فكر علمي ؟ ..أم عودة إلى التجريبية؟!


سنان أحمد حقّي
2014 / 4 / 7 - 12:23     


بادئ ذي بدء بودّي أن أثني على ما جاءت به شبكة التواصل الإجتماعي من فضاء حرّ مكّنَ عددا من الناس فضلا عن الكتاب والمتخصصين من أن يعرضوا أفكارهم وآراءهم لمختلف الشرائح الإجتماعية وعلى مساحة المعمورة بأجمعها وهذا شئ لم يسبق له مثيل في تاريخ البشريّة وقد إستحوذت تلك الشبكة على إهتمام مختلف التخصصيين من مثقفين وعلماء وأدباء وفنانين وإعلاميين وفلاسفة ورجال دين وسياسيين وفضلا عن جوانب المنافع الشخصية ونستطيع أن نقول أنها أحدثت ثورة حقيقية في جميع جوانب الحياة وهذا من فضائل العلم والتقدّم بطبيعة الحال ، ولكننا في الوقت نفسه أصبحنا نعاني من تهافت كثير من الرؤى والأفكار التي يطرحها أشخاص لا يتوفّر لهم قدر من الجديّة والمثابرة والإخلاص للحقيقة في تمحيص الأفكار والخبرات التي تُطرح بغزارة ووفرة هذه الأيام
لقد عبرت الإنسانيّة واديا عميقا من الجهل والتسطّح والسذاجة والعفويّة والعشوائيّة وقدّمت أفواجا من التضحيات والخسائر في سبيل المعرفة والعلم وهنا أحب أن أعطي معنى واسعا للعلم إذ أقصد به كل ما هو ضد الجهل أي أن العلم بالشئ هو ضد الجهل به ولم نصل إلى ما وصلنا إليه اليوم إلاّ بفضل جهود مضنية ومتواصلة بذلها أرباب العقول النيّرة والممتازة من أرفع العقول التي أنجبتها الأمم المختلفة وعلى مساحة التاريخ الإنساني
والمعرفة كما يعلم أهلها مترابطة الأجزاء وتراكميّة وجميع الخبر التي جاء بها الإنسان سواءً ما كان منها قد أثمر وأتى بنتائج ناجحة أو لم يُثمر فإنه جزء من الخبرات البشرية التي تؤدّي إلى تراكم المعرفة، وقد تكون الإخفاقات أثمن من النجاحات لما توفّره من معلومات فعندما ندرسها بعناية نستطيع أن نستخلص منها دروسا لا تقدّر بثمن ، والمعرفة كما وضّحنا مرارا وبالإستناد إلى ما كتبه أبرز المفكرين والمهتمين بالفكر العلمي وهو لينين لها نظرية آليّة تبدأ بمرحلة التأمّل الحيّ ثم التفكير المجرد ثم الممارسة العمليّة وهذه الأسس أصبحت بديهيّة في العمل العلمي الجاد ومنهجيّة موثوقة يركن إليها كل العلماء والباحثين لا سيما العلماء العاملين في العلوم الطبيعية وكذلك العلوم الإجتماعية مثل الإقتصاد والإجتماع، ولا يختلف على ذلك إثنان
ولكننا اليوم نجد بعض الكتاب وبعض الأدبيات الفكرية والفلسفيّة تعود إلى التشكيك بالصفة العلميّة للفكر الفلسفي وتعود إلى إعتبارالتنظير برمّته لم يأتِ بحاصل أو محصول وفير في الجانب الإجتماعي على مستوى البيدر وتعود أيضا إلى الفكر التجريبي الذي تم دحضه منذ أكثر من قرن من الزمان على يد أبرز الفلاسفة والمفكرين ومنهم ماركس مبلور تطبيقات الفكر العلمي في العلوم الإجتماعية الإقتصاديّة والتي أصبحت نظريته تُعرف بالتاريخية الجدليّة وكذلك ما أضافه معتنقوا هذا الفكر من بعده أمثال لينين المذكور.
وعندما نذكر الصفة العلميّة لهذا الفكر يعود بعضهم إلى التساؤل عن كيفية إرجاع العلوم الإنسانيّة إلى الفكر العلمي أي كيف يمكن أن نسمّي التاريخ مثلا علما ؟ ، ونجد أنه من المفيد أن نعود نحن أيضا إلى تفسير هذا الإصطلاح فلا نعني بذلك أن التاريخ باعتباره تسلسلا لأحداث متنوعة يمكن أن يسير بحسب قانون أو قواعد ثابتة ولكن بسبب أن النظرة إلى التاريخ باعتباره يبحث في أحداث حقيقية وواقعية متسلسلة إنما هي واقع خارج وعينا ومستقل عن إرادتنا فهي واقع موضوعي إذا فهو مادّة بحسب التعريف المذكور وبتطبيق قوانين الجدل التي وضعها هيغل يكون البحث في التاريخ ممايمكن أن يجري بحسب المنهج العلمي نظريا
ومن علوم الحاسوب والبرمجة الحديثة تعلمنا أن أية خوارزميّة عندما ندوّرها لأكثر من مرّة بشكل تكراري فإننا يمكن أن نحصل على نتائج أكثر دقّة وكلما كررنا المحاولة والمحاولة نوع من التجربة فإن وعيَنا بالظواهر التي نبحث فيها يتراكم ويتزايد بالتجارب وتغتني معرفتنا بالواقع كلما زدنا عدد التجارب وهذا أمر معروف لمن تعامل مثلا مع حساب المتسلسلات اللانهائية (Infinite series ) ولايمكن أن نلغي جميع ما مررنا به من ظروف وتجارب سابقة
بهذا أودّ الوصول إلى أنني شاهدت بعض المفكرين العرب والمثقفين يوصون بأن نعمل قطيعة كاملة بيننا وبين الماضي ونبدأ من جديد ، وهذا قد يبدو لأول وهلة وكأنه محاولة ثوريّة أو عمليّة موجزة وبرّاقة ولكنها في حقيقتها ليست سوى نداء جديد لصناعة الكوارث والنكبات ، فأي شئ حصل في الماضي هو جزء من تجاربنا التي من أهميتها أن يتوجب علينا عدم إهمالها فما أخفقنا فيه ندرسه وندرس أسباب الإخفاق ونتعلّم منه ما كان صوابا ونتجنب ما ظهر أنه غير صائب ، أمّا أن نهمله بالتمام فهذا ليس من التفكير السليم وإذا قلنا أننا تعلمنا من العلم كذا وكذا قالوا : لقد سئمنا التنظير الذي لم يوصلنا إلى شئ ونحن نريد كذا وكذا ، وهذا يقع في بداية ما كنا قد أنفقنا زمنا طويلا وتجارب مضنية حتى نكتشف أنه لم يكن سديدا .
يظن بعضهم أن الصفة العلميّة يمكن أن تكون منهجا سليما في العلوم الطبيعيّة فقط وأن الإنسان والمجتمع شيئا رفيعا لا يمكن أن تنطبق عليه الأفكار المستخلصة من الطبيعة والعلوم الطبيعيّة وكان هذا أبرز ما وجّهته الأفكار الوجوديّة إلى الفكر العلمي والماركسي بالذات ولا ينطوي كل هذا إلاّ على مبالغة فالأصل أن الإنسان بطبيعته الحيوية ليس سوى أحد العناصر الحيويّة ومجموع مكوناته هي من مكونات الطبيعة والوجود ومرتبط بها بكل قوّة ، نعم هناك جوانب تتطلب البحث بشكل أوسع لمعرفة جوانب الإختلاف ولكنه جزء أرقى أفرزته الطبيعة وبالتالي فهو يتفاعل معها بكل حيوية
وما أريده بهذا ليس سوى أن أقول أن أي قطيعة مع الماضي هي ليست سوى محاولة لإطالة مسار حركة التاريخ الذي لا يقبل التسريع أيضا فهناك ظروف موضوعيّة لكل شئ يجب أن تنضج وبدون نضوجها لا يمكن أن نواصل السير والتقدم إلى المراحل الأخرى فالفلاحون في مزارع النخيل عندنا في الجنوب يعلمون حق العلم أن التمور غير الناضجة ( الخلال ، وهو أول مراحل التمر) لا يمكن أن نعمل منه حلاوة نهر الخوز( وهي حلاوة مشهورة في مناطق البصرة يتم عملها من التمروالراشي).
إنكار الصفة العلميّة للفكر لاتؤدّي إلاّ إلى صنع النكسات وإن التنظير الخاطئ والمخفق لا يعني أننا يجب أن نتنكّر للتنظير كله وأن التنظير السليم يتطلب الإنتفاع بالتجارب المختلفة ما نجح منها وما أخفق وأن نتجنّب التجريبية في الفكر والتطبيق لأننا نختزل بهذا مرحلة مهمة من مراحل التفكير وهي مرحلة التفكير المجرّد
إن التنظير أمر لابدّ منه ولكن بالطريقة السليمة والصحيحة وليس من الصواب أن نترك الماضي كلّه ونعمل (قطيعة ) كما قال أحد المفكرين الكبار للأسف.