هزيمة القبح


فريدة النقاش
2014 / 4 / 30 - 08:43     

حدثتني الصديقة العزيزة والمخرجة الفنانة “إنعام محمد علي” بمرارة عن رؤيتها لتدهور مستوي الدراما التليفزيونية، لافتة النظر لأن الانشغال العام بمستقبل السينما ومستواها حجب عن الأنظار وعن الوعي المجتمعي حقيقة الكارثة التي تتعرض لها الدراما التليفزيونية، والدراما التليفزيونية أعمق وأوسع تأثيرا بها لا يقاس من الأفلام السينمائية رغم تأثير الأخيرة.

وتتعدد الأسباب التي أدت إلي هذا التدهور الذي هو في المقام الأول بعض حصاد التدهور المجتمعي العام الناتج عن زواج الفساد والاستبداد علي مدي أكثر من نصف قرن، ثم كانت كارثة الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية القائمة علي سياسات الليبرالية الجديدة، ومن المعروف أن الليبرالية الجديدة ألحقت أذي وضررا فادحا بكل البلدان التي جري تطبيقها فيها بما في ذلك البلدان المتقدمة صناعيا، وإن كانت القاعدة الصناعية الكبيرة والقديمة في هذه البلدان قد شكلت حماية لاقتصادها، كما أن الحريات العامة التي انتزعتها الجماهير الكادحة شكلت رافعة لها للدفاع عن حقوقها التي جري مع ذلك إنتهاكها علي نطاق واسع خاصة الحقوق الاجتماعية.

وعرفت التجربة المصرية في تطبيق سياسات الليبرالية شكلا خاصا بها قام علي الليبرالية الاقتصادية والشمولية السياسية، مما قلص من قدرة الجماهير علي الدفاع عن نفسها أو انتزاع حقوقها، وتضررت الصناعات الهشة وعلي رأسها صناعة السينما في مصر رغم عراقتها، وكانت هذه الصناعة قد ازدهرت في ظل الدعم الواسع الذي قدمته الدولة لها في الستينيات في ظل القطاع العام.

أما من مرحلة تأسيس هذه الصناعة في بدايات القرن العشرين فقد لعبت الرأسمالية الوطنية دورا أساسيا في إطلاقها وتمويلها وأصبحت بذلك المورد الثاني للعملة الأجنبية بعد صناعة الغزل والنسيج.

حدث ذلك كله قبل نشأة التليفزيون وتطور الدراما التليفزيونية لتحتل مكانا مهما في الحياة الفنية والثقافية للبلاد، وبرز في هذا السياق كتاب موهوبون أخذوا يسطرون مواهبهم مع انتشار أعمالهم التي عالجوا فيها كل القضايا الأساسية في حياة البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية وارتبطت الملايين بشخصيات هذه المسلسلات.

ومع الليبرالية الجديدة التي جعلت من الربح والمنفعة أساسا وحيدا للعلاقات الإنسانية شاعت مفردات الثقافة التجارية الاستهلاكية وأخلاقها، وانجذبت جماهير غفيرة إلي هذه الثقافة بسطحيتها وكل ما تنطوي عليه من لا معني ورسائل سلبية، وأصبحت هي بالتدريج ثقافة سائدة دفعت إلي الخلف بالثقافة الوطنية الديمقراطية، وقلصت من قدرتها علي تشكيل الوعي الوطني والحس الطبقي.

وأضافت هذه الثقافة لقوة الرجعية الحاكمة والتخلف المجتمعي، إذ ساهمت في ترويج الحل الفردي والنفور من العمل الجماعلي واعتبار الفقراء مسئولين عن فقرهم، واستبعاد السياسة باعتبارها عملا لا جدوي منه خاصة بعد أن أصبح تزوير الانتخابات شبيها بمبدأ ثابت مع تجذر الدولة البوليسية في حياة المجتمع الذي أخذ يتفكك.

وجاءت ثورة 25 يناير 2011 بعد انفجار التناقضات الاجتماعية التي تجاوزت قدرة المصريين – الصبورين بطبعهم – علي الاحتمال، وتقدم الشباب صفوف الثورة وقد ألهمتهم الثقافة الهامشية الجديدة من الموسيقي والمسرح والأغنيات والأشعار والروايات.

وهي الثقافة التي فعلت فعلها علي مهل وكونت وعي هذه الأجيال الجديدة وغذت طاقتها الإيجابية فقدمت للعالم درسا في الدور الفاعل لهذه الثقافة الهامشية.

وعجزت السينما والدراما التليفزيونية عن ملاحقة هذا التطور الجبار في ثقافة جيل الثورة ومصادر إلهامه الوطنية والعالمية، وتواجه هذه القضية الأجيال الجديدة من الكتاب بعد أن رحل عن عالمنا بسرعة إثنان من أكثرهم موهبة والتزاما هما أسامة أنور عكاشة ومحمد صفاء عامر، وبقي صامدا من جيل هؤلاء العمالقة “وحيد حامد” ليقدم أعمالا مهمة تضع بصمته علي الدراما التليفزيونية وتفتح أمام الأجيال الجديدة أبواب المستقبل.

ويخرج من قسم السيناريو في معهد السينما عشرات الكتاب كل عام تلقي الأزمة بغالبيتهم إلي البطالة، بينما تتراكم في أدراج الرقابة عشرات المسلسلات، ومع ذلك يبتكر المؤلفون الجدد الطرائق للخروج من الأزمة، ومن هذه الطرائق تنظيم ورشات عمل للكتابة الجماعية كما فعلت “عزة شلبي” في مسلسل “قانون المراغي” وكما يفعل عبدالرحيم كمال في استلهام التاريخ.

ومن جديد تبرز ملامح قوية لثقافة هامشية تخاصم السائد وتطيح بقيمه وجمالياته، وتؤسس لتيار جديد يشق لنفسه بصعوبة مجري في الحياة الثقافية وينهل من منابع الثورة التي أطلقت كل ما في المصريين من قوة وجمال ومن ضعف وقبح وكأنها مرآة للتناقضات.

ويبقي أن دورا محوريا ينتظر الدولة المصرية لكي تنهض بكل من السينما والدراما التليفزيونية معا، يستحيل بناء سياسات جديدة تستجيب لحاجات المصريين بعد الثورة دون ثقافة جديدة، ثقافة نقدية تخاطب العقل والوجدان وتبعث برسائل إيجابية تمحو الآثار المدمرة لثقافة اللامعني والقبح وتهزمها.