في مقولة الصدفة والضرورة


سنان أحمد حقّي
2014 / 4 / 26 - 16:15     

المقولة نعني بها فلسفيا ( Essay ) وهناك كما هو معروف وسبق لنا ذكره مقولات تطرحها النظريات الفلسفية كتطبيقات لها ولمنطقها الأساسي الذي تحاكم به نظريتها ومقولاتها ومن هذه المقولات مقولة الصدفة والضرورة وقد يحمل كثيرون معنى الصدفة على معانٍ عدّة ولكننا هنا نعني ما يُقابل Chance وهي المصادفة أو الخروج عن سياق محدد أي بالضبط كالحصول على رقم ( شيش أو كما يقول العوام يجيب نقش) من خلال إلقاء زهر النرد ولو لمرة واحدة أو أي رقم مرغوب آخروأمّا الضرورة فهي اليقين في الحصول على خيارٍ ما كخيار النهار أو الليل أو القمر أو الشمس فالعاملون في الأنواء الجويّة وفي الشأن الفلكي العلمي يقولون لنا أن الشمس ستشرق غدا في الساعة كذا وبالضرورة تشرق الشمس لأن هناك ما يؤيّد تقديرهم هذا بالعلم والتجربة وهو ما قدّمه أهل الفلك طوال سنين وقرون عديدة فهو أمر يقيني وهناك علاقة ديالكتيكيّة أو جدليّة بين الصدفة أو المصادفة وبين الضرورة فلو إستمرت الشمس تشرق يوميا وفق الجداول التي وضعها الفلكيون فهذا أمر يقيني وسيحصل بالضرورة ولكن ماذا لو ضرب أحد النيازك أو الأجرام أحد الأجرام الأخرى على مقربة من مجموعتنا الشمسيّة وحصل تدافع بين الأجرام نتيجة الإصطدام وتأثّر مسار مجموعتنا مثلا وبالتالي حركة الشمس والكواكب التي تنتمي للمجموعة المذكورة عند ذلك سيتغيّر الجدول وسيتحتّم على الفلكيين أن يعدّوا جداول أخرى وستشرق الشمس في مواعيد مختلفة عمّا ألفناه طيلة ألوف السنين وهذه مصادفة أخرجت الحركة وبالتالي شروق الشمس عن مواعيدها المعهودة وليس لمثل هذه المصادفات من جداول أو توقعات معروفة لأنها بكل بساطة قد تحصل وقد لا تحصل وكل مصادفة لا شك لها تأثير على المواعيد التي كانت سائدة قبل حصول المصادفة فقد أدّت إلى تغييرها كما أن تراكم حصول الضرورات تلك من شأنه أن يؤدّي إلى حصول مصادفات محتملة على مديات غير منظورة ولكنها ممكنة فحتى بغير حصول إصطدام مفترض كما أسلفنا فإن الأرض نفسها دائمة الحركة بإتجاهات مختلفة وتتأثّر بحركة بقية الأجرام ونجد أن محورها أو محاورها متغيّرة فالقطب الشمالي لم يكن مكانه طول عمرها بل إنه يُغيّر إحداثياته بمقدار دقيقتين تقريبا كما هو معروف وأن القطب كان فيما مضى في منطقة في الجنوب أو في مكان ربما يكون في أقرب ما يكون من خط الإستواء الحالي وهذه أمور معروفة وبديهيّة في دراسة محاور الكرة الأرضية والفروق بين الشمال الجغرافي والشمال المغناطيسي ومقدار الإنحراف السنوي
لقد إنشطرت هذه المقولة في السنوات الأخيرة إلى مقولات متعدّة منها مقولة تربط الإحتماليّة بدلا من الصدفة أو المصادفة وبين اليقينيّة بدلا من الضرورة وقد أخرج بعضهم مقولةً أخرى تربط بين الإحتماليّة والعليّة بعلاقة جدليّة أو ديالكتيكيّة ، وبودي أن أنوّه إلى أن هذه المقولات هي نتاج المنطق الجدلي أو الديالكتيكي الذ أخرجه العالم والفيلسوف ورجل الدين هيغل المعروف والذي بنى على منطقه كل من كارل ماركس وفردريك أنجلز نظريتهما المعروفة بالماديّة الدايلكتيكيّة ويجد القارئ أن أهم ما تم كتابته فيها كتاب الحائز على جائزة نوبل للأحياء مونود وعنوانه : Chance & necessity والذي عرض فيه أفكاره التي وجد فيها أن جميع ما حصل للأحياء من تطوّر إنما حصل بسبب المصادفة ويوجد كثيرون يُخالفونه رأيه هذا ومن جملتهم عدد ممن يرون أن هناك علاقة بين إرادة عليا أو علمية غير معروفة وبين حصول المصادفات وهم يُحاولون أو يعملون على هذا ويؤيّد بعض المؤمنين هذا الإتجاه وبالمناسبة فكما ذكرنا آنفا أن هيغل نفسه كان مؤمنا بل رجل دين ولهذا فإن منطق الدايلكتيك لا يتعارض مع كل من النظريتين الماديّة ولا المثاليّة ويُقدّم بعضهم نصوصا قرآنيّة بهذا الإتجاه أو أمورا فقهيّة إسلاميّة حول التحوّل والتطوّر والتغيّر ويضربون بالخل والخمر مثلا فنقيع الكروم أو التمور لمدة تقل عن أربعين يوما لا تحرم على المسلمين لأنها من باب صنع الخل ولكنها لو زادت على ذلك فإنها ستصبح خمرا وهي حرام على المسلمين فالذي حرّم نقيع الكروم هنا هي مدّة التخمير أي أن الأشياء تتجدّد وتتحوّل باستمرار وما كان حلالا يُصبح حراما وهكذا وهذا هو مضمون العلاقات الجدليّة أو الدايلكتيكيّة كما هو معروف
إن القول بأن المصادفات هي أساس عمليّة التطوّر في الأحياء رأي قد يكون متطرفا لأن هناك سلسلة في المصادفات تحصل من حولنا ويوميا وكثيرا ولو عملنا حصرا لأي مصادفات وافترضنا إمكانيّة وصفها وتحديد حركتها فإن حصول تغيير في تلك الجداول يمكن أن يحصل عليه تغيير أيضا أي كأن الأمر يمكن تمثيله بسيارة أو قطار يتحرّك بسرعات متغيّرة لأسباب الوقوف والصعود وكذلك بتعجيل متغيّر أيضا حسب ظروف غير متوقّعة ولا يمكن حصرها .
ومن جهة أخرى فإن الإحتمالات تتحكّم بكثير من الظواهر الفيزيائيّة أيضا إذ يقول أحد علماء الفيزياء في برنامج تلفزيوني أنه لو إفترضنا أن الذرة بحجم كاتدرائية كبيرة فإن الألكترون لن يتجاوز حجم ذرة غبار بالنسبة لها وضمن حدودها وهذا يعني بالتأكيد أن تصادم أي مكونين ذريين سيكون من قبيل المصادفة فعلا إذ كيف يمكن أن نتحكّم بهما وهما بهذا الحجم الصغير جدا في هذا الهيكل الضخم والكبير جدا ولهذا فإن تصادم الألكترون بالبوزيترون على سبيل المثال يُصبح من الصعوبة بمكان وكأنه ضربة حظ أو أكثر ندرة ويحق للعالم مونود أن يعتبر مثل هذا الحوادث مجرد مصادفات محضة ولكن في الحقيقة إن هذه المصادفات بعد سنين من البحث المتواصل ربما تظهر دوافع داخليّة ومؤثرات تتحكم في حصولها أو توجيهها فهي محكومة بقانون أو مجموعة قوانين المنطق الدايلكتيكي الثلاث المعروفة وأن التراكم الكمي سواءً كان طبيعيا أو مقصودا سيؤدي إلى تحوّل نوعي طال الزمن أو قصر وعند حصول أي تغيّر نوعي في مجمل هذه المصادفات فإن الحركة وتصرف المادة بالمعنى الفلسفي سيُحافظ على قوانين الضرورة بشكل آخر بعد التحولات المذكورة إلى أن تحصل مصادفات أخرى وكل من الصدفة والضرورة لا تخرج تصرفاتهما عن قوانين الديالكتيك المعروفة أي أن المصادفة ترتبط مع الضرورة بعلاقة وحدة وصراع الأضداد وكذلك بقانون نقض النقيض كما أفادنا الأستاذ الجليل الدكتور إبراهيم ميزر عندما ضرب لنا مثلا بالتقاء الألكترون بالبوزيترون وكيف أنهما ينفيان بعضهما ولكن ينتج لنا الفوتون الذي ينفي كلا منهما وينقضهما
إن العلماء الكبار الذين يسلطون الأضواء على حركة المادة الحيّة يلمسون صدق قوانين الجدل بوضوح تام ولكنهم غير قريبين من النظرية الفلسفيّة بأبعادها الفضفاضة لأسباب إجتماعيّة ولهذا نجد أن منجزاتهم كثيرا ما تؤيّد منطق النظرية الماديّة الدايلكتيكية بل تبرهن عليها دون قصد منهم ولهذا يُفضّل إطّلاعهم على الأدب الفلسفي الخاص بالنظرية المادية الدايلكتيكيّة بالخصوص للإفادة من جوهرها العلمي ومنطقها الرصين
إن الصدفة والضرورة كما رأينا مقولة مثل جميع مقولات المادية الدايلكتيكيّة تنطبق عليها جميع قوانين المنطق الدايلكتيكي الثلاث وهي أي العلاقة مستمرّة ومتواصلة ويمكن إعتبارها أحد أسباب أو محرك من محركات التطوّر والتحولات الماديّة والإجتماعيّة أيضا
وإذا كان لمونود أن يُخطئ في نظريّته فإنه لم يُعالج المصادفة والضرورة على أسس المنطق الجدلي بل بشكل أحداي النظرة ولهذا وجد أن المصادفة هي أساس كل ما جرى ويجري للأحياء في حين أنهما يتبادلان التأثير على الدوام
وللحديث صلة والسلام عليم