احمد زكي : اضحك الصورة تطلع حلوة


دينا وادي
2005 / 7 / 18 - 09:35     

"اتمسكوا باللحظة الحلوة ما تسيبوهاش تضيع من بين ايديكم و اضحكوا من قلبكم " كانت هذه آخر كلمة قالها احمد ذكي لجمهوره و الذي وجدت نفسي مضطرة للدخول في مهرجان الكتابة عنه ليس لكي أحكي ذكرياتي معه فأنا لم يسعدني الحظ للتعرف إليه عن قرب و ليس ايضا لاني اريد ان اكشف سرا من اسراره التي يخبئها مع صديق مقرب اليه ولكن لاني أحببت السينما و عرفت من هو المشخصاتي من وجود اسم احمد ذكي بها .
وانا اكتب هذه السطور وجدت قلمي يقودني للحديث عن الكوميديا وكيف ان احمد ذكي أضحكنا وذكرني بتعريف الفيلسوف الفرنسي "هنري برجسون" للضحك "ان اهم ما يجب ان يلفت نظرنا في عنصر إثارة الضحك هو أن هذا العنصر يجب ان يكون انسانيا " أي انه لايضحكنا سوى الانسان و الانسان فقط وهذا ما فعله احمد ذكي من خلال خمس و سبعين شخصية بالإضافة إلى ثلاثين شخصية في مسلسلة الشهير مع الراحلة سعاد حسني "هو و هي" فكان ان انتزع منا الضحكات من قمة المعاناة و الالم فحقق الهدف الاساسي للكوميديا و هو الترفيه عن النفس وسط كل ما نعانيه من الم او قهر نفسي او اجتماعي الذي عبر به عن حالته الاجتماعية و النفسية فاصبح الممثل الحالة
فاحمد ذكي المولود بعد عدة اشهر من النكبة السياسية للوطن العربي والتي تمثلت في حرب فلسطين و المولود يتيما وأدركته ثورة يوليو طفلا لم يتجاوز الثلاث سنوات و باغتته هزيمة الخامس من يونيو صبيا حتى تخرج من معهد الفنون المسرحية عام 1973 متزامنا مع نصر عسكري جعل منه واقعه إنسانا وصل إلى حد السخرية ممثلا بذلك المصري ابن البلد الذي يستنكر واقعة ويتكيف معه بإطلاق نكتة ضاحكة أو إفيها ساخرا يصبح متداولا فيما بعد بيننا على المقاهي وداخل البيوت ، وهنا أتذكر ما قاله المسرحي الجميل "بريان باركس" من"ان روح الهزلية هي التوتر الشديد الذي يشبه توتر التراجيديا المحكمة "
فاحمد ذكي اتجه الى" انسنة الكوميديا" وتطبيق فلسفته الخاصة بتحويل الكوميديا إلى شخص يشعر و يحس ويتألم و يضحك فيجعلنا نفكر قبل ان نضحك و يتماس هذا مع المشهد الهزلي –التراجيدي بالاساس- الذي قدمة احمد في اول ظهور له في مسرحية هاللو شلبي" بتقديم مسرحية هزلية تتكرر مشاهدها في فصولها الثلاثة و أيضا بتقليده محمود المليجي في مشهد لا يتعدى عشر دقائق بعد أن كان من غير المطروح تقديمه لهذا المشهد ضمن أحداث المسرحية ، لكن الفنان عبد المنعم مدبولي كان له رأي آخر بعد أن رأى احمد ذكي في كواليس المسرحية يقلد بعض الفنانين فعرض علية أن يقدم فقرة هي عبارة عن هذا الجرسون الأسمر المائل للسواد أجعد الشعر الذي يعمل في لوكاندة بها مجموعة من الممثلين و يحاول الحصول على فرصة لان يصبح ممثلا ويأتي هذا ضمن أحداث المسرحية تزامنا مع بداية مشواره الفني لينتزع الضحكات من المتلقي إلى حد الدموع وليبدأ مشواره الفني .
لم يكن احمد ذكي في دوره المأساوي في مسرحية "مدرسة المشاغبين" إلا ولدا فقيرا لا يجد قوت يومه يرتدي الملابس الزائدة من الناظر الذي يفضحه بعد ذلك ،الولد الطيب الذي يجيب على أسئلة المعلمة وفي النهاية ينفجر في الناظر وفي المجتمع بالأحرى .
لم يكن احمد زكي في كل ذلك يسعى إلى نزع الضحكات، فالدور ماساوي تماما كما تذكرون لكنه كان ينتزعها بالفعل لكن بطريقته الخاصة التي بنى عليها تراثه في الكوميديا الذي تركه لنا و نحن نحاول النظر فيه بتأمل والذي ابتعد عن التراث المسرحي العالمي الذي اعتمد عليه الفن المصري الكوميدي مرتكزا بدوره على ركيزتين مهمتين هما تناول صور التركيبات الاجتماعية و السخرية منها و التركيز على النقائض البشرية التي قد تتولد عن هذه التركيبات الاجتماعية أو تتسبب فيها لكن احمد زكي لم يقم بذلك ، فإذا اعتبرنا دوره في "البيه البواب" عبد السميع الصعيدي يدخل في إطار ذلك فإن الضحك الذي كان يملأ قاعات السينما التي تعرض الفيلم لم يكن على شخصية البواب ( كاركتر الصعيدي الغبي) و إنما على الموقف الذي عالجه بخفة دمه فاضاف للشخصية وسخر من طموح الشخصية ، و لكن من منطلق إنساني بحت , أيضا هو لم يعتمد على – حسب الركيزه الثانية- لونه بالرغم من امتلاء المسرح المصري والسينما المصرية بالكاركترات المعتمدة على هذا و بالتالي السخرية من هذا اللون وإنما رددنا معه "يوم الخميس كان بكرة يبقى التلات كان إيه" .
عمد احمد ذكي إلى نزع الكوميديا من تفاصيل الشخصيات التي يقدمها فشخصيته في مسرحية "العيال كبرت" تكاد تكون الشخصية الجادة الوحيدة في المسرحية التي تصنف على أنها كوميديا ، فهو الشاب الجامعي الجاد الذي يصبح فجأة مسئولا عن إنقاذ أسرته من التفكك بسبب نزوة الأب فيحاول وضع الخطط التي تنجم عنها مواقف بينه و بين إخوته في المسرحية "سعيد صالح "و يونس شلبي" يستطيع ان ينتزع بها الضحكات من الجمهور بينما إعتمد الآخرون في نفس المسرحية على إطلاق الإفيهات و النكات في إضحاك الجمهور ليؤكد بذلك على فلسفته التي وضعها منذ بداية مشواره الفني متزامنة مع فلسفته الخاصة ومعالجته لأمور حياته بسخرية شديدة و النابعة من تمثيله لجيل الواقعية في الفن بصفة عامة وفي السينما بصفة خاصة لأنه ابن الواقع الذي جعل مشروعه الخاص(الممثل) يتعامد مع مشروعة العام(الإنسان) ويجعل اختياراته لشخوصه انعكاسا شرطيا لموقفه من الواقع أو موقف الواقع منه , فكان المشهد الافتتاحي لمشوار احمد ذكي مسرحيا كوميديا و أراد أن يوطد علاقتة بالهزل بتجربته مع المخرج احمد فؤاد في فيلم" الاحتياط واجب" و هو صاحب النصيب الأكبر من الهزليات في السينما المصرية و التي أضافت لأحمد ذكي او هو الذي أضاف إليها –التجربة- ملمحا خاصا للأداء الكوميدي
استطاع احمد ذكي أن يقوم بدور "أنور عبد المولى" الموظف المطحون القادم من الأقصر إلى القاهرة و يتورط في مهمة رسمية يخرج لنا منه بأداء مختلفا في فيلم "أربعة في مهمة رسمية" لنكتشف قدرته في نحت شخصياته و اكتشاف قدرته على التعامل مع ثلاثة حيوانات يشاركونه البطولة في الفيلم و التي من المؤكد لم تقم بتنفيذ كل ما هو مكتوب في ورق السيناريو أو حتى خضعت لأوامر المخرج الذي ترك المهمة لأحمد ذكي - المشخصاتي - الذي تحمل مسئولية فيلم تشارك الحيوانات في بطولته للمرة الأولى في تاريخ السينما المصرية ، و استطاع احمد أن ينتزع منا الضحكات من خلال مواقفه وردود فعله وتصرفاته –الغير مكتوبة- مع الحيوانات و ليست مواقف او شخصية انور عبد المولى هي السبب قي تذكرنا للفيلم بل أحمد زكي هو الذي ترك أثرا في الشخصية التي قام بتجسيدها في الفيلم ، و لم يكن يستطع أي مشخصاتي آخر حتى لو كان كوميديانا التعامل مع الحيوانات بنفس الطريقة التي تعامل بل و تآلف بها احمد دون الإخلال بما هو مكتوب في السيناريو و يخص شخصية انور عبد المولى الذي يشبه الكثيرين من المهمشين بل و يشبه احمد زكي نفسه في أحلامه التي تملأه و يريد ان يخرج بها الى دائرة النور فخرج بالشخصية إلى بؤرة المشهد رغم عناد الكاميرا التي كانت تريد التركيز على الحيوانات كتجربة جديدة في السينما المصرية .
لا تفوتني شخصية "الصحفي" في امرأة واحدة لا تكفي و تناوله الساخر لتلك الشخصية التي تعكس فلسفته في الحياة و التي تؤكد اكتفائه بامرأة واحدة و هذا يجعلني أؤكد على اختيار احمد ذكي لشخوصه التي تنعكس بشكل شرطي لموقفة من الحياة فأحمد في (امرأة ....) كان يسخر من شخصية الرجل في هذا الفيلم و انتزع ضحكاتنا بالرغم من أن الفيلم إجتماعي بحت ولا يصنف كوميديا
و منه إلى" المدرس" الذي ساقته الظروف لأن يسكن في حجرة الشيخ سباغ المعروف عنة بركاته وسط طبقات المجتمع الراقي و كان يعاني من الفقر الشديد وسوء الحظ ويتعرض للنصب فيتحول إلى النصب و يبدأ في اللعب بالبيضة و الحجر في فيلم يحمل نفس الاسم ويضيف احمد زكي لهذه الشخصية تفاصيل جديدة لم نرها من قبل في شخصية الدجال المحترف فإذا به دجال يلبس البدلة ويقوم بفرد شعرة الأجعد ليتناسب مع مستواه الاجتماعي الجديد و يلبس السبح و التعاويذ على البذلة البيضاء و نضحك معه من المواقف التي يصطدم بها مع مشاكل نساء الطبقة الراقية و معالجته لتلك المشاكل ولم تفته طريقة كلام هذه الشخصية قبل أن تتحول إلى الدجل و بعد أن تحولت إليه وبعد أن كانت تعلم الأجيال .
إن مضمون هذه الشخصية يعكس معاناة و فشل الطبقة الوسطى في وقت من الأوقات لكننا ضحكنا عليها من شدة إحساسنا بمعاناتها
و هذا يجعلني أدعو لأن يكون هناك مدرسة "احمد ذكي" في فن التمثيل يدرس بها الممثل المبتدئ بدلا من أن نقول له اقرأ كتاب "ستاسلافسكي" في فن التمثيل الذي كان أول من وضع قواعد فن التشخيص للممثلين المحترفين بشكل نظري ، و تذكرت هذا عندما حضرت إحدى الورش الفنية وكانت بعنوان "كيفية إعداد الممثل و توجيهه" و قام بالمحاضرة فيها أحد المخرجين الكبار و تمنيت وقتها أن يحاضر فيها احمد زكي حتى نعرف سر الضاحك أحيانا الباكي أحيانا و الساخر دائما و كيف يفعل هذا بنا عندما نشاهده مرتديا جلباب إحدى شخصياته.
أيضا عمد زكي إلى نزع الكوميديا من تفاصيل شخصية "حسن هدهد" في كابوريا ذلك الفقير العاطل بإستهتاره و عفويته و بتسريحة شعره الغريبة و التي قلده فيها الشباب و سميت بنفس إسم الفيلم و أيضا صعلكته ، جعلنا نضحك في ظل بحثه عن المال بأي طريقة حتى لو قام بالمتاجرة برياضته المحببة إليه و التي يمارسها-رياضة الملاكمة- حتى يجلب المال هى قمة البؤس ووصول الإنسان إلى محطة اليأس الأخيرة حيث يقرر أن يبيع أحلامه بها.
و كل شخصية كوميدية لدى احمد زكي لها أدواتها و شكلها الخاص الذي يرسم به بورتريها لها في أذهاننا لا ننساه حتى طريقة مشيته كان يتحكم فيها حتى يرينا عمق الشخصية و لكن دون استغلال الشكل الغريب أو المشية في انتزاع ضحكة ، و أود هنا أن أشير إلى ان احمد زكي قدم في فيلمه الجميل "مستر كاراتيه" شخصية السايس البسيط الأعرج الذي أضحكنا معه كثيرا و لكن دون أن يسعى هو لذلك لأنه اعتمد على كوميديا الإنسان فمن قمة التراجيديا التي تملأ هذه الشخصية إلى قمة الضحك دون استخدام إفيهات فجة لا داعي لها .
ومسرحية ترويض النمرة لشكسبير و التراجيديا بمفهومها المسرحي العالمي و قمة التناقضات قام أحمد ذكي بدور" عباس" ببشرته السمراء و شعر رأسه المجعد بمواجهة عصمت أو رغدة الشقراء الجميلة الثرية و المسترجلة في" إستاكوزا" و شاهدنا رؤية عربية لنفس العمل من قبل في فيلم ل"رشدي أباظة و لبنى عبد العزيز" الذي لم يكن بينهما تناقض في الشكل أو المضمون لكننا لم نشعر أننا شاهدنا نفس القصة من قبل في السينما المصرية و السبب احمد زكي أو بمعنى أصح روح احمد زكي التي أضافت لعباس الكثير الذي يقوم بدور المروض هنا بعيدا عن أي أداء تمثيلي قام به ،و استطاع أن يطلق من حناجرنا ضحكات و صلت إلى حد الصخب في تفاصيل لا يمتلكها إلا الممثل احمد ذكي الذي يرسم لنا على وجهه انفعالات مركبة بين الذهول و الذعر الذي قد يصل إلى حد البكاء لكننا نضحك على الموقف ذاته من خلال معركة تشابك بالأيدي و الأرجل بينه و بين رغدة و ما يدور بينهما من مواقف حتى إنتهاء الفيلم ونجد أن عباس في إستاكوزا يحاول أن يكمل مفهوم الضحك لدى احمد ذكي و يعتبر فصلا ضمن كتاب يشرح فلسفته و إختياره لشخصياته ووجوهه .
استطاع احمد أن يرسم على وجوهنا ابتسامة في فيلم "أيام السادات" فكان بمثابة حالة خاصة جدا تحاول أن تمسك بابتسامة هاربة من الشاشة السحرية لتلتصق بشفاهنا و نحن نشاهده يشخص الرئيس الراحل أنور السادات في طريقة كلامة التي تنتمي إلى دلتا مصر في مكره وفي شفته الملتوية من أثر البايب ، ليتركنا نتساءل كيف استطاع أن يفعل ذلك .
انتهت فواصل احمد الكوميدية و لكن لم تنته دعوته للضحك فقدم لنا "إضحك الصورة تطلع حلوة" و شخصية سيد غريب التي اعتبرها من اكثر شخصياته فلسفة ، هي لأب يعد الأجيال الثلاثة ضمن أسرة واحدة تمثل الطبقة الشعبية التي تحاول صنع مستقبل افضل لأولادها عن طريق التعليم, فيظهر سيد غريب في الأفان تتر في الفيلم في الأستديو الذي يملكه حيث يعمل مصورا فوتوغرافيا و في لقطات مرحة نجد سيد أو احمد يحاول أن يصفف شعر أحد الزبائن و يحاول إضحاكه ، لا ، بل يجعله يضحك بالفعل في المرآة و من ثم أمام عدسته ليرسم لنا البعد الجوهري للشخصية التي تعمل على أن تبدو صورة الآخرين أجمل ما يكون و بين الكثير من المشاهد التراجيدية في هذا الفيلم ينتزع منا احمد زكي الضحكات فعندما يذهب ليلة زفاف حبيب ابنته حتى يهدم هذا الزفاف حزنا على ابنته المجروحة و المقهورة اجتماعيا بسبب الفروق الطبقية بين ابنته وبين زميلها في الدراسة و حبيبها و عند محاولة إلقائه في حمام السباحة وسط هذا المشهد التراجيدي المؤلم نجد أنفسنا نضحك بسبب تعبيرات و إشارات صدرت عن احمد زكي .
و المشهد الختامي لأحمد ذكي ينتقل بنا من قمة الكوميديا التلقائية إلى قمة التراجيديا ، حيث قرر أن يموت في أقسى أدواره على جمهوره ، و لأول مرة حولهم من الضحك إلى البكاء المر ، و شيئا فشيئا سيتحول هذا المشهد إلى ذكرى ولن تبقى سوى أعماله الجميلة و مشاهدة الضاحكة و أدواره التي سنشاهدها و نضحك و نتذكرها مع أصدقائنا بعد أن أصابتنا حالة هستيرية من البحث عنه , و سنتذكره عندما غنى في "هستيريا"
"إن ماقدرتش تضحك ما تدمعش
ولا تبكيش
وإن ما فضلش معاك غير قلبك أوعى تخاف
مش هتموت
هتعيش ".