم ان يأخذها طرف واحد فقط اما الناس او المقرضين. والعادة انه يمكن ترحيل الديون بعض الشئ وإعادة هيكلة جداول سدادها طالما ان هناك معاناة حقيقية للبشر. ولكن هذه الأمور تأتي بالنسبة للصندوق في الموقع الثاني او الثالث او أي موقع آخر عدا الأول. الأول محجوز للباشا صاحب الفلوس.
وقال كيشنر في برلين "الناس أولا. القروض ثانيا". ثم بعث برسالة الى الصندوق قال فيها ان الكيل قد فاض وانه سيفض الموقف بإعلان انهاء امتيازات الصندوق في التعامل التفضيلي كمقرض. وكانت الارجنتين قد أعطت الأولية في السداد لقروض الصندوق وسددت منها بالفعل 12 مليارا. وبالنسبة للآخرين فقد قال كيشنر انه سيسدد 60% فقط من الديون وانه على المقرضين شطب الباقي لان تخصيله مستحيل من الأصل ولانهم بما حصلوا عليه من فوائد قد عوضوا أربعة وعشرين قيراط.
وقال الرئيس الارجنتيني في خطاب القاه في برلين ان نموذج الاعتماد على القروض على النحو الذي حدث في بلاده "كان مستوردا وفرض علينا قسرا وآن له ان ينتهي". وقال أيضا ان ذلك النموذج "جلب الى بلادنا اسؤ كارثة إنسانية عرفها مجتمعنا في تاريخه الحديث".
بل ان كيشنر فضح الصندوق حين قال "اغرقونا بالقروض ورددوا في كل مكان في العالم ان نموذج النمو الذي تحقق عندنا هو النموذج الذي ينبغي ان يحتذى. وقد كان هذا النمو مؤسسا على قاعدة من الاستدانة ثم الاستدانة لتسديد الديون فيما تنقل نتائج عرق شعبنا الى خراج البلاد بانتظام. ان هذا النظام هو نظام اقتصادي يضع البلاد في خدمة فوائد الدين كبقر يحلب ليصب في جيوب حفنة محدودة من الممولين الذين لا يعملون ولا صفة لهم لا انهم يمتلكون تلك الأوراق المالية. انه نظام يقتل الانسان ويسرق الحياة من الأطفال. ان اردنا الحديث عن سفاحين فها هم".
انها قصة مسلية. ولكن من باب الاختصار فقط يمكن القول ان المعركة استمرت وسط حملة شعواء ضد كيشنر الذي وقف ثابتا على الرغم من ذلك. بل انه كان يلوح بان يرد بما هو اقسى من قبيل ان "يا روح ما بعدك روح" وقال ضربوه على عينه قال عوره عوره. وفي قصص أخرى ان المدين كان يلجأ الى بناء جبهة دولية تساعده على دعم موقفه في التفاوض مع الذئاب وكبيرهم.
وانتصر كينشر في نهاية المطاف وشطبت اكثر من نصف ديون الارجنتين وتم جدولة الباقي مع تأجيل سداد الفوائد والأرجنتين الآن "زي الفل" ومدوخه العالم في كان العالم وكله تمام. كان هناك بالفعل حياة بعد صندوق النقد وكانت حياة افضل فقد نهضت البلاد من كبوتها.
لقد كان حريا بنا ان نبدأ في التويح بالعصا وان نعرض صيغة لشطب نسبة من الديون وان نتفاوض على إعادة هيكلة السداد وان نسعى الى بناء جبهة دعم دولية من الدول العربية ومن الدول النامية لاسيما في افريقيا وفي مجموعة البريكس. وسوف يحاولون اخافتنا بكل الحيل النفسية وعبر الحملات الإعلامية الدولية الا ان الثبات كما فعل من سبقونا على هذا الدرب هو امر ضروري. المسألة هي اننا نريد ان نسدد ديوننا ولكن "في المعقول" أي عبر خفضها لان سداد حصة منها هو الممكن الوحيد وتقسيطها على أساس نسبة ثابتة من الناتج المحلي الإجمالي هو الحل الوحيد.
لماذا هذه القصة المسلية مع ان المهرجان انفض والدعم انتهى بنسبة كبيرة؟
السبب هو ان المهرجان لم ينته.
فالمنطق الذي يروج الآن لامكانيات تمويل مشروعات انهاض اقتصاد مصر على نحو ما يطرح هو منطق يهدد بان نجد انفسنا في مأزق لاحق. ان المشكلة في الارجنتين لم تكن الدعم وانما الافراط في الاستدانة ونزح أرباح المشروعات الى خارج البلاد أي عدم استخدامها لتوليد المزيد من الثروة الوطنية. الاستدانة ضرورية ولكن يتعين دوما تحديد نسبة اعبائها من الناتج المحلي الإجمالي مع وجود تصور واضح عن إمكانية سداها مستقبلا. الدعم هو واحد فقط من أسباب المشكلة. المهرجان اذن لم ينته بعد.
فديوننا لا تزال على ما هي عليه. لقد قبل المصريون ان يتحملوا اعباء إضافية فوق ما يتحملونه منذ سنوات. والسؤال هو : اليس من الضروري ان تتحمل أيضا المؤسسات المالية المقرضة بعض أعباء ما يواجهه الاقتصاد المصري الآن من عسر؟.