الاحتفال بمرور مائة وخمسة وخمسين عاماً على نظرية التطور


مجيد البلوشي
2014 / 5 / 18 - 00:12     

الاحتفال بمرور مائة وخمسة وخمسين عاماً على نظرية التطور

بقلم: الدكتور مجيد البلوشي

يحتفل العالم – العالم المتقدم – هذا العام بمرور مائة وخمسة وحمسين عاماً على "نظرية النشوء والارتقاء" لتشارلز داروين (1809 – 1882) والمعروفة بـ"نظرية التطور"، وقد تم تتويج هذا الاحتفال بأكبر حدث علمي تم التوصل إليه في السنوات الاخيرة، ألا وهو إكتشاف فريق من العلماء برئاسة نيل شوبين N. Shubin لأحفورة الكائن البرمائي "تيكتـاليك" Tiktaalik الذي عاش قبل 376 مليون سنة مضت، وهو الكائن الذي يمثّل إحدى الحلقات المفقودة لنظرية التطور، وهي الربط بين الحياة في الماء والعيش على اليابسة.

وإذا كان العالم المتقدم يحتفل هذا العام بمرور 155 عاماً على صدور كتاب تشارلز داروين "أصل الأنواع" عام 1859م والذي يشرح فيه نظرية نشوء الكائنات الحية وارتقائها من طور أدنى إلى طور أعلى – بمرور ملايين السنين – حتى وصولها إلى المرحلة الحالية التي نراها الآن، فإنه يحتفل في نفس الوقت بمرور مائتين وخمسة أعوام على ميلاد تشارلز داروين نفسه.

ومن المعروف أن نظرية التطور هي إحدى النظريات التي هزّت العالم وزعزعت "نظرية الخلق"Creationism التي أخذ أصحابها يتلمسون الحجج والتبريرات للدفاع عنها وبشكل مستميت، بل ولجأ البعض في السنوات الأخيرة إلى إيجاد بديل لها – لا يختلف عنها إلاّ بالتسمية ومن باب التمويه ليس إلاّ - وهو ما يُسمى بنظرية " التصميم الذكي" Intelligent Design القائلة أنه مادامت هناك أشكال معينة من الطبيعة معقدة التركيب بدرجة كبيرة لا تسمح لها بأن تتطور عن طريق الانتخاب الطبيعي الذي تنادي به "نظرية التطور"، فلا بدّ وأنها من صُنع "خالقٍ ذكي". ولاحظوا هنا الصيغة النكرة لعبارة "خالقٍ ذكيٍّ"، أيْ خالق ما، دون تحديده: أهو قوة ميتافيزيقية خارقة ما، أم هو إلـه الديانات السماوية المعروفة، أم إلـه عبدة النار، أم أحد آلـهة الهندوس، وما أكثرها ... !

ولا نريد أن نطيل الكلام هنا حول التناقض بين نظرية التطور ونظرية الخلق، ولكن نودّ أن نعيد هنا ما قاله الأستاذ الكاتب عباس محمود العقاد – وهو أحد المدافعين بالطبع عن نظرية الخلق من جانبها الإسلامي - حول نظرية التطور في كتابه "الإنسان في القرآن الكريم" حيث يقول: " ليس يخالجنا كثير من الشك ولا قليل في خلو كتاب الإسلام مما يوجب القول بتحريم هذا المذهب، فقد يُثبت غداً أن المذهب صحيح كله أو باطل كله، أو يُثبت أن بعضه صحيح وبعضه باطل، ولكن كتاب الإسلام لا يصد عن سبيل العلم في أي وجهة من هذه الوجهات" [1] .... ويقول أيضاً "وليس في القرآن ما يوجب علينا أن نقول ببطلان الانتخاب الطبيعي لأن خلق الإنسان من الطين لا ينفي التحول إلى غير الطين، ولا يوجب علينا القول بكيفية الخلق من الطين على صورة من صور التركيب، وإنما نعلم من القرآن أن الله بدأ خلق الإنسان من طين، "ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين" (سورة السجدة، الآية 8) ... فلا اختلاف بين هذا وبين التحول الذي يثبت - إذا ثبت - على وجه من الوجوه ". [2]

والحق أن نظرية التطور ليست من ابتكارات تشارلز داروين وحده، بل سبقه في ذلك علماء عديدون، منهم العالم الفرنسي جان باتيست لامارك Jean Baptiste Lamarck (1744-1829) الذي يقول في كتابه "فلسفة علم الحيوان" المنشور عام 1809: " أن الحياة بدأت من مادة هلامية تشكّلت وتطورت على مرّ العصور إلى مراتب ودرجات وفصائل من الكائنات المعقدة التركيب، وأن البيئة كانت هي الدافع الأساسي لعملية التطور هذه، فهي المسؤولة عن تشكيل الجسم والأعضاء والصفات". [3]

وكذلك فعل زميل داروين العالم البريطاني ألفرد والاس Alfred Russel Wallace (1823-1913) الذي كتب معه مقالاً مشتركاً قالا فيه بـأن التطور يحدث نتيجة لتغيرٍ في مميزاتٍ (صفاتٍ) قابلة للتوريث ضمن مجموعة حيوية population من الكائنات الحية على امتداد أجيال متعاقبة ... ومع مرور الوقت يمكن أن تنتج هذه العملية ما يُسمّى بالإنتواع speciation أي تطور نوع جديد من الأحياء بِدءً من نوع موجود أساساً. فجميع الكائنات الحية الموجودة على كوكبنا الأرضي ترتبط ببعضها البعض من خلال سلف مشترك common decent كنتيجة لتراكم التغيرات عبر ملايين السنين.

وكان هناك عالم الإقتصاد الإنجليزي توماس مالثوس Thomas R. Malthus (1766-1834) الذي جاء بنظريته الرجعية القائلة بأن تعداد السكان يتزايد على شكل متوالية هندسية geometric progression بينما تتزايد الخيرات المادية المنتجة على شكل متوالية حسابية (عددية)arithmetic progression [4]، ولذا وجب وجود الحروب والأوبئة والحدّ من الإنجاب ... لوقف نمو السكان. وقد وقف عالم الإقتصاد السياسي كارل ماركس (1818-1883) ضد هذه النظرية، وأكّد على أن تقدم العلم والتكنولوجيا يُفضي حتماً إلى نموٍ هائل في القوى المنتجة، وهذه تؤدي بدورها إلى نمو الإنتاج المادي بصورة أسرع بكثير من نمو تعداد السكان، داحضاً بذلك ضرورة وجود الأوبئة وحتمية الحروب.

والغريب أن داروين ووالاس كليهما قد تأثـّرا بالنظرية المالثوسية ، وكانا من المعجبين بها، بل كان داروين يقر بأنه مَدين للنظرية المالثوسية القائلة بالصراع من أجل البقاء. وهذا ما أدّى، في اعتقادنا، إلى ظهور نظرية "الداروينية الإجتماعية" Social Darwinism التي تنادي بتطبيق مبدأ الصراع من أجل البقاء ومبدأ الانتخاب الطبيعي على المجتمع البشري، فهي ترى أن هذين المبدأين هما المحركان الأساسيان للتقدم الإجتماعي؛ وما دام الأمر كذلك فمن حق الأقوياء أن يملوا إرادتهم على الضعفاء كما تقول هذه النظرية. ومن هنا ظهرت النزعات العنصرية والفاشية والاستعمارية، منها ، مثلاً، النازية (الهتلرية) التي كانت تعتبر العنصر الجرماني هو الأقوى ولذا يحق له أن يسيطر على العناصر الاخرى. وأعتقد أن ونستون تشرتشل Winston Churchill (1874-1965) هو الذي قال مرةً – بما معناه - أن من حق الشعب الإنجليزي، القوي إقتصادياً والأكثر ذكاءً، أن يستعمر الشعب الهندي الفقير اقتصادياً والأقل ذكاءً !!.

إذاً كان هناك علماء قد سبقوا تشارلز داروين في إيجاد نظرية النشوء والارتقاء، ومع ذلك اشتهرت هذه النظرية باسمه هو، وذلك لأن مأثرته تكمن في أنه استطاع أن يصوغ هذه النظرية في صورتها النهائية القائمة على الأدلة والبراهين العلمية، بالرغم من بعض المآخذ عليها. فقد درس داروين المنجزات العلمية التي تحققت في عصره، كعلم الأحياء (البيولوجيا) وعلم طبقات الأرض (الجيولوجيا) وعلم النبات (البوتانيكا)، وذلك بالإضافة إلى ملاحظاته الشخصية التي سجلها خلال رحلته الشهيرة حول العالم والمكرسة للبحث وجمع المعلومات.

ولسوء الصدفة أن داروين لمْ يتعرف على معاصره الكاهن المسيحي والعالم البيولوجي النمساوي غريغور مِندل Gregor Johann Mendel (1822-1884) الذي اكتشف قوانين الوراثة Laws of Inheritance، والتي تدعم صحة نظرية التطور بتأكيدها على أن الصفات المتغيرة لدى الكائن الحي تنتقل من جيل إلى جيل. والحق أن نتائج الأبحاث التي توصل إليها مِندل عام 1866 م لمْ يتم الكشف عنها إلاّ عام 1900 م أي بعد وفاة داروين بـ 18 سنة.

وخير ما ننهي به مقالنا هذا، ونحن نحتفل بمرور مائة وخمسة وخمسين عاماً على نظرية التطور - هو ما قاله الأستاذ الكبير إسماعيل مظهر، مترجم كتاب داروين "أصل الأنواع" إلى اللغة العربية، حيث يقول: " كثيرون من الناس يدخلون التاريخ. ولكن للتاريخ بابين: باباً أمامياً وباباً خلفياً. الأكثرون يدخلون التاريخ من الباب الخلفي، فلا يلبثون غير قليل حتى تغمرهم موجات الزمن. أما داروين، وبيده كتاب "أصل الأنواع"، فمن القلّـة القليلة الذين دخلوا التاريخ من بابه الأمامي، ولمْ يدخله خلسةً، بل دخل التاريخ وبابه الأمامي مفتوح على مصراعيه". [5]


______________________
هوامش:
[1] "الإنسان في القرآن الكريم"، عباس محمود العقاد، دار الإسلام، القاهرة، 1973، ص 132 .
[2] نفس المصدر السابق، ص 177-178.
[3] "مدخل إلى الفلسفة"، د. إمام عبد الفتاح،
دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1977، ص 227 .
[4] المتوالية الهندسية هي أن يزيد عدد ما في سلسلة من الأعداد على العدد الذي يسبقه بمقدارٍ يساوي حاصل ضرب هذا العدد السابق بعدد آخر ثابت، هكذا: 1، 2، 4، 8، 16، 32 ... حيث نجد أن العدد الثابت هو 2 (1 × 2 = 2؛ 2 × 2 = 4؛ 4 × 2 = 8؛ 8 × 2 = 16: 16 × 2 = 32 ....).
أما المتوالية الحسابية فهي أن يزيد عدد ما في سلسلة من الأعداد على العدد الذي يسبقه بمقدار يساوي حاصل جمع هذا العدد السابق بعدد آخر ثابت، هكذا: 1، 3، 5، 7، 9، 11 ... حيث نجد أن العدد الثابت هو 2 (1 + 2 = 3؛ 3 + 2 = 5؛ 5 + 2 = 7؛ 7 + 2 = 9؛ 9 + 2 = 11 ....) .
[5] "أصل الأنواع"، تشارلز داروين، ترجمة: إسماعيل مظهر، مكتبة دار النهضة، بيروت-بغداد، ص 85.