ضوء على رسالة جاسم الحلوائي- شبح عامر عبدالله ومكر التاريخ !


عبد الحسين شعبان
2014 / 5 / 9 - 21:34     

ضوء على رسالة جاسم الحلوائي
شبح عامر عبدالله ومكر التاريخ !
وجّه الرفيق جاسم الحلوائي " أبو شروق" رسالة مفتوحة لي عبر المواقع الألكترونية، وكنت قد استلمتها مع رسالة موجّهة منه إلى الرفيق " أبو سفيان" مع " محبته"، يطلب منه تدقيقها وإعادتها، ثم ورد في رسالته المرسلة لي " ليست للنشر الآن"، لكنني استلمتها من صديق منشورة على موقع الحوار المتمدّن (مع رابطها)، ثم علمت بنشرها في جريدة الحزب (طريق الشعب)، وفي وقت لاحق وصلني كتاب تصحيح واعتذار بإعادة نشر فقرة منها.
لم أكن أنوي كتابة ما يفيد على تعليق جاسم الحلوائي لأن المادة التي نشرها ، كان قسمها الأكبر منشوراً في كتابات سابقة له، كما أرسلها لي لاحقاً بخصوص أحداث كركوك، وقام بقصّها ولصقها وتركيبها على المادة المنشورة، مع تعليقين حول عدم انصاف التاريخ في محاولة "تقزيم" دور سلام عادل، ثم يستمر في الزعم بأن سلام عادل كان ينفذ توجيهات عامر عبدالله، ناسباً ذلك لي، في قراءة إغراضية، فيها الكثير من الافتئات على الواقع، ثم يذكر بعد ذلك إنجازات سلام عادل ويقتصرها على برقية إلى مجلس السيادة صبيحة يوم ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 ونداء لمقاومة انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963 والإشراف الدائم على الجريدة، وكل ذلك دون وجود عامر عبدالله معه كما يقول.
ولعل ذلك أمراً مثيراً للدهشة والتساؤل: أحقاً إن مستوى التفكير انحدر إلى هذا القدر من السطحية والسذاجة؟ وهل هذا هو تقييم ما يتمتّع به سلام عادل من مواهب قيادية متميّزة، لكن ذلك على أية حال يعكس فهم صاحب التعليق الذي اختصر سلام عادل ودوره إلى هذه الحدود الدنيا من الرتابة والروتينية، وكأن سلام عادل موظفاً إدارياً وليس قائداً حقيقياً، ويعرف الجميع مدى الحيوية السياسية الفائقة التي يتمتع بها سلام عادل، فضلاً عن كفاءاته ومواهبه التنظيمية الإبداعية.
وكنت سأهمل أو أتجاهل مثل تلك التعليقات، لكن الأمر اتخذ أبعاداً أخرى بعد نشر الرسالة في الجريدة، وحتى وإنْ كان مرجوع الجريدة أكثر من مبيعها، فإن القصد أصبح واضحاً للجهة التي تقف خلف جاسم الحلوائي، والتي تريد "أكل الثوم بلسانه" أو أنه يتطوّع لأكل " الثوم" نيابة عنها، مع أن في الثوم فوائد جمّة، وذلك لأن بعضها لا يجرؤ على السجال، وإنما يختفي وراء الآخرين. ولعلّ الحلوائي أو غيره لا زالوا يعزفون ذات اللحن القديم، لأنهم يعيشون في الماضي، وإن "غيرتهم" من عامر عبدلله و"حسدهم"، حرّكت الكوامن الحقيقية والدوافع الدفينة، المصحوبة بالأحقاد والكيدية، ويعود بعض هذا التحامل الجديد "القديم" إلى الاهتمام الكبير الذي لاقاه كتاب عامر عبدالله، واستعادت فاعليات وأنشطة فكرية وإعلامية، شيوعية وغير شيوعية دوره المتميّز، وهذا بحدّ ذاته يجلب الكدر وضيق الصدر في نفوس البعض.
لكنني في الوقت نفسه سُعدتُ فعلاً بنشر الحلوائي رسالته، خصوصاً، وهي تعلّق على كتابي أو فقرات منه عن الراحل عامر عبدالله والذي هو بعنوان "النار ومرارة الأمل – فصل ساخن من فصول الحركة الشيوعية"، حتى وإن كان الصحيح أن الهدف ليس مناقشة الكتاب، بقدر الانتقاص ممن كرّس له الكاتب، الكتاب، وأعني عامر عبدالله، فقد جاء المعلّق على جزئية في الكتاب، ثم انصبّ التركيز على الكاتب، وهو أمرٌ مألوف هذه الأيام، بحكم المواقف المسبقة.
وبكلّ الأحوال فالرسالة تحمل وجهة نظر كاتبها الذي أحترمه، سواءً كان مكلّفاً بكتابتها أو كتبها إرضاءً لبعض الجهات المتنفّذة، ولكنها تمثّل رأياً لا بدّ من التعامل معه من موقع الاختلاف والاجتهاد والنقد والمسؤولية أيضاً.
وقد وجدت في الأمر، مناسبة لفتح حوار ما وراء الحلوائي، لاسيّما حول قضايا شائكة وملتبسة في تاريخنا بشكل خاص، بل وحسّاسة أيضاً، حيث أصبح الحوار اضطراراً وليس اختياراً فحسب، بل هو "فرض عين وليس فرض كفاية" كما يقال، منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمان، وخصوصاً عندما انفجرت أزمة الحزب على نحو حاد بكل أبعادها الفكرية والسياسية والتنظيمية والأخلاقية، ولا تزال هذه الأزمة مستمرة ومتصاعدة، وقد استفحلت ما بعد احتلال العراق، لاسيّما إزاء موقف الحزب منه .
ولعلّ ما نحتاج له في هذا الوقت بالذات هو وقفة جدّية للمراجعة الجريئة بخصوص مسيرة الحزب النضالية، بكل ما لها وهو كثير وكبير جداً، وكل ما عليها وهو ليس بقليل، بقلب حار ورأس بارد كما يقال، والهدف البحث عن الحقيقة ومعالجة ما يستلزم إزاءها، وخارج نطاق محاولات التغطية أو غضّ النظر أو المجاملات، وبعيداً عن "الإرهاب الفكري" الذي مورس لعقود من الزمان ضدّ التنوّع والاختلاف والتعددية، بل والجدل، وتحت عناوين سرّية العمل، والخوف من اختراقات العدو و"الظروف الدقيقة" التي يمرّ بها "الحزب"، وغير ذلك من السائد والروتيني والرث من الأفكار والممارسات التي غالباً ما تضع "النظام الداخلي" على الرف، حتى وإن كان الحلوائي يكثر الحديث عنه باعتباره " شبّاك العبّاس"، علماً بأن أكبر القضايا وأعقدها، بل وأكثرها خطورة كانت تتم خارج نطاق الاجتماعات وبناء على اتفاقات محدودة من قبل المجموعة المتنفذة!! ونحن إذ نكتب فذلك لأننا جزء من هذه المسيرة الطويلة والعويصة، وساهم كل منّا بدوره فيها وكل من موقعه بغضّ النظر عمّن أصاب أو أخطأ أو اقترب او ابتعد عن قيم الشيوعية ومثلها.
ولعلّ القضايا موضوع البحث بقدر تناولها الأحداث، فهي تتعلق بالأشخاص أيضاً، وتمسّ بعض الأحياء الذين نختلف أو نتفق معهم، فهم محطّ اعتزازنا، ناهيكم عمّا تناولته من أسماء لها رمزية خاصة لدينا، وخصوصاً الشهيد سلام عادل، وإن كان ما ورد فيها لا يخلو من تحريض وإيغال الصدور بطريقة كيدية، أو أقل ما يقال عنها إنها غير مناسبة، استهدفت التأليب في محاولة للشحن ضد عامر عبدالله والكتابة عنه.
والقضايا مهما عظمت أو صغرت ليس هناك رأي فصل فيها وهي تبقى مجرد اجتهادات وتقديرات واستنتاجات ويبقى التاريخ مفتوحاً وقابلاً للإضافة والحذف، حسبما تقتضيه الحالة وطبيعة القوى المهيمنة، فالتاريخ مراوغ أو ماكر أحياناً حسب هيغل، وقد يظهر على شكل مسخرة مثلما كان قد ظهر على شكل مأساة حسب ماركس وهو سجال مفتوح وبلا نهاية حسب المؤرخ بيتر جيل، فلو قدّر أن يكون المهيمن في الحزب هو عامر عبدالله أو زكي خيري أو باقر ابراهيم أو بهاء الدين نوري (مهما كانت وجهات نظرهم وأخطائهم) لتغيّر المقياس، ولو أطيح بعزيز محمد وفخري كريم وحميد مجيد موسى، وهي الإدارة التي تركّبت قبل المؤتمر الرابع وتنصّبت بعده، لاختلفت الرواية كثيراً، فما بالك لو كانت الرواية التاريخية خارج نطاق مثل هذا الاستقطاب المهيمن، فلا أستبعد عندئذ أن تكون كتابة جاسم الحلوائي أو غيره مختلفة، طبقاً لمعياره هو، أي من يمسك الإدارة سينصاع له باعتباره مديراً بغض النظر عن كيف أمسك بالادارة وهو منطق خال من أي اعتبار سياسي ومبدئي.
II
لقد ظلّ التاريخ السوفييتي يكتب المرّة تلو المرّة على مدى عشرات السنين وفي أكثر من عشر مؤتمرات، على نحو ما يرضي ستالين، لدرجة تشبه اليقين بما فيه محاكمات العام 1937-1939 باعتبارها شرعية وقانونية، وإن المدانين (وهم قادة الحزب مثل بوخارين محبوب الحزب وزينوفيف وكامينيف ورايدنك وعشرات غيرهم) باعتبارهم "خونة" يستحقون العقاب والموت نظراً لارتكابهم جريمة " الخيانة" العظمى بالتجسس على رفاقهم والاتصال بقوى أجنبية بريطانية وفرنسية وألمانية وإيطالية ويابانية، بهدف تخريب التجربة الاشتراكية.
ومن المفارقة أن بعض هؤلاء القادة "المدانين" كانوا يتسابقون على الإدلاء باعترافاتهم في محاكمات علنية، وحتى عندما يساقون إلى ساحة الإعدام يهتفون بحياة ستالين "أبو البروليتاريا العالمية"، لكن المؤتمر العشرين العام 1956 أطاح بدزينة المؤتمرات تلك، وبمجموعة المروّجين لها بما فيهم مؤرخين زائفين أو دعائيين معلبين، ولم يكن كلامهم أكثر من هراء وزيف وتملّق وخداع، للمسؤول، العظيم، الأمين العام.
وهي العبرة التي كان ينبغي استذكارها دائماً من كتابة التاريخ والذكريات والمذكرات، فقد تتداخل الأحاسيس والمشاعر بتفاعلات الذاكرة والوجدان بكل ما فيها من شخصنة و"أنا" وذاتية، وهذه تختلط بالمصالح في لحظة تيه أو حساب للعواقب وانعطاف واستعداد للمواجهة والتحدّي، ومن المفترض أن تبقى "مادّة الذكريات" أرضاً بكراً أو غير محروثة وهي بحاجة إلى جهد لكي تعطي، لاسيّما باستكمال مقوّمات انتاجها، وهذا ما فعلته مع عامر عبدالله في حواراتي ومطارحاتي معه، بكل مسؤولية وأمانة.
ومع ذلك قلت أن الكتاب " مزيج من الانطباعات والذكريات والحوارات والقراءات والنقد التاريخي... وذلك لتقييم منجز عامر عبدالله السياسي بالدرجة الأساسية والفكري والثقافي بشكل عام..." وبهذا المعنى فهو قابل للنقد والتصحيح والإضافة والحذف، فلا أحد يزعم أو يدعي أنه يمتلك الحقيقة أو يمسك بصولجانها أو ينطق باسمها، وقد تكون لها وجوه عديدة، وكل ينظر إليها من زاويته.
III
لعلّ الحوار يتخطّى ما هو شيوعي وصداقي وشخصي، ليتعلّق بتاريخ العراق السياسي بشكل عام، الذي هو الآخر بحاجة إلى قراءات جديدة، حيث لا تزال الكثير من العقد والمُختَلفات تشوبه، لاسيّما وأنّ " الجوامع" فيه قليلة في حين أن "الفوارق" فيه كثيرة لدرجة التناحر، والمسألة لا تخصّ الشيوعيين أو ما بينهم، بل إنها تشمل جميع القوى والتيارات أكانت قومية أو إسلامية، عربية أم كردية، والتي لا تكاد تجمع على شيء، سواء كان زعيماً أو شاعراً أو فناناً أو كاتباً ، ناهيكم عن أن الكثير من المبدعين يُنظر إليهم من زاوية ميلهم السياسي، وليس من جانب رمزيتهم وإبداعهم.
وأعتقد أن السرّية المطلقة والانحيازات المسبقة والولاءات الآيديولوجية وثقافة الإلغاء والإقصاء والتهميش، ساهمت في الكثير من الأحيان في حجب الحقيقة، بل كانت عقبة كأداء أمام الوصول إليها، وفتح حوار جاد ومسؤول وعقلاني بشأنها، والحقيقة عندي هي المسألة الأهم والأكبر من جميع الآيديولوجيات والفلسفات والأديان والتنظيمات والقيادات وما سواها، وهي التي ينبغي أن ينحني لها الجميع دون مكابرات لا تليق أو ادعاءات فارغة، حزباً أو مسؤولاً أو شخصية عامة، وهو ما كانت الثقافة السائدة وبعض ذيولها المستمرة تتعكز على مجافاته كواقع، مقدّمة طبق الآيديولوجيا عليه، ونراها أحياناً تتشبث بزعم امتلاك الحقيقة الضائعة أو المبتورة أو النطق باسمها أو ادعاء الأفضلية على الآخرين!!
ولا زلت أعتقد أن الخلاف لا يفسد في الودّ قضية، وخصوصاً بين جاسم الحلوائي وبيني، الاّ بنظر أؤلئك الذين ارتدوا بزّات القتال ولبسوا دروع الحرب ضد رفاقهم، لكنهم ظلّوا يبتسمون ويهزّون رؤوسهم بكل أريحية " للرفيق" بول بريمر الحاكم الأمريكي للعراق وجلاوزته، ولعلّ السجالات المنشورة مع الرفاق باقر ابراهيم وآرا خاجادور وشوكت خزندار وعامر عبدالله، تنطلق من ذات الرؤية في البُعد والنقد والمودّة، وقد اخترت أن أضع مسافة بيني وبين جميع الفرقاء، أسعى لأن تكون متساوية، دون أن يعني أن المسافة بيني وبين الحقيقة كما أعرفها أو كما تلمّستها وعايشتها، وضدها ستكون واحدة، لكنني لن أتعامل على أساس الموقف المسبق أو الصداقة، بقدر ما هو اقتراب من الحقيقة وهو ما دفعني للكتابة عن عامر عبدالله بما له وما عليه، خصوصاً لإجلاء صورته الحقيقية والدور الكبير الذي لعبه في تاريخ الحركة الشيوعية العراقية والعربية على المستويين الفكري والسياسي ليس بحكم المواقع التي تولاّها وهي كثيرة، بل بما تركه من تأثيرات، فهو لم يكن شيوعيا مسلكياً متقوقعاً في منصبه الحزبي، بل كان سياسياً بارعاً وصاحب ثقافة واسعة ونظرة ثاقبة.!!
ولأن الصراع لم يكن متكافئاً، لاسيّما في ظروف المنافي القاسية والبيئة الكردستانية الوعرة والجبال النائية، ناهيكم عن ضياع الرؤيا وتشتت المواقف وتعارضها، وكذلك تداخلها مع المصالح والامتيازات، وخصوصاً في موضوع الحرب العراقية- الإيرانية وتلك وحدها تحتاج إلى وقفة خاصة، والذي ترافق مع تدهور أوضاع الحركة الشيوعية العالمية، فإن الأمر اتخذ طائفة من التغييرات البنيوية المصحوبة بسلسلة إجراءات تعود إلى الفترة الستالينية البغيضة، وهو ما شمل عامر عبدالله وقيادات وكوادر أساسية.
وإذا كانت صفحة ذلك الصراع قد طويت أو استنفدت أغراضها، فإن البحث عن الحقيقة وقراءة التاريخ تحتاج إلى مغالبة مع النفس وصبر على التحمّل، وشجاعة في التناول، فحتى وقت قريب كان الغالبية الساحقة من المتخاصمين ينتمون إلى جماعة واحدة، بل كانوا مجتمعين ومتفاهمين وغالبيتهم الساحقة تدافع عن النهج السائد، بل أن الكثرة الكاثرة كانت متحمسة له لدرجة أقرب إلى الولاء والطاعة العمياء، لكن الهزائم والخيبات لها قوانينها، وإذا كان للنصر أب واحد فللهزيمة ألف أب.
كان عامر عبدالله حازماً ودون تردّد قد أجاب: أن ما حصل في المؤتمر الرابع من مكيدة هي أقرب إلى مجزرة قاعة الخلد، حين اقتاد صدام حسين 22 قيادياً بمن فيهم ثلث أعضاء القيادة القطرية، إلى ساحة الإعدام، و33 كادراً قيادياً، حيث دفع بهم بأحكام غليظة إلى السجون في هستيريا من الفرح الغامر وسادية لا حدود لها، وكلّ ذلك تحت ذات الواجهات، والتي يعتبر أساسها عدم السماح في الاختلاف، وهي العيب الأساسي والجوهري الأكيد في حياة الأحزاب الشمولية جميعها، سواء كانت قومية أو إسلامية أو شيوعية، علنية أو سرّية، في الحكم أو خارجه، حتى إننا كنّا نردّد لسنوات: إذا وجد حزبان شيوعيان في بلد واحد، فأحدهما انتهازي.
ومثلما وجِدَ من تحمّس لمجزرة قاعة الخلد التي قادها بتمثيلية ميلودرامية صدام حسين، بل وبالغ فيها، مطلقاً كل ما هو مسيء وسلبي على " المغدورين" وهو يعرف حق المعرفة تلك الخدعة، فإن هناك من وجدَ فرصة تنحية قيادات وكوادر في المؤتمر الرابع، مناسبة للإساءة إلى المخلوعين، باستثناء من رضخ لذلك، وحتى بعض المتحمسين الذين كان بعضهم ماشة نار، سرعان ما أحرقت الجهة المتنفذة أصابعهم وقامت بتنحيتهم بعد أن دمّروا جميع مراكبهم، فلاذوا بالصمت أو اكتفوا ببعض الهمهمات التي اعتادوا عليها تعويضاً عن الفعل الحقيقي.
لم يكن عامر عبدالله بعيداً عن فكرة أن الإجهاز على الحزب بعد العام 1978 من جانب حزب البعث والنظام السابق، وتحديد العام 1980 موعداً للقضاء عليه، قد وجدت وجهها الآخر عند البعض الذي استكمل عملية التصفية تلك، لنحو 50 كادراً قيادياً ناهيكم عن عشرات أو مئات الرفاق في ظل ظروف الغربة والمنافي القاسية وحياة البيشمركة "الأنصار" الصعبة، فضلاً عن سياسة مغامرة فرّطت بنحو 500 كادر في معارك لم يكن لها أي هدف ستراتيجي وفي تقاتل مع بيشمركة أحزاب قومية كردية، كما ورد في مذكرة كتبها إلى السوفييت.
ويعبّر عامر عبدالله، لاسيّما في المذكرات التي رفعها السوفييت أو للأحزاب الشيوعية أو للرفيق عزيز محمد عن هذه المرارة (وهي منشورة بالنص في الكتاب) وقد أهملها صاحب التعليق، لأنها توجّه اتهامات صريحة على صعيد السياسة والتنظيم والسلوك، وتطرح المشكلات على بساط البحث.
وكنت آمل أن أجد توقيع الرفيق جاسم الحلوائي على تلك المذكرات، باعتباره واحداً من المخلوعين الذين "قررت" الكتلة المهيمنة عدم استحقاقهم عضوية اللجنة المركزية، لكنه اختار طريقاً آخر أحترمه، وارتضى بالمقسوم ووضع نفسه "تحت التصرّف" بالاصطلاح الحزبي، وهو حق له مثلما حق لمن اختار طريق الاعتراض، أصاب أم أخطأ، خصوصاً وأن الحلوائي اختار الطرف الأقوى، الذي اتخذ القرارات الجائرة، في حين أن الآخرين اختاروا طريق الاحتجاج على المكيدة وفضحوا أهدافها، وخصوصاً بشأن الموقف المائع في الحرب العراقية- الإيرانية، وإزاء البديل الخارجي حتى لو أخطأوا!
IV
إن حركتنا الشيوعية العراقية لم تهزم بسبب الملاحقة والارهاب واضطرارها إلى المنافي والعزلة عن جمهورها لسنوات طويلة، بل هناك أسباب تعود إلى نهجها التعويلي واتكاليتها الفكرية التي سادت لعقود من الزمان، مثلما كان انهيار "الموديل" الاشتراكي وتفكّك المنظومة الاشتراكية سبباً آخر في هزيمتها، إضافة إلى أسباب جوهرية أخرى لا مجال لذكرها، وليسمح لي من يعتبر أننا "بخير" وربما نحقق النصر تلو الآخر، فقد انتقلنا من "حزب أوسع الجماهير"، كما كنا نطلق على أنفسنا، ونحن "قبلة" للناس إلى " أيتام" على مائدة "اللئام"، ولم يكن ذلك بمعزل عن سياساتنا الخاطئة التي دفعنا بسببها الثمن باهظاً، ناهيكم عن ضعف وهزال الكثير من إدارات الحزب والنهج البيروقراطي الذي اتبعته.
وإذا كان "تاريخنا" واحداً، لكن قراءاتنا لهذا التاريخ مختلفة، بحكم عوامل عديدة لا مجال لذكرها، ولعلّ قراءتي هذه هي مجرد اجتهادات خاصة درجت عليها، لمناقشة القضايا والمشكلات التي كانت تواجهنا، وهي قراءة قد تختلف من رفيق إلى آخر، ومن ظرف إلى آخر، وبالطبع هي تختلف عن قراءة الحلوائي موضوعياً وذاتياً!!
وقد يسأل سائل ما الذي يجمع ما بين رفيقين أحدهما مع الاحتلال وبين من هو ضده في خندق واحد، والمقصود ليس الحلوائي وأنا، ولكن دائماً ما أواجه بمثل هذا السؤال: كيف تطلق عليهم "رفاق" وبول بريمر أقرب إليهم منكم، وحتى وإن حاول البعض من رفاقنا تخوينهم أو الطعن بوطنيتهم، فإنني وقفت ضد ذلك، معتبراً موقفهم خاطئ واستمرار هذا الخطأ الجوهري دون تصحيحه سيؤدي إلى اختلال بنيوي يمسّ الوطنية الشيوعية المعهودة.
وعلى الرغم من التباين فإنني أعتبر أننا جميعاً شيوعيين، ضاقت بنا الدروب واختلفت بنا السبل وتعدّدت بنا الاجتهادات، وتصدّعت لدينا بعض القناعات، وعلينا الاعتراف بذلك دون مكابرة أو استمرار في التعكّز على التاريخ، فمنّا من ظلّ يحمل البطاقة الحزبية، والبعض الآخر اعتبرها قضية شكلية، وظلّ يدافع عن الشيوعية وبكل الأحوال، فنحن بشر خطّاؤون ونحتاج إلى قدر من التسامح مع بعضنا البعض، وعلينا أن نقرّ أننا مثل بقية البشر الآخرين، لم نُصنع من طينة أخرى، كما كان ستالين يردّد ونحن كورسه من خلفه نعيد ما يقوله، فقد اكتشفنا بكل براءة أن فينا الغث والسمين، والخيّر والشرير، والصادق والكاذب والمبدئي والانتهازي، والشجاع والجبان، والمضحّي والمصلحي، سواءً حمل البطاقة أو لم يحملها.
وإذا كان لدينا نماذج رائعة وإنسانية ونبيلة، وهي مثال الإخلاص والتضحية والاعتداد بالنفس، وهم الكثرة الكاثرة والأغلبية الساحقة من الذين انخرطوا في صفوف الحزب الشيوعي، وتحمّلوا طيلة سنوات عذابات وحرمانات لا حدود لها، فعاشوا في السجون لسنوات وفي المنافي والجبال العصية، لا لسبب شخصي أو لمكسب ذاتي ، بل لاعتقادهم بأنهم يريدون تقديم ما يستطيعون لخدمة شعبهم وقضيته العادلة، لاسيّما الدفاع عن مصالح الكادحين والفقراء، سواءً أصابوا أم أخطأوا؟
وفي الوقت نفسه فإن الصحيح أيضاً أن الكثير من الأحلام تكسّرت والتضحيات تبدّدت وشعر الكثيرون بالخيبة والمرارة والألم حد التشاؤم واليأس، لأن هناك من استثمرهم واستغلّهم لأغراض بعضها دنيئة، وأقل ما يقال عنها أنها لا علاقة لها بأهداف الحزب والشيوعية.
ولعلّ الرفيق جاسم الحلوائي يعرف أن الكثير من الفاسدين والفاشلين والمرتكبين والأفاقين، بل والأنذال لا زالوا يتمتعون بالامتيازات والمواقع، في حين أن مناضلاً عمالياً وقائداً نقابياً (رئيس عمال النفط) ونحن نزعم أننا "حزب الطبقة العاملة" مثل آرا خاجادور قضى نحو 70 عاماً من عمره البالغ 88 عاماً، شيوعياً، وكان عضواً من المكتب السياسي لا يزال لم يحصل حتى على راتب البيشمركة، وهو يتعامل مع الواقع بكل كبرياء واعتداد بالنفس، بغض النظر عن مواقفه السياسية، ولكن أين الجانب الإنساني والرفاقي الذين نتحدث عنه، فلمجرد الاختلاف يرمى الرفيق الذي قضى ما يزيد عن ثلاثة أرباع عمره في الحزب دون سؤال من رفاقه وأصدقاء عمره بمن فيهم من عاش معهم في سجن نقرة السلمان عشر سنوات بالكمال والتمام.
وبعد ذلك كيف يتم التعامل مع مناضلين مثل باقر ابراهيم وعدنان عباس؟، ويمكن أن يندرج أي اسم معهما إذا حاول طرح وجهات نظر مخالفة، لاسيّما إزاء مكيدة المؤتمر الرابع والدسائس التي سبقته وأعقبته. ألم يلقوا خارجاً ويتم التشهير بهم؟ حيث لا مكان لهم في الحزب وكأنهم كانوا في زيارة خاصة من باب السلام والمجاملة، في حين يعرف القاصي والداني أنهم من صلبه وعملوا على إعادة بنيانه لسنوات طويلة، وهم من أبرز قادته في الفرات الأوسط مثلاً، مثلما هو الراحل عامر عبدالله، الذي كان وجه الحزب العلني باستمرار، حتى وإن كان في العمل السري، كما كان باقر ابراهيم المسؤول التنظيمي الأول لنحو ربع قرن من الزمان، ومرّة أخرى أقول بمعزل عن مواقفهم وتقديراتهم السياسية، وكل الذين ذكرتهم وأعتز بصداقتهم لم تكن مواقفي السياسية منسجمة معهم.
والشيء بالشيء يُذكر فإن جدّ الشيوعيين العراقيين زكي خيري لم يجد مكانه المناسب في الحزب، فاضطرّ اللجوء إلى السويد، وحين سأله ابراهيم الحريري: كيف حصل ذلك؟ أجابه " لعد وين أنطي وجهي"، في حين اضطرّ ماجد عبد الرضا وعبد الوهاب طاهر وناصر عبود وحسين سلطان وآخرين العودة إلى العراق في ظروف التطاحن الحزبي ونهج التفريط والمحاصرة وسياسة التجويع كما أطلق عليها حسن سلطان، وهو ما يغضّ النظر عنه جاسم الحلوائي، ليقول إنه ذهب إلى الدانمارك للجوء السياسي بإيعاز من الحزب، وكأن القول بأنه لاجئ سياسي أو إنساني فيه ما ينتقص منه، وهو ينسى أننا جميعاً وكل إدارة الحزب وكادره الأساسي لاجئون، وأن عزيز محمد الأمين العام السابق وأحمد باني خيلاني وفاتح رسول وقائد الأنصار ملازم خضر " الفريق نعمان سهيل التميمي" وباقر ابراهيم وكلّهم منها إدارات الحزب الأولى كانوا لاجئين في السويد، والقائمة تطول لتشمل عبد الرزاق الصافي وعادل حبه ورحيم عجينة وبشرى برتو في لندن، وكانت الدكتورة نزيهة الدليمي وكاظم حبيب وسليم اسماعيل وعمر علي الشيخ وبخشان محمد في ألمانيا وسليمان يوسف بوكه (أبو عامل) في كندا ومهدي الحافظ في فيينا ونوري عبد الرزاق في القاهرة ونستطيع الاستطراد لدرجة القول إن جسم الحزب الأساسي أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات أصبح لاجئاً وخارج العراق، بل أن الأمين العام الحالي حميد مجيد موسى البياتي إلتجأ إلى ألمانيا، فما الضير في ذلك؟ وأعتقد أن علينا ذكر هذه الوقائع بواقعية ودون تبجّحات، بما فيها من مرارة ودلالات سياسية.
V
لعلّ اسماً مثل " منتصر" (مشتاق جابر عبدالله) وهو شهيد الحزب بيد رفاقه "الأشاوس" حيث اعتقل وعذّب وشدّ على جذع شجرة حتى الصباح وبعد عدّة أيام استشهد، وهو ما ورد ذكره في الكتاب، لم يتوقف عنده جاسم الحلوائي، ولعلّه أمرٌ غير مهم بقدر لجوئه إلى الدانيمارك؟
وكان الأجدر أن يسأل من أعطى الأوامر؟ ومن قام بالتنفيذ؟ وكيف حدث ذلك؟ وما الذي يستوجب بشأن معالجة آثار هذه الجريمة، ابتداء من الاعتذار لعائلته إلى إدانة القتلة وإنهاء علاقتهم بالحزب، إن لم يكن تقديمهم للقضاء. لعلّ جاسم الحلوائي يسكت عن ذلك لأن الأمر يتعلّق بمرجعيته وإلاّ سيتهم بالتخريب.
ثم من المسؤول عن ملابسات قضية ثابت حبيب العاني الوجه الأكثر محبوباً في الحزب الشيوعي الذي توفّي في لندن وهو يعيش مرارة التنكيل والإساءة، وهي الحكاية التي رواها الكاتب على لسان عامر عبدالله، واستكملها بمصادر أخرى.
كل ذلك قد يكون سبّب خيبة أمل من الكتاب لجاسم الحلوائي ومن معه، لأنه يشكّل إحراجاً حقيقياً لهم يريدون نسيانه وسيظل يؤرقهم كلّما ذكر الأمر، فما بالك إذا جرى التذكير والمساءلة بشأنه.
الكتاب سلّط الضوء على المسكوت عنه، وأقول بهذه المناسبة آن الأوان للاعتذار عن ارتكابات بتعذيب مناضلين من أبرزهم "أمين" (أحمد الناصري) الذي خلع قميصه يوماً ليريني كيف تم تعذيبه في أمن الناصرية وفي الأمن العام على يد البعثيين الفاشست مثلما عبّر وعلى يد "الرفاق الأشاوس" حين اتهم بالتكتل، لأنه يخالف بعض القياديين، ناهيكم عن الشهيد "ستار غانم" (سامي حركات) أحد القيادات الطلابية في منتصف السبعينيات، الذي تسلّل بعدها إلى الداخل، فاعتقل وعذّب حتى استشهد في العام 1993، وعشرات ومئات من الذين أسيء إليهم وجرى التنكيل بهم.
ولم يسأل جاسم الحلوائي عن عشرات الرفيقات والرفاق الذين أرسلوا إلى الداخل هدية مجانية للنظام الدكتاتوري الذي قام بتصفيتهم، دون دراية كافية ودون أي إحساس بالمسؤولية إزاء مصائر هؤلاء الرفاق الشجعان مستغلّين حماستهم وجرأتهم، لكي يسجلوا مكاسب للمنظمات الوهمية التي يديرونها، وهي مخترقة في غالبيتها من أجهزة النظام السابق وأسماء هؤلاء كانت معروفة ومتداولة لدى الرفاق الأنصار، وللقلّة القليلة التي ذهبت وعادت بعد حين " سالمة"، وبدلاً من تكريمها جرى ابعادها والتنكيل بها وصديقنا المشترك يعرفه الرفيق جاسم الحلوائي، مثالاً صارخاً لذلك.
أليس مثل هذا التفريط بهؤلاء (الرفيقات والرفاق)، ناهيكم عن الدخول في معارك لم يكن للحزب مصلحة فيها تستحق المساءلة، حتى إذا افترضنا حسن النيّة، فإن تقديرات إدارة الحزب تعكس ضحالة التفكير السائد وعدم الشعور بالمسؤولية وضعف الحسّ الإنساني، كما حصل في مجزرة بشتاشان التي راح ضحيتها نحو 60 رفيقاً على يد الاتحاد الوطني الكردستاني.
ومرّة أخرى ألا تستحق كل هذه الأمور المساءلة والشفافية والكشف عنها حتى بعد انقضاء سنوات؟ إذ لا يكفي الكتابة في سجّلات الحزب عن الشهداء الأبطال وعلى حد تعبير عامر عبدالله، لا نريد أن نكون حزب الشهداء، بل حزب الحياة والمستقبل، فجلّ الضحايا والشهداء من حملة الشهادات العلمية والمؤهلات العالية، والذين ذهبوا بدم بارد، وبالطبع فإن تلك المساءلة لا تعفي النظام وأجهزته الإجرامية من المسؤولية الأساسية لتصفية هؤلاء الرفاق الشجعان خارج القضاء، كما لا تعفي مرتكبي جريمة بشتاشان من المساءلة أيضاً.
تلك الأمور لم تثر حساسية جاسم الحلوائي، لكن حساسيته بشيء من الانفعال جاءت في تعقيب لعامر عبدالله حول أحداث كركوك وهي أحداث ملتبسة وإن أدان عامر عبدالله المبالغة في ترويجها واستثمار عبد الكريم قاسم لها في الصراع ضدنا، ودور شركات النفط دون نسيان مسؤوليتنا وهو ما سأناقشه لاحقاً.
وكحقوقي لديّ وجهة نظر خاصة بها، فضلاً عن تدقيقات وقراءات لم أرغب في إثقال قارئ كتاب عامر عبدالله بإدراجها، واقتصرت على ملاحظات سريعة، سأحاول إعطاء وجهة نظر بشأنها، مثل أي اغتيال خارج القضاء، وهو أمر مطروح إزاء بعض القضايا وغيرها.


VI
أما حوادث الموصل والصدام المسلح وحركة العقيد عبد الوهاب الشوّاف، فقد تناولها الكثير من المؤرخين، لكنني تابعت مسألة مهمة وهي مجريات محكمة الدملماجة والتي عُرفت باسم "المحكمة القصابية" وقد نشرت الحوارات والسجالات بشأنها داخل اللجنة المركزية وكذلك مع بعض أصحاب العلاقة المباشرة ممن تسنى لي الالتقاء بهم، وحاورت عامر عبدالله بخصوصها، ووجهة نظره كانت واضحة، وفيها بُعد إنساني، وخارج نطاق السياسة، فإن اغتيال 17 متهماً خارج القضاء وفي محاكمة صورية يعتبر عملاً إجرامياً يستحق المساءلة والعقاب بغض النظر عمّن ارتكبه.
وقد روى لي عامر عبدالله أن ع. ي وكان عضواً في لجنة محلية الموصل وأصبح لاحقاً من ملاكات اللجنة المركزية حتى أواسط الثمانينيات، عندما علم بوجود أحد المغدورين حيّاً عاد إلى المستشفى وقام بتصفيته على جدارها. وكرّر أكثر من مرّة "إنني أكرهه" و"أمقته" ولا أطيقه! كنت أتوقّع أن يتوقف جاسم الحلوائي عند هذه الوقائع التي وردت على لسان عامر عبدالله.
بالنسبة لي لا يهمّ من يرتكب، سواءً كان بعثياً أو قومياً أو شيوعياً أو إسلامياً، فالمرتكب واحد، وعلينا كحزب، إعلان ذلك، بل إن الشيوعيين بحكم الاضطهاد المعتّق الواقع عليهم ينبغي أن يكونوا أكثر حساسية من غيرهم، وهو ما اقترحته على الأخوة الأكراد في نهاية التسعينيات بتأسيس وزارة لحقوق الإنسان، حينما كنت ألقي المحاضرات لطلبة الدراسات العليا في جامعة صلاح الدين كلية القانون والسياسة، ومن ثم قمت بإعداد كل ما يستلزم لها، من القرار التنفيذي إلى القرار التشريعي إلى المهمات والمديريات وأخيراً المرجعيات المنشودة. أقول ذلك أن على الضحايا أن يكونوا أكثر حساسية ولا ينبغي أن نبقى أسرى التاريخ مأخوذين بالعزّة بالإثم، ونستمر في المكابرة والإنكار الذي لن يغيّر الحقيقة، بل يضعف من قوتنا في الدفاع عنها لاحقاً.
إننا إذ نتذكر ذلك فلأن غصّة في حلوقنا، لأن من أساء ومن شوّه اسم الشيوعية يتم غضّ النظر عنه، في حين تسلّط الانتقادات ضد عامر عبدالله وكأن الحملة التي بدأت في العام 1959 لا تزال مستمرة، مع المزيد من صب النار على الزيت، رغم أن الرجل رحل عن دنيانا، لكنه لا يزال يشكل شبحاً للعديد منهم، خصوصاً وأن الكتاب أعاد لأذهان الرأي العام دور عامر عبدالله الريادي، والذي بغضّ النظر عن الملاحظات المدوّنة عنه، فهو كتاب نقدي لا يستهدف التأييد والمديح، مثلما لا يسعى للتنديد والتشويه، فقد مثّل عامر عبدالله "عقل" الحزب وثقله السياسي في علاقاته العراقية والعربية والأممية، إضافة إلى ما كتبه طيلة نحو ثلاثة عقود من الزمان وما تركه من أثر فكري وسياسي.
وكنت قد ذكرت في الكتاب أنني لم أقابل شيوعياً معتدّاً بنفسه وشيوعيته مثل عامر عبدالله، وفي الوقت نفسه كان عامر عبدالله طموحاً وهذا هو الشيء الذي ظلّ ملازماً له، ولربّما لا يتقدم عليه أي شيء آخر (وهو ما ذكرته في الكتاب) دون نسيان مواقفه اللندنية التي اعتبرتها خارج سياق تاريخه.
ومن المفارقة أن يعتقد البعض إن ما يكتبه على الانترنيت أو في بعض النشرات الحزبية المحدودة، أو في ندوات بين رفاق وأصدقاء (اخوانيات) كلّها تتحدث عن اجترار الماضي، إنه أصبح منظّراً أو مؤرّخاً من طراز عامر عبدالله أو وزنه، بل أخذ بعضهم يفتي، لكنه ظلّ يدور في ذات الدائرة الضيقة، كمن يخاطب نفسه ويصغي إليها وبعد الانتهاء من خطبه يقوم بالتصفيق لنفسه، وينسى هؤلاء إن التاريخ تجاوزهم ولا يمكن إعادة عجلته إلى الوراء.
صحيح أننا شيوعيون، الحلوائي ما يزال يحمل البطاقة ويعتبرها هوّية الدخول إلى "الجنة"، وأنا شخصياً منذ أن تركت العمل التنظيمي والمسلكي الروتيني ما يزيد عن ربع قرن، لم أعد أكترث سوى ببطاقتي الوجدانية، فالشيوعية بالنسبة لي تعني الحقيقة والجمال والعدالة والمساواة بين البشر والرجال والنساء والقضاء على الاستغلال، وقد وضعت خلفي جميع المواقع والإغراءات والمناكفات التي لا طعم لها، ثم إنه ليس لديّ الوقت لكي استغرق في أمور مثل هذه.
ولولا خشيتي من تضليل عدد من الرفاق وشحنهم باتجاه الكراهية والحقد، ومحاولة الترصّد والإيذاء لشخص مثل عامر عبدالله، وتشويه التاريخ لما اضطررت لكتابة هذه المادة أصلاً، مهما قيل ويُقال، وأظن إن روح الانتقام والثأر والتأثيم والتحريم، بل والتجريم على الرأي التي تتلبس بعض " المخلوقات" لا تستطيع بناء حزب أو علاقة إنسانية أو شخصية أو اجتماعية، لأنها تقوم على الغدر والخديعة والتدليس والإلغاء. وحتى لو افترضنا إن الذين اتّخذوا موقفاً من الإجراءات البيروقراطية، فكرياً وسياسياً كانوا مخطئين أو أنهم بالغوا في الذهاب بعيداً في النقد، فكان على الادارة المعنية أخذ ذلك بروح التسامح والتكافل ورحابة الصدر واستيعاب انتقاداتهم والسؤال عنهم، لاسيّما للرفاق المسنين، وتلك مسألة إنسانية، لكنها لا تفعل ذلك وتذهب للتفتيش بالمجهر عن مستطرقين لا يهمّ من يكونوا، لكي يتكرّموا بالاصطفاف معها، ناسية اسم الحزب وتاريخه وسمعته.
VII
يتحدث لينين عن شيوعية الفجل أو بالأحرى شيوعيو الفجل، الذين ظاهرهم أحمر وباطنهم لا علاقة له بظاهرهم، وقد حاولت في عنوان كتابي " الحبر الأسود والحبر الأحمر- من ماركس إلى الماركسية" الإيحاء، بأنه ليس كل من حمل بطاقة العضوية أصبح شيوعياً، فالشيوعية سلوك وقيم وأداة تعبير عن الحق والجمال والخير، ولذلك ترى الكثير من الشيوعيين من حملة البطاقة في السابق والحاضر، لا علاقة لهم باسم الشيوعية، ولأنهم لم يستوعبوا روحها فقد حاولوا أن يضيفوا عليها أحياناً نزعة ريفية أو نكهة بدوية أو لوناً عشائرياً تقليدياً، وفي وقت لاحق، أصبح لها شكل مذهبي وطائفي وقومي، حتى أن أمين عام الحزب دخل مجلس الحكم الانتقالي بصفته شيعياً.
خلال حياتنا الحزبية والسياسية صادفنا الكثير من الشيوعيين الطقوسيين، وهؤلاء أقرب إلى بعض المتديّنين الشكليين، الذين يعرفون من الدين أداء بعض الفرائض والشعائر، مثلما يعرف بعض شيوعيينا، بل يحفظون عن ظهر قلب المناسبات التي يحتفلون بها مثل عيد العمال وثورة اكتوبر وميلاد لينين وتأسيس الحزب، أما جوهر الشيوعية وروحها فهم لا علاقة لهم به، ولذلك فالبطاقة ليست دليلاً على شيوعية " الشيوعي". وإنما سلوكه وموقفه من قيم الشيوعية لا تعاليم إدارات تخطئ وتصيب، والأهم الموقف من الناس ومن الحقيقة.
وهناك الشيوعيون المدرسيون الذين يعرفون الشيوعية بطبعتها السوفييتية في الخمسينيات، والتي كانت المدارس الحزبية تحشو أذهان " الرفاق" لاسيّما من " العالم الثالث"، بها لكنها تتعامل بحذر إزاء رفاق الدول الغربية وتطور الفكر الشيوعي والماركسي، ولعلّ بعض شيوعيينا غير معنيين بالشيوعية الحيّة، بقدر عنايتهم بوظيفتهم الإدارية والتبشيرية وبامتيازاتهم، وينظر البعض إليها باعتبارها "غنيمة" لا يمكن أن يوفّرها سوى هذا الكيان بحكم التقاسم الوظيفي، ولعلّك لو نظرت إلى بعضهم بدون الحزب فسوف ترى أن لا أحد يذكره أو يتذكّره، ولهذا يتم التشبث بالموقع والإسم، حيث لا نافذة لهؤلاء على الدنيا من غيره، ولهذا يتم جمع البطانات والأتباع ونصب المكائد واستخدام العقوبات على نحو يدفع بالبعض، إلى رمي المبادئ جانباً في سبيل "التعتق" بالمواقع، بطريقة عشقية.
أما الشيوعيون الذرائعيون فهم الذين يبررون كل خطوة تخطوها القيادة " الحكيمة"، باعتبارهم يمتلكون أرقى نظرية، وبيدهم القدح المعلاّ في الجاهلية والإسلام، وحيثما يميلون تميل الحقيقة إلى جانبهم، بل تميل الدنيا والحياة، وإن أخطأت إدارة الحزب فلا ينبغي مواجهتها بالخطأ، الاّ بعد سنوات وإذا هي أرادت فقط. وإن حدث ما هو ضروري للتبرير ولامتصاص النقمة وللاستمرار ليس الاّ، والآّ فالويل لمن يوجه النقد، فقد يكون أما ضعفاً في الصلابة أو اختراقاً فكرياً أو غيره في المنظومة الفكرية التي ينبغي الحفاظ على نقاوتها كما كان الشعار السائد، وإن اضطّرت إدارة الحزب للاعتراف بعد مضي عشر سنوات مثلاً أو أكثر على خطأ سياساتها فسيبالغون هم في الانعطاف إلى الجانب الآخر، وكأنك أنت المخطئ، في حين كانوا يستقتلون في الدفاع عن الخطأ أو تبريره في حينها، وهم من يتنافسون على الانقلاب أيضاً، وهؤلاء من أدركتهم شهوة النفوذ أو السلطة، حتى وإن كانوا من خدمها وحواشيها. ولعلّ الرفيق جاسم الحلوائي يعرف الكثيرين منهم.
أما الشيوعيون المعولمون فهم من حاول استخدام تعاليم الشيوعية ضد الشيوعية "الشيوعولوجيا"، وهم من روّج للمشروع الأمريكي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حين استبدلوا الولاء من موسكو إلى واشنطن، بل إن بعض الشيوعيين ساهم في مشروع تدمير العراق بالافتراءات وبالعمل في إطار عقود مع البنتاغون ومؤسسات أمريكية أو مدعومة من جانب أجهزتها لتبرير وتسويغ الخطاب الجديد لليبرالية باعتبار أن المعركة بين العلمانية والإسلامية، وبين الحداثة والتخلف، ولم نسمع أو نقرأ كلمة واحدة بحق هؤلاء الذين وقعوا العقود من الأجهزة الأمريكية، سوى الاحتضان والتملّق أحياناً، ومثلما كان البعض مندفعاً للتحالف مع البعث، فقد انقلب إلى الضد منه، محاولاً تشويه كل تلك الفترة وتعليقها برقبة عامر عبدالله أوسواه من الشيوعيين مثل باقر ابراهيم أو غيره، وينسون أن الأمين العام للحزب كان عزيز محمد، وإن كان الجميع يتحمّل المسؤولية.
أما موضوع احتلال العراق ومقاومة المحتل وإن كان من البوابة المدنية- السلمية، فهذه أمور مؤجلة أو تصب في خانة الإرهاب، حتى أن هناك من طالب الأمريكان بالبقاء في العراق لكي لا يقع تحت النفوذ الإيراني أو لحين استكمال " الديمقراطية"، ولهذا السبب اعتبر الاتفاقية العراقية – الإيرانية "أحسن الحلول السيئة" وإن اتفاقية الإطار الاستراتيجي التي لا تزال نافذة، مفيدة للعراق ولتقدمه وتنميته، مخالفاً تاريخ الحزب الشيوعي كلّه إزاء المعاهدات والاتفاقيات مع الدول الامبريالية، لاسيّما مع بريطانيا والولايات المتحدة، التي كنّا نمطر " الجماهير" بشعاراتنا التي تندّد بالاتفاقيات الاسترقاقية المذلّة، لدرجة أنها كانت لازمة لجميع بياناتنا.
وعند تقييمنا للموقف من هذه المعاهدات سواء من الانتداب البريطاني العام 1920 أو اتفاقية العام 1922 أو اتفاقيات النفط أو معاهدة العام 1930 أو معاهدة بورتسموث العام 1948 أو الاتفاقية العراقية – الأمريكية أو الاتفاقية العراقية – البريطانية (العام 1954) أو معاهدة حلف السنتو (حلف بغداد- المعاهدة المركزية) العام 1955، فإننا جميعنا وقفنا موقفاً مبدئياً منها، في حين لم نعترض أو نعبئ الجمهور ضد اتفاقية العام 2008 مع واشنطن، وبقي الموقف ذاته من احتمال توقيع اتفاقية جديدة العام 2011، ولعلّ ما نشرته في الكتاب من وثيقة تعود إلى محكمة الشعب وشهادة عامر عبدالله ضد محمد فاضل الجمالي (العام 1958) إنما هو مدعاة للمقارنة بين موقفين، وهذا كان في وقت قيادة سلام عادل التي سآتي على ذكر مزاياها.
لعلّ الشيء المختلف هو موقفنا من اتفاقية 6 آذار (مارس) العام 1975 التي وقعها شاه إيران مع صدام حسين والمعروفة باسم اتفاقية الجزائر، وهي اتفاقية غير متكافئة، تنازل فيها العراق على جزء من أرضه ومياهه، ولاسيّما في شط العرب، ونتذكّر كيف كانت مانشيتات الجريدة تبرّر وتدافع عنها، وكيف كان يتم الترويج لأعظم تجربة في العالم الثالث و"يداً بيد لبناء الاشتراكية" حتى أننا اضطررنا للعمل شركاء عند الطلب (من موقع ثانوي) في هجوم الحكومة ضد الحركة الكردية وما سمّي بالجيب العميل، وكيف قمنا بذلك بكل " ممنونية"، ثم سلّمنا السلاح للحكومة بعد انتهاء المهمة، وكان بعض الرفاق الأكراد أكثر قسوة من الآخرين على الأكراد، مثلما كان رفاق الوسط والجنوب أكثر قسوة ضد الجماهير المحتجة على إجراءات الحكومة، فيما هو معروف بحركة "خان النص" العام 1977، ونظّمنا الحراسات " المشتركة" دفاعاً عن النظام الثوري.
وهل ننسى كيف تسابق البعض (وهم أغلبية) لتشييع المنظمات الديمقراطية (اتحاد الطلبة، وإتحاد الشبيبة ورابطة المرأة) إلى مثواها الأخير، بل إهالة التراب عليها، بزعم إننا جمدناها ولم نحلّها، وقد كانت تلك نكتة سمجة وضد الجمهرة الواسعة والغفيرة من أعضاء هذه المنظمات.
لقد ظلّ التنظيم الرسمي يحمل صفة الشيوعية التي عملت فيه وتحت رايتها لسنوات ولا يزال كل ما يصدر عنه يعنيني حتى وإن من باب الفكر السياسي، خصوصاً وأنني لا أخفي بمناسبة أو بدونها الإعلان عن "ماركسيتي" المادية الجدلية من موقع مستقل، لا كما يختفي البعض وراء أسماء كثيرة، وإذا كان هناك من بقي يحمل الهوّية، فإنه من الجدير أن يعطينا جواباً عن القضايا المطروحة والمسكوت عنها، ومعها دزينة أخرى مؤجلة، وذلك طبقاً للشفافية التي نطالب بها الآخرين: أخبرونا كيف تم التصرف بالمالية طيلة السنوات الماضية ولحد الآن؟ وعلى الأقل الإيرادات والمصروفات وأوجه المساعدة التي تصلنا، وهو ما أثاره شوكت خزندار! وإذا كان العمل السرّي لا يسمح بذلك في السابق، فالجدير بنا أن نعرف الآن لاسيّما في ظروف الفساد المالي والإداري المستشريين بالبلد.
هل يجرؤ جاسم الحلوائي أو غيره في دس أنفه في مثل هذه الأمور، طالما أنه يخبرنا بمعلومة مهمة جداً وهي أنه يدفع اشتراكه الشهري، وساهم في إعداد النظام الداخلي، فليتفضل ويخبر إدارة الحزب وجمهور الأعضاء والأصدقاء عن ماليتنا؟ وكيف تم تسخير جهاز الحزب وإعلامه لمشروع خاص كما يذكر د. رحيم عجينة؟ ومن قام بطرد عشرات الرفاق في عدن على دفعتين وتم الاتصال بالسلطات اليمنية لإبعادهم، وهذه عيّنة واحدة من باقة كبيرة للذين تم التنكيل بهم والتي لا يجمعها جامع مع أي اعتبار إنساني مما نزعم إننا حريصون للتعبير عنه لدى الغير، فما بالك برفاقنا الذين هم أولى بالمعروف.
لقد كنّا دائماً نضفي على أنفسنا الحكمة والفضيلة والشجاعة والوطنية والتضحية والاخلاص للشعب، وعكسها دائماً ما ندمغ الخصوم، ناهيكم عن الأعداء، بالسفَهِ والرذيلة أحياناً، ونشكّك في وطنيتهم وفي خياراتهم واجتهاداتهم، فضلاً عن تضحياتهم واخلاصهم، وهو الأمر الذي كانت ولا تزال جميع الأحزاب والحركات الشمولية تتبعه سواءً كانت قومية أو إسلامية أو شيوعية، ولعل المدرسة الشيوعية هي الأبرع في ذلك.
ويزداد الأمر حدّة في اتهام بعضنا البعض، لاسيّما في حال الانقسامات والانشقاقات التي تترك ندوباً عميقة على النفوس والعقول، دون تسامح أو بُعد نظر، بل نستطيع أحياناً أن نتساهل وأن نغضّ الطرف عن أعداء ونتعامل معهم بلياقة كبيرة، لكننا لا نتعامل مع بعضنا البعض بذات المعايير، وهل يُعقل أن نتعامل مع سفاحين وفاسدين وأجراء لدى أجهزة وجهات خارجية معروفة وضبّاط مخابرات ووكلاء أمن، ولا نستطيع التعامل مع رفاق لديهم اجتهادات خاصة خاطئة أم صائبة؟ وقد ظلمنا بعضنا البعض إلى درجة قاسية وانطبق علينا قول الشاعر:
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة على المرء من وقع الحسام المهنّدِ
وأظنّ أن عامر عبدالله في ما كتبه في كتابه الأخير مقوّضات النظام الاشتراكي، الصادر في العام 1997، هو تعبير بليغ ومؤثر عن المرارة والاحباط والقنوط والألم، لاسيّما وهو يصف العلاقات الرفاقية المتدهورة والممارسات الحزبية المقيتة، والتي قد يكون العدو أكثر رحمة في التعامل معنا من تعامل بعضنا مع البعض الآخر، وخصوصاً عند الاختلاف.
VIII
إن مهمة النقد ووظيفته ضروريتان وحيويتان حين يكون الإنسان في قمة المسؤولية، وإن فات زمن، فلا بدّ من الاعتذار عن عمل لا إنساني أو سلوك قمعي أو ارهاب فكري أو قرارات إدارية بمنع علاج أو سحب جواز سفر أو إلغاء إقامة أو قطع دراسة أو تمزيق العوائل أو تعذيب مناضل، وعلى الرغم من أهمية الإقرار بها كمسؤولية أخلاقية، لكنها تستوجب الافصاح عنها بوضوح وبالتفصيل والاعتذار من الضحايا على نحو ملموس دون عموميات أو كلام فضفاض.
الإقرار بالخطأ أمرٌ حميدٌ وهو ما فعله عدد محدود جداً من الذين كانوا يوماً في موقع المسؤولية بما فيه اعتذار شخصي وقد حصل تارة بصورة مباشرة ووجاهية وأخرى علنية وأمام الآخرين أحياناً، لكن لا ينبغي إضاعته بين السطور وفي صيغ عامة أو عبر مغازلات لواقع جديد، خصوصاً بعد فشل تجربة الماضي وهي الحقيقة الساطعة التي يمكن التوصّل إليها دون عناء يُذكر وعلى نحو شبه إجماعي، رغم محاولات تغليف النقد بالتبرير أو التشبث " النظري" مع صدمة الواقع.
يعتقد الرفيق جاسم الحلوائي أن مجرد وجود هيكلية باسم الحزب، مهما كانت الأسباب هي أفضل طريقة للعلاج، ويستمد ذلك من تجربته في الحزب الذي علمته أن النضال من داخل الحزب وليس من خارجه، ويدعو المخلوعين أو الذي يشكون التهميش أو الإقصاء التوقف عن الشكوك وتكريس إمكاناتهم لتقوية الحزب لا إضعافه. وهو السلوك الذي يدعو إليه الآخرين، لكنه ينسى أن إدارة الحزب أغلقت أمامهم جميع الأبواب، الاّ باب الاستسلام والخضوع، وقد ارتضى البعض ذلك وآخرون لم تسمح لهم كرامتهم بذلك والأمر متعلق بهم.
ولعلّ الكثير من هذه المفاهيم مضى عليها ما يزيد على قرن من الزمان، وخصوصاً في الصراع بين اللينينية والمارتوفية وما كتبه لينين في هذا الشأن العام 1903 في كتابه ما العمل؟ لكن تلك القواعد بما فيها المركزية الديمقراطية، التي هي تعبير متناقض لم تعد تصلح لعصرنا، بل إن مفهوم الحزب قد تغيّر كثيراً ناهيكم عن دوره ووظيفته، وأصبح ما نعنيه بالتيار الواسع العريض ودون التزامات صارمة وضبط حديدي، هو الأقرب إلى الواقع، وتلك هي الفكرة المارتوفية. وإذا كانت التعاليم اللينينية حول مفهوم الحزب والعصبة الثورية " الطليعة" صالحة لزمانها فقد لا تكون ملائمة اليوم لكثير من التجارب في ظل الثورة العلمية- التقنية والتطور الهائل في وسائل الاتصال والمواصلات وتكنولوجيا المعلومات والطفرة الرقمية " الديجيتل" وكل ذلك أصبح جزءًا من عالم السياسة المتشعب والمتنوع والمعقّد.
ولكي لا تتشوّش الصورة أو تلتبس، ولكي أميّز نفسي أبادر إلى القول، أنني لا اعتبر الاتجاه القيادي الرسمي السائد، خائناً مثلما يذهب بعض الرفاق، لكنني أختلف مع أطروحاته جملة وتفصيلاً، وأعتبره خاطئاً واستمراره في هذه الأخطاء سيلحق ضرراً بليغاً بالحركة الشيوعية وبالماركسية، لاسيّما وإن تراكم الأخطاء سيؤدي إلى تغيير بنيوي في طابع الحزب وهوّيته، الذي سيتحول من حزب شيوعي ماركسي، إلى حزب ذرائعي أو غنائمي، كل وظيفته هي تبرير سياساته وتوزيع بعض امتيازاته على قيادييه وإيجاد الذرائع لنهج الآخرين من حلفائه، الذين اعتادَ أن ينصاع إليهم، لاسيّما في سنواته الجمهورية ما بعد العام 1958، حتى وإن كان يهمس في الأذان، عن فردية بعضهم وفاشية وإجرامية البعض الآخر، وفساد جهة ثالثة، ومشبوهية مجموعة رابعة وارتباطات فئة خامسة وهكذا.
IX
يعلّق جاسم الحلوائي عن المبالغة في مؤهلات عامر عبدالله التي وردت في الكتاب "التي هي بعيدة عن الحقيقة" ثم يتساءل ماالهدف من تحجيم دور سلام عادل ولمصلحة من يتم ذلك؟ ويا لحكمة الاكتشاف وروعة المكتشف، ويبدو أن الحلوائي لم يقرأ الكتاب فدور سلام عادل مبرّز حتى وإن كان الكتاب مخصصاً عن عامر عبدالله، بل إن دور سلام عادل موجود في كل ما كتبت عن تاريخ العراق السياسي المعاصر. وقد أعذر الرفيق جاسم الحلوائي، الذي قد لا يكون مطّلعاً عليه، لأن ما أكتبه هو خارج دائرة التداول الحزبي الذي اعتاد عليها الكثيرون، وللفائدة أنقل فقط بعض المجتزءات من باب الإضاءة على سبيل المثال لا الحصر.
وحسبي أن أشير إلى صفحات يكاد بعضها أن يكون نادراً عن سلام عادل وزواجه ومن حضر وكيف أخفت "زوجة سعد صالح"، ثمينة ناجي يوسف (أم إيمان) في سيارة سعد صالح وزير الداخلية الأسبق ورقمها 10 كربلاء، وغطّتها بالعباءة، وهي تحمل المناشير لنقلها من محل إلى آخر لاحتمال اعتقالها، ولعلّ ثمينة ناجي يوسف كانت مبرّزة وهي شابة، حيث كانت تحضر مجلس سعد صالح، إضافة إلى فاطمة الخرسان، وهو شيء لم يكن مألوفاً آنذاك، وهو ما رواه لي المحامي لؤي سعد صالح نجل سعد صالح، وما دونته، إضافة إلى معلومات أخرى في كتابي الموسوم " سعد صالح- الضوء والظل: الوسطية والفرصة الضائعة" الصادر في العام 2009. وقد اقتبست رأي ثمينة ناجي يوسف عن سعد صالح الشخصية الوطنية العراقية من كتابها عن سلام عادل " سيرة مناضل".
ولكي تكتمل الصورة سأقتبس من ص 43 من كتاب " النار ومرارة الأمل" أي بعد صفحة ونصف تقريباً من الاقتباس الذي ورد في ص 41 الذي أشار إليه حيث أقول "وتنفيذاً لخط الحزب الجديد وتجاوزاً لخطة الحزب التي أقرّها الكونفرنس الثاني العام 1956، والذي رجّح الخيار العنفي أشرف سلام عادل (حسين أحمد الرضي) الأمين العام للحزب بنفسه على تنظيم الخط العسكري وتنظيم الخلايا للضباط وضباط الصف والجنود، كما أفرد بعض الحلقات لقيادة مجموعات الضباط الأحرار، وأصدر نشرة حزبية موجهة للجنود والضباط تحثهم على الوقوف صفاً واحداً لإنقاذ البلاد وتطهيرها من ربقة المستعمرين وأتباعهم.
سألتُ عامر عبد الله خلال مطارحتي معه في الثمانينيات، إضافة إلى مقابلات لم تنشر بعد، عمّا إذا كان اختيار الأسلوب الكفاحي العنفي قد تمخّض عن مؤتمر أو كونفرنس ((Conference ، علماً بأن الكونفرنس الثاني الذي عُقد العام 1956 كان قد أتخذ قراراً بالخيار السلمي، فأجاب: كانت الأمور أقلّ تعقيداً والثقة عالية وظروف العمل السري لا تسمح كثيراً بعقد مؤتمر أو اجتماع موسع لأخذ رأي القيادات والكوادر، بل إنني كنت قد كتبت رأياً بهذا الخصوص وعرضته على سلام عادل، فأبدى تأييداً وحماسةً، واقترح أن يتم تعميمه، ليصبح هذا الرأي بمثابة رأي الحزب وتوجيهاً للرفاق، وقد سعينا إلى تثقيف كادر الحزب الأساس وملاكاته المهمة بضرورة الاستعداد لكل طارئ جديد.
وكانت انتفاضة العام 1956 التي شارك الحزب بقيادتها بروفة جديدة لقياس استعداداتنا، لا سيّما الجماهيرية للنزول إلى الشوارع وقطع الطريق على القوى الرجعية فيما إذا تحرك الجيش، وهو ما حصل يوم 14 تموز (يوليو) العام 1958، حيث كانت الكتل البشرية الهائلة، صمام الأمان لانتصار الثورة، وكان الحزب قد أصدر تعميماً داخلياً لكوادره للاستعداد للطوارئ يوم 12 تموز (يوليو) أي قبل يومين من اندلاع الثورة.
ويمكن ملاحظة ما ورد في هامش رقم (1) ص 47، حيث كان الحزب بقيادة سلام عادل (بعد تنحية حميد عثمان)، قد استجمع قواه وكتله وتنظيماته المنقسمة حيث اعترف الجميع بأخطائهم بهدف توحيد الحزب "وكانت منظمة راية الشغيلة قد انشقّت عن الحزب في العام 1953 ومن أبرز قياداتها آنذاك جمال الحيدري وعزيز محمد، وقد وصفتها جريدة القاعدة العام 1954 بأنها زمرة بلاطية ( نسبة إلى البلاط الملكي) وإنها انحطّت في المستنقع والقاذورات اليمينية، متهمة ايّاها بالانتهازية.
أما منظمة وحدة الشيوعيين فكانت برئاسة عزيز شريف وعبد الرحيم شريف التي ساهم عامر عبدالله بحكم صلته الوطيدة معهما في إقناعهما، والبقية الباقية بحلّ المنظمة والالتحاق بالحزب. كما انضمت كتلة داوود الصائغ "رابطة الشيوعيين " لاحقاً إلى الحزب، واعترف الجميع بأخطائهم في لحظة تطّهر غير مسبوقة، بما فيها التنظيم الأصلي (القاعدة) الذي اعترف أن القيادة التي اتّخذت قرارات الفصل كانت جاهلة (المقصود قيادة حميد عثمان الذي جرت محاولات لمحاسبته وتجميده فيما بعد)، وحصل الأمر بتدخّل من خالد بكداش والحزب الشيوعي السوري الذي تم الاحتكام إليه، لا سيّما بإنهاء انشقاق راية الشغيلة.
ونلاحظ هنا مؤهلات سلام عادل القيادية وقدرته التنظيمية الهائلة، ثم استشرافاته المستقبلية، فضلاً عن تجرّده وهو في موقع المسؤولية.
X
لقد ساهم الكونفرنس الثاني 1956 في استعادة هوّية الحزب بعد توحيده، وكان التقرير الذي كتبه عامر عبدالله وبإشراف سلام عادل، قد عكس ذلك، خصوصاً وقد ترافق مع جو الحماس العروبي والانتعاش القومي التحرري وتلك كانت وراء القراءة الجديدة والتصحيحية للكونفرس الثاني للحزب الشيوعي، "المخالفة" من حيث التوجّه لسياسة الحزب عشية إعدام فهد وما بعدها، فالأمر يعود إلى أن العالم العربي شهد كله والعراق بشكل خاص انتعاشاً وطنياً وعروبياً، وخصوصاً قبيل وبُعيد العدوان الثلاثي على الشقيقة مصر، بتأميم قناة السويس وانطلاق أصوات تدعو لتأميم النفط وإسقاط الأنظمة القائمة. والجدير بالذكر أن الكونفرس الثاني الذي سبق انتفاضة العام 1956 ببضعة أشهر، حيث انعقد في أيلول (سبتمبر) 1956، كان قد أكّد على هوّية الحزب العراقية في إطار محيطه العربي " لتحرير أرض العروبة من الإستعمار والتخلّف..."
ويلاحظ هنا أيضاً اللغة الجديدة المستخدمة في الكونفرنس ووثائقه وهي لغة مختلفة عمّا ساد من خطاب طيلة الفترة من بعد العام 1948 ولغاية الكونفرنس الثاني العام 1956 ابتداءً من عنوان التقرير، ومروراً بالعديد من مفاصله الأساسية التي أكدت على "أمة العرب" و"الوحدة القومية" و"الوحدة العربية" و"وحدة العرب" و"ركب العروبة" و"حركة التحرر العربي" و"خطر الصهيونية والاستعمار" واعتبار " إسرائيل" قاعدة للاستعمار، وإن الحل العادل والجذري يكمن بالقضاء على الاستعمار وحكم عملائه وصنيعته الصهيونية المجرمة... وأعتقد أن لجان التثقيف الحزبي لم تضع يوماً في جدول عملها قراءة وثائق الكونفرنس الثاني، لا سيّما بعد محاولات "ازدراء" العروبة أو تبشيعها، لدرجة أنها أصبحت كلمة منبوذة أو مرذولة، بل أن بعضهم حاول أن ينسبها إلى صدام حسين وحزب البعث في ممارساتهم القمعية ضد الآخرين دون أن يدرك خطر ذلك على هوّية الحزب الوطنية والقومية، في حين أن التقرير مؤيدٌ من سلام عادل وأعضاء الكونفرنس، بل وكان الحزب عموماً آنذاك قد تبنّاها!.
وكنت قد اقترحت على لجنة العمل الآيديولوجي المركزي التي كان سكرتيرها كريم أحمد الداوود عضو المكتب السياسي وضمّت عضويتها مهدي عبد الكريم عضو اللجنة المركزية وأبو سمير الذي استشهد في بشتاشان" وكاتب السطور، أن تدرج وثائق الكونفرنس الثاني ضمن البرنامج التثقيفي لعموم هيئات الحزب، لكنه لم يتسنَ لنا الحصول عليها وأبدى مهدي عبد الكريم (أبو كسرى) ملاحظة عن احتمال التوسع بمطالبتنا بوضع وثائق المؤتمرات الثلاثة للحزب بما فيها المؤتمر الثالث المؤيد للجبهة مع حزب البعث ضمن البرنامج، الأمر الذي قد يثير بعض الإشكالات التي نحن في غنىً عنها. وقد تمّت الموافقة على اقتراحي بإعادة طبع كرّاس" ردّ على مفاهيم برجوازية قومية وتصفوية" الذي صدر في العام 1957 ردّاً على بعض التيارات القومية الإنعزالية في إقليم كردستان داخل الحزب الشيوعي . وكانت لجنة العمل الآيديولوجي تشرف على إصدار نشرة " مناضل الحزب" وهي نشرة داخلية صدر منها أربعة أعداد في حينها (1982-1983).
بالعودة إلى التقرير الذي صدر عن الكونفرنس فقد كان عنوانه هو " خطتنا السياسية في سبيل التحرر الوطني والقومي" وجاء فيه دعوة إلى "تحقيق أمة العرب أجمع في الوحدة القومية"، استناداً إلى أن هذا العصر هو عصر الشعوب والانبعاث القومي للأمم المستعمَرة والمضطهَدة، من أجل حق تقرير المصير. أما أهم النقاط التي يمكن إضاءتها وهي تعكس العقل الستراتيجي لعامر عبدالله وسكرتير الحزب سلام عادل فهي:
1- تأييد السياسة السوفييتية بشأن مبدأ التعايش السلمي بين الدول بغضّ النظر عن نظامها الاجتماعي، معتبراً المؤتمر العشرين " حدثاً خطيراً" فتح أمام البشرية جمعاء آفاقاً رحبة، وعلمنا درساً ثميناً في توحيد الحركة الشيوعية والحرص على وحدة حزبنا وتعزيز قوى السلم في بلدنا..."
2- إدانة حلف بغداد باعتباره أداة لاستبعاد الشعوب، وأن هدف الغرب هو استرقاق بلدان الشرق العربي، وأن نضال شعوب الشرق ضد الكتل الاستعمارية، إنما هو نضال من سبيل الاستقلال الوطني، داعياً إلى الانسحاب من ميثاق بغداد الاستعبادي العدواني.
3- أكّد التقرير على الوحدة العربية حيث جاء فيه: " إن وحدة العرب أصبحت باهرة بعد أن أزيحت السياسات الخاطئة"، مؤكداً " ركب العروبة الزاخر بالحيوية" معتبراً الحركة القومية العربية حركة تقدمية ديمقراطية بمحتواها وشكلها وإن الطريق إلى الوحدة التامة (المقصود والشاملة) ينفتح على أساس زوال الاستعمار عن العالم العربي وتحقيق الاصلاحات الديمقراطية وفي ذلك نقد ذاتي واعتراف صريح بضرورة تصحيح مسار الحزب ومواقفه بشأن بعض الإتجاهات الانعزالية وضيقة الأفق، والموقف الخاطئ من قيام إسرائيل، والشعارات والتكتيكات السلبية والضارة التي اتّخذها الحزب خلال تلك الفترة. وهو ما نشرته صحيفة اتحاد الشعب في أواسط تشرين الأول (اكتوبر) العام 1956.
4- أكّد على ضرورة قيام الجهة الوطنية الموحّدة، باعتبارها سلاحاً في معركة التحرر الوطني، وهي حقيقة قائمة، تنشأ وتنمو وتتعزّز في نار المعارك الوطنية. ولأول مرة وبهذا الوضوح يخاطب جماهير الضباط والجنود ويدعو إلى اتحاد قوى الشعب، كما ذكّر بالشخصيات الوطنية مثل: شعلان أبو الجون ( أحد قادة ثورة العشرين) والزعيم الكردي الشيخ محمود الحفيد (الذي قاد ثورة العام 1919 في السليمانية) ومحمد جعفر أبو التمن والزعيم الوطني العراقي وحسن الأخرس وعبد المجيد كنّه من الشخصيات الوسطية العراقية ومصطفى خوشناو العسكري الكردي الذي أعدم في أواسط الأربعينيات.
5- شدّد النقد ضد شركات النفط التي تنهب ثروة العراق.
6- حيّا تأميم قناة السويس وانتقد حكومة نوري السعيد ومؤامراتها "السافلة" في الظلام لكسر عضد نصر القومية
7- شدّد الحزب في تقريره على: خطر الصهيونية والإستعمار وبعض العناصر المشبوهة. وفي إطار نقد ذاتي جريء حذّر من " تسرّب المفاهيم الخاطئة إلى ملاكات الحزب بعد حرب عام 1948" وذلك في إطار مراجعة جادة لم تستمر للأسف بشأن الموقف من الصهيونية وإسرائيل. واعتبر إسرائيل قاعدة الإستعمار، وأن الحل العادل والجذري يكمن بالقضاء على الإستعمار وحكم عملائه وصنيعته الصهيونية المجرمة".
ولعلّ في ذلك ردًّا غير مباشر على الأطروحات الصادمة للمزاج الشعبي التي كتبها زكي خيري من السجن في مناقشة لعزيز شريف بخصوص القضية الفلسطينية التي نشرها في جريدة الوطن في حينها ، مبرراً كون " اليهود أمة" ولهم " الحق في تقرير المصير" وأن إسرائيل " دولة ديمقراطية" مقارنة بالبلدان العربية الرجعية، لأن فيها حزباً شيوعياً علنياً ونقابات مرخّص بها.

8- شدّد على المهمات العاجلة التي تتلخص في تحويل السياسة القائمة من سياسة تعاون مع الاستعمار وتوافق مع الصهيونية وانعزال عن حركة التحرر العربي إلى سياسة مستقلة، مؤكداً على التضامن العربي.
9- وعند حديثه عن الحركة التحررية العربية ربطها بالمسألة القومية الكردية بالقول: هاتان الحركتان التقدميتان ضد الإستعمار وأحلافه، تتضافران في سبيل التحرر الوطني والقومي " وليس ثمة طريق في الظرف الراهن سوى طريق الكفاح مع الحركة التحررية العربية الصاعدة، في سبيل التحرر الوطني والقومي لجماهير الشعب العراقي، في سبيل الوحدة العربية وتأمين الاستقلال الذاتي لكردستان العراق وفق اتحاد اختياري كفاحي أخوي يفتح أمام الشعب الكردي طريق التحرر الشامل والوحدة القومية للأمة الكردية". وأكّد بتقرير على أن الشعب الكردي في العراق هو جزء لا يتجزأ من الأمة الكردية في جميع أجزاء كردستان التي مزقها الاستعمار.
ودعا التقرير إلى الاعتراف المتبادل بحق تقرير المصير وبمشروعية كفاح الشعبين العربي والكردي إلى التحرر والوحدة القومية، مؤكداً الأخوة العربية- الكردية.
وكان الحزب الشيوعي قد تبنّى موقفاً متقدماً بشأن المسألة الكردية، حين دعا منذ العام 1935 إلى مبدأ حق تقرير المصير، واعتمد قاعدة الاستقلال الذاتي لكردستان العراق في العام 1956 في كونفرنسه الثاني، تجسيداً لذلك المبدأ في الواقع العملي، داعياً إلى وحدة الأكراد القومية، مثل دعوته إلى الوحدة العربية، في إطار التحالف بين الحركتين التحرريتين العربية والكردية.
جدير بالذكر أن ناصر عبود عضو المكتب السياسي في حينها يستبعد الدور المنسوب لعامر عبدالله في كتابة تقرير الكونفرنس الثاني لأنه حسبما يقول: لم يكن لا جمال الحيدري ولا عامر عبدالله في عداد اللجنة المركزية آنذاك، بل هما شاركا في الكونفرنس الذي انتخبهم من بين الحاضرين ليكونا عضوين في اللجنة المركزية، ويذكر أن سلام عادل كان له الدور البارز في الإعداد، لكن ذلك لا يمنع من أن يكون سلام عادل قد استعان بعامر عبدالله في كتابة التقرير. (جميع هذه النصوص مستقاة من الكتاب).
XI
وحول العلاقة الشخصية ولاسيّما قبل العام 1958 يتندّر عامر عبد الله عن كرم سلام عادل: فيقول كنّا في دمشق، وقد ذهبنا لتناول العشاء، في مطعم في شارع بغداد، ويومها كان سلام عادل منشرحاً بعد أخبار سارة عن علاقات الضباط الأحرار والتئام الحزب وتوسّع نشاطه تحضيراً لثورة 14 تموز (يوليو)، لا سيّما بوعود عربية واشتراكية بدعمها عند قيامها بعد جهود مضنية وشروحات مطوّلة قدمت للأصدقاء والأشقاء، فاعتدل في جلسته ونادى على النادل ونقّده (أي منحه)" ليرة" سورية قائلاً" جيب أي (إجلب) لنا إضافي لما يريده الشباب، ونظر إلى عامر عبد الله قائلا: أبو عبد الله أكو فلوس(أي توجد نقود).. نحن "زناكين" (أي أغنياء) وهي لفتة يحبّها عامر عبد الله ، وكان يقوم بتمثيلها كثيراً، خصوصاً وأن لقاءه مع أبو إيمان (حسين أحمد الرضي- سلام عادل، أمين عام الحزب آنذاك) كان حرّاً وبدون عوائق سواء في دمشق أو في موسكو، في حين عندما كان يلتقيه في بغداد متخفياً لابساً العقال والكوفية أو متنكّراً بزي آخر أو في أحد البيوت الحزبية، ويتحدّثان على نحو هامس في ظروف العمل السري والملاحقة.
ويذكر عامر عبد الله أنه في أحد أيام عيد الحزب أو احتفاءً بإحدى مناسباته، أولمت السيدة ثمينة ناجي يوسف (زوجة سلام عادل) طعاماً إضافياً وبنوعيات أفضل، وأنها حضّرت لهم "طبقاً من الدولمة" ودجاجاً وما شابه، الأمر الذي يُعتبر بذخاً في تلك الأيام العصيبة وظروف الحزب المالية القاسية (العام 1956 أو ما بعده) وخاطب سلام عادل عامر عبد الله والآخرين: كُلوا فالحزب يريدكم أقوياء!!
ومزايا سلام عادل تتعدى كونه شهيداً وبطلاً، فهذا أمرٌ مفروغ منه، لكن قيمته الحقيقية هي في مواهبه ومبادرته التنظيمية وعقله الستراتيجي في التقاط الجوهري من الأشياء وقدرته في الاستفادة من الكفاءات التي حوله، ولاسيّما قبل ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، كما حاول بعد الثورة ضم وإشراك الكثير من القيادات " التاريخية" و"الشابة" لاحقاً إلى قوام اللجنة المركزية وهيئات الحزب، لتوسيع دائرة اتخاذ القرار على الرغم من بعض تناقضاتها وذلك يتجلّى بعمله الدؤوب في استعادة وحدة الحزب دون إقصاء أو إلغاء أو تهميش، بل بمشاركة واعية، وكذلك في إعداد الكونفرنس الثاني العام 1956، والذي أعتبر شخصياً وثائقه من أهم وثائق الحزب وأنضجها حتى الآن، آخذاً بنظر الاعتبار سياقها التاريخي، وهي الوثائق التي لم يتم الحديث عنها منذ نصف قرن وكأنها أصبحت نسياً منسياً، ثم في التحضير لجبهة الاتحاد الوطني العام 1957 وإقامة علاقة مع شبكة الضباط والجنود والأشراف من التنظيم العسكري، والإعداد للثورة بالعلاقة مع الضباط الأحرار العام 1958.
وحتى بعد الثورة فقد كان الترويج لأهم شعارات الحزب من صنع ومشاركة سلام عادل وقيادة الحزب، بحيث أصبحت قوة مادية في الشارع وهي الخروج من حلف بغداد الاستعماري والتحلّل من الاتفاقيات والمعاهدات الاسترقاقية المذلّة، والانسحاب من نظام الكتلة الاسترلينية والدعوة للإصلاح الزراعي، والتوجه لاستعادة حقوقنا من شركات النفط الاحتكارية، والانعطاف نحو المعسكر الاشتراكي، والمطالبة بالحريات وإبراز أهمية حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل، لاسيّما في العام الأول من عمر الثورة. ولهذا لا يمكن اختزال سلام عادل إلى مجرد إرسال برقية أو إصدار بيان أو إشراف على الجريدة (وجاءت على نحو يفهم منه هيمنة) كما ورد في التعليق.
لكن الخلافات التي دبّت في الحزب الشيوعي، إضافة إلى نهج الغرور ومحاولة الانفراد بالشارع وتهميش دور الآخرين دفعتنا إلى ارتكاب أخطاء عديدة اعترف بها على نحو شجاع تقرير العام 1959 (اجتماع ل.م) وإن كان الأمر يحتاج إلى طائفة من التدابير لم يتم التوصل إليها، وهو ما أضعف محتوى سياستنا وجوهرها خصوصاً، بعض الأطروحات العائمة فما معنى: كفاح، تضامن، كفاح، كما أن شعار " السلم في كردستان" لم يكن شعاراً يليق بالحزب الشيوعي، خصوصاً وأن الشعب الكردي يتعرّض للقصف ولكننا عدّلنا ذلك بالتقرير الذي أعدّه جمال الحيدري وأشرف عليه سلام عادل حول القضية الكردية، ولكن بعد فوات الأوان.
كان الحزب يتصرّف وفقا لرد الفعل وينتظر القدر " الغاشم" (المؤامرة المنتظرة ليتصدّى لها) وتدريجياً لم يكن لنا حلفاء يعتدّ بهم، أما ما أطلق عليه " النضال الجماهيري" فقد انحسر بالتدريج حيث ضعفت مبادراتنا، وكانت أقرب إلى ردود فعل سواء إزاء سلطة قاسم أو بخصوص المسألة الكردية، أو لمواجهة الإضراب الطلابي الذي فرضه البعثيون والقوميون والاتحاد الوطني لطلبة العراق تحضيراً لانقلاب 8 شباط (فبراير) الدموي العام 1963 وغيرها.
ولم يكن التراجع منظّماً واتّضح أننا واجهنا التحدّيات بخطة طوارئ فاشلة "وبمسدس مايثور" "لأنه تعرّض للصدأ" حسب وثيقة التقويم، كما أن مواجهة انقلاب 8 شباط (فبراير) كانت محدودة على الرغم من البطولة والبسالة، وكل ذلك حتى وإن كان يتحمل قسطه الأكبر الرفيق سلام عادل بصفته التنظيمية بنجاحاته وإخفاقاته، لكنه لا ينبغي نسيان خصاله الباهرة وسجاياه، وشفافيته الإنسانية المتميّزة ، فضلاً عن بطولته النادرة، وذلك دون المتاجرة بدم الشهداء وفي مقدمتهم سلام عادل. فنحن إزاء تقويم سياسي وعلينا أن نضع العواطف جانباً، فضلاً عن محاولات التشويه.
أما عن ما ورد مشوّهاً وإغراضياً عن عامر عبدالله وسلام عادل، فكانت رؤيتي ولا تزال أن عامر عبدالله لم يرغب أن يكون الرجل الأول في الحزب حتى لو اتيحت له الفرصة، لكنه يريد أن يتصدّر المقاعد الأولى باستمرار، اعتزازاً بنفسه وتقديراً لكفاءاته، وهو كما ذكرت بالنص " ولعلّ انطباعاتي الشخصية بأن عامر عبدالله لا يريد أن يكون الشخص الأول، وإنما يريد توجيه الشخص الأول، على أن يترك له كامل الحرية للتصرف، وبذلك يكون أكثر انسجاماً وأظن أن فترة 1956-1958 سارت بهذا الاتجاه، لاسيّما في ظروف العمل السري"، وهذه رغبة عامر عبدالله وقد تتحقق وقد لا تتحقق، وقد يرتضي بشيء منها وقد لا يرتضي، ولذلك حدث الاختلاف مع سلام عادل، بل والافتراق، بسبب عدم الانسجام وعدم تحقق رغبات عبدالله.
وقد استنتجت ذلك من مواقف أخرى ذكرتها في الكتاب أيضاً، فهو يعتبر نفسه الأجدر والأفضل واعتاد أن يكون في الصفوف الأولى استحقاقاً له، وعندما سألته كيف أُنتخب الرفيق عزيز محمد ، فقال إنه اعتذر وأصرّ على اعتذاره، وحاولنا اقناعه أن يكون أميناً عاماً لعام واحد ونحن نساعده، فاضّطر للموافقة "مرغماً"، لكنه أضاف أنه تمسّك بالموقع لـ29 سنة، وتقديري مرّة أخرى وانطباعي الشخصي أنه كان يريد أن يعطيه عزيز محمد صلاحيات واسعة قد تصل إلى بعض صلاحياته، ويطلق يديه كما أطلقها لفخري كريم في الثمانينيات، لكن أمله خاب.
ومرّة ثالثة وهذا موجود في الكتاب أيضاً لمن يقرأ، سألته من تعتقد سيكون الشخص الأول للحزب الذي كنّا ننوي تأسيسه فأجابني على الفور ودون تفكير أو تردّد: باقر ابراهيم، وعندما قلت له لماذا قال: إنه يعرف غالبية الرفاق ولديه اهتمام بموضوع التنظيم، ويمكننا أن نتفاهم مع مراعاة ما خلّفته الحرب العراقية – الإيرانية من نزعات في المجتمع وفي بلدان المهجر، ولذلك فإنه الأصلح. وقلت له لماذا لا تكون أنت أو باقر أحدكما رئيساً والآخر أمين عام، ولكل منكما نائبين تأكيداً للعمل الجماعي، وهنا شعرت أنه يستطيع التفاهم مع باقر ابراهيم ولا يريد توسيع الدائرة، بحيث تكون صلاحياته واسعة، وهو ما يرغب به أهم من الموقع الأول الذي عليه تبعات أخرى.
وأعود مرّة أخرى إلى هذه المسألة فحين أسسنا المنبر الشيوعي سأله ماجد عبد الرضا لماذا لا تأتي معنا، فكان جوابه إنكم تعملون ونحن معكم، وكان يريد لملاحظاته حتى وإن كان خارج المجموعة أن تؤخذ بنظر الاعتبار، بما فيها بعض ما نشرناه في الجريدة. وقد ظلّت عينه الأولى على إدارة الحزب، أما الثانية فعلى المعارضة الحزبية، وهناك تفاصيل كثيرة في الكتاب، لكن خيبته ومرارته تضاعفت عندما لم يلقَ ما يريده من السوفييت وكذلك من عدد من الأحزاب الشقيقة والصديقة، سوى التعاطف والتسهيلات المحدودة، ولكن القنوط هيمن عليه إلى درجة كبيرة عند انهيار الاتحاد السوفييتي، حينها شعر الفداحة الأكبر وكأنه خسر أعز ما يملك.
أعرف أن هذه القراءة غير تقليدية وغير مألوفة لكثيرين سواء حول شخصية عامر عبدالله أو النظر إلى المواقع الحزبية، إنها حالة سسيولوجية وسايكولوجية تتعلق بمواقف القيادة وعلى كل هي انطباعات شخصية، استقيتها من علاقتي بعامر عبدالله في السنوات الأخيرة ومن تجربتي الشخصية وفهمي الخاص، وهي على كل حال اجتهاد إن أصاب فلنا أجران وإن أخطأ فلنا أجر الاجتهاد حسب الإمام الشافعي .
XII
أما بخصوص مجزرة كركوك فلا تزال آثارها باقية لحد الآن بل تؤرق ذاكرة التركمان، والذاكرة الحقوقية والإنسانية بشكل عام، وليس من الصحيح القول: بعد بضعة أسابيع تم نسيانها كما ورد في التعليق بتسطيح الأمور. دليلي أنه في الذكرى الخمسين لثورة 14 تموز (يوليو) العام 2009 جدّدت مجموعة سياسية تركمانية مطالبها بالاعتذار الرسمي من قبل الشيوعيين العراقيين والزعامات الكردية، عن المجزرة الدامية التي شهدتها مدينة كركوك.
وكما ذكرت العديد من المصادر أن عدد القتلى كان 31 ، أما الجرحى فبلغ عددهم 130 وتم نهب 70 محلاً تجارياً تعود للتركمان، كما تم قصف دار السينما ومناطق أخرى.
المأساة المروّعة في حينها كانت تستوجب ولا تزال:
1- ردّ الاعتبار للضحايا الأبرياء وعوائلهم وتخليدهم وإبقاء الذاكرة حيّة، لكي لا يحصل ما حصل دون ردع أو مساءلة . وقد يؤدي ذلك إلى إطفاء جزء ولو يسير من نار الكراهية والحقد والضغينة والانتقام والثأر والكيدية، وما إلى ذلك تلك التي ترتفع عقيرته اليوم على نحو صاخب ومدمّر، والأمر يتعلق بالمرتكب والضحية على حدّ سواء.
2- اعتذار رسمي من الذين يتحمّلون المسؤولية المباشرة أو غير المباشرة، بمن فيهم من تواطأ وسكت وأخفى المعلومات ولم يقدّمها في حينه للسلطات.
3- تقديم تعويض مناسب بعد جبر الضرر المادي والمعنوي.
4- كنت سأقول كشف الحقيقية كاملة والمساءلة، ولكنني أدرك حساسية الأوضاع وأعمال القتل اليومي، وكل ذلك يتعلق بملف العدالة الانتقالية المعروف في الأدب الحقوقي العالمي، مع التأكيد على إصلاح الأجهزة الأمنية والقانونية والقضائية.
ولا يمكن الاستخفاف بالذاكرة، بالقول "وباتت الاشاعات والمبالغات التي تتحدث عن مظلومية التركمان، الذين ظلموا فعلاً، تنتشر وتصدّق بسرعة". يا لإنسانية هذا الاستنتاج العظيم بخصوص مجزرة رهيبة يصفها حنا بطاطو " إن هولاكو لم يرتكب مثل هذه الأفعال الوحشية ولا الصهاينة فعلوا" وأطلق " إسم الأوغاد وبلا شرف ولا ضمير وأحطّ من الفاشيين" على المرتكبين.
لقد آذت أحداث كركوك المأسوية الشيوعيين، خصوصاً وأنها جاءت بعد أحداث الموصل وفي الجو المشحون سياسياً وقومياً، لاسيّما بعد أن رفعنا شعاراً راديكالياً نطالب فيه بضم الحزب إلى الحكومة بطريقة الضغط الجماهيري من الأسفل إلى الأعلى، الأمر الذي أخاف قاسم والقوى الداخلية والخارجية المعادية للشيوعية، وبالطبع فإنها وجدت في أحداث كركوك مادة دسمة تستطيع أن تتغذّى عليها لآجال طويلة، لاسيّما وأننا كنّا من بين من وجهت إليهم الاتهامات، وهو ما وصل إلى الزعيم عبد الكريم قاسم في مذكرة شاملة آنذاك، وبادر الزعيم إلى إدانتها بخطابه المدوّي في كنيسة مار يوسف ببغداد، مشيراً إلى الفوضويين، ولم يكونوا هؤلاء سوى نحن. وجاءت المجزرة في أجواء منافسة محمومة بين الأكراد والتركمان، ساهم فيها شيوعيون من الأكراد، لكنهم أعضاء في الحزب الشيوعي، بما فيه من بعض أعضاء المنظمات الديمقراطية، المحسوبة على ملاك الحزب.
لا يمكن الاعتداد بشهادتين، أحدهما لمسؤول الفرع الكردي، الرفيق الأمين العام السابق، لأن الحزب أُقحم كطرف في القضية، من خلال عدد من الشيوعيين، والثاني لمسؤول كردي كطرف آخر بالقضية. وكنت في حديث مع الرفيق عزيز محمد أدعوه لكتابة مذكراته، فاعتذر حينها بتواضعه المعهود، بأنه ليس زعيماً ولا قائداً فهو ليس الجادرجي أو محمد مهدي كبّة أو البارزاني أو حتى الجواهري، وإنه مجرد مسؤول مكلّف لفترة معينة في قيادة الحزب. ثم أضاف إنه ليس بكاتب كي يخطّ يراعه ما يريده الناس وما ينتظرونه.
قلت له لكنك مسؤول وأمين عام لأهم وأخطر حزب شيوعي في الشرق الأوسط لنحو ثلاثة عقود من الزمان وعلينا أن نستجلي منك بعض الخفايا والخبايا والأسرار. ماذا حصل بانشقاق راية الشغيلة؟ وبعد الثورة وبشكل خاص أحداث كركوك وأنت مسؤول الفرع الكردي وأحداث الموصل، ثم كيف انتُخبت أميناً عاماً؟ وما هو موضوع خط آب وانشقاق العام 1967 والعلاقة مع البكر وصدام؟ وهل هناك اتفاقات سرّية، ثم تجربة الكفاح المسلح؟ وحتى موضوع الكتابة يمكن حلّه عبر تسجيلات شريط الكاسيت أو الفيديو وهناك من يفرّغها ويحررّها، ولكنه استمرّ في اعتذاره، وحتى اليوم فإن المقابلات والحوارات التي أجراها معظمها دون تفاصيل تُذكر.
لم يقل لنا الرفيق عزيز محمد في شهادته العمومية التي تثير الالتباس أكثر مما تعطي اليقين، من قام بالارتكاب في كركوك خصوصاً وهي على هذا القدر من الاتساع ولأكثر من يوم؟ هل نزلت الهاون من السماء أم أن هناك من استخدمها ثم من هم؟ وأين منظمة الحزب؟ وما هي نتائج تحقيقاتها؟ وهل ثبت وجود أعضاء في الحزب ممن قاموا بالارتكابات؟ وما هي الإجراءات التي تم اتخاذها بحقهم؟ وهل قدّموا إلى السلطات الحاكمة لينالوا جزاءهم العادل، وبعد ذلك ما هي مسؤوليتنا إزاء الحليف البارتي ؟
لا يكفي القول أن القيادة لم تصدر الأوامر، وأنا على يقين بأن قيادة سلام عادل لم تصدر أمراً بهذا الخصوص أو لم يترشح إلى علمي ذلك، سواءً من جانب إدارات حزبية مطّلعة أو مؤرخين مرموقين مثل حنا بطاطو، علماً بأن بعض التركمان كان أعضاءً في الحزب، وإنْ كان العدد محدوداً.
ولكن القراءة السياسية التي لا تحتاج إلى عناء كبير تقول إن ما حصل لنا عقب أحداث الموصل المأساوية وما نجم عنها من تشويه سمعتنا داخلياً وخارجياً، ألحقت إساءة بالغة بتاريخ الحزب، وقد أشرت إلى ما جرى في محكمة الدملماجة وعلى لسان عامر عبدالله العضو المسؤول في المكتب السياسي، والذي كان قد سأل سلام عادل الأمين العام ، فأجابه أن منظمة الحزب ارتكبت مجزرة، وبعد التدقيق والمساءلة مع حمزة سلمان، الذي كان مشرفاً، وكذلك مع مهدي حميد مسؤول المقاومة الشعبية كان الرأي كما هو معروف، إن تعليمات مشدّدة وصلت من م.س استلمها حمزة سلمان من جمال الحيدري. وقد احتفظ حمزة سلمان برسالة م.س على الضد من التقاليد الحزبية وسرّية العمل، لكي لا ترمى المسؤولية على عاتقه، وقام بعرضها على اجتماع اللجنة المركزية بعد بضعة أشهر من مجزرة الموصل 8 آذار (مارس) 1959.
أعود إلى الرفيق عزيز محمد ولو أنني كحقوقي لا أعتبره شاهداً دون أن يعني إنني أوجه اتهاماً له (حاشى) لكن معطيات القضية غير ذلك. يقول أبو سعود " تعرّض الموكب لإطلاق رصاص، ولم تُعرف الجهة التي أطلقت منها ودبّت الفوضى، بل الهستيريا، حتى الآن فقدت السيطرة على الوضع وحدثت انتهاكات وأعمال تصفية ضد التركمان. ولم يكن لنا فيها كمنظمة أي دور، وبالعكس بذلنا ما نستطيع من جهود لحقن الدماء ولم نوفق".
أي كلام عام هذا؟ إذا كان مسؤول الفرع والمشرف على منظمة كركوك لا يعرف من أين أتى إطلاق النار؟ علماً بأن داود الجنابي (العميد الركن) قائد الفرقة الثانية للوحدات العسكرية وهو شيوعي أيضاً بعد نقل ناظم الطبقجلي، كما أن معروف البرزنجي وهو كادر في الحزب الشيوعي وكان سكرتيراً للجنة أنصار السلام وفي الوقت نفسه هو رئيس للبلدية، أمّا مكرّم الطالباني فقد كان متصرّفاً (محافظاً) للواء (محافظة) كركوك، والشهيد نافع يونس سكرتيراً لمنظمة الحزب وعوني يوسف رئيساً للمحكمة (من البارتي) إلى غير ذلك من قيادة الحزب للمنظمات الديمقراطية بمشاركة كردية (البارتي).
وكان مكرّم الطالباني العضو القيادي في الحزب الشيوعي حتى العام 1984 قد شكا من تصرّفات بعض الشيوعيين في المدينة الذين يعتبرونها وكأنها مقاطعة شيوعية وتكهّن بحدوث انفجار للوضع بين الكرد والتركمان وحذّر من تدهور الأوضاع ومن الصدام الذي ستكون عواقبه وخيمة ولا تحمد عقباه بتقرير رفعه إلى قيادة الحزب الشيوعي، طالباً فيه معالجة الوضع ولاسيّما تصرّفات بعض الرفاق التي تسيء إلى سمعة الحزب ومبادئه الإنسانية، (ويسمّيهم بالإسم) معتبراً تدخلاتهم لم تبقِ أي قيمة لرئيس الوحدة الإدارية (والمقصود هو – المتصرف/ المحافظ) وهو ما ورد في مخطوطة مذكرات مكرّم الطالباني والموسومة "الحياة لا تجري دوماً حفيفة ناعمة".
ويذكر محمد محمد أمين دربند فقره يي أن ضباطاً في المقاومة الشعبية ومن الشيوعيين المشاركين في التظاهرة كانوا يحملون الحبال ويلوّحون بها أثناء هتافاتهم كما جاء في مذكراته التي أعدها صدّيق صالح وحسين حسن كريم ونشرت في السليمانية العام 2007 وهو ما كان قد حذّر منه أيضاًَ الشيخ عطا الطالباني مؤكداً ضرورة عدم الإنجرار للاصطدام مع التركمان (لتشويه سمعة حركتنا) .
وفي مذكرات عبد الستار طاهر شريف المطبوعة في كركوك العام 2008 ألقى باللوم على عاتق عبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي، علماً بأنه كان أحد أقطاب الحزب الديمقراطي الكردستاني. وبغض النظر عن الاتهامات المتبادلة فإن السلطة تتحمل مسؤولية في ما حصل خصوصاً في ضبط الأمن والنظام العام وكذلك القوى القريبة منها، دون إهمال دور القوى المناهضة لثورة 14 تموز (يوليو) وتوجهاتها، سواءً على مستوى القوى المحلية الرجعية والمتضرّرة وكذلك شركات النفط الاحتكارية ومن ورائها القوى الاستعمارية.
لعل ما حصل في كركوك لم يكن حادثاً عابراً أو أمراً خاطفاً، بل استمرّ ليومين أو أكثر، وقد رافقه هرج ومرج وأعمال قتل وسلب ونهب وتدمير وسرقة، فأين كانت المنظمة الحزبية والمنظمات الديمقراطية ورفاقنا في الجيش ودوائر الدولة؟ أهذا يصدّق؟ وهل يكفي امرأة تزعم أنها عُذبت وشرعت بالتعرّي أمام الزعيم الذي استثير " وأنه صدّق ما زعمته وألقى خطاباً في كنيسة مار يوسف استخدم فيها نعوتاً قاسية ضدنا".
وقد روى الرفيق أبو سعود ذلك لغسان شربل (مجلة الوسط اللندنية) مختتماً روايته (العام 1992) " ... لا أستطيع أن أنفي ممارسات قد يكون أعضاء أو مناصرون لنا قد ارتكبوها بخلاف موقفنا" ولكن لم يقل لنا من هم؟ وما هي الاجراءات بحقهم؟ وهل سلّموا إلى القضاء لارتكاباتهم خارج القانون؟ وكم عددهم وما هي صفاتهم ومسؤولياتهم؟
وإذا كانت جريمة تقع في وضح النهار وأمام أنظار الناس جميعاً، وفي أماكن معلومة وسكانها معروفين والحزب الشيوعي والبارتي يهيمنان على المدينة، ويستعدّان لمسيرة، حاول التركمان الاستقلال بموكبهم فيها، والرفيق مسؤول الفرع لا يعرف عنها شيء، فكيف لو قعت الجريمة في مكان آخر؟
مثل هذه التبريرات لا تستطيع أن تقنع أي محقق عدلي أو محامي يبدأ حياته لأول مرّة في هذا السلك أو حتى ناشط حقوقي!؟ ولا ننسى أن "اتحاد الشعب" صحيفة الحزب كانت قد شنّت هجوماً ضد من أسمتهم الطورانيين (الرجعيين والأذناب) الذين ولاءهم لتركيا وشركات النفط وحلف السنتو، ونشرت في العدد 147 برقيات باسم ممثلي المنظمات الديمقراطية وجبهة الاتحاد الوطني (الشيوعي والديمقراطي الكردستاني) واللجنة الوطنية لأنصار السلام وهو ما يفسّر بأنه حضّ على العنف ضد التركمان وتشجيع على تهميشهم.
ولعلّ تلك المعطيات دفعت كاتباً من كتاب الحزب الرسميين لعدم تصديق الرواية الرسمية وأعني به عزيز سباهي حيث اعتبر المسألة ألحقت ضرراً بليغاً بسمعة الحزب الشيوعي ولا تزال، ويضيف أن الحزب لم يتخذ منها الموقف الأخلاقي ولا السياسي الذي تتطلّبه، بل أن بعض القياديين تعامل معها بلا موضوعية وبلا شعور بالمسؤولية !
لا أدري ما الذي يريد الحلوائي إثباته، فهذا كلام عزيز محمد الذي لا يستبعد بعض الأعضاء أو المناصرين الذين قد يكونوا ارتكبوا، وهذا كلام سباهي الذي يؤكد مسؤولية الحزب الأخلاقية والسياسية (وتحت هذا العنوان سيكون كلام كثير)، وبطاطو نفسه الذي يتم الاستشهاد كمرجع مهم يؤكد وجود عناصر شيوعية ومن المنظمات الديمقراطية من ساهمت بالمجزرة؟
وللعلم فإن لا عامر عبدالله ولا محاوره يتهمان إدارة الحزب بإصدار تعليمات بذلك، لكن مسؤولية ما حدث تقع على منظمته، ناهيكم على الفرع، وجزء منها يقع على الحزب الذي لم يعالج ذلك ولم يتعامل معها كقضية ذات بعد إنساني، فهو يريد أن ينفي التهمة عنه وكفى، واستمرّ على هذا المنوال طيلة ما يزيد عن خمسة عقود ونيّف من الزمان، في حين أن هناك جوانب إنسانية وأخلاقية فضلاً عن الجوانب القانونية والسياسية التي ترتبط بهذه القضية، وبهذا المعنى فالحزب يتحمّل المسؤولية، خصوصاً إذا لم يتخذ الاجراءات اللازمة بحق المرتكبين، والحديث عن ذلك يطول قانونياً والدخول فيه يشكّل إدانة أكثر مما هو تبرير.
أقول ذلك وليس قصدي إذكاء نار الكراهية وتأجيج الحقد في النفوس، بل وضع حد لهما، فحين يعلن الحزب الشيوعي اليوم اعتذاره عن ارتكابات قام بها أعضاء باسمه أو بحكم موقعهم في الحزب أو في منظماته، فهي قوة له، والقوي هو الذي يعتذر، أما الضعيف فيتهرّب من الاعتذار وقول الحقيقة. إن الاعتذار من جانبنا يستطيع أن يطوي هذا الملف، خصوصاً بالذهاب إلى عوائل الضحايا والعمل على تخليدهم، ويمكنه القول" بغض النظر عمّا حصل، سواءً ساهم فيه أعضاء من الحزب أو من منظماته التابعة، في ظل الشحن القومي والسياسي.. فإننا كحزب نأسف عن ذلك أشدّ الأسف ونقدّم هذا الاعتذار الحار والعلني والصادق للضحايا".
لقد اعترفت قيادة الحزب في العام 1959 على الرغم من أنها كانت في خضم الصراع: إنه من المحتمل أن تكون عناصر مندسّة بين الجماهير قد استثمرت بعض الاندفاعات وساقتها في اتجاهات تدميرية أحياناً ويضيف النقد الذاتي الذي سمّي " بالجلد الذاتي" إن " لجوء بعض الجماهير المتأخرة سياسياً إلى أساليب السحل وتعذيب الموقوفين ونهب الممتلكات والتجاوزات على الحقوق وحريات بعض المواطنين الأبرياء هو أسلوب لا يجمعه جامع الكفاح الثوري الموجّه ضد أعداء الجمهورية. وكانت اللجنة المركزية قد اعتبرت ان ما جرى في كركوك وغيرها من بعض المدن إنما هو "إندفاعات خاطئة" تنمّ عن جزع جماهير الحزب من خسران مكاسبها.
وهذا اعتراف أولي في ظروف الصراع عن خرق القانون واستخدام أساليب العنف والارهاب خارج القضاء، والقيام بممارسة التعذيب ونهب الممتلكات، والتجاوز على الحقوق وحرّيات المواطنين الأبرياء، ومن كان يقوم بذلك؟ عندما سأقول بعض أعضاء المقاومة الشعبية والمنظمات الجماهيرية وأعضاء في الحزب، إضافة إلى التشدّد الذي عرفته سياستنا في تلك الفترة إزاء الآخرين، سينبري الذي يريد أن يتورط الحزب بالمزيد منها ليدافع عن مثل هذه الأعمال التي يعتبرها "دعاية سوداء" أو من صنع أيادي خارجية أو نزلت علينا من السماء بصاروخ، وهذه هي قيادة الحزب وشهدائه "ومؤرخه" الرسمي السباهي يقرّون بها، في حين ينبري الحلوائي للدفاع عنها في معارك دونكيشوتية لا فائدة منها، ويريد أن يكون الأكثر تطرّفاً وولاءً، وقد يكون ذلك لأسباب نفسية، ليعتبر نفسه مرجعاً للشيوعية وللحزب، ويعطي لنفسه هذا الدور غير المعترف به من أحد، باستثناء الجماعة التي تريد له الاشتباك مع الآخرين، في حين هي تبقى متفرّجة.
وإذا كان موقف القيادة حينها غير حازم، فقد يعود إلى التقارير التي وصلته من فرع الإقليم ومن منظمة كركوك وبعض الضباط في قاعدة كركوك، وهم جزء من المشكلة، وتلك مسألة أخرى تحتاج إلى معالجة مستقلة لا مجال لذكرها، وهي جزء من مشكلات الحزب المستديمة.
وأتذكر أن الكاتب والباحث علاء اللامي كان قد اتخذ قبل بضع سنوات موقفاً جريئاً مفاده الاعتذار للضحايا كمطلب غير قابل للتأجيل، وذلك استناداً إلى حنّا بطاطو (الجزء الثالث من مؤلفه بخصوص العراق) والمعنون " الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار" حيث قرّر أن ما يجعل الاعتذار مسوّغاً وممكناً، هو أن الحقائق والوقائع الخاصة بهذا الحدث باتت منشورة ومحققة، على نطاق واسع ومنذ زمن طويل ومنها: مسؤولية عناصر شيوعية وفي المقاومة الشعبية واتحاد الشبيبة الديمقراطي وتنتمي قومياً إلى الأقلية الكردية ضد الأقلية التركمانية العزلاء من السلاح. وبهذه المناسبة فإنني أحييّ موقفه هذا.
لا أدري لمَ يدافع الحلوائي عن أسوأ ما عندنا، في حين إن في سجلنا الكثير من الجمال والحق والشجاعة والخير والوطنية؟ لماذا يترك مواقفنا من الاتفاقيات والمعاهدات الاستعمارية ويتمسك بلوي عنق الحقيقة، عندما يصرّ في قراءة سلام عادل بتفسيره النص بالايقاع الذي يرغب فيه، هو ومن خلفه؟ ثم يذهب ليلطم الخدود كيف يتجرأ الكاتب على تقديم انطباعات عن عامر عبدالله هي غير ما تريد المجموعة المتنفذة، فهؤلاء لا زالوا يعيشون على نار ذلك الصراع وكأننا في العام 1959 دون أن يلحظوا أننا في العام 2014؟
ألم نشجع على حقوق المرأة ومكافحة الأمية وتأسيس النقابات والجمعيات وندافع عن حقوق العمال والفلاحين وندعو للتآخي العربي- الكردي ومع سائر الأقليات كما كنّا نقول، بالطبع بمن فيهم التركمان، ولكن إذا قام بعض الشيوعيين لاعتبارات قومية وآخرين للاعتبارات ذاتها بارتكابات، فلماذا لا ندينهم ونعلن أننا براء عن مثل هذه الأعمال حتى لو ارتكبها رفاقنا؟ ولذلك أستغرب مثل هذا الإصرار في إنكار أخطائنا، بل الاستمتاع بالاستغراق فيها وكأنه لا تاريخ لنا غيرها.
عندما علمت أن الرفيق حميد مجيد موسى البياتي عُيّن مسؤولاً عن ملف المادة 140 من الدستور الخاصة بكركوك والتي هي امتداد للمادة 58 لقانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية أبلغت أحد الرفاق، بأن هذه ورطة لنا وعليه " الاعتذار" عن هذه المهمة، فنحن لم نبرأ بعد من ما حصل في كركوك العام 1959؟ وهل يدرك معنى ذلك؟ وكنت قد كتبت له رسالة عشية احتلال العراق أدعوه لعدم التعاون مع الاحتلال والمشاركة في غزو العراق، وأحتفظ بالرسالة التي سلمتها حينها إلى سلم علي عضو م.س، ولكن يبدو أن ذلك كان مطلوباً منه، ومهما فعلنا فإن أية حدود سنتعاطى بها ستكون في احتكاك مع القوى الأخرى، وسوف لا يقبل علينا التركمان والعرب والكرد، أيضاً في هذه القضية الشديدة الحساسية.
وعندما تم تحويل الملف إلى الرفيق رائد جاهد فهمي، قلت له: عليك الاعتذار عن هذا الموضوع، ستكون في حرج كبير، والمسألة أكبر من حجمنا وطاقاتنا وهي معقدة، حتى أن بيان 11 آذار (مارس) قام بتأجيلها، كما لم يتم البت فيها، في مفاوضات جلال الطالباني مع حزب البعث العام 1984 وكذلك في مفاوضات الجهة الكردستانية مع الحكومة العام 1991. وحتى عشية الاحتلال فقد أصدر مجلس قيادة الثورة قراراً شوفينيياً بحق التركمان والكرد معاً بالسماح بتغيير القومية إلى العربية عند حصول خطأ في سجلات الأحوال المدنية، وليس ذلك سوى محاولة لتغيير الواقع الديموغرافي القائم، وهو ما عملت عليه الحكومة العراقية منذ العام 1970 حين شجعت الآلاف من العوائل العربية للانتقال إلى كركوك مع تقديم تسهيلات في العمل والسكن والامتيازات الأخرى لهم. جدير بالذكر أنني نشرت نص قرار مجلس قيادة الثورة الصادر في 6 أيلول (سبتمبر) العام 2001 في كتابي "من هو العراقي؟" الصادر في بيروت العام 2002.
ولهذا سنفشل وسيفشل كل من يعتقد أنه قادر على الإمساك بهذا الملف، وهو ما حصل فعلاً، حتى الأمم المتحدة لم تستطع أن تقدم حلولاً وسطية. ثم يأتي الحلوائي لينتقد عامر عبدالله لأنه قال نحو عمومي بأن هناك مسؤولية للحزب في موضوع أحداث كركوك، مع أنه لم يخرج عن الخط العام حين أشار إلى دور شركات النفط واستغلال قاسم والقوى الرجعية لها الاّ على نحو مخفف، مثلما يقول بانتقاد السباهي لأنه طرح المسؤولية الأخلاقية والسياسية للحزب، ويمكن إضافة القانونية.
قد يتوصل الخيال الخصب إلى القول إن التركمان قاموا بتفجير محلاتهم وقتلوا أنفسهم وجرحوا هذا العدد الكبير وعاشوا حياة رعب، لأنهم أرادوا أن يجرّبوا كيف هي أفلام هيتشكوك؟.
علينا الاعتذار الشجاع العلني بأن ما حصل نتحمل جزء من مسؤوليته ونطلب من التركمان بقبول هذا الاعتذار ونطوي هذه الصفحة المؤلمة التي يبقى المؤرخون والباحثون هم من يتصدّى لها.
وأقول عن صدق مودّة: لا أدري لماذا يقحم الحلوائي نفسه فيها وينسى إيجابياتنا الكثيرة التي لا ينافسنا أحد فيها، فالمرتكبون كثيرون في السابق والحاضر، إذ لا ينبغي أن يكون الشيوعي متعصّباً إلى هذا الحد، وهدف أي حزب هو خدمة الناس جميعاً، أي إن الجانب الإنساني فيه ينبغي أن يكون هو الأساس. هل علينا أن ندافع عن من يرتكب أو يزوّر الشهادات أو يسرق مال الحزب أو المال العام؟ وجاسم الحلوائي يعرف ذلك وهل نسكت عنه بحجة أنه شيوعي، ولابأس أن يكون بيننا بعض هؤلاء مثلما لدى الآخرين، كما كان يبرر البعض؟
أتذكّر أن علاقتي ساءت ووصلت لدرجة القطيعة مع الحزب، وهي أصلاً متلكئة منذ العام 1964، حين اغتيل سامي مهدي الهاشمي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في 28/9/1968 وهو من القيادة المركزية وكنت معهم في أيام الفاتحة الثلاث، وربما الوحيد من الذين كانوا يعتبروننا على ملاك اللجنة المركزية، وكنت واقفاً جنب أخيه سعدون الهاشمي الذي كان هارباً من سجن الحلّة قبل أشهر، حيث نظمنا سفرة طلابية لجلبه إلى بغداد وأسكناه في منطقة الزوّية بالكرادة.
وكانت القيادة المركزية قد قرّرت الاقتصاص من جماعتنا (ل.م)، حيث توارى الكثير من رفاقنا عن الأنظار، وقد أبلغت الجماعة حينها علينا طرد الشخص المرتكب فوراً، وسأكون غير مسؤول عند السؤال عنه رسمياً، وكان الكثير يستغرب حين يواجهونني وأنا في مجلس الفاتحة وقبلها في الطب العدلي، علماً بأنني لم أكن ضمن المجموعة التي توجّهت لتوزيع البيان، حيث كنت متخرّجاً من الجامعة، وذهبت إلى هناك للحصول على وثيقة دراسية، وعرفتُ بمجموعة من اتحاد الطلبة والحزب جاءت لتوزيع بيان وحصل الاصطدام وكنت في جانب آخر من الكلية، واعتقدت أن ما حصل هو أن أحد رفاقنا تم اغتياله، فتوجهت إلى المكان، وكان سامي الهاشمي مرمياً في أرض النادي والدم ينزف من صدره وفارق الحياة على الفور، وحملناه إلى الباب الخارجي، وكنت سآخذه بسيارتي الفولكس واكن، لكن تاكسي كبير وصل بالصدفة وحُمل إلى الطب العدلي ولحقتهم إلى هناك.
اتضح لي أن ح.ز لم يفصل، حيث إلتقيت به في تظاهرة آذار (مارس) العام 1970 وإنما تم تجميده، علماً بأن القيادة المركزية ردّدت اسمين لا علاقة لهما بالحادث، لاسيّما من رمى، وهو أمر تم تعميمه، أذكر ذلك من باب النقد الذاتي، فقد كان عليّ قطع صلتي التنظيمية بالحزب إن لم يتخذ الإجراء المناسب، حتى لو اقتضى الأمر تسليم المرتكب إلى العدالة. ربما العمر والحماسة آنذاك، لكنني بقيت أحمل في قلبي هذاالوجع إزاء صديق عزيز راح ضحية التهوّر والغدر، فمن المسؤول؟ أليس نحن، علينا القول ذلك علناً والاعتذار لعائلته، وقد سبق لي أن اعتذرت لها في حينها وأدنت القتلة سواء كانوا من ل. م أو من غيرها، لكن هذا الموقف لم يكن كافياً وإن حفظه لي أخ الشهيد سامي. فهل تردينا ونحن في آخر العمر نتخذ غير هذا الموقف؟
كنت قبل نحو عقدين من الزمان قد اعتذرت للأكراد عمّا حصل في حلبجة والأنفال، وكلّ ما حصل ليس باسمنا، وعلى عرب العراق الاعتذار عن تلك المرحلة القاسية التي مرّ بها الشعب الكردي، سواءً ما حصل في الأنفال من عمليات الاضطهاد القومي أو التعريب أو غير ذلك، مما أوغل فيه الحكومات السابقة وخصوصاً في ظل الحكم البعثي، ولم أكن مسؤولاً أو معنياً، لكنني كعربي أشعر بأن اعتذارنا يفتح صفحة جديدة مع الشعب الكردي.
حصل ذلك عندما كان الأكراد "فقراء"، ولم تذهب تلك هديّة لهذا الفصيل الكردي أو ذاك، دون النقد المصحوب بالمودّة، ولكن عندما أصبح الأكراد "أغنياء" وشبه دولة، اصطف بالدور من أخذ يبالغ في ذلك، مضخّماً علاقاته ومواقفه السابقة، وبالمناسبة ودون تبجح فقد استطعت الحصول على ستة قرارات دولية لصالح الشعب الكردي وحق تقرير المصير في منظمات حقوقية متنوعة ومؤتمرات عالمية كبرى وهي منشورة في الصحافة الكردية وفي العديد من المواقع، ولكن في إطار الصراع السياسي الدائر لاحقاً فإن الموقف اختلف، وهناك فارق بين الشعب الكردي وحقوقه المشروعة وبين السياسات التي تخطأ وتصيب وتمثل مصالح بالدرجة الأساسية.
ختاماً أقول كانت وصايا الرفيق فهد تدعو لاحترام المثقفين والمبدعين بمختلف ألوانهم، فما بالك حين يكون مفكراً ماركسياً بوزن عامر عبدالله، وهو جزء مهم من تاريخ الحزب، ولا نستطيع التحدث عن الحزب لنحو ثلاثة عقود من الزمان دون الإتيان عليه، بما له وما عليه أيضاً ونتعامل معه، بمثل هذا الإزدراء والريبة المغلّفة، علماً بأنه كان الأكثر اسهاماً في كتابة وثائق الحزب طيلة تلك الفترات، وكانت بصمته واضحة، في حياة الحزب كلّها اتفاقاً أو اختلافاً.
وبعد إذا كانت جريدة طريق الشعب قد نشرت رسالة جاسم الحلوائي، فجدير بها نشر هذه المطالعة لما هو أبعد وأكثر شمولاً فيما يخص الحزب وتاريخه وحاضره، خصوصاً وأنها تقول أنها تقرّ بالرأي الآخر، ضمن حركة التجديد، الذي بشّرنا بها الحلوائي، مع احترامي للجميع.