سعد هجرس


نصارعبدالله
2014 / 6 / 7 - 16:59     


على مدى ثلاثين عاما عرفت فيها سعد هجرس وأنا دائما أسأل نفسى : كيف استطاعت هذه الجرعة من الهواء النقى أن تحتفظ بنقائها وهدوئها وعذوبتها رغم أنها محاطة من جميع الإتجاهات تقريبا بأجواء عاصفة أقل ما يمكن أن توصف به هى أنها : "أجواء هواء غير نقى" ...كنا فى منتصف الثمانينات أو قبيل ذلك بقليل حين التقيت بسعد هجرس لأول مرة .. فى أعقاب ندوة كنت أشارك فيها فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، فوجئت بمن يده مد إلى مصافحا ويعرفنى بنفسه : "سعد هجرس رئيس تحرير مجلة المنار!"...يواصل الحديث : " نتعشم أن تكتب لنا مقالا عن نظرية العدالة عند الفيلسوف الأمريكى جون رولز الذى كان فيما أعلم موضوعا لرسالتك فى الدكتوراة، باعتبارك ـ حتى الآن على الأقل ـ الوحيد الذى كتب باللغة العربية عن ذلك الفيلسوف الذى شغلت نظريته العالم الغربى بأكمله! ...أدهشنى جدا أنه يعرف عنى ما لا يعرفه ـ فيما هو مفترض ـ إلا قلة قليلة جدا تتمثل فى أولئك المتخصصين فى الفلسفة المعاصرة أو المهتمين بها ممن حرصوا على حضور مناقشة الرسالة .. قلت للأستاذ سعد بعد أن أثار فضولى ..أود أن أتعرف عليك بشكل أكثر، وإذا كان وقتك يسمح، فإننى أدعوك إلى تناول كوب من الشاى فى الكافيتريا الملاصقة لسراى الأهرام فى المعرض ( لم يكن المقهى الثقافى قد أنشىء بعد وكانت تلك الكافيتريا فى ذلك الوقت هى ملتقى الكتاب والمثقفين من رواد المعرض ) .. قال سعد هجرس : " بكل سرور، ومضينا إلى الكافيتريا "..يومها طالت الجلسة إلى عدة ساعات ..خاصة بعد أن انضم إليها أصدقاء آخرون ..بعضهم يعرفوننى، وبعضهم يعرفون سعد هجرس، ..وبعضهم يعرفوننا كلينا، ومن بين هؤلاء الأخيرين من أبدى اندهاشه لأنه لم يكن يتصور أننى أعرف سعد هجرس أو أنه يعرفنى .. وكان تعقيبى على ذلك أننا فى الحقيقة قد تعارفنا منذ لحظات لكننى أشعر أننى أعرفه منذ سنوات طويلة .. فقد تبين لى أن هناك الكثير مما يجمع بيننا فى الإهتمامات.. هو فى الأصل دارس للفلسفة لكنه مهتم بالإقتصاد والسياسة، وأنا فى الأصل دارس للإقتصاد والسياسة ومن خريجى كلية الإقتصاد لكننى اتجهت بعد ذلك إلى الفلسفة وأصبحت أستاذا لها بالجامعة، وكلاناعاشق للشعر والثقافة، وقد أخبرنى الأستاذ سعد أنه يتابع بشغف ما أنشره فى مجلة " إبداع " .. قبل أن تنتهى الجلسة أعطانى بطاقة مدون عليها عنوان مجلة المنار مكررا رجاءه بأن أقدم إليه المقال المطلوب، (وفيما أذكر فإن مقر المجلة كان فى شارع الأهرام بمصر الجديدة)، ولقد قمت بالفعل بزيارته فى مقر المجلة وقدمت إليه المقال المطلوب حيث بدا عليه يومها مظاهر الإمتنان الشديد ، وقام بتدوين أرقام تليفوناتى للإتصال بى وقت اللزوم .. سافرت بعدها إلى سوهاج ، وبعد ذلك بأيام قليلة جائنى ترنك من القاهرة ( لم يكن نظام الإتصال الآلى قد ظهر فى مصر بعد!!)، وكان المتكلم هو سعد هجرس، الذى قال لى إن المقال فى المطبعة وإن بوسعى أن أحضر فى أى وقت إلى مقر المجلة لاستلام مكافئتى ...قلت له : "إننى أعلم أن المجلات المعنية بالفكر والثقافة لا تفى بنفقات إصدارها ، وإننى متنازل عن مكافئتى كنوع من الدعم للمجلة ...شكرنى على مشاعرى ..لكنه صمم على ضرورة حضورى قائلا لى : " على الأقل لكى نراك " ..ومع هذا فإن بعض الظروف الشخصية التى طرأت بعد ذلك حالت بينى وبين السفر إلى القاهرة وحتى عندما كانت تسمح بالسفر لم تكن تتيح لى قضاء فترة كافية تسمح بأن أتوجه إلى شارع الأهرام بمصر الجديدة (البعيد جدا عن مقر إقامتى بالقاهرة ) ، وهكذا لم يقدر لى أن ألتقى بسعد هجرس بعد ذلك سوى مرات معدودة عن طريق المصادفة الخالصة ، لكن التواصل بيننا تليفونيا ظل قائما، وفى كل مرة كنت أهاتفه أو يهاتفنى فيها ـ كان يقوى لدى الشعور بأننى إزاء جرعة من الهواء النقى ، لا أدرى كيف استطاعت أن تحتفظ بنقائها وهدوئها وعذوبتها رغم أنها محاطة من جميع الإتجاهات تقريبا بأجواء عاصفة أقل ما يمكن أن توصف به هى أنها : أجواء هواء غير نقى
[email protected]