هل يوجد فعلاً إعجاز علمي في القرآن؟ (2/2)


مجيد البلوشي
2014 / 4 / 19 - 22:16     

هل يوجد فعلاً إعجاز علمي في القرآن؟ (2/2)

بقلم: الدكتور مجيد البلوشي

نستكمل هنا موضوع "الإعجاز العلمي في القرآن" الذي يحاول أصحابه ربط الآيات القرآنية السرمدية الثابتة بمعطيات العلم القابلة للتغيير والتبديل وفقاً للأبحاث والاكتشافات الجديدة والمتجددة باستمرار ربطاً ديماغوجياً غير موفق البتة، ومن هذه الآيات ما يلي:
1- " وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُوْنَ ". (سورة "الأنبياء"، الآية 30)
يقول أصحاب "الإعجاز العلمي في القرآن" عن هذه الآية بـ" أن العلم الحديث أثبت أن أي كائن حيّ يتكون من نسبة عالية من الماء، وإذا فقد 25 % من مائه، فإنه سيقضي نحبه .... فمن أين لمحمد (ص) بهذه المعلومات الطبية؟".

أولاً: نريد أن نسأل أصحاب "الإعجاز العلمي في القرآن": ألـمْ يكُن الإنسان يعرف - عبر تاريخه المديد – وقبل الإسلام بملايين السنين - أن الماء ضروري لحياة الكائنات الحية، النباتية منها والحيوانية؟ ألـمْ يكُن أول عمل جسدي يقوم به لإنتاج الخيرات المادية الضرورية لمعيشته هو زراعة النباتات، بعد الاعتماد على جمع وأكل ما هو موجود في الطبيعة من نباتات وثمار مختلفة، وثاني عمل جسدي يقوم به هو تربية الحيوانات والدواجن ...، بعدما تعرّف على فوائدها الغذائية والعملية المختلفة، وذلك وفقاً لمعطيات علم تاريخ الإنسان anthropology؟ علماً بأن كلا العملين يعتمدان على الماء أساساً، أي الريّ والسقي. ليس ذلك فحسب، بل أن الديانات "السماوية"، ومنها الإسلام، تؤكد على ذلك بسرد حكاية إبنَـي آدم، وهما قابيل وهابيل. فالأول "تخصّص" بزراعة النباتات، بينما "تخصّص" الثاني بتربية الماشية، فلا بدّ وأنهما عرفا أهمية الماء وضروريته لمنتوجاتهما. ولن نناقش هنا مسألة: لماذا لم يقبل الله القربان الذي قدمه قابيل له، وهو ثمار زرعه، فلعنه، في حين أنه قبل قربان أخيه وهو من سمان غنمه؟ أما الديانة الهندوسية، التي سبقت الديانات "السماوية" بآلاف السنين، قد خصصت إلهةً خاصة للماء هي الإلهة غانغا (جانجا) Ganga التي يناديها إخواننا الهندوس بـ"الاُم غانغا" Ganga Mayya, Ganga Maan، وذلك للدلالة على أهمية الماء للحياة: حياة الإنسان والحيوان والنبات.
ونكرر السؤال: ألمْ يكن الإنسان يعرف أهمية الماء وضروريته لحياة الكائنات الحية إلاّ بعد أن جاء القرآن بآيته القائلة: " وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ" ، وبعد أن أكد عليها العلم الحديث بنسبته المئوية حسب ما يدعيه القائلون بـ"الإعجاز العلمي في القرآن"؟

ثانياً: نريد أن نسأل أصحاب "الإعجاز العلمي في القرآن" سؤالاً آخر هو: أما سمعتم عن البكتيريا اللامائية أو البكتيريا الكارهة للماء hydrophobic bacteria التي تخلو أجسامها من الماء، بل لا تستطيع العيش في الماء إطلاقاً، وهي كائنات دقيقة حية بلا شك؟ أليست هذه الحقيقة العلمية تدحض مفهومكم للآية القرآنية القائلة " وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ ..." [لاحظوا التعميم في كلمة "كُلّ"] وأنتم تتباهون – متوهمين – بأن الآيات القرآنية تدعمها معطيات العلم الحديثة؟
فالقول بأن الآية المذكورة (" وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) تندرج في ما يُسـمّى بـ"الإعجاز العلمي في القرآن" ليس صحيحاً البتة.

2- " وَالسّمَاَءَ بَنَيْنَاهَا بِأيْدٍ وَإنَّا لَمُوْسِعُونَ ". (سورة "الذاريات"، الآية 47)
يقول أصحاب "الإعجاز العلمي في القرآن" بأن العلم قد أثبت أن السماء تزداد سعة باستمرار، حسب الآية المذكورة".
وتلك حقيقة علمية لا شك فيها حتى الآن – ونقول "حتى الآن" لأننا نؤمن بأن هناك "حقيقة نسبية" و"حقيقة مطلقة" فلسفياً– ولكن هل عبارة " وَإنَّا لَمُوْسِعُونَ" تعني فعلاً أن السماء تزداد سعة باستمرار كما يقول العلم الحديث؟ وماذا يقول مفسرو القرآن عن هذه الآية؟ فلنرَ ما يقوله إثنان منهم:
يقول ابن الكثير: "وإنا لموسعون" أي قد وسعنا أرجـاءها فرفعنـاها بغير عمد حتى استـقرت كما هي." [1]
ويقول الطبرسي: ""وإنا لموسعون" أي قادرون على خلق ما هو أعظم منها، عن ابن عباس. وقيل: معناه وإنا لموسعون الرزق على الخلق بالمطر، عن الحسن. وقيل: معناه وإنا لذوو سعة لخلقنا أي قادرون على رزقهم، لا نعجز عنه، فالموسع: ذو الوسع. والسعة أي الغنى والجدة. " [2]

فهل كان مفسرو القرآن الأفاضل مخطئين في تفاسيرهم وهم أقرب إلى عهد الإسلام وأكثرهم إخلاصاً له من غيرهم؟

والشيء الملفت للنظر هنا أن أصحاب "الإعجاز العلمي في القرآن" يركـّزون على الجزء الأخير من الآية عمداً وهو "وَإنَّا لَمُوْسِعُونَ"، ويغضون النظر عن الجزء الأول من الآية وهو "وَالسّمَاَءَ بَنَيْنَاهَا بِأيْـدٍ"، ذلك لأن عبارة "بَنَيْنَاهَا بِأيْد" تُثير مشكلة دينية-فلسفية كبيرة في الإسلام، بل أثارت مثل هذه المشكلة منذ بدايات الإسلام، وهي مشكلة تشبيه الله بالإنسان، أو ما يسمّى بـ"التجسيم"، أي أن الله ذو جسم يشبه جسم الإنسان، إذ أن له يدين، أو أيادي كما لبعض آلهة الهندوس، وله وجه كقوله: "وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرام" (سورة "الرحمن"، الآية 27)، وله صفات كصفات الإنسان فهو سميع وبصير كقوله "وَهُوَ السَّمِيْعُ البَصِيْرُ" (سورة "الشورى"، الآية 11)، ويتكلم كقوله "وَكَلـَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلَيماً" (سورة "النساء"، الآية 164) [لاحظوا هنا صيغة التوكيد "تَكْلَيما" التي تنفي أن تكون هنا أية صورة بلاغية كالاستعارة أوالتشبيه أوالمجاز والتي يدّعي بها بعض المفسرين لتبرير ما يرونه أنه غير منطقي ولا يتقبله العقل الإنساني السليم]. والغريب أن التناقض في القرآن يأتي ليس في سورة وأخرى، أو آية وأخرى في نفس السورة فحسب، بل في الآية القرآنية ذاتها أحياناً، كالآية القائلة " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السَّمِيْعُ البَصِيْرُ" (سورة "الشورى"، الآية 11). فالله، في هذه الآية "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء"، أي لا يوجد شيء يشبهه، وفي نفس الوقت يسمع ويبصر كالإنسان "وَهُوَ السَّمِيْعُ البَصِيْرُ". أليس هذا أمراً يستدعي التساؤل؟ علماً بأن الفلاسفة المسلمين الذين شبّهوا الله بالإنسان، وهم المعروفون بالمشبّهة أو المجسّمة، وعلى رأسهم هشام بن الحكم الشيباني، ومُقاتل بن سليمان البلخي، وداود الخوارزمي، قد انطلقوا من مثل من هذه الآيات وأمثالها. فالله – في نظرهم - لا يختلف عن الإنسان في شيئ، فهو يمشي ويرى ويسمع ويتكلم، بل ويضرب الأمثال، ويسرد أحسن القصص، ويمكر (وَاللهُ خَيْرُ الماكِرِيْنَ : سورة "آل عمران"، الآية 54) ويبني بيديه، ويحب، ويغضب، وينتقم ... بل ويقسم (يحلف) بالكثير من الأشياء والأمور كالتينِ والزيتونِ، وطور سنين، والعاديات ضبحاً، فالموريات قدحاً، فالمغيرات صبحاً.. والضُحى، والليلِ إذا سجى، والنهار إذا تجلّى، والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها، والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها .. والفجر، وليال عشرٍ، والشفع والوتر ...والسماء والطارق، والعصر ... إلخ، ليؤكّد وجوده وخلقه للموجودات. ونتساءل هنا: هل كان من الضروري أن يقسم الله بمثل هذه الأشياء والأمور؟ قد يكون القسم بأتفه الأشياء عادة عربية سائدة أيام نبي الإسلام، ولكن هل يليق بخالق هذا الكون الجبار أن يفعل ذلك وهو رب العرش العظيم، ويهدي مَن يشاء ويظلّ مَن يشاء؟

والحق أن هناك محاولات كثيرة يقوم بها أصحاب "الإعجاز العلمي في القرآن" لربط الآيات القرآنية بمعطيات العلم الحديث، بل وتزداد هذه المحاولات يوماً بعد يوم، ولكنها محاولات دون جدوى إذ أن مصيرها لا يختلف عن مصير محاولة المرحوم رشاد خليفة (1935-1995) الذي نادى بفكرة "الإعجاز العددي في القرآن"، ففندها المسلمون أنفسهم كما ذكرنا في مقالنا السابق. كما أن هناك الكثير من الآيات التي يذكرها أصحاب "الإعجاز العلمي في القرآن" تدخل في باب العموميات common sense أو البديهيات التي لا تحتاج لأن يؤكـّد عليها العلم أو يؤيدها، وهي كثيرة، منها مثلاً: "وَالْشَمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيْرُ الْعَزِيْزِ الْعَلِيْم." (سورة "يـس"، الآية 38)، و"وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإذَا هُمْ مُظْلِمُوْنَ." (سورة "يـس"، الآية 37)، و"وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الّدُّنْيَا بِمَصَابِيْحَ." (سورة "المُلْك"، الآية 5)، و"وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفَاً مَحْفُوْظاً." (سورة "الأنبياء"، الآية 32) ...إلخ.

ولو شئـنا لرددنا على مثل هذه المعجزات المزعومة التي ما فتئ البعض يبحث عنها وعمـّا يؤكدها من الاكتشافات العلمية، وفنـّدنا هذه المزاعم، وما أكثرها، إلاّ أننا عزفنا عن ذلك لئـلاّ ندخل في دوامـة لا أول لها ولا آخر، وجدل عقيم يصرفـنا عن أشياء وأمور حياتية أكثـر إلحاحـاً تتعلق بالناس وهمومهم. وليـت أصحاب "الإعجاز العلمي في القرآن" المتفرغين يفعلون الشيء نفسه.

ونقول لأصحاب "الإعجاز العلمي في القرآن" المتشبثين بـ"المعجزات": استبدلوا كلمة "العلمي" بكلمة "الإلهي"، وهو خير لكم، فهي فعلا معجزات "إلهية" لا علاقة لها بالعلم البتة، ولا داعي للاستخفاف بعقول الناس عن طريق الدغمجة والتلاعب بآيات القرآن، وتحميلها أكثر مما هي تتحمـّل، وذلك في محاولة يائسة بربط الدين بالعلم، وهما – الدين والعلم - معطيان متناقضان أساساًً. صحيح أن هناك العديد من الآيات القرآنية التي جاءت فيها كلمة "العلم" ومشتقاتها، منها، مثلاً: "عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَم" (سورة "العلق"، الآية 5)، و"وَما أُوتِيتُـمُ مِنْ العِلْمِ إلاّ قَلِيْلاً" (سورة "الإسراء"، الآية 85)، و"إنَّما يَخْشـَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ العُـلَمـاءُ" (سورة "فاطر"، الآية 28) ... إلخ. بل أن هناك عشرات الأحاديث النبوية التي تبجّل العلم والعلماء، ولكن هل مفهوم العلم الذي تنادي به هذه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية هو نفس مفهوم العلم الذي نعرفه باعتباره نسقاً متطوراً من المفاهيم والقوانين والنظريات والحقائق التي تعكس الواقع الموضوعي، كعلم الفيزياء أو علم الكيمياء أو علم الفَـلك أو علم التاريخ البشري ... إلخ؟

طبعاً لا، بل هو علم – إنْ جاز لنا القول بأنه علم – مرتبط بالعقيدة والدين أساساً، وهدفه "هو الوصول إلى أن يصل بالإنسان إلى المثل الأعلى الذي ينشده والذي وصل إليه الأنبياء قبله، ليصبح أهلاً لرسالة الاستخلاف في الأرض." [3] ولهذا كان الحديث النبوي "مَن تعلّم علماً لغير الله، أو أراد به غير الله، فليتبوّأ مقعده من النار." [4]، وكذلك الحديث النبوي "العلماء ورثة الأنبياء." [5] علماً بأن معظم التراجم الإنجليزية للقرآن تستخدم كلمة Knowledge (معرفة، دراية) بدلاً من كلمة Science (العلم بمفهومه الذي ذكرناه آنفاً)، وذلك للدلالة على كلمة "العلم" الواردة في الآيات القرآنية.

ولذا نقول: دعوا ما للدِين للدِين، وما للعِلم للعِلم، أو كما قال السيد المسيح: دعوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله.
______________________
هوامش:
[1] "تفسير القرآن العظيم" للإمام الحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي، المكتب الجامعي الحديث، المجلد الرابع، ص 277.
[2] "مجمع البيان في تفسير القرآن" تأليف أمين الإسلام أبي الفضل بن الحسن الطبرسي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، الجزء التاسع، 1995، ص 267.
[3] "الفكر التربوي العربي الاسلامي: الأصول والمبادئ" ، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، إدارة البحوث التربوية، تونس، 1987 ، ص 373.
[4] نفس الهامش السابق، ص 373.
[5] نفس الهامش السابق، ص 372.

الدكتور مجيد البلوشي
[email protected]