هل يوجد فعلاً إعجاز علمي في القرآن؟ (1/2)


مجيد البلوشي
2014 / 4 / 19 - 21:26     


قُلنا – في مقالات لنا سبق نشرها - ونقول هنا وسوف نكرر ونقول: لا تقحموا الدين في العلم، لا تلوّا الآيات القرآنية ليـاً في محاولة يائسة للتوفيق بين الدين والعلم، فالدين يتعامل أساساً مع "عالم" الغيب، عالم الجن والملائكة، عالم ما بعد موت الإنسان، عالم البرزخ، ويوم القيامة من القبور، وعالم الجنة والنار ... إلخ، وهي كلها أمور لا يقر بها العلم إطلاقاً، فهو يتعامل مع العالم الواقعي المادي الموضوعي بكل ما فيه من أنواع وأشكال لا حصر لها ولا عدّ ... من أصغر المواد وأدقها كالذرّات ومكوناتها إلى أكبر المواد وأضخمها كالكواكب والنجوم والمجّـرات.

وصحيحٌ أن هناك أموراً دنيوية يتطرق إليها الدين عامةً كالخير والشرّ – بمعنيهما النسبي – وحُب العدل والرحمة والصدق وبرّ الوالدين ... ونبذ الظلم، والقسوة، والكذب، والسرقة، والقتل ... إلخ، إلاّ أن هذه الأمور كلها لا صلة لها بالعلم إذْ نادى بها الإنسان قبل وجود الأديان بآلاف السنين.

ثم أن معطيات الدين – حسب المعتقد الديني - هي معطيات سرمدية أبدية ثابتة صالحة لكل زمان ومكان، بينما معطيات العلم هي معطيات قد تتغيّر وتتطوّر مع تغّير وتطوّر الاكتشافات العلمية القائمة على التجارب المعملية والميدانية المختلفة، وهي المعطيات التي تنطبق عليها فلسفياً مقولتا "الحقيقة النسبية" و"الحقيقة المطلقة". ولذا فإن محاولة إيجاد إعجاز علمي في الكُتُب المقدسة، بما فيها القرآن، هي محاولة ليست في صالح الدين البتة، بل هي محاولة فاشلة بالتأكيد. وهذا ما حدث، مثلاً، مع الأستاذ رشاد خليفة (1935 -1995) الذي نادى بفكرته القائلة بالإعجاز العددي في القرآن، فأخذ يتلاعب بعدد أحرف القرآن، وبالذات العدد 19 ، وبشكل ديماغوجي، استأنس به معظم المسلمين حينذاك، بل أقاموا الدنيا ولمْ يقعدوها بهذا "الإعجاز العددي" فرحين، إلاّ أن هذا الفرح لمْ يدُم طويلاً إذ أن علماء المسلمين أنفسهم – وخاصةً العُقلاء منهم – قاموا بالرد عليه، ونبذوا فكرته الساذجة.

وما ينطبق على فكرة "الإعجاز العددي" ينطبق أيضاً على فكرة "الإعجاز العلمي" في القرآن الذي ينادي به الكثير من الكُتاب والمفكرين الإسلاميين الذين يحاولون إقحام الآيات القرآنية الأزلية والأبدية الثابتة إقحاماً قسرياً في المعطيات العلمية المتغيرة والمتطورة باستمرار. ولنأخذ بعضاً من أشهر الآيات التي يركّـز عليها أصحاب "الإعجاز العلمي في القرآن" ويحاولون ربطها بمعطيات العلم ربطاً ديماغوجياً فجّاً:
1- " ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السّماءِ وَهِيَ دُخَانٌ ". (سورة "فصلت"، الآية 11)

يقول بعض المدّعين بـ"الإعجاز العلمي في القرآن" أن هذه الآية أُلقيت في المؤتمر العلمي للإعجاز القرآني الذي عُقد في القاهرة، فسمعها البروفيسور الياباني يوشيدي كوزاي وقال مندهشاً: لمْ يصل العلم والعلماء إلى هذه الحقيقة المذهلة إلاّ منذ عهد قريب بعد أن التقطت كاميرات الأقمار الاصطناعية صوراً حية تظهر نجماً [لاحظوا الصيغة النكرة "نجماً"، أي نجماً واحداً] وهو يتكون من كتلة من الدخان الكثيف..." ثم أردف قائلاً "أن معلوماتنا السابقة .. كانت مبنية على نظريات خاطئة مفادها أن السماء كانت ضباباً".

نودّ أن نتوقف هنا عند عدة نقـاط نراها هامة، ونلخصها كما يلي:
أولاً: يجب أن ننتبه إلى أن المسألة هنا تدور أساساً حول أصل الكون وبدايته، وليست حول النجوم - وهي كُتل غازية ملتهبة تتكون من غاز الهيدروجين الذي تتفاعل ذرّاته ببعضها البعض وتندمج اندماجاً شديداً تنطلق منه حرارة عالية (تزيد على عشرة ملايين درجة مئوية) وضوءً شديداً ساطعاً يخطف الأبصار، كما هو الحال مع شمسنا - أو الكواكب السيارة أو غيرها من الأجسام المادية التي تنتشر في هذا الكون الشاسع العظيم، والتي تكونت، وتتكون باستمرار، في فترات لاحقة بعد تكوّن الكون بملايين الملايين من السنين. وقد تم اكتشاف بعضها، ومازالت المحاولات مستمرة لاكتشاف بعضها الآخر. ولذا لا معنى للقول باكتشاف نجم يتكون من كتلة من الدخان لإثبات أن الله خلق الكون من الدخان في حين أنه بالإمكان اكتشاف ملايين من النجوم المتكونة من أجسام غازية مختلفة بما فيها الدخان، جدلاً، والضباب، مجازاً، والمركّبات الغازية الأخرى فيما بعدُ. كما يجب أن نعرف أن هناك ملايين من النجوم التي تخمد وتموت وتتحول إلى أجسام مادية صلبة في كل لحظة وثانية، وفي نفس اللحظة تولد ملايين النجوم في الأماكن الأخرى من الكون الشاسع الرهيب.

ثانياًً: يجب أن نعرف أن هناك فرقاً كبيراً بين السماء والكون، فالسماء هي الفضاء الخارجي المحيط بالأرض بما فيه شمسنا الصفراء، والقمر، والنجوم المتلألئة التي نراها في السماء ليلاً ... إلخ؛ بينما الكون يشمل الوجود كله، بما فيه بلايين البلايين من المجراتgalaxies التي تتكون من ملايين الملايين من النجوم الملتهبة والكواكب والأقمار والشُهب وغيرها، منها مجرتنا المسماة درب التبّانة (أو درب اللبانة) Milky Way الذي يحتوي على الملايين الملايين من النجوم والكواكب والأقمار والشُهب وغيرها، ومنها شمسنا ومجموعة الكواكب التي تدور حولها، وهي عُطارد، والزُهرة، وأرضنا التي نعيش عليها، والمِرّيخ، والمُشتري، وزُحل، وأورانوس، ونِبتون، وبلوتو، بالإضافة إلى الأقمار التي تدور حول بعض هذه الكواكب.

ثالثاً: يجب أن نعرف أيضاً أن هناك فرقاً كبيراً بين "الدُخان" و"الضباب" – وهذا الفرق يعرفه عامة الناس، إلاّ المدعو البروفيسور الياباني يوشيدي كوزاي. فالدُخان عبارة عن غاز يتكوّن عند احتراق المواد العضوية، سواء أكانت نباتية أم حيوانية، كالخشب واللحم والنفط. أما الضباب فما هو إلاّ بخار الماء المتكاثـّف، شأنه شأن الندى والغيوم، إلاّ أن الندى يلامس سطح الأرض، بينما الغيوم تتطاير في السماء أو تتكاثف وتتحـوّل إلى أمطار. ومن المعروف أن جُزئ الماء يتكون من ذرّتين من الهيدروجين وذرّة واحدة من الأوكسجين، بينما يتكون جزيء الدخان الناتج عن احتراق المواد العضوية من غازات مختلفة منها الكربون أساساً، والأوكسجين، والهيدروجين، والنتروجين، بل وبخار الماء أيضاً، ولو بنسب متفاوتة، بمعنى آخر أن بخار الماء هنا هو جزء ضئيل من الدخان. فهل يا ترى من الممكن أن يتكون "الكُل" قبل "الجزء"؟ هل يمكن أن يوجد الدخان قبل مكوناته، ومنها بخار الماء، أي الضباب؟
ثم أن المواد العضوية – كما هو معروف في علم الفلك astronomy- قد تكونت بعد ملايين السنين من تكون المياه كالبحار والأنهار والأودية، وذلك على كوكبنا الأرضي أساساً. ونقول "أساساً" كي لا نستبعد احتمال وجود مواد عضوية، بل كائنات عضوية، على كواكب أخرى، سواء أكان ذلك في مجموعتنا الشمسية أو في المجموعات الشمسية الأخرى وهي بالبلايين.

رابعاً: إذا افترضنا جدلاً أن هناك نجماً يتكون من الدخان الكثيف، والدخان ما هو إلا نتاج احتراق المواد العضوية كما أسلفنا، وهذه الأخيرة وثيقة الصلة بالكائنات الحية، سواء أكانت نباتية أو حيوانية، فهذا يعني أن هناك نجماً يتكون من كائنات حية وهي في حالة احتراق بصورة مستمرة، ذلك لأن المفهوم العلمي للنجم هو أنه كتلة غازية ملتهبة، وهذا الالتهاب ناجم من تفاعل ذرّات غاز الهيدروجين الذي تتكون منه النجوم. بمعنى آخر: كيف يمكن للمواد العضوية، النباتية والحيوانية، أن تتكون في درجات حرارة عالية تزيد على عشرة ملايين درجة مئوية؟ أليس هذا أمر يستدعي التعجب والاندهاش؟

خامساً: لنرَ ما يقوله بعض مفسّري القرآن المسلمين حول هذه الآية، ونكتفي باثنين منهم:
يقول إبن كثير: " ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السّماءِ وَهِيَ دُخَانٌ " وهو بخار الماء المتصاعد منه حين خُلقت الأرض " [1]
ويقول الطبرسي: " ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السّماءِ وَهِيَ دُخَانٌ " أي ثم قصد إلى خلق السماء، وكانت السماء دخاناً. وقال إبن عباس: كانت بخار الماء ". [2]
نرى أن المفسرَين كليهما يشيران إلى أن المقصود من "الدخان" هو بخار الماء، أي الضباب، الذي يغطي المناطق المرتفعة كالتلال والهضاب والجبال، كما هو الحال مع مرتفعات الشام، مثلاً، ومرتفعات جنوب الجزيرة العربية، كالمرتفعات المعروفة حالياً في صلالة بسلطنة عُمان ومرتفعات أبها وخميس مشيط بالمملكة العربية السعودية. ولا شكّ في أن تُجار قبائل العرب، ومنها قُريش، ومن ضمنها صاحب الدعوة الإسلامية، النبي محمد بن عبد الله، وهو يتاجر بأموال السيدة خديجة، قد مرّوا بهذه المناطق وهُم في رحلة الشتاء والصيف. فمن المحتمل أنهم ظنّوا أن الضباب النازل من السماء مساءً عند غياب الشمس، والصاعد إلى السماء نهاراً عند شروق الشمس، هو الذي تتكون منه السماء. وهذا – في اعتقادنا – ما جعل المفسرين يفسرون كلمة "الدخان" بكلمة "الضباب"، علماً بأن الدخان أيضاً يصعد إلى الأعلى، أي إلى "السماء"، ويشكّل كُتـلةً سوداء أو رمادية اللون لا تختلف عن لون السُحب والغيوم التي تغطّي السماء وتنزل إلى الأرض بصورة المطر، وخاصةً في فصل الشتاء، أليس هذا احتمالاً وارداً؟

سادساً: نرى من الآية المذكورة أن الله خلق الأرض أولاً ثمّ بدأ بخلق السماء، فالآيتان السابقتان لهذه الآية مباشرةً تقولان أن " قُلْ أئِنَّكُمْ لَتَكْفُرونَ بِالّذِي خَلَقَ اَلأرْضَ فِيْ يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُوْنَ لَهُ أنْدَادَاً، ذَلِكَ رَبُّ اَلْعَالَميْنَ * وَجَعَلَ فِيْهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيْهَا وَقَدّرَ فِيْهَا أقْوَاتَهَا فِيْ أرْبَعَةِ أيَّامٍ سَوَاءًَ لِِلْسَّائِلِيْنَ* ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السّماءِ وَهِيَ دُخَانٌ*". (سورة "فصلت"، الآيات 9 و10 و11) أي أن الله خلق الأرض وما فيها وفوقها قبل أن يخلق السماء – وهي الكون في الصدد الذي نتناوله هنا – بل دعونا نفترض أن المقصود من "الأرض" ليس كُرتنا الأرضية التي نعيش عليها فقط بل المقصود هو جميع الأراضي، والأصح الكواكب، التي يزدهر بها كوننا الشاسع وهي بملايين الملايين، ومع ذلك فهي تشكّل جزءً – بل جزءً ضئيلاً من كوننا اللامحدود. فبالله عليكم يا أُولُي الألباب، هل من المعقول أن يوجد الجُزء قبل الكُل؟ هل بالإمكان وجود الأرض قبل وجود الكون؟ هل بالإمكان وجود المطر قبل وجود الغيوم والسُحب؟ هل بالإمكان وجود المولود قبل والدته؟

ونحن هنا لا نريد أن نناقش ونسأل: لماذا خلق الله "السماء" في يومين بالذات وليس في "لمح البصر" (سورة "القمر"، الآية 50) أو بـقوله ِ"كُـنْ فَيَكُـوْن" (سورة "البقرة"، الآية 117؛ سٍورة "آل عمران"، الآية 47؛ سورة "النحل"، الآية 40 ...إلخ) مثلاُ، وهو القادر على ذلك بلا شكّ حسب الاعتقاد الديني الإسلامي؟!!
والحق أن أصحاب "الإعجاز العلمي في القرآن" وهم يطرحون الآية المذكورة هنا لا يختلفون عن الذين قالوا بترك الصلاة وهم يشيرون متعمّدين إلى الآية القرآنية القائلة: " يَا أيُّهَا الّذِِْينَ آمَنُوْا لا تَقرِبُوا الْصَّلاةَ " دون تكملتها " وَأنْتُمْ سُكَارَىَ " (سورة "النساء"، الآية 43)

سابعاً: ألا يدل قول المدعو البروفيسور الياباني يوشيدي كوزاي بأن:" معلوماتنا السابقة .. كانت مبنية على نظريات خاطئة مفادها أن السماء كانت ضباباً ...."، ألا يدل هذا القول – بالرغم من الخطأ الوارد فيه - على أن معطيات العلم ليست ثابتة أزلياً وأبدياً بعكس معطيات الدين؟
ومع احترامنا لآراء المدعو البروفيسور يوشيدي كوزاي التي نختلف معها، وهي عكس الحقائق العلمية، فإننا أقل ما نقول عنه في هذا الصدد هو أنه إنسان مخدوع، أي أنه انخدع من قِبل أصحاب "الإعجاز العلمي في القرآن" الذين أخفوا عنه الآيتين السابقتين للآية التي نحن في صددها، تماماً كما فعل أصحاب تارك الصلاة المذكورين آنفاً؛ أو أنه منافق كان يريد كسب رضا مَن دعاه إلى ما يُسمّى بـ"المؤتمر العلمي للإعجاز القرآني" المنعقد في القاهرة، ليس إلاّ.

2- " أَوَ لَمْ يَرَ الّذِيْنَ كَفَرُوا أنّ السّمَواتِ وَالأرْضَ كانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُوْنَ ". (سورة "الأنبياء"، الآية 30)

يقول بعض أصحاب "الإعجاز العلمي" في القرآن بأن "ذهول العلماء بلغ ذروته في مؤتمر الشباب الإسلامي الذي عُقد في الرياض عام 1979م عندما سمعوا هذه الآية الكريمة، وقالوا: حقاً لقد كان الكون في بدايته عبارة عن سحابة سديمية دخانية غازية هائلة متلاصقة ثم تحولت بالتدريج إلى ملايين الملايين من النجوم التي تملأ السماء". [وكلمتا "سحابة" و"دخانية" التي وردت في هذه العبارة كلمتان إضافيتان وضعهما أصحاب "الإعجاز العلمي في القرآن" عمداً للتأكيد على ما قالوه بشأن "المعجزة" السابقة، إذ لا يمكن لأي عالِم من العلماء أن يخلط بين "السحاب" و"الدخان" و"السديم"، وذلك بالرغم من أن جميعها أشكال غازية، إلا أنها تختلف من حيث النوع اختلافاً جذرياً].

والحق أن معظم الذين يدّعون بـ"الإعجاز العلمي في القرآن" يحاولون ربط هذه الآية بنظرية "الانفجار الكبير" (الانفجار العظيم) Big Bang كما فعل، مثلاً، الأستاذ سعد محيو في مقالةٍ له بعنوان "ثورة في الفيزياء الحديثة تعيد العلماء إلى الخالق"، وذلك قبل أكثر من عشرين عاماً، ونشرها في مجلة "الشروق" الإماراتية، العدد 76، عام 1993، وذلك لإثبات أن هذه النظرية تؤكد نظرية الخلق الدينية. وقد قمنا آنذاك بالرد على مقالته في نفس المجلة. ولا بأس في أن نعيد هذا الرد هنا ولو بصورة مختصرة:

ولنرَ معنى كلمتي "رتق" و"فتق" مستعينين بـ"المنجد في اللغة والإعلام" الذي يقول أن: "رتق الثوب ضدّ فتقه، ورتق الفتق، أي أصلحه، ... ورتق الشيء: سدّه وأغلقه ... (صفحة 248) و"فتق فتقأ الشيء: شقه ... فتق فتقاً المكان: أخصب ... الفتق (مصدر): الخصب، سُمي بذلك لانشقاق الأرض بالنبات.." (ص 567-568).
فإذا ربطنا كل هذا بما جاء في الآية المذكورة، لوجدنا أن المراد به هو أن السماوات كانت رتقاً لا تمطر ففتقناها بالأمطار، والأرض كانت رتقاً لا تنبت ففتقناها بالإنبات. ويؤيد هذا القول ما جاء في الآية نفسها، وهو "وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ". وهذا ما يشير إليه "تفسير الجلالين" [3] و"الميزان في تفسير القرآن" [4] بالإضافة إلى تفسيرات أخرى، وكلها لا تمتّ إلى نظرية الانفجار الكبير بصلة.

وإذا افترضنا، جدلاً، أن نظرية الانفجار الكبير تؤكد نظرية الخلق الدينية، فهل نظرية الانفجار الكبير مثبتة علمياً حقاً؟ أم أنها قابلة للتغيير والتبديل، شأنها في ذلك شأن النظريات العلمية عامةً والفيزيائية خاصةً. بمعنى آخر: هل نظرية الانفجار الكبير هي نهاية المطاف أم أن الأمر يحتاج إلى الكثير من التدقيق والتمحيص والمعطيات والبراهين؟ فلنقرأ ما يقوله في هذا الصدد الأستاذ جيوفري بيربدج G. Burbidge، أستاذ الفيزياء بجامعة كاليفورنيا في سان دييغو: ".. إن هذه النظرية تستند إلى كثير من الفرضيات التي لمْ يجر اختبارها، والتي لا يمكن اختبارها في بعض الحالات. وفي الحقيقة، فإن مسيرة النظرية الكونية للانفجار الأعظم قد اتخذت منحى فكرياً يعكس اعتقاداً بقدر ما يعكس حقيقة ً موضوعية ... إن ثمة أسباباً وجيهة تدعونا للظن بأن نموذج الانفجار الأعظم يعاني من عيوب جوهرية. وإحدى الإشارات التي تدل على أن هناك خللاً في هذا النموذج هي مسألة سُـلّـم الزمن Time-Scale، فالرأي الذي يحظى بأكبر قدر من الإجماع هو أن نموذج الانفجار الأعظم يعطي عالَماً عمره محصور بين سبعة مليارات وثلاثة عشر مليار سنة. ويرجع السبب في طول هذا المدى من الأعمار المحتملة إلى ارتياب في المعدل الذي يتمدد به الكون، وهو مقدار يسمّى "ثابت هابل" Hubble Constant ، ويترتب على المقارنات بين الرصد وحسابات التطور النجمي أن أعمار أكبر النجوم المعروفة سناً تتراوح 13 و15 مليار سنة، وذلك بارتياب يساوي 20 % زيادة أو نقصاناً. والعمر المقدّر للعناصر الموجودة في النظام الشمسي، استناداً إلى قياسات العناصر المشعـّة الثقيلة، هو نحو 15 مليار سنة. وهناك شكّ أيضاً في هذا الرقم. وإذا قبلنا قيمة عالية لـ"ثابت هابل"، ومن ثم عمراً صغيراً للعالَم، فمن الواضح أن أبسط نموذج للانفجار الأعظم يفشل، ذلك لأن العالَم لا يمكن أن يكون أصغر سناً من العناصر التي يحويها ...". [5]

وعليه، يا أعزائي أصحاب "الإعجاز العلمي في القرآن"، لا داعي لتحميل الآيات القرآنية أكثر مما هي تتحمّل، والخلط بينها وبين المفاهيم العلمية بعيداً من معانيها الحقيقية.

3- " إنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحِي أن يَضْرِبَ مَثَلاّ مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فأمّا الّذِيْنَ ءامَنُواْ فَيَعْلَمُوْنَ أنَّهُ الْحَقُّ مِن رَبِّهِمْ وَأمّا الّذِيْنَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيْراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلاّ الفَسِقِينَ ". (سورة "البقرة"، الآية 26)

لاحظوا عبارة "فما" في العبارة "فما فوقها" وليست "وما"، حيث أن حرف "الفاء" تدل على التسلسل والتتابع، أي حشرة وتأتي بعدها حشرة أخرى، وبعد هذه الأخيرة حشرة أخرى ... وهكذا، بينما حرف "الواو"، وهو حرف عطف، يعني "مع"، أي أن البعوضة ومعها حشرة أخرى، أي أنها مصاحبة معها؛ بمعنى آخر هناك فرق بين القول، مثلاً، بأن "جاء محمدٌ، فعليٌ، فزينب ..."، أي أن الذي جاء أولاً هو محمد، وبعده جاء علي، وبعده جاءت زينب ..." والقول بأن "جاء محمدٌ وعليٌ وزينب..."، أي أن محمداً وعلياً وزينب ... كلهم جاءوا معاً. هذا من الناحية اللغوية، فهل كان من الصعب على الآية، وهي تعبّر عن كلام الله الأزلي والأبدي الصالح لكل مكان وزمان حسب وجهة النظر الدينية، أن تقول " ... بعوضة وما فوقها" للدلالة على المعية، أو، ليكون الأمر أكثر وضوحاً، أن تقول "... وما فوق ظهرها..." ليكون الأمر محسوماً لا يقبل النقاش؟

وإذا رجعنا إلى المفسرين الأفاضل لمعرفة تفسيرهم لهذه الآية، نجد أن ابن كثير يقول: " ... وقوله تعالى "فما فوقها" فيه قولان: أحدهما فما دونها في الصغر والحقارة ... والثاني: فما فوقها لما هو أكبر منها لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة [طبعاً صاحبنا لمْ يكن يعرف شيئاً عن الكائنات الدقيقة كالبكتيريا والفيروسات وغيرها ... وهي أصغر من البعوضة بعشرات المرات إن لمْ نقُل أكثر بكثيرٍ] وهذا قول قتادة بن دعامة واختيار ابن جرير ... [21]، أما الطبرسي فيقول: " ... وقوله "بعوضة فما فوقها" أي: ما هو أعظم منها، عن قتادة وابن جرير. وقيل: فما فوقها في الصغر والقلة لأن الغرض منها الصغر". [2] فالمسألة هنا مسألة "صُغر" و "كُبر"، وليست مسألة وجود "حشرة أخرى" على ظهر البعوضة من عدمه.

ولكن نودّ أن نتساءل، جدلاً، هل هذه الحشرة المزعومة الموجودة على ظهر البعوضة هي موجودة بصورة دائمة، أي منذ ولادة البعوضة حتى مماتها، كي نعمم القول، والآيات القرآنية آيات عامة مكاناً وزماناً، كما أسلفنا؟ ثم ما الهدف أو الحكمة من وجود هذه الحشرة المزعومة على ظهر البعوضة والتي اكتشفها العلم حديثاً، والله حكيم عليم؟
ولكن، وهنا مربط الفرس، من حقنا أن نطرح سؤالاً مهماً ونحن نناقش مسألة ربط الآيات القرآنية بمعطيات العلم ومحاولة إثبات إقرار العلم بهذه الآيات التي اندهش منها العلماء كما يدّعي أصحاب "الإعجاز العلمي في القرآن"، والسؤال – أو التساؤل – هو: ماذا عن الآيات القرآنية التي تتحدث عن أمور لا يمكن للعلم أن يقرّ بها أصلاً، منها مثلاً، حكاية النبي نوح وسفينته، وحكاية النبي موسى وعصاه السحرية، وحكاية حمل السيدة العذراء مريم بطفل، هو النبي عيسى، بدون المعاشرة الجنسية، وحكاية "هاروت وماروت"، وحكاية "يأجوج ومأجوج" وحكاية الإسراء والمعراج ... إلخ ؟؟؟

وللموضوع صلـة.
______________________
هوامش:
[1] "تفسير القرآن العظيم" للإمام الحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي، المكتب الجامعي الحديث، الأزاريطة-الإسكندرية، المجلد الرابع، صفحة 111.
[2] "مجمع البيان في تفسير القرآن" تأليف أمين الإسلام أبي الفضل بن الحسن الطبرسي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، المجلد الأول، 1995، صفحة 10.
[3] "تفسير الجلالين"، دار المعرفة، بيروت، لبنان، صفحة 375.
[4] "الميزان في تفسير القرآن"، للسيد محمد حسين الطباطبائي، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، الطبعة الثانية، 1973، الجزء 30، صفحة 173.
[5] مجلة "العلوم" (الترجمة العربية لمجلة "العلوم الأمريكية")، العددان5-6، المجلد9، مايو-يونيو 1993م، صفحة 109-110.


الدكتور مجيد البلوشي
[email protected]