الطريق الوحيد للخروج من مأزق الطائفية


بهاءالدين نوري
2014 / 5 / 15 - 01:09     

مرت عشر سنوات على العراق، كثر فيه الحديث عن” العميلة السياسية” و “الديمقراطية” وما الى ذلك، لكن الحصيلة االفعلية لم تكن سوى المزيد من اشتداد الصراعات الطائفية. والمضحك في هذه البلية هو ان من يشكون باعلى اصواتهم من هذه المشكلة هم انفسهم الذين اثاروها بالامس ويصبون الزيت على نارها باستمرار. وبديهي أن من يكون قادرآ على اثارة مشكلة عويصة كهذه هو من يمسك بمقاليد الحكم في يديه، لأنه هو الذي يستطيع استخدام الجيش والشرطة والمحاكم والسجون وميزانية الدولة وشتى امكاناتها وميليشياتها اللاشرعية لغرض التسلط وفرض سلطانه وقمع المعارض والمتمرد. وليس خافيا على احد ان طرفي هذا الصراع الاساسيين اليوم هما من العرب الشيعة والسنة العراقيين، وان مهندسي التخطيط والتوجيه في العملية هم قادة الاحزاب والجماعات الدينية والقومية التى تكونت اساسا لادارة الصراع الطائفي.
وجد هذا الصراع بشكل ما منذ قرون حيث كان السلطان العثماني يعين واليي بغداد والبصرة من السنة دوما، الأمر الذي كان يحمل الشيعة على الشعور بالغبن . وتمسك الاستعمار البريطاني بنفس النهج بعد ان حل محل الاستعمار التركي عقب الحرب العالمية الاولى، وهو اتى بملك سني من الحجاز لبلد ذي غالبية شيعية. لكن الصراع الطائفي، الشيعي - السني، لم يحتدم الا في عهد الدكتاتور العوجوي حيث مزج الصراع الطائفي بالقمع الدموي وبتمييز صارخ ضد الشيعة. وردا على هذا التشديد بادر نشطاء الحركة الطائفية الى تشكيل الاحزاب الاسلامية الشيعية المدعومة من ايران، والتي تحكم العراق الآن على اساس أنها تشكل الاغلبية البرلمانية. وبديهي ان السنة العرب، الذين قدر لهم ان يحتكروا زعامة الدولة العراقية حتى سقوط صدام، لم يرحبوا بما حدث، بل بذلوا ويبذلون قصارى جهدهم للعودة الى الوضع السابق الذي احتكروا فيه زعامة الدولة. ولايريدون الاستسلام ولايدركون ان ماجرى بعد سقوط صدام كان تعبيرا عن الواقع الراهن الذي اسفرت عنه التطورات السياسية - الاجتماعية.
وهكذا فان ما نشهده اليوم من صراعات طائفية محتدمة بين العرب الشيعة والسنة ليس من صنع الاستعمار ولا اي جهة خارج العراق، رغم ان تلك الجهات تستطيع استغلالها في صالحها، بل هو من افرازات التطور التأريخي - الاجتماعي، هو انعكاس لما هو موجود على ارض الواقع في المجتمع العراقي، ونابع اصلا من التخلف الاجتماعي، من عادات وتقاليد المجتمع القبلي، تلك التقاليد التي لم يتحرر منها للآن حتى الكثيرون من حملة شهادات الكليات والدراسات العليا. الا ان اعدادا من مسؤولي وكوادر واعضاء الاحزاب الاسلامية، الشيعيه والسنيه، اليوم يعرفون جيدا انهم يناصرون نهجا سياسيا خاطئا، النهج الطائفي المتخلف. لكنهم وضعوا المصالح الشخصية (المال والمنصب والامتيازات) فوق المصلحة العامة وفوق قضية الديمقراطية والتقدم الاجتماعي. وهم غارقون حتى الاذان في النهج الطائفي ومستفيدون من المحاصصة الطائفية في الحكم ومشتبثون بها رغم ادعائهم بأنهم من انصار البناء الديمقراطي. لاشك في أن هناك طائفيين حقيقيين في المجتمع العراقي، مؤمنين في اعماقهم بالمنهج الطائفي دون ان يدركوا بأنهم مخطئون. غير أن هناك فريقا ثانيا من مناصري الطائفية لايؤمنون من الاعماق بما يناصرون ولم يجمعهم جامع. مع الفريق الاول سوى الحرص على تقاسم الهريسة الدسمة.
وهذان الفريقان (الشيعي والسني) مختلفان مع بعضهما حول كثرة من القضايا ولكنهما متفقان على أهم قضية تواجه المجتمع العراقي في المرحلة الراهنة - واعني قضية البناء الديمقراطي. فهم لايؤمنون بالديمقراطية ولايرون في قيام نظام ديمقراطي حقيقي راسخ ماينسجم مع طموحاتهم ومصالحهم. ولهذا لايحرصان في شيء على توفير مقومات الديمقراطية، بل العكس هو الصحيح.
والفريقان يكثران الحديث حول المخاطر التي تحدق بوحدة العراق ولكنهما يعملان بدءب كل مامن شأنه تفكيك وحدة العراق. فالقصد من الحفاظ على وحدة العراق، بالنسبة الى الطائفيين الشيعة، هو ان يتقبل العراقيون جميعا ومن شتى مكوانتهم بزعامة الشيعة للدولة والمجتمع والا يعترض احد على مايفعل الزعيم. والحرص على الوحدة، بالنسبة الى الطائفيين السنة، معناه قبول اعادة زعامة الدولة الى الطائفة السنية كما كان الامر حتى 2003.
والفريقان متفقان على اتخاذ موقف شوفيني عربي موحد ازاء الحقوق القومية والادارية العادلة للشعب الكردي وللاقليات، اتفقا على رفض المادة 140 ومنع تطبيقها طوال السنوات العشر المنصرمة وعلى ابقاء مشكلة المناطق المتنازع عليها دون حل، بانتظار فرصة مناسبة لضم كركوك وكل المناطق المتنازع عليها الى العراق وليس الى الاقليم. وقد اعمتهم الشوفينية عن رؤية الحقائق وفهمها وجعلتهم يعملون على ايجاد المستلزمات لتشديد الصراعات القومية بين العرب والاكراد مع خطر الانفجار والعودة الى العنف والاقتتال، دون الاتعاظ بدروس الماضي المريرة.
* * *
مهما كان الامر فان مشكلة الصراعات الطائفية تأتي اليوم في مقدمة مشاكل العراق. والمحاصصة في الحكم، التي أخذ بها خلال هذه السنوات الاخيرة، لم ولن تكون علاجا للمشكلة، بل هي نتيجة ومسعى لتخفيف (مجرد تخفيف) الصراعات الطائفية. فالمحاصصة تعني الاتفاق على تقاسم الهريسة. وقد حصل مقاسمو الهريسة على مكاسب شخصية كبيرة كل لنفسه ولكن الشعب لم يحصل على شىء سوى استمرار التفجيرات اليومية وسفك الدماء المستمر ونشر الرعب والدمار…الخ فيما ظلت العملية السياسية تراوح في مكانها. وبدلا من الاقرار بفشله الذريع في الحكم ظل رئيس الوزراء المالكي يبحث عن مبررات وهمية لفشله تارة بالقاء المسؤولية على السعودية واخرى باتهام جماعات من السنة بالطائفيه. ويتجنب التطرق الى دور ايران التي لم يخف البعض من مسئوليها تدخلهم في شؤون العراق. ولو تصرف المالكي كسياسي حضاري لقدم استقالته من رئاسة الوزارة قائلا انه يتحمل مسؤولية الفشل وعليه ان يترك كرسيه الى رجل اكثر كفاءة، كما يفعل عادة المسؤولون الاوروبيون في هذه الحالات. ان رئيس حكومتنا، وهو سياسي اسلامي ومثقف، تصرف كسياسي متخلف من سياسة البلدان النامية الذين اعتادو على التعامل مع المناصب القيادية التي يستلمونها تعامل المرء مع قطعة ارض مسجلة عليه بسند التمليك. وهو الان يبذل كل جهده ليبقى رئيسا للوزراء. وقد رفض الاستقالة وايداع الاشراف على الانتخابات البرلمانية الى وزارة حيادية مؤقتة كما فعل التونسيون. رفض ذلك لانه كان يعرف بأن بقاءه في منصب الرئيس واشرافه على الانتخابات قد يضمن له اصوات فئات من المتخلفين والامعيين الذين اعتادوا في هذه البلدان على منح اصواتهم الى من يحكم، ولعل ذلك يساعده على تحقيق حلمه في الاحتفاظ بكرسيه كرئيس للحكومة.
واذا كان للساسة العراقيين، بضمنهم الشيعة من التحالف الوطني، قدر من الغيرة والشجاعة لقالوا بصوت واحد:
- لا للمالكي! لا للرئيس الذي فشل في تأمين الحد الادنى من الامن والاستقرار للمواطنين! لا لمن يريد العودة الى كرسيه على اشلاء آلاف الضحايا ودوي التفجيرات اليومية في بغداد! ان من فشل في تحقيق الحد الادنى من الامن والاستقرار لشعبه طوال ثماني سنوات من رئاسته ليس جديرا بأن يحظى بثقة العراقيين ولا ليوم واحد! ارحل ايها الرئيس الفاشل!
ان اللجوء الى المحاصصة الطائفية كحل لمشكلة الصراعات الطائفية حل خاطئ قائم على اسس طائفية، وسيضمن بقاء المشكلة دون حل، كما اثبتت تجارب لبنان. والحل الصحيح الوحيد للمشكلة انما هو في تحقيق الديمقراطية بمعناها المعاصر، في اقامة نظام ديمقراطي فيدرالي يضمن الحقوق القومية الادارية والثقافية المشروعة لابناء جميع مكونات العراق دون تمييز. واذا طالب ابناء السنة العرب بإقامة فيدرالية في الموصل مثلا فان رفض طلبهم لايمت بصلة الى الديمقراطية ولايعني شيأ سوى الاصرار على البيروقراطية والدكتاتورية. فالنظام الفيدرالي يمكن ان يقوم في دولة ما على اساس الاختلاف في الانتماء القومي كما هو الحال في دولة سويسرا أو تباين الظروف التأريخية والاجتماعية بين المقاطعات من منتسبي القومية الواحدة كما هو الحال في دول عديدة منها الامارات العربية المتحدة والهند وباكستان.
ان طريق العراق الى تحقيق وتعزيز الديمقراطية يمر عبر اقامة نظام فيدرالي ديمقراطي تنقل فيه اقسام من صلاحيات المركز الى سلطات الاقاليم المنبثقة من انتخابات ديمقراطية. بهذه الطريقة وحدها يمكن الغاء المحاصصة الطائفية، يمكن تعزيز الثقة بين العراقيين. ويتراى لي أن من الافضل ان يدرس ويناقش التخطيط للخارطةالفيدرالية وان تقر الفكرة في البرلمان وتترك التفاصيل للدراسة والنقاش. وقد سبق ان اقترحت مايلي:
- محافظات الموصل وصلاح الدين والانبار كفيدرالية
- اقليم مكون من محافظات البصرة والناصرية والعمارة
- اقليم مكون من محافظات الفرات الاوسط
- تكون بغداد وحدة ادارية خاصة
- يدرس وضع ديالى والكوت لاقامة فيدرالية خاصة بهما او ترتيب آخر
- تضم محافظة كركوك الى اقليم كردستان، بعد استفتاء ديمقراطي حر باشراف الامم المتحدة UN وتنقل المناطق ذات الاغلبية العربية في محافظة كركوك الى محافظة صلاح الدين وتعاد الى اقليم كردستان المناطق ذات الاغلبية الكردية كلها.
وهكذا يتكون العراق الفيدرالي من خمسة اقاليم او ستة. ويثبت قانون انتخابي ديمقراطي قائم على مبدأ التمثيل النسبي من دون القيود المنافية للديمقراطية. بذلك نكون قد اقمنا عراقا ديمقراطيا فيدراليا، مستقرا، مزدهرا، خاليا من الصراعات الدموية ومن المحاصصة الطائفية وما يترتب عليه من مشاكل.
بقي ان يتذكر الجميع ان المالكي قضى سنة في المراوغة، بعد الانتخابات السابقة، وهو متربع على كرسي الرئاسة، ليحادث هذه الكتلة او تلك حول التشكيلة الوزارية. وهو يرغب اليوم تكرار نفس المسرحية اذا فسح له المجال. فهل يليق بالبرلمان الجديد ان يتركه ليكرر فعلته، ام تحدد له مدة زمنية (شهرا او اربعين يوم) ليجرب حظه في محاولة تشكيل الوزارة؟ واذا اخفق في تلك المدة الزم بالكف عن المحاولة واعطاء الفرصة للشخص الاخر-كما هو الحال في الدول الديمقراطية.