العقل الإنساني وعظمته


مجيد البلوشي
2014 / 5 / 2 - 21:32     

العقـل الإنسـاني وعظمـته


بقلم: الدكتور مجيد البلوشي

لقد دأب العديد من الكُتّـاب على الكتابة حول عقل الإنسان وإعطاء صورة سلبية بل ومشوّهة عنه، منها ، على سبيل المثال، مقالة الأخ الأستاذ عمران سلمان في عموده اليومي " موقف " بعنـوان " العقل محدود رغم كل شيء " في جريدة أخبار الخليج بتاريخ 19 / 9 / 1999م ، حيث طرح أموراً عديدة كإبداع الإنسان في مجال تخصصه و " إثارته لإعجاب العالم كله " وعدم اختلافه عن الفرّاش أو الزبّال – حسب تعبيره – في ممارساته الحياتية الأخرى ، بل وسيره مع العامة في تصديق الخرافات والترويج لها ، وكذلك عدم تصديق المواطن الذي كان يعيش هنا قبل مائة عام ما نراه نحن ونعايشه في وقتنا الحاضر ، أو اختلاف شخصين حول خبر نشر في صحيفة ما دون اللجوء إلى الجريدة وقراءة الخبر من جديد …… ، وغيرها من الأمور التي يحاول الكاتب الربط في ما بينها ليصل إلى نتيجة مفادها أن الاعتماد على العقل وحده غير كاف لتحليل الأمور ، وذلك دون أن يعطينا البديل، أي ما هو الشيء الآخر، غير العقل، الذي يمكننا به تحليل الأمور بشكل كاف ؟

والحق أن هؤلاء الكُتّـاب يتطرقون إلى مسألة فلسفية هامة ، بل هي من أهم المسائل الفلسفية ، فهم يتساءلون ما إذا كان العقل قادراً على التمييز بين ما هو صح وما هو خطأ ، و ما إذا كان اللجوء إلى العقل وحده يمكن التوصل إلى الحقيقة أم لا . وهي المسألة الفلسفية المعرفية التي يدرسها طلاّب الفلسفة في الجامعات والمعاهد .

ولا بأس لو ناقشنا هذه المسألة هنا ولو بشكل سريع جداً ، مع أنها مسألة تحتاج إلى صفحات وصفحات . وتُطرح هذه المسألة عادةً على شكل سؤال وهو " هل يمكن معرفة العالم ؟ " أو " هل يستطيع عقل الإنسان أن يتغلغل في أسرار الطبيعة ويكتشف قوانينها ؟ " وقد اختلف الفلاسفة في الإجابة على هذا السؤال، وانقسموا إلى " الأدريين " الذين يردّون على هذا السؤال بالإيجاب، و"اللاأدريين " الذين يردّون عليه بالنفي، بل وانعكس ذلك على الدين – والمسيحية بالأخص – أيضاً حيث قال الغنوسطيون (الغنوصيون) بمعرفة الإنسان كبداية للكمال، ومن ثم معرفة الله بإعتبارها الغاية والنهاية، بينما قال اللاأدريون الدينيون بأن وجود الله وطبيعته وأصل الكون أمور لا يستطيع عقل الإنسان معرفتها أبداً .

ولكن، قبل كل شيء، نسأل: ما هو العقل ؟ ونجيب: إنـه، وحسب التعريف العام ، " مَـلَـكَـة الاستدلال الصحيـح والاستنتاج لدى الإنسـان ، وعرض أفكـاره بطريقة منطقية " . وهـذه " الملكة " هي صفة مميزة لمادة شديدة التعقّد وعالية التطور، ألا وهي المخ الإنساني المتكون من تسعة آلاف مليون خلية والقادر على عكس الواقع الموضوعي المحيط بالإنسان ، وتصويره ، بواسطة الحواس الخمس ( البصر واللمس والسمع والذوق والشمّ ) ، والاحتفاظ بصورته في الذهن الإنساني ، واستعادة هذه الصورة متى ما شاء على شكل ذاكرة وخيال وتصوّر. فالمخ الإنساني لا يكتفي بتصوير الأشياء على ما هي عليه، كما هو الحال مع آلة التصوير الميكانيكية ، بل يتغلغل فيها ويمحصها ليكشف العلاقات الترابطية والسببية فيما بينها ويكوّن أفكاراً عنها ، ويربط بين هذه الأفكار ليتوصل إلى نتائج كُلّيـة وقوانين عامة . أي أن العملية هنا عملية انتـقال من العينية إلى التجريد، أي من الأشياء المادية المحسوسة إلى الأفكار والصور المجردة الموجودة في ذهن الإنسان .

تلك هي وظيفة المخ الإنساني: إنها عملية التعقّـل والتفكير. والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتميز بهذه الميزة . ولأنه كائن اجتماعي أساساً إذ أن عمله الإنتاجي الجماعي يتطلّب قيام المجتمع الإنساني ، فإنه يخلق له لغة يتفاهم بها مع أقرانه وهم أفراد المجتمع الذي يعيش فيه، ويعبّر بها عن أفكاره وتصوراته، ويتبادل معهم أفكارهم وتصوراتهم . وبذلك يتعمق في الواقع أكثر فأكثر، ويكتشف الإمكانيات اللامحدودة لتغييره . فهو هنا يؤثر في الواقع ويتأثر به : فكلما انغمس فيه أكثر ، زادت أفكاره ومداركه ومفاهيمه، وتوسّعت لغته.

ولا يكتفي الإنسان بمجرد حمل الأفكار والصور، التي يستمدها من الواقع، وحفظها في ذهنه ، بل انه يعبث بها ، وقد اصبح مالكها ، ويفعل بها ما يشاء ، شأنه في ذلك شأن تعامله مع الواقع نفسه ، وذلك على شكل تخيلات وتصورات، قد تكون شبيهة بالواقع أو مزيّفةً له ، بل يحاول تجسيدها وإيجاد مثيلاتها في الواقع المحيط به . فيتخيل أشياءً وكائنات لا وجود لها ثم يرسم صوراً لها على جدران الكهوف أو على الورق ، أو ينحت تماثيل من الحجر أو الرخام تشبهها . فيتخيـل فرساً بجناحين يطير بهما (بيغاسوس مثلاً) ، أو أسداً رأسه رأس إنسان (أبو الهول مثلاً) ، أو إنساناً ذا قوة خارقة (سوبرمان مثلاً). ليس ذلك فحسب، بل وأخذ يعبد مثل هذه المخلوقات، التي تشبه الإنسان أو تجمع بين الإنسان والحيوان في الصفات المبالغ فيها، ويعتبرها آلهة يقدّسها ويقدم لها القرابين. فها هم إخواننـا الهندوس، مثلاً، يعبدون إلهـاً خـارق القـوة، يسمى "هنومان" ، جسده جسد إنسان ورأسه رأس قرد ، ويستطيع الطيران في الجو بدون أجنحة ، كما يستطيع أن يطوّل ذيلـه كما يشاء ويلفّ به أضخم الأشجار ويقلعها قلعاً وفقاً لكتب الهندوس المقدسة. وهناك أيضاً الإله "غنبـتي" أو "غنيش" بأياديه الأربع وبرأس الفيل بخرطومه الطويل. وغير ذلك من الآلهـة التي تنتشر معابدها في جميع أرجاء البلاد ، وتقام لها الطقوس والشعائر المختلفة بجانب الأعياد والمناسبات الدينية ، كما تدور حولها مختلف القصص والحكايات المليئة بالمعجزات التي يتم تلقينها للأطفال منذ نعومة أظافرهم، وإقناعهم بأنها حقائق مطلقة، بل ويتم تدريسها في المدارس والمعاهد الرسمية وغير الرسمية، وبمختلف الوسائل، وبالترغيب والترهيب، فتترسّخ في أذهانهم ترسيخاً من الصعب، بل من المستحيل أكثر الأحيان، التخلّص منها واعتبارها مجرد تخيلات وتصورات من صنع عقل الإنسان ولا وجود لها أصلاً. فلا غروى في أن نجد هناك الملايين من الناس الذين يؤمنون بمثل هذه الآلهـة إيماناً مطلقاً، ويستميتون في الدفاع عنها. وبين هؤلاء الملايـين يوجد العالم والعبقري والمثقف والفنان والمتخصص في هذا المجال أو ذاك، بجانب الفرّاش والزبّال، مع العلم أن هناك أناساً آخرين يعتبرونها مجرد أساطير وخرافات. فالمسألة هنا ليست مسألة ما إذا كان العقل قادراً على التمييز بين ما هو صح وما هو خطأ ، كما أنها ليست مسألة ما إذا كان اللجوء إلى العقل وحده يمكن التوصل إلى الحقيقة أم لا ، وإنما هي مسألة اعتقاد وإيمان. أي أنها مسألة اعتقاد الإنسان بهذه الكائنات والإيمان بوجودها، وذلك دون برهان أو إثبات. فهو إدراك خيالي يتميز به العقل الإنساني وحده بجانب الإدراك الحسّي الذي يشاركه فيه بعض الحيوانات الأخرى.

ولا شك في أن الإنسان، باعتباره صاحب العقل والفكر، يستطيع أن يتحكم في مدركاته الحسية والخيالية ويميز الصحيح منها وغير الصحيح، ولكـن قد يكون "غير الصحيح" هذا ، أو "المدرك الخيالي" ، أو الكائن الخرافي، ما يطمئنّ به القلب ويرتاح له البال ويميل إليه الوجدان، إن جاز التعبير، وهو بصورته الخيالية، خاصةً عندما يتم الترويج له بصورة واسعة وانطلاقاً من مصالح طبقية وأسباب اجتماعية ومآرب سياسية وغيرها. وطالما أن الأمر كذلك، فإنك تجد الكثيرين من الناس، بمن فيهم "عالم الفيزياء والطبيب والمهندس والفلكي" وغيرهم، يؤمنون بوجود تلك الكائنات الخيالية، ويسيرون مع " العامة في تصديق الخرافات والترويج لها " .

ولأن العقل نتاج لإنعكاس الواقع الموضوعي، الطبيعي والإجتماعي، المحيط بالإنسان، فإنه لا ينبغي الإستغراب من عدم قدرة الإنسان العائش هنا، قبل مائة عام أو خمسين عاماً ، على إدراك وتصديق ما يحيـط بنـا نحن الآن في هذا القرن الحادي والعشرين بكل ما فيه من التطورات والإنجازات الإنسانية الهائلة، مع أن هناك اُناساً قد تخيلوا وتنبّأوا بوجود الكثير من الأمور والأشياء التي نجدها اليوم ولم تكن موجـودة في زمانه. فها هو الكاتب الإنجليزي هربرت جورج ويلز، مثلاً، يكتب في روايته العلمية " رحلة إلى القمر" عن نزول الإنسان على القمر قبل ما يزيد عن خمسين عاماً وقبل أن تطـأه فعلاً أقدام نيل آرمسترونغ وزميله إدوين ألدرين، وهما أول رجلين يمشيان على سطح القمر، عام 1969 .

ثم من قال لك أن العقل، أو الإنسان العاقل، "يفشل في التعاطي" مع أي أمر جديد يعرض له غير تلك الأمور المحيطة به؟ إن الوضع عكس ذلك تماماً. فالعقل الإنساني يتعاطى مع الأمور الجديدة في كل حين ولحظة وبنجاح تامّ. وما الإكتشافات – وهي أمور جديدة – والإنجازات العلمية الهائلة التي أحرزها الإنسان حتى الآن في مختلف المجالات إلا دليل على ذلك، إنها دليل على قدرة الإنسان صاحب العقل الجبار على الخلق والإبداع والإختراع، أي إيجاد الجديد بإستمرار. فهو لا يكتفي بأن ينظر إلى الأشياء كما هي، بل انه يسبـر غورها ويكتشف ما بداخلها ليتوصل إلى حقيقة أمرها. فلم يكتف بأن ينظر إلى الماء، مثلاً، كسائل لا لون له ولا طعم ولا رائحة، بل تعمّق فيه ودرسه وإكتشف أنه يتكوّن من ذرتين من الهيدروجين وذرة واحدة من الأكسجين. ليس ذلك فحسب، بل سبر غور الذرة نفسها، فإكتشف أنها تتكوّن من بروتونات موجبة الشحنة، تدور حولها إلكترونات سالبة الشحنة بجانب النيوترونات المتعادلة كهربياً، ناهيك عن البوزيترونات التي تعادل كتلتها كتلة الإلكترون. وهي أمور يعرفها طُـلاب المدارس جيداً. وتلك هي قدرة العقل على معرفة الحقيقة ، حقيقة الأمور الواقعية.

ولا يمكن تشبيه العقل – والأصح الدماغ أو المخ الإنساني – بالعين أو بأي جزء من أجزاء الجسم إطلاقاً . ذلك لأن المخ الإنساني، أي الجهاز العصبي المركزي، هو القائد الأعلى لهذه الأجزاء جميعها، وهو المتحكم فيها. فلولا المخ لما كانت العين ترى، وما كانت الأصابع تلمس وتحس، وما كانت الأُذن تسمع، وما كان اللسان يتذوّق، وما كان الأنف يشمّ … بل وما كان القلب يدق ويغذّي أعضاء الجسم، بما فيها المخ نفسه، بالدم. نعم ، القلب يقوم بذلك ولكن بإيعاز من المخ نفسه.

فالمخ ، حاوي العقل، هو الإنسان. والعقل ، بالنسبة للإنسان هو كل شيء، وبه هو عظيم .


الدكتور عبدالمجيد حسن البلوشي
[email protected]