التحليل الكلاسيكي لظاهرة الديون


عودت ناجي الحمداني
2005 / 7 / 10 - 12:26     

منذ عهد مبكر من المرحلة التنافسيه للرأسماليه تنبه ممثلوالاقتصاد السياسي الى ظاهرةالدين العمومي ,
واتضح ذلك في الآراء والافكار التي عبرت عن مواقفهم في كتابات آدم اسمث وديفيد ريكاردو وجون استيوارت ميل وغيرهم من اقتصاديي المدرسة الاكلاسيكي.

ومنذ العام 1716 حذر الاقتصادي مونتسيكيو الوصي على عرش فرنسا من
ان فرنسا ستواجه عواقب وخيمه من سلوك طريق الاقتراض ,حيث كتب في مؤلفه.
(أفكاري في روح الشرائع)
ان الدين العمومي سوف يجبر فرنسا على دفع اقساط وفوائد ضخمة
وحذر الكسيس توكفيل من الهموم التي تقع على كاهل المدين والدائن بسبب الدين اذ ذكر في كتابه ( الحكم القديم والثروة)ان الدين سوف سوف يزيد نفقات الدوله الفرنسيه ويحبط جهودها في تحقيق الاستقرار والرفاه الاجتماعي..
وقد جائت تحليلات ومواقف رواد الفكر الاقتصادي الرأسمالي حول نشاة وتطور الدين العمومي في نطاق معالجاتهم للسياسة الاقتصادية والضريبيه في القرن الثامن عشر
مناقضة للحقائق التاريخية في محاولة مقصودة للتستر على الطبيعة الاستغلالية للرأسماليه وطابعها الاستعماري..
فقد اختزلوالاسباب والدوافع التي أدت الى نشوء وتطور ظاهرة الدين في البلدان

الرأسماليه في المرحلة ما قبل الاحتكارية بالسلوكيات والممارسات الخاطئة للملوك والأمراء الذين يستخدمون جهاز الدولة لشن الحروب على الدول والجماعات, ونتيجة ً
لممارستهم سياسات بذخ الأموال على ملذاتهم وأهوائهم الشخصية الأمر الذي قاد الى تبذير ثروات الدولة واعاق عملية التراكم الرأسمالي.
ففي الجزء المتعلق بالمالية العامة تناول آدم اسمث ظاهرة الدين العمومي واعتبر الحرب سبباً مباشراً من الاسباب المراكمة لديون البلدان الرأسمالية في مرحلتها التنافسية حيث كتب فائلاًً
عندما تأتي الحرب فجأة ولا يكون في الخزينة سوى المال الضروري للأنفاق العادي
في السلم لا يكون امام الحكومة خياراً سوى اللجوء الى الأقتراض .(1)

ومن وجهة نظر اسمث ان حروب الملوك والامراء على الدول والجماعات تقود
بالضرورة الى الأقتراض كي تؤمن تمويل مسلزمات الحرب وهو ما مايفضي في اعتقاده الى حرمان قطاعات المجتمع الزراعية والصناعية والتجارية من رؤس الأموال.,
ولم يكن هذا التحذير من قبل اسمث ينطلق من الخوف على المصالح الوطنيه للمجتمع
وأنما للدفاع عن مصالح طبقة ملاكي الارض اذ يرى اسمث ان تراكم
الديون تحبط جهود ملاكي الارض في قيامهم بالاصلاحات الضرورية اللازمه لأدامة الارض والحفاظ عليها..

ان الطبيعة الجشعة للرأسمالية ولهاثها وراء كسب المزيد من الأرباح وتعزيز مواقعها الاستغلالية هو الهدف الذي يكمن وراء نشوء ظاهرة الدين وتطوير وظيفته.
ان الدين بالنسبة للرأسمالية التنافسية مثلما هو للراسمالية الاحتكارية احد آليات السيطرة وأحد الوسائل المهمة لأمتصاص الفائض المتراكم من رؤوس الأموال.
فضعف قدرة الدين على امتصاص فائض رؤوس الأموال قد دفع البلدان الرأسمالية الى تطوير وظيفة الدين كأداة لتحقيق فائض القيمة,,
واصبحت وظيفة الدين لا تتحدد في منح القروض للدول الرأسمالية فقط وانما للدول الأخرى خارج الحدود القومية للمنظومة الرأسمالية, وتعززت هذة الوظيفة اكثر فأكثر في مرحلة الامبريالية الاحتكارية .

لم يتحفظ ديفيد ريكاردو كثيراً على عملية الاقتراض طالما ان الدولة قادرة على فرض الضرائب والرسوم وطالما ان القروض لم تضعف قدرة الدولة على المنافسة.
ففي معرض تحليله لظاهرة الدين في الجزء المتعلق بالساسة الضريبية والتجارية أكد ريكاردو ان اللجوء الى الاقتراض ممكن في حالتين,
في حالة الحرب وفي حالة عجز الموارد المحلية عن تغطية نفقات الدولة(2)
وحذر اسمث من انجرار البلدان الرأسمالية الى طريق الاستدانة,
ودعا الى عدم السماح لحكومات هذة الدول بالتوجة نحو الاقتراض لأن من شأن هذا التوجه ان يؤدي الى قيام حكومات مبذرة
ويشير اسمث في هذا الخصوص ان سلوكيات الامراء والملوك القائمة على بذخ
الاموال وهدرها على نزواتهم وأهوائهم الشخصية لا بد ان يؤدي الى انفاق جزء كبير من دخل الدولة وهو ما يؤثر دون شك على تراكم الثروة.

وبخصوص الأيفاء بالدين فقد اجمع
ممثلو الاقتصاد السياسي الرأسمالي على مبدأ الألزام بسداد الدين والوفاء بالالتزامات المترتبه عليه, ,
وعللو ذلك بالأعتبارات الأخلاقية والسلوكية وبالعدالة وحسن النية..
فالعدالة وحسن النيةكما يؤكد ريكاردو تحتم دفع الفوائد المترتبة على الديون .
الا ان الخلاف قد نشب بين هؤلاء الاقتصاديين حول آلية سداد الدين,
فقد اعتقد ريكاردو ان الدولة هي الوسيلة الوحيدة للوفاء بالدين, وان
الملكية العامة احد الوسائل التي تستطيع الدولة بها اطفاء الدين.
ويتفق هذا الموقف مع تصور جون استيوارت ميل في ان الملكية العامة والخاصة افضل وسيلة لأطفاء الدين..
اما اسمث الذي لقب بأبو الاقتصاد السياسي فلم يكتفي بما تعرضت له المستعمرات
لقرون عيديدة من نهب وسلب منظم لمواردها من قبل الدول الرأسمالية بل ويحملها اوزار عبأ الدين عبر مطالبته بفرض المزيد من الضرائب والرسوم عليها,,
اذ يعتبر المستعمرات وسيلة اساسية من الوسائل التي يجب ان تساهم في اطفاء الدين
ويعلل ذلك في ان الاستعماروفر للمستعمرات الحرية والاستقرار ولقاء ذلك ينبغي ان تدفع نصيبها من الدين..

وعليه فأن ما نستنتجه من المواقف والآراء التي عبر عنها الاقتصاديون الكلاسيك في
معالجتهم لظاهرة الدين تندرج في باب الدفاع المستميت عن قيم الرأسمالية كنظام اقتصادي ذو بنية استغلالية متوحشة وكقاعدة للتوسع الاستعماري في العالم.
اما زعمهم التبريري بتحميل الملوك والأمراء مسؤليةخلق ظاهرة الدين واستشرائها بسبب سلوكياتهم الخاطئة فما هو الا لذر الرماد في العيون.فمثل هذة المبررات لا تجد لها غير تفسير واحد هوالتحايل والتضليل في سبيل استرجاع الديون القائمة بذمة البلدان المدينة .`
ان العدالة وحسن النية التي يتشدق بها كلاسيكيو الايديولوجية الرأسمالية في سياق
تحليلهم لظاهرة الدين انما تنطلق من مواقف التستر علىالرأسمالية المتوحشة و حرف
الانظار عن استخدام الدين كأداة لابتزاز البلدان المقترضة ,فقد استخدمت البلدان
الرأسمالية الدائنة الدين في تعاملها مع البلدان المدينة كآليه للتدخل في شؤونها الداخلية
وفي هذا التضليل يتجاهل الكتاب الرأسماليون الحقائق التاريخية في ان البلدان
الرأسمالية قد استعمرت البلدان النامية قروناً عديدة و تعرضت خلالها
لشتى انواع الأستغلال والأضطهاد الطبقي والأقتصادي والسياسي.

ويتجاهل هؤلاء الكتاب عن عمد في ان التقدم والرفاه الذي حققتة الحضاره الغربيه في الفترة الاستعمارية كان العالم الثالث الممول لهذة النهضة.
ان ا لعدالة وحسن النية التي يتذرع بها منظرو المدرسة الرأسمالة تفترض اقرارهم بمبدأ تعويض البلدان النامية عما اصابها من تخلف اقتصادي واجتماعي.
كما ان العدالة وحسن النية والأعتبارات الاخلاقية تتطلب اعلان البلدان الرأسمالية الالغاء الفوري لمديونية العالم الثالث وتزويد البلدان النامية بالتكنولوجية المتقدمة في سبيل مساعدتها للخروج من ازمة االمديونية الخارجية وفي سبيل تمكينها من تجاوز الفقر والتخلف الاقتصادي.
ولهذا فليس من المستغرب ان تلتقي المواقف والمبررات التي يعلنها منظرو الرأسمالية مع المواقف التي تتمسك بهاالبلدان والمؤسسات الدولية الدائنة في سبيل ابتزاز البلدان المدينة واجبارها على تنفيذ سياسات وبرامج ذو اهداف رأسماليه عبر ضغوط وشروط صندوق النقد الدولي الأمر الذي ادى الى تعميق ازمتها الاقتصادية والمالية وأدخلها في نفق المديونية المظلم.

د.عودة ناجي الحمداني







(1)آدم اسمث, بحث في طبيعة وأسباب ثروة المجتمعات ,منشورات الفرنسي1976
(2)ديفيد ريكاردو,مباديء الاقتصاد السياسي والضريبة,لندن,1936