نقد قانون القيمة عند ماركس


محمد عادل زكى
2018 / 5 / 10 - 21:58     

الفصل الرابع
من كتاب مبادىء الاقتصاد السياسى
(الجزء الأول)
الطبعة الثالثة
----------------------------
قانون القيمة
(1)
جرت المعالجة حتى الأن للأشكال الثلاثة للرأسمال بمعزل عن قانون القيمة الذى يحكم الشروط الموضوعية لحركة هذه الأشكال على مستوى قطاعات الهيكل الاقتصادى، أى القطاع الزراعى والصناعى والخدمى. وقانون القيمة هو القانون الذى يحكم الربح كما يحدد الشروط الموضوعية لتجديد الإنتاج الاجتماعى. ولن يكون من الممكن لأى شكل من الأشكال التى يتخذها الرأسمال القيام بمهامه فى الدوران ومن ثم تجديد الإنتاج السلعى أو الخدمى إلا ابتداءً من الربح، فهو عصب النشاط الاقتصادى فى النظام الرأسمالى بوجه عام أياً ما كان شكل التنظيم السياسى أو الاجتماعى. كما أن الرأسمالى لا يشغله بحال أو بآخر إشباع الحاجات الاجتماعية؛ إنما كل ما يهمه هو الربح، فأياً ما كان شكل الرأسمال الذى يقوم بالدوران فينبغى أن يقترن هذا الدوران بالربح. ولا يمكن تحليل الدورات أو البحث فى جدلية تجديد الإنتاج الاجتماعى إلا ابتداءً من:
- الوعى بالقانون العام لحركة النظام الرأسمالى(ن --- و أ + ق ع --- س --- نَ) وهو الذى يحكم الربح، وتجديد الإنتاج الاجتماعى، فى جميع أشكال الرأسمال.
- فهم قانون القيمة، إنما فهماً ناقداً لوثنية الفكر وصنمية الرأى أياً كان مصدرهما.
ولذلك سوف ننشغل فى هذا الفصل بإعادة معالجة الأشكال الثلاثة للحركة ابتداءً من افتراض تمفصل جملة هذه الأشكال حول قانون القيمة؛ إنما بوعى بإمكانية ظهور أى شكل من أشكال الرأسمال:
- فى أى قطاع من قطاعات الهيكل. إذ يمكننا مثلاً أن نرى فى القطاع الصناعى أو الزراعى أو الخدمى، رأسمالاً صناعياً إلى جواره رأسمالاً تجارياً يتوسط فى تبادل السلع المنتَجة فى هذا القطاع الصناعى، ورأسمالاً مالياً يمول المشروع ويوفر له العملات المحلية أو الأجنبية اللازمة، أو يضارب على أسهمه المتداولة.
- مصاحباً لشكل أو آخر من أشكال الرأسمال. إذ يمكننا مثلاً أن نجد الرأسمالى الصناعى يُنتج السلع ويحتكر تسويقها وبيعها من خلال شركات تابعة يتخذ رأسمالها شكل الرأسمال التجارى، ويكون للرأسمال المالى كذلك الدور الحاسم فى التمويل أيضاً أو المضاربة على الأسهم المتداولة فى البورصات وأسواق المال على الصعيد المحلى أو العالمى.
يتعين أخيراً:
- الوعى بأننا حين نتحدث عن أحد الأشكال الثلاثة، فإننا نتحدث فى نفس الوقت عــن باقى الأشكال.
- الأخذ فى الاعتبار أن الأشكال الثلاثة للرأسمال والتى يحكمها قانون الحركة (ن --- و أ + ق ع --- س --- نَ) لم تكن لتخضع لهذا القانون العام إلا مع التنظيم الاقتصادى الرأسمالى. فقبل الرأسمالية كانت الأشكال الثلاثة موجودة، ولم تزل موجودة، كما سنرى بالتفصيل، ولكنها لم تكن تخضع لقانون حركة واحد؛ فقد كان لكل شكل قانونه الخاص به الذى يحكم حركته.
(2)
فلنفترض الأن أن المجتمع فى لحظة تاريخية معينة، وفى إطار ظروف اجتماعية محددة، يدخل العملية الإنتاجية على صعيد "الكُل" الاقتصادى بــ 30 مليار وحدة من النقد (بالمعنى الواسع للنقود، بوصفها المظهر النقدى للقيمة) موزعة بين القطاعات الإنتاجية الثلاثة التى يتركب منها الهيكل الاقتصادى (الزراعة، والصناعة، والخدمات) بواقـع 10 مليارات وحدة لكل قطاع ويتم توزيع هذه المليارات العشرة على النحو التالى: 3 مليارات وحدة لشراء أدوات العمل، كالماكينات والآلات والمعدات، و3 مليارات وحدة لشراء مواد العمل، مثل المواد الآولية والمواد الخام والمواد المساعدة، و4 مليار وحدة لشراء قوة العمل، وهكذا الأمر فى كُل قطاع من قطاعات الهيكل، فسيكون لدينا الأتى:
القطاع الزراعى: 3 أدوات العمل + 3 مواد العمل + 4 قوة العمل = 10 مليار
القطاع الصناعى: 3 أ ع + 3 م ع + 4 ق ع = 10 مليار
قطاع الخدمات: 3 أ ع + 3 م ع + 4 ق ع = 10 مليار
ولكن، لدينا هنا مشكلة. لقد بدأ المجتمع بـ 30 مليار وحدة، وفى نهاية الفترة لم يزل لدينا نفس الـ 30 مليار وحدة نفسهم! فالمجتمع هنا لم يستفد من العملية الإنتاجية على الإطلاق، فلم يحقق أى قطاع من قطاعات الرأسمال أى ربح، ومن ثم تجديد الإنتاج يعد بلا فائدة، بل وربما خسر المجتمع طاقة إنتاجية وأهدر ثروة اجتماعية وموارد قومية مهمة، واقصى ما أمكن اجتماعياً تحقيقه فى المثل أعلاه هو تداول الـ 30 مليار وحدة بين أعضاء المجتمع منتجين ومستهلكين، بائعين ومشترين، فمجموع الأجور ومقدارها 12 مليار وحدة سوف تذهب إلى القطاعات الثلاثة مرة أخرى فى صورة تدفقات نقدية من قبل العاملين فى هذه القطاعات نتيجة عمليات الشراء للسلع والخدمات التى تنتجها القطاعات الثلاثة. كما سيقوم رأسماليو القطاع الصناعى بالشراء من بعضهم البعض للسلع الإنتاجية التى يستخدمونها فى الإنتاج مثل المعدات والآلات، والسلع الوسيطة مثل المواد الأولية والمواد المساعدة، فى مرحلة أولى، ثم يشترون فى مرحلة ثانية السلع الأخرى التى يورّدها لهم رأسماليو القطاع التجارى وتكون لازمة لعملية التصنيع، وفى المرحلة الثالثة نراهم يسددون الفائدة لرأسماليىّ القطاع المالى عن النقود التى اقترضوها منهم. ولن يخرج رأسماليو القطاع المالى عن الدائرة، إذ سوف يدفعون الأجور، ويعيدون ضخ النقود التى حصلوا عليها من رأسماليىّ القطاع الصناعى، ورأسماليىّ القطاع التجارى، إلى نفس الدائرة مرة أخرى. الجلتمع إذاً لم يستفد أى شىء كما ذكرنا. بل مثل هذه الطريقة سوف تؤدى إلى إفقار المجتمع وليس نموه؛ فعدد السكان يتزايد وكمية السلع والخدمات والنقود والرأسمال واحدة! ولا يتم تحقيق أرباح! ومن ثم فلا فائدة ترتجى من وراء تجديد الإنتاج الاجتماعى! وكما افترضنا أن المثل يخص اقتصاد مجتمع ما، فيمكننا أن نفترض أن المثل يصدق على العالم بأسره. فهو يبدأ السنة الإنتاجية بعدد معين من وحدات الرأسمال، وفى نهاية السنة يجد بين يديه نفس العدد من الوحدات! فلا تجديد إنتاج، ولا أرباح، ... إلخ، فكيف يمكن أن يتم حل هذه المشكلة على صعيد المجتمعات المحلية أو على الصعيد العالمى؟
أولاً، وقبل أن نقترح طريقة للإجابة، يتعين أن نتفق أن الحل الذى يقول: أن المنتجين يبيعون السلعة بأغلى مما كلفهم إنتاجه، يعد حل خرافى وغير علمى على وجه الإطلاق. لأن الربح بهذا الشكل، أى بيع المنتَج بأغلى مما تكلف، يعنى، فى نهاية المطاف، أن هؤلاء الذين ربحوا اليوم، سوف يخسرون غداً. إذ سوف يفعل آخرون نفس الأمر من أجل استرداد ما سلبه منهم الأولون، وهكذا. إذ سوف تظل كمية النقود المتداولة 30 مليار وحدة وكل طرف من أطراف المجتمع، طبقة. فئة. مؤسسة. هيئة. سوف يكون عليهم أن ينتزعوا ما سبق أن إنتزعه منهم أخرون؛ بأن يبيعوا سلعتهم أو خدمتهم هم أيضا بأغلى مما كلفهم إنتاجه. إذاً ما العمل؟ كيف يُنقذ المجتمع، المحلى أو العالمى، نفسه؟ كيف يزيد السلع؟ ومن ثم: كيف يزيد كمية النقود المتداولة اجتماعياً على أساس إنتاجى حقيقى؟
على ما يبدو أنه يتعين من أجل الإجابة أن نعيد صياغة المثل كى يكون على النحو التالى: نفترض أن المجتمع يدخل العملية الإنتاجية بــ 30 مليار وحدة من النقد موزعة بين القطاعات الإنتاجية الثلاثة التى يتركب منها الهيكل الاقتصادى، بواقـع 10 مليارات وحدة لكل قطاع ويتم توزيع هذه المليارات العشرة هكذا: 3 مليارات وحدة لشراء أدوات العمل، و3 مليارات وحدة لشراء مواد العمل، و4 مليار وحدة لشراء قوة العمل، وهكذا الأمر فى كُل قطاع من قطاعات الهيكل، وحينما يفكر الرأسمالى فسيجد أنه لا يستطيع أن يغير فى قيمة الألات أو المواد. فهو يشتريها ويدفع بها إلى حقل الإنتاج دون أن تغير من قيمتها. إذ ستخرج الألات والمعدات والمواد بنفس القيمة التى دخلت بها فى نهاية العملية الإنتاجية دون أن تغير قيمتها (رأسمال ذو قيمة ثابتة). فماذا يفعل الرأسمالى؟ لا يوجد أمامه سوى النظر إلى السلعة التى يبيعها الشغيلة وهى قوة العمل، فهى السلعة الوحيدة القادرة على تغير قيمتها (رأسمال ذو قيمة متغيرة) فيدفع لها أجر معين ويتلقى منها عملاً يفوق هذا الأجر. أى أن الرأسمالى، فى مثلنا، سوف يدفع لقوة العمل 4 مليار وحدة ويتلقى مقابل هذه الـ 4 مليار وحدة عملاً يساوى 8 مليارات وحدة؛ أى أن الرأسمال يستأثر بـ 4 مليار وحدة قيمة زائدة؛ فقد تم حل المشكلة إذاً وصار بالإمكان تحقيق أرباح ومن ثم أمكن للمجتمع تجديد إنتاجه من السلع والخدمات، من خلال العمل الإنسانى. إذ لدينا الأن ما يلى:
القطاع الزراعى: 3 أدوات العمل + 3 مواد العمل + 4 قوة العمل + 4 قيمة زائدة = 14 مليار
القطاع الصناعى: 3 أ ع + 3 م ع + 4 ق ع + 4 ق ز = 14 مليار
قطاع الخدمات: 3 أ ع + 3 م ع + 4 ق ع + 4 ق ز = 14 مليار
ووفقاً لمثلنا أعلاه فلقد زادت القيمة اجتماعياً، أى أن المجتمع بدأ بـ 30 مليار وحدة، وفى نهاية الفترة الإنتاجية صار لديه 42 مليار وحدة. أى أن المجتمع حقق 12 مليارات وحدة كفائض، والواقع أننا لا ننشغل بكيف زادت القيمة؛ لأن الاقتصاد السياسى قد قرر صراحةً وبوضوح أنها نِتاج العمل الإنسانى(1). ولكن الذى يجب أن ننشغل به، نحن أبناء الأجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالى العالمى المعاصر، هو ما الإتجاه الذى سوف تسلكه هذه الوحدات التى زادت على الصعيد الاجتماعى. أى: أين ستذهب الـ 12 مليار وحدة الزائدة التى حققها العمل الاجتماعى؟ هل يُعاد ضخها فى مسام نفس المجتمع المنتِج لها؟ أم تتسرب إلى خارج المجتمع من أجل شراء السلع والخدمات التى تُنتج فى الأجزاء المتقدمة من النظام الرأسمالى العالمى، وتتوقف عليها عملية تجديد الإنتاج الاجتماعى فى الأجزاء المتخلفة؟
قبل أن نعرف هل القيمة الزائدة يُعاد ضخها أم تتسرب إلى الخارج، يتعين أن نتعرف أولاً عن كيفية توزيع هذه الزيادة اجتماعياً. فبعد أن تُباع السلعة سوف يتم توزيع حصيلة البيع على هيئة دخول للمشاركين فى العملية الإنتاجية، سوف يتم التوزيع إلى ربح (أى ثمن المخاطرة)، وريع (أى ثمن التخلى عن منفعة الأرض)، وفائدة (أى ثمن التخلى عن السيولة النقدية). إذ سوف يحصل الرأسماليون على الربح، والملاك العقاريون على الريع، والرأسماليون الماليون على الفائدة التى أقرضوها للرأسماليين الصناعيين. نحن هنا نفترض أن الأرض مستأجَرة، والرأسمال مقترَض. أما إذ لم تكن الأرض هكذا، أو الرأسمال كذلك، فسوف تذهب القيمة الزائدة بالتمام والكمال إلى الرأسمالى. ولكن، أين الأجر؟ هل نقصد أن منتجى القيمة الزائدة لا يشاركون بسهم فيها حين توزيعها؟ نعم نقصد ذلك، ولكن ما نقصده على هذا النحو لم يتضح إلا يد ماركس. فقد كان الكلاسيك يرون أن القيمة التى يضيفها العمل إلى الناتج تنحل إلى أجور وقيمة زائدة، ومن ثم يحصل العمال على الأجور والرأسماليون على الربح. بيد أن ماركس أوضح أن القيمة الزائدة لا يُعاد توزيعها على هيئة أجور وربح، إنما تذهب برمتها إلى الرأسمالى، إذ يُنتج العامل معادل قيمة قوة عمله ولا يشارك بحال أو بآخر فى القيمة الزائدة التى يستحوذ عليها الرأسمالى. اللهم إلا إذ ما أراد الرأسمالى زيادة عدد الشغيلة لديه واستخدم جزء من القيمة الزائدة المتحققة فى فترة إنتاجية سابقة من أجل إضافة عدد أكثر من العمال. وهذا كما نعرف لا يحدث كل يوم، بل الذى يحدث كل ساعة هو تقليص عدد هؤلاءالعمال! على كل حال النتيجة، فى التحليل النهائى، واحدة من جهة قوة عمل غير مدفوعة الأجر. وقيمة زائدة أنتجها العمل الإنسانى من جهة أخرى. أما أن الأجر يُدفع من القيمة الزائدة، أم أن الرأسمالى يستولى كلية على هذه القيمة، بعد أن يُنتج العامل معادل قوة عمله. فتلك مسألة يمكن مناقشتها بعد الإنتهاء من مناقشة أين تذهب القيمة الزائدة.
(3)
حسناً، علمنا إذاً أن القيمة الزائدة المنتَجة اجتماعياً تذهب إلى الرأسمالى. فما هو إتجاهها بعد ذلك؟من أجل تقديم طريقة إجابة، يتعين أن يكون لدينا الوعى بخمس ملاحظات جوهرية على النحو التالى:
(1) ان نظرية القيمة هى نظرية تنتمى إلى النظريات الكمية فى النقود(2)، والنظرية بشكلها الحالى لا يمكن اعتبارها قادرة على تفسير أى شىء سوى أن الرأسمالى يدفع جنيهاً ويأخذ بدلاً منه عملاً يساوى 2، أو3، ... إلخ. ولا تقول لنا النظرية على هذا النحو غير ذلك! ولذلك كان من اليسير على الكثير، من أرباع المثقفين، نسف نظرية القيمة من أساسها بمجرد إشارتهم إلى مشاركة العمال للرأسمالى فى الأرباح السنوية! كما كان من اليسير عليهم أيضاً إعلان انتصارهم المدوى على هؤلاء الذين يعجزون عن الرد على السؤال الأتى: ولماذا تفترضون أن الرأسمالى يجنى ربحه بالإقتطاع من الأجور والمرتبات، ولا تفترضون، لأن هذا الواقع، أن الرأسمالى يجنى أرباحه ببيع إنتاجه بأغلى مما كلفه إنتاجه(3)؟
(2) إن القيمة التى زادت (ونُشير إليها إختصاراً بالقيمة الزائدة) ليس حقل إنتاجها المصنع فحسب، كما تقول كراسات التعميم والموجزات الأولية، وإنما هى موجودة فى النظام الرأسمالى بأكمله، ليس فى حقل الصناعة فقط، وإنما كذلك فى باقى القطاعات التى يتركب منها الهيكل الاقتصادى، أى فى قطاع الخدمات، وفى الزراعة أيضاً، فلا فارق بين إنتاج القيمة الزائدة فى مصنع لإنتاج الحديد والصلب، وبين إنتاجها فى مكتب للمحاسبة يعمل فيه عشرات المحاسبين بأجر. فالعامل لا يُنتِج فى المصنع فقط قيمة زائدة، وإنما يُنتِج المهنى، كالطبيب، وغيره، أيضاً قيماً زائدة فى المؤسسة التى يعمل فيها بأجر، ويُقدم من خلالها الخدمة، وبالطبع فى قطاع الزراعة أيضاً يُنتِج العامل الزراعى قيمة زائدة مثل العامل فى قطاع الصناعة، وكالمهنى فى قطاع الخدمات. وتلك هى القاعدة العامة فى النظام الرأسمالى.
وعلى الرغم من أن ماركس كان يرى أن إنتاج القيمة الزائدة يتم فى حقل الإنتاج المادى، كما يتم فى حقل "الإنتاج غير المادى"، ويضرب على ذلك مثلاً، فى المجلد الأول من رأس المال:
"... وإذا ذكرنا مثالاً من خارج حقل الإنتاج المادى، لوجدنا أن المُعلم فى المدرسة يُعد عاملاً منتجاً حين ينهك نفسه أثناء العمل، من أجل إثراء مالك المدرسة، بالإضافة إلى تعليم الأولاد. أما كون مالك المدرسة قد استثمر رأسماله فى مدرسة للتعليم أم فى مصنع لإنتاج المقانق، فذلك لا يغير من الأمر شيئاً..."(4)
أى أن ماركس لديه الوعى بأن إنتاج القيمة الزائدة ليس بقاصر على حقل الإنتاج المادى، أى الرأسمال الصناعى. إلا أنه وجد صعوبة، على ما بدا لى، حينما إنتقل، فى المجلد الثالث، إلى مناقشة الربح التجارى. وبصفة خاصة حين تسائل: كيف يُنتج العمال فى قطاع التجارة قيمة زائدة؟:
"ما وضع العمال المأجورين الذين يستخدمهم الرأسمالى التجارى؟"(5)
إذ رأى ماركس أن العمال فى حقل الإنتاج غير المادى ينتجون قيمة زائدة، وإنما بشكل غير مباشر! إذ بفضل عملهم، كما يقول، يحصل الرأسمالى التجارى، أى قطاع الخدمات، على القيمة الزائدة المنتجة فى حقل الإنتاج الصناعى، ويقدم لذلك تفسيرين، الأول:
"أن الرأسمال الصناعى ينتج القيمة الزائدة من خلال الاستيلاء مباشرة على عمل الآخرين غير مدفوع الأجر، أما الرأسمال التجارى فانه يستولى على جزء من القيمة الزائدة عن طريق اجبار الرأسمال الصناعى على التنازل عن أحد أجزاء تلك القيمة له"(6).
وهذا التفسير غير صحيح؛ لأن الرأسمال التجارى يدخل فى حساب الرأسمال الاجتماعى الكلى، بعد أن يفقد هويته أثناء الإنتاج، فكتلة الرأسمال التجارى تنصهر فعلاً فى كتلة الرأسمال الكلى، الذى يتم تداوله اجتماعياً فى حقول الإنتاج والتبادل والتوزيع، ولا ينبغى أن يضللنا تفاوت الدورانات واختلافها من نوع إلى آخر من الرساميل. إذ ينحل الرأسمال الكلى إلى رأسمال صناعى ورأسمال تجارى ورأسمال مالى. إنما بعد أن تفقد أنواع الرساميل هذه هويتها وتدخل برمتها فى دورة الرأسمال الكلى. ومن جهة أخرى من غير المفهوم ومن غير المبرر أيضاً لماذا يتنازل الرأسمال الصناعى عن أرباحه؟ وكيف يجبر الرأسمالى التجارى صديقنا الرأسمالى الصناعى على هذا التنازل الدموى عن جزء من أرباحه؟ كان أولى بماركس حينما وجد قيمة زائدة تنتج فى قطاع الخدمات أن يقول ان القيمة الزائدة هنا انتجت طبقاً لنص نفس صيغة القانون (ن --- و أ + ق ع --- س --- نَ)، دون أن يصور لنا معركة زائفة بين الرأسماليين.
التفسير الثانى، الذى يقدمه ماركس:
"أن العامل فى قطاع الخدمات لا يخلق قيمة زائدة مباشرة، بل يساعد فى تقليص تكاليف تحقيق القيمة الزائدة"(7).
وهذا التفسير، على الرغم مما يكتنفه من ارتباك، أيضاً غير صحيح؛ فالعامل، فى قطاع الخدمات، لا يقلص ولا يزيد من تكاليف تحقيق القيمة الزائدة، المنتجة فى قطاع الصناعة، وإنما يخلقها فى قطاعه هو. وفقاً لقانون الحركة (ن --- و أ + ق ع --- س --- نَ)، ولا شأن له بقيمة زائدة منتجة فى قطاع آخر. إلا بقدر كون ما ينتجه من قيمة زائدة هو أحد الأجزاء المتساوية من القيمة الزائدة الإجمالية على الصعيد الاجتماعى. التى تنتجها الأشكال الثلاثة التى يتخذها الرأسمال.
إننى أرى أن التفسيرين، بمثل هذا التشوش، إنما يرجع إلى الطريقة التى تعامل بها ماركس مع الرأسمال التجارى، ومن ثم الربح التجارى، فبعد أن حلل ماركس القوانين الموضوعية التى تحكم عمل النظام الرأسمالى، الصناعى تحديداً أى (ن --- و أ + ق ع --- س --- نَ)، وجد لزاماً عليه أن يحلل رأسمال، رأه هو، أى ماركس، له طبيعة مختلفة، وهذا غير صحيح، وهو الرأسمال التجارى (ن --- س --- نَ)، وبعد أن استبعد قدرة هذا النوع من الرأسمال على خلق القيمة الزائدة، كان عليه أن يدخله، خلسة، بنصيب فى الإنتاج الصناعى. ومن ثم تعود إليه قيمة زائدة، تصور ماركس انها أنتجت فى حقل الصناعة، وحتى لو كان ذلك صحيحاً من زاوية ما، وهو فى الواقع غير صحيح، فإنما أنتجت القيمة الزائدة بفعل دخول الرأسمال التجارى بنصيب فى الدورة الرأسمالية الكلية على الصعيد الاجتماعى، من جهة، وبفعل قانون الحركة (ن --- و أ + ق ع --- س --- نَ)، من جهة أخرى. أما وانها، أى القيمة الزائدة، قد خلقت فى المصنع، فهو لا يعنى على الاطلاق أن الرأسمال التجارى لم يسهم فى خلق القيمة الزائدة، بل العكس هو الصحيح. ان الارتباك يزول حين يُعاد النظر إلى الرأسمال التجارى كأحد أجزاء الرأسمال الكلى على الصعيد الاجتماعى، من جهة، وحين ننشغل بحقل الرأسمال التجارى، بوصفه السابق، ونحلل كيف تُنتَج القيمة الزائدة بداخله كحقل مستقل فى نفس الوقت، من جهة أخرى(8).
على كل حال ليس من المناسب هنا إلا أن نذكر أننا نمد، بدون إلتواء، القوانين الموضوعية التى تحكم عمل التنظيم الاقتصادى الرأسمالى الصناعى، على القطاع الخدمى. وكما يمكن استخلاص قيمة زائدة من عامل الحديد والصلب، فيمكن، بالمثل ووفقاً لنفس القانون، استخلاص قيمة زائدة من الطبيب الذى يعمل فى أحد المستشفيات طبيباً مأجوراً. طالما كنا بصدد صيغة القانون (ن --- و أ + ق ع --- س --- نَ).
(3) إن إنتاج القيمة الزائدة يجب أن يُنظر إليه نظرة عِلمية، دون نعرات ثورية مغيّبة، فهو ليس رذيلة تماماً، كما يُقال، إن قيل، وإنما النظام الرأسمالى المعاصر، كشكل تاريخى من أشكال التنظيم الاجتماعى والاقتصادى، لا يُمكن أن يعمل بدونه، فهو القانون العام الحاكم لعمل الرأسمال، أياً كان الشكل الذى يتخذه (صناعى، أو تجارى، أو مالى) وأياً ما كان حقل توظيفه (الزراعة، أو الصناعة، أو الخدمات).
ومن هنا يجب علينا، إن رغبنا فى مستقبل إنساني، مراجعة الخطاب الأيديولوجى غير العِلمى ضد الرأسمال. لأنه مُشوش ومُعطل، وليس بإمكانه دفع عجلات التاريخ، فأياً ما كانت شرور الرأسمالية، كشكل تاريخى لأحد أنماط الإنتاج، وهى بلا ريب بغيضة، كثيرة ظاهرة، فيجب علينا، إن أردنا الفهم؛ ومن ثم التغيير، أن نُقدّر كل حضارة تقديراً موضوعياً بعيداً عن الأهواء وإدعاء إمتلاك ناصية الحقيقة الاجتماعية، ونبحث فى الوقت ذاته عن القانون الموضوعى الحاكم لعمل النظام ككُل. والقانون العام الذى أفترض أنه يَحكم عمل النظام الرأسمالى هو قانون القيمة؛ ومن هنا؛ ومن هنا فقط، قد نتمكن من فهم النظام بل والقضاء على شره، ومن ثم رسم المشروع الحضارى لمستقبل آمن لأجيال لم تأتْ بعد ونتحمل أمامها المسئولية التاريخية كاملة.
(4) إن العملية الإنتاجية، بالمعنى العام للإنتاج، تحتاج إلى أشياء أخرى كثيرة مثل: الأرض، والفكرة، والإدارة، والطاقة، والنقل... إلخ؛ بيد أن تلك الأمور تأتى فى مرتبة أو مرحلة تالية لإتمام المنتَج، وهى مهمة من زاوية ما من أجل"تسيير" العملية الإنتاجية، وهى، فى نفس الوقت، ثانوية وغير مؤثرة فى عملية زيادة القيمة، إذ لا تزيد القيمة إلا بقدر دخول عنصر العمل الحى أو المختَزن(9) فى العملية الإنتاجية والذى من شأنه أن يُزيد القيمة، ولكنه سوف يزيد قيمة على السلعة الجديدة وليس القديمة، فالنقل مثلاً لا يزيد قيمة السلعة، وإنما يمكن لعملية النقل خلق قيمة فى حقل صناعة النقل نفسه.
(5) القانون الذى يعتنقه ماركس، بعد إعادة صياغته، وهو القانون الذى وضعه ريكاردو، بشأن نظرية فى القيمة التى تزيد أثناء العملية الإنتاجية، كالآتى:
"إن القيمة الزائدة وقيمة قوة العمل تتغيران فى اتجاهين متعاكسين. فتغير قوة العمل المنتجة، أى ارتفاعها أو انخفاضها، يولد تغيراً معاكساً له فى قيمة قوة العمل، وتغيراً طردياً فى القيمة الزائدة. إن القيمة المنتَجة من جديد فى يوم عمل مؤلف من 12 ساعة، هى مقدار ثابت، وليكن 6 جنيهات مثلاً. إن هذا المقدار الثابت يساوى مقدار القيمة الزائدة زائداً قيمة قوة العمل، والقيمة الأخيرة يعوض عنها العامل بما يُعادلها. وبديهى أنه إذا كان هناك مقدار ثابت يتألف من حدين، فلن يزيد أحدهما دون أن ينقص الآخر. إذاً، فقيمة قوة العمل لا يمكن أن ترتفع من 3 جنيهات إلى 4 جنيهات، ما لم تنخفض القيمة الزائدة من 3 جنيهات إلى 4 جنيهات، دون أن تنخفض قيمة قوة العمل من 3 جنيهات إلى جنيهين. وبالتالى ففى ظل هذه الشروط لا يمكن أن يطرأ تبدل متزامن على مقداريهما النسبيين... إن ارتفاع إنتاجية العمل يولد هبوطاً فى قيمة قوة العمل وارتفاعاً فى القيمة الزائدة، فى حين أن انخفاض هذه الإنتاجية يولد، بالعكس، ارتفاعاً فى قيمة قوة العمل، وهبوطاً فى القيمة الزائدة" (10).
وفقاً للنص المذكور، فإن القيمة الزائدة (التى يستأثر بها الرأسمال) تتناقض مع قيمة قوة العمل (وهى القيمة التى يحصل عليها العمل المأجور) فحينما ترتفع قيمة قوة العمل لابد أن يُصاحب ذلك انخفاضاً فى القيمة الزائدة، وبالعكس. ووفقاً للنص كذلك، وفى ظل نفس الظروف، فإن إحلال الآلة، على سبيل المثال، من شأنه الارتفاع فى القيمة الزائدة والانخفاض فى قيمة قوة العمل، فإن هذه الإنتاجية لا يمكن زيادتها إلا من خلال فن إنتاجى جديد يُمكّن من إنتاج نفس الكمية من السلع فى عدد ساعات أقل. فحين يحل هذا الفن الإنتاجى الجديد، فإنه يستصحب معه، فى جميع الأحوال، عدة فرضيات تتناقض فيما بينها على النحو التالى:
(أولاً) ارتفاع إنتاجية العمل _____ انخفاض فى قيمة قوة العمل _____ ارتفاع فى القيمة الزائدة
(ثانياً) انخفاض إنتاجية العمل _____ ارتفاع فى قيمة قوة العمل _____ انخفاض فى القيمة الزائدة
أولاً: ارتفاع إنتاجية العمل: والارتفاع هنا نتيجة استخدام الآلة، وبحيث تخرج إلى السوق نفس الكمية المنتَجة من السلع فى عدد ساعات أقل، وهو الأمر الذى يؤدى إلى ارتفاع فى القيمة الزائدة (التى يتحصل عليها الرأسمال) إذ تم إنتاج نفس الكمية فى عدد ساعات أقل. ومن الناحية الأخرى ونتيجة لارتفاع القيمة الزائدة، يؤدى هذا الارتفاع فى إنتاجية العمل إلى تقليص فى قيمة قوة العمل، فلا يتحصل العامل على ما كان يحصل عليه قبل استحداث الفن الإنتاجى الجديد. وإنما أقل. فإن افترضنا أن القيمة المنتَجة تساوى 6 جنيهات، قيمة سلع منتَجة فى يوم عمل مكون من 12 ساعة عمل، فإن الجنيهات الست تلك هى محل الارتفاع، والانخفاض كذلك، لأنها تعوض عن القيمة الزائدة وقيمة قوة العمل. أى أن القيمة المنتَجة تساوى (القيمة الزائدة + قيمة قوة العمل) ولأن القيمة المنتَجة ثابتة ومحددة بالجنيهات الست المذكورة، فحين ترتفع القيمة الزائدة كى تُصبح مثلاً 4 جنيهات، فيتعين تقلص قيمة قوة العمل إلى جنيهين.
ثانياً: انخفاض إنتاجية العمل: وحينما تنخفض الإنتاجية، يحدث انخفاض مماثل فى القيمة الزائدة، ونتيجة لهذا الانخفاض فى القيمة الزائدة، ترتفع معدلات قيمة قوة العمل. فلم يعد الرأسمال يتحصل على ما كان يحصل عليه قبل انخفاض الإنتاجية، وإنما يحصل على أقل مما كان يحصل عليه، فإن افترضنا، طبقاً لنفس المثال أعلاه، ان قيمة قوة العمل قد ارتفعت من 3 جنيهات إلى 4 جنيهات نتيجة انخفاض الإنتاجية، فإن ذلك الارتفاع يستصحب الانخفاض المباشر فى القيمة الزائدة من 3 جنيهات إلى جنيهين.
هذا هو القانون الذى صاغه ريكاردو، وعدّله ماركس، وهو قانون ينتمى إلى الجدلية بامتياز. بيد أن ثمة ملاحظات بشأنه بعد أن أعاد ماركس صوغه، وتتبدّى فى الآتى:
وفقاً للقانون، يؤدى الارتفاع فى إنتاجية العمل إلى تغيّر فى أمرين: أولهما قيمة قوة العمل، أى قيمة وسائل المعيشة التى يستهلكها العامل من أجل تجديد إنتاج نفسه. وهى بمثابة حد الكفاف، ثانيهما القيمة الزائدة، أى قوة العمل غير مدفوعة الأجر. ولكن هذا التغير لا يحدث فى إتجاه واحد، وإنما حين ترتفع قيمة قوة العمل، تنخفض القيمة الزائدة، والعكس: فحين تنخفض قيمة قوة العمل، يطرأ على القيمة الزائدة الارتفاع. والمحور فى هذا التغير بالارتفاع وبالانخفاض هو إنتاجية العمل التى تزيد القيمة الزائدة حين ترتفع، وتقلصها حين تنخفض. والقانون من تلك الوجهة لا يعدو أن يكون سوى أحد نماذج التغير الممكن حصوله فى النظام الإنتاجى الرأسمالى، دون أن يصل إلى مرتبة التطوير الجدلى للنظام نفسه.
ووفقاً للقانون كذلك، لا وجود لأى حديث عن باقى ساعات يوم العمل؛ فكل ما يُفترض هو أن سلعة ما كانت تُنتَج فى عدد معيّن من الساعات، فظهر فنٌ إنتاجى جديد جعلها تُنتَج فى عدد ساعات أقل، ولكن لم نعرف مصير باقى ساعات يوم العمل. فالافتراض هو ما يلى: إن يوم عمل مكوناً من 12ساعة يُنتِج من السلع ما قيمته 6 جنيهات، فلما ظهر الفن الإنتاجى الجديد الذى زاد من إنتاجية العمل، جعل الـ 6 جنيهات تلك تُنَتج فى 6 ساعات. فما هو مصير باقى ساعات يوم العمل المؤلَف من 12 ساعة، أى ما مصير الـ 6 ساعات المتبقية من اليوم؟ الإجابة عند نمط الإنتاج الرأسمالى، إذ يقول إن الـ 6 ساعات المتبقية هى ساعات عمل غير مدفوعة الأجر، ومن ثم تُضاف إلى جانب القيمة الزائدة، فنكون أمام النسب الآتية:
12 ساعة = 6 جنيهات = 3 قيمة قوة عمل + 3 قيمة زائدة.
6 ساعة = 6 جنيهات = 3 قيمة قوة عمل + 3 قيمة زائدة + 6 قيمة زائدة إضافية نتيجة استخدام الفن الإنتاجى الجديد.
وعلى حين تنخفض الإنتاجية، أى أن نفس الكمية من السلع تُنتَج بكمية عمل أكثر، فسنكون أمام النسب الآتية:
12 ساعة = 6 جنيهات = 3 قيمة قوة عمل + 3 قيمة زائدة.
12ساعة = 4 جنيهات = 3 قيمة قوة عمل + 1 قيمة زائدة .
وسأفترض مؤقتاً، وعلى غير اعتقادى، أن التغيّر النسبى بين قيمة قوة العمل والقيمة الزائدة، المؤسَس على التغيّر النسبى فى قيمة قوة العمل أمام القيمة الزائدة، ثم التغير ككل من(3:3) إلى(3:1) أمام الإنتاجية، هو ما يمثل الجدلية التى إنطلق منها ماركس بعد تعديله للقانون الذى وضعه ريكاردو. ولكن ما مدى اتساق هذا القانون مع مجمل البناء النظرى لماركس؟ وعلى وجه التحديد مدى اتساق القانون المذكور مع قانون"ميل معدل الربح إلى الانخفاض" الذى قال به ماركس وصار من ركائز البناء النظرى الماركسى؟ إذ يقف هذا القانون بالذات فى تضاد وتناقض مع القانون الريكاردى المعدل على يد ماركس، إذ يقول هذا القانون أن: معدل الأرباح تميل إلى الانخفاض كلّما تم استحداث الفن الإنتاجى الجديد بإحلال الآلة محل عنصر العمل.
عَلِمنا حتى الأن أن استحداث الفن الإنتاجى الجديد يؤدى إلى ارتفاع فى القيمة الزائدة، فى الوقت الذى تنخفض فيه قيمة قوة العمل. وقد إفترضنا أن هذا الفن الإنتاجى الجديد يتمثل فى إحلال الآلة، الأمر الذى كان من شأنه تسريع وتيرة الإنتاج؛ فتُنتَج نفس الكمية فى عدد ساعات أقل، ويمسى صحيحاً أيضاً القول بإنتاج كمية أكبر فى نفس عدد الساعات السابقة. ولكن ليس هذا كل ما فى الأمر، إذ لم يزل أمامنا نصف الطريق، وهو الذى لم يكمله ريكاردو، ومن ثم ماركس؛ فعلى الجانب الآخر، فإنه طبقاً لقانون ميل معدل الربح للانخفاض فإن ادخال الآلة يؤدى إلى إنخفاض معدل الربح (أى النسبة بين القيمة الزائدة والرأسمال الكلى) إذ يعنى دخول الآلة تحويل المزيد من المواد الأولية والمواد المساعدة إلى منتجات، وذلك بالعدد نفسه من العمال خلال المدة الزمنية نفسها، أى ببذل عمل أقل.
ولأن الرأسمال ينقسم عند ماركس(11) إلى نوعين، أولهما: الرأسمال الثابت: وهو ذلك الجزء مِن وسائل الإنتاج (تحديداً وسائل العمل، والمواد الخام، والمواد المساعدة) الذى ينقل جزءً من قيمته(التبادلية) إلى الناتج، دون استهلاكه كلياً فى"عملية إنتاجية واحدةً". وثانيهما: هو الرأسمال المتغير: وهو لا ينقل فقط قيمته إلى الناتج، وإنما يَنقل إليه كذلك قيمة زائدة. وهو ما يتمثل فى قوة العمل. فالرأسمال من تلك الوجهة لا يمكنه استخلاص قيمة زائدة من الرأسمال الثابت، على حين يمكنه ذلك من الرأسمال المتغير، ومعنى دخول الآلة حدوث انخفاض فى مصدر القيمة الزائدة، الأمر الذى يستتبع انخفاض فى الربح الذى هو حاصل النسبة ما بين القيمة الزائدة وبين الرأسمال الكلى.
وعلى ذلك نكون أمام قانونين متناقضين، أولهما يقول بأن الآلة تزيد من القيمة الزائدة بالنسبة لقيمة قوة العمل، والثانى يقول أن الآلة تُخفض من القيمة الزائدة لتخفيضها الرأسمال المتغير بالنسبة للرأسمال الثابت! فماذا يعنى ذلك؟
يعنى، فى تصورى، الديالكتيك. يعنى التناقض الحقيقى. المستتر؛ يعنى الجدلية فى أوضح صورها، وهو المعنى الذى لم يحققه ريكاردو، وماركس بالتبعية، فحين تم استحداث الفن الإنتاجى تصور ريكاردو، وماركس من بعده أن التناقض يقع بين القيمة الزائدة وبين قيمة قوة العمل، وفى الحقيقة يمكن تسمية ذلك تناقضاً، ولكنه تناقض أولى.
فحين دخل الفن الإنتاجى الجديد حدث تغير فى القيمة الزائدة بالنسبة لتغير مماثل فى قيمة قوة العمل، بيد أن ذلك ليس نهاية الطريق، وإنما نصفه فقط، إذ لا يؤدى الفن الإنتاجى الجديد فقط إلى ارتفاع فى القيمة الزائدة بالنسبة لقيمة قوة العمل، وإنما يؤدى، وفى نفس اللحظة، إلى انخفاض فى القيمة الزائدة بالنسبة للرأسمال الكلى. فتتحدد القيمة الزائدة (الكلية) على هذا الأساس بالتناقض بين التغير فى القيمة الزائدة (ق ز) بالنسبة لقيمة قوة العمل (ق ع) وبين التغير فى القيمة الزائدة بالنسبة للرأسمال الكلى (ر). القيمة الزائدة الكلية إذاً هى:
"حاصل التناقض بين: الارتفاع فى القيمة الزائدة الأولية بالنسبة لقيمة قوة العمل، وبين: الانخفاض فى القيمة الزائدة الأولية بالنسبة للرأسمال الكلى".
وتلك هى "القيمة الزائدة". التى لم يصل إليها ماركس. إذ توقف عند حدود افتراض أن القيمة الزائدة دائماً =100%، مكتفياً بتحديد معدل القيمة الزائدة، باعتباره النسبة بين القيمة الزائدة إلى الرأسمال المتغير، دون أن يصل إلى القانون الذى يحدد القيمة الزائدة نفسها، والمفترض أننا نعرف معدل القيمة الزائدة من حساب القيمة الزائدة أولاً، إذ أن القيمة الزائدة هى التى تحدد المعدل، ولا يحدد المعدل القيمة الزائدة. والقانون الذى أفترضه هو ما اسميه قانون"القيمة الزائدة الكلية". أى أن القيمة الزائدة، التى أقصدها، وهى القيمة الزائدة الكلية، هى نتاج تناسب بين كتلتين:
الكتلة I: وتحتوى على التناقض ما بين القيمة الزائدة الأولية (ق ز1) وقيمة قوة العمل (ق ق ع).
الكتلة II: وتحتوى على التناقض ما بين القيمة الزائدة الأولية (ق ز1) والرأسمال الكلى (ر).
فإذ إفترضنا أن الكتلة I = (1:2)
وإفترضنا أن الكتلة II= (4:1)
فإن القيمة الزائدة الكلية (ق ز ك) = (1:2) : (4:1) = 1: 0.25 = 0.75 وحدة.
ومن ثم يكون معدل القيمة الزائدة = (ق ز1 : ق ق ع) : (ق ز1 : ر) ÷ الرأسمال المتغير(م).
ويكون معدل الربح الوسطى (حَ) = (ق ز ك) ÷ (ر).
كما يكون ثمن الإنتاج = ثمن التكلفة (ك) + (حَ).
أما قيمة السلعة فتساوى (ك) + (ق ز ك).
أى أن قانون القيمة ليس اعتباطياً، ولا يعمل فى الفراغ التخيلى، وليس فى مقدور الرأسمال أن يتحكم فيه كلية، وإنما هو قانون موضوعى يحكم هو حركة الرأسمال، ولا يمكن فهم هذا القانون إلا من خلال ذهنية جدلية متجاوزة للرؤى الخطية والتصورات الميكانيكية التى تتشرب بها كراسات التعميم، وموجزات التيارات المهيمنة فى حقل اليسار على وجه التحديد.
وبتلك الكيفية يكون تاجر الفاكهة (الرأسمال التجارى)، أو صانع المربى (الرأسمال الصناعى)، أو مقرض النقود (الرأسمال المالى)، قد عرفوا على أى أساس تتحدد أرباحهم.
فالرأسمالى التجارى، وليكن ناقل البضائع مثلاً، الذى يستخدم عمال، وسيارات نقل، ومنشأت، ومعدات وألات، ومستندات وأوراق وأقلام وحواسب آلية ومكاتب، إنما ينتج خدمة، ومن ثم ينتج قيمة، هذه القيمة تزيد من قيمة السلعة، والعمال بالضرورة طالما أنتجوا قيمة، فهم ينتجون قيم زائدة، ومن مجموع هذه القيم الزائدة فى قطاع النقل تتحدد كتلة القيمة الزائدة، هذه القيمة حينما يتم قسمتها على مجموع الرساميل فى قطاع النقل نتحصل على الربح الوسطى. هذا الربح الوسطى يضيفه، بوعى أو بغير وعى، الرأسمالى على تكاليف الإنتاج. وهكذا الأمر بشأن الرأسمالى المالى، ومن باب أولى بشأن الرأسمالى الصناعى.
أن تحديد معدل الربح الوسطى ليس مسألة مزاجية، تخضع لقرارتهم الشخصية، إذ أن الربح لا يتكون فى السوق، إنما يتكون فى حقل الإنتاج. وبيع السلعة أو الخدمة فى حقل التداول، أى السوق، لا ينشىء الربح، إنما فقط يكشف عنه.
الرساميل معدل القيمة الزائدة القيمة الزائدة قيمة الناتج معدل الربح
(I) 70 ث + 30 م 100% 30 130 30%
(II) 60 ث + 40 م 100% 40 140 40%
بعد قيام المشروع (I) بتعديل التركيب العضوى للرأسمال من (70ث + 30م) إلى (60ث + 40م)
الرساميل معدل القيمة الزائدة القيمة الزائدة قيمة الناتج معدل الربح معدل الربح العام
(I)60 ث + 40 م 100% 40 140 40% 35%
(II)60 ث + 40 م 100% 40 140 40% 35%
بعد دخول خمسة مشروعات جديدة هادفة لتحقيق ربح قدره 40% ، ولكنها لن تحصل سوى على 10% فقط.
الرساميل معدل القيمة الزائدة القيمة الزائدة قيمة الناتج معدل الربح معدل الربح العام
(I) 60 ث + 40 م 100% 40 140 40% 10%
(I) 60 ث + 40 م 100% 40 140 40% 10%
(I) 60 ث + 40 م 100% 40 140 40% 10%
(I) 60 ث + 40 م 100% 40 140 40% 10%
(I) 60 ث + 40 م 100% 40 140 40% 10%
(I) 60 ث + 40 م 100% 40 140 40% 10%
(I) 60 ث + 40 م 100% 40 140 40% 10%
على الرغم من أن كل رأسمالى، وفقاً للجدول أعلاه، بمفرده يحصل على قيمة زائدة مقدارها 100 بالمئة إلا ان حساب الربح، ومن ثم تجديد الإنتاج، لا يعتمد على القيمة الزائدة التى تتحقق فى مصنعه هو فحسب، إنما يعتمد فى المقام الأول والأخير على الربح الكلى الذى أنتجه الرأسمال الاجتماعى الكلى، وحينئذ يتم حساب معدل الربح الوسطى بقسمة مجموع القيمة الزائدة على المقدار الكلى للرساميل.

الرأسمال الثابت

الجزء المستهلك من الرأسمال الثابت
الرأسمال المتغير

معدل
القيمة الزائدة

قيمة السلعة

ثمن التكلفة

معدل الربح الوسطى

ثمن الإنتاج

إنحراف
الثمن/القيمة
80 50 20 20 90 70 22 92 + 2
70 51 30 30 111 81 22 103 - 8
60 51 40 40 131 91 22 113 - 18
85 40 15 15 70 55 22 77 + 7
95 10 5 5 20 15 22 37 + 17
- مجموع القيمة الزائدة المنتجة فى كل المصانع، أى: 20+30+40+15+5= 110
- مجموع الرساميل الموظفة فى كل المصانع، أى: 100+100+100+100+100= 500
- التركيب المتوسط للرأسمال، أى مجموع الرأسمال الثابت إلى مجموع الرأسمال المتغير مقسوماً على الرأسمال الكلى 78ث + 22م
- معدل الربح الوسطى، أى مجموع القيمة الزائدة ÷ مجموع الرساميل، أى: 110÷500= 22%
- ثمن التكلفة يتكون من: الجزء المستهلك أثناء العملية الإنتاجية من الرأسمال الثابت + الرأسمال المتغير.
- وقيمة السلعة تتكون: من الجزء المستهلك من الرأسمال الثابت + الرأسمال المتغير + القيمة الزائدة.
- أما ثمن الإنتاج فيتكون من ثمن التكلفة + معدل الربح الوسطى.
- ويحسب معدل الربح الوسطى على أساس قسمة مجموع القيم الزائدة فى جميع فروع القطاع على مجموع الرساميل على الصعيد الاجتماعى، أى جميع القطاعات.
وفى سبيل المزيد من التوضيح، فسوف نستدعى جدول ماركس الذى أورده فى الجزء الثالث من رأس المال. وإنما سوف نتعامل معه وفقاً لفرضيتنا التى تنص على أن القيمة الزائدة الكلية هى حاصل التناقض بين: القيمة الزائدة الأولية (ق ز1) بالنسبة لقيمة قوة العمل (ق ق ع)، وبين القيمة الزائدة الأولية (ق ز1) بالنسبة للرأسمال الكلى (ر). وبافتراض أن القيمة الزائدة متغيرة، فسيكون لدينا ما يلى:
الرأسمال الثابت الجزء المستهلك من الرأسمال الثابت الرأسمال المتغير (قيمة قوة العمل)
القيمة الزائدة الأولية القيمة الزائدة الكلية محولة من معدل (%) إلى قيم نقدية قيمة السلعة ثمن التكلفة معدل الربح الوسطى ثمن إنتاج السلعة أو الخدمة إنحراف الثمن/ القيمة
80 50 20 200 70
70 51 30 300 81
60 51 40 200 91
85 40 15 250 55
95 10 5 60 15

فى الجدول أعلاه نجد أن: كتلة القيمة الزائدة (التى هى حاصل التناقض بين: القيمة الزائدة الأولية ق ز1 بالنسبة لقيمة قوة العمل ق ق ع، وبين القيمة الزائدة الأولية ق ز1 بالنسبة للرأسمال الكلى ر ) = 325 مقسومة على مجموع الرساميل الموظفة فى حقل إنتاجى فى قطاع معين والتى تبلغ 500 وحدة؛ فسيكون معدل الربح الوسطى الاجتماعى = 65%. فيقوم كل رأسمالى بحساب ثمن التكلفة ويضيف عليه معدل الربح الوسطى (المحدد من الخارج، أى المفروض عليه) ونحن هنا نفترض أن جميع الرساميل الموظفة أعلاه إنما هى موظفة فى فرع صناعى واحد. لأن اختلاف الفروع سوف يؤدى إلى انتقال الرساميل من القطاعات التى تحقق معدلات ربح وسطى منخفضة إلى القطاعات التى تحقق معدلات مرتفعة، وهكذا يحدث توزان من نوع ما بين القطاعات المنتجة للسلع والخدمات على الصعيد الاجتماعى. ويمكن احداث هذا التوازن بالسيطرة على مفردات العلاقة الجدلية بين قوى العملية الإنتاجية بصفة خاصة قيمة قوة العمل والرأسمال الكلى.
(4)
دعونا الآن، فى ضوء ملاحظاتنا الخمس، نذهب كى نُحلل عملية تسرب القيمة؛ وإنما ابتداءً من الوعى بأن إطارنا النظرى هنا يتحدد بخطين فكريين:
الخط الفكرى الأول: وهو الذى ينشغل بافتراض نظرية عامة فى ظاهرة تجديد إنتاج التخلف، والإنطلاق منها فى سبيل الفهم الناقد للصراع الاجتماعى والسياسى فى الأجزاء المتخلفة من النظام الاقتصادى الرأسمالى العالمى المعاصر. وعالمنا العربى أحد تلك الأجزاء، غير المتجانسة، بتفوق! والذى أفترضه، بشأن هذه النظرية العامة، هو أن القيمة الزائدة، بمفهومها السابق تحديده، التى يُنتجها المجتمع، بفضل العمل الإنسانى، إنما تتوزع على الطبقات الاجتماعية المختلفة، وليس بالضرورة أن يتم هذا التوزيع على قدر مساهمة كل طبقة فى العملية الإنتاجية، وإنما بالضرورة وفقاً للشروط الموضوعيـة المحدِّدة لهيمنة طبقة أو طبقات معينة على طبقة أخرى أو على باقى طبقات المجتمع.
ولقد كان بالفعل صائباً الاقتصاد السياسى(14) حينما رأى هذا التوزيع بوضوح؛ وحدد أن الربح والريع والأجر، كدخول للطبقات المختلفة فى المجتمع، إنما تكون بفضل قيام قوة العمل بالإنتاج، ولكى يكشف التداول، فى مرحلة تالية، عن الدخول التى تُوزَع بين الطبقات المختلفة. فالرأسمال إنما يشترى (ق ع) قوة العمل من سوق العمل، وفى الواقع انه يشترى العامل نفسه، كما سنرى لاحقاً، ولنفترض أنه اشتراها، أى قوة العمل بـ 4 وحدات، ويشترى (م ع) مواد العمل (القطن مثلاً) بـ 3 وحدات، ويشترى (أ ع) أدوات العمل (آلة الغزل مثلاً) ولنفترض أنه إشتراها بـ 3 وحدات، ثم يترك قوة العمل(ق ع) كى تتفاعل مع مواد العمل(م ع) باستخدام أدوات العمل(أ ع) وحينما يخرج الناتج (معطف مثلاً) يكون لدى الرأسمال، قبل البيع أى قبل النزول تارة أخرى إلى السوق من أجل بيع المنتَج، ليس 10 وحدات، وإنما (حتماً) أكبر منها، يُحدد على أساس قانون القيمة الزائدة "الكلية" على نحو ما شرحنا سلفاً. فلا يمكن للرأسمال أن يُقدم على إتخاذ قرار الإنتاج إذ ما كانت المحصلة النهائية للعملية الإنتاجية مساوية للصفر؛ فهو يبدأ بـ 10 وحدات وينتهى بـ 10 وحدات؛ وهذه النهاية لا ترضى الرأسمال على الإطلاق، والرأسمال، كما ذكرنا أعلاه، لا يستطيع أن يتفاوض مع الأدوات ولا مع الآلات، على مستوى الأثمان على الأقل، ولا يستطيع أن يحصل منهم على أكثر من القيمة المحددة لهم، فهو حينما اشترى مواد العمل (القطن فى مثلنا) بـ 3 وحدات يَعلم أن القطن سوف يدخل العملية الإنتاجية ويخرج منها دون أن تغيّر من قيمته (رأسمال ذو قيمة ثابتة)، وكذلك الأمر بشأن الأدوات والآلات والمواد المساعدة، فهى تُستخدم فى العملية الإنتاجية بقيمتها ويُحسب معدل استهلاكها وفقاً للفنون المحاسبية المعروفة (الأمريكية فى الغالب)، أى أنها تدخل العملية الإنتاجية بقيمتها وتخرج بقيمتها (رأسمال ذو قيمة ثابتة أيضاً) ولذلك فلا مناص من أن يتفاوض مع رأسمال يُغيّر من القيمة بالزيادة أثناء العملية الإنتاجية، أى يتفاوض مع (رأسمال ذى قيمة متغيّرة) أى مع هذه السلعة العجيبة التى تطرح نفسها فى السوق، وهى قوة العمل فيعطيها ثمن استعمالها، 4 وحدات فى مثلنا، ويأخذ منها ما يساوى 8 وحدات مثلاً، لِمَ؟ كى يتمكن من دفع الريع لصاحب الأرض، ويتحصل هو نفسه على ربح للرأسمال الموظَف فى العملية الإنتاجية. وذلك بالطبع بعد أن تكون قوة العمل قد عوضت الرأسمالى عن الأجرة(15) هنا يتوقف الاقتصاد السياسى. إذ لم يُثرْ إشكالية لا تقل أهمية فى حقل التوزيع؛ وهى أين تذهب، بعد ذلك، تلك القيمة الزائدة التى تَتخذ من الربح والريع، وربما الفائدة، صوراً لها، تعكس وجودها كدخول للطبقات الاجتماعية المختلفة؟ أى أين تذهب تلك الصور التى تتخذها القيمة التى زادت بفعل الإنتاج فى الاقتصاد القومى خلال فترة زمنية معينة؟
فما هو إتجاه الريع الذى تحصل عليه مالك الأرض؟ وما هو إتجاه ربح الرأسمالى؟ أين تذهب تلك الوحدات التى هى بمثابة الزيادة التى حققها المجتمع، فى الأجزاء المتخلفة، على صعيد القيمة؟ ونحن هنا، طبعاً، نتسآل أين ذهبت تلك القيمة التى أنتجتها السواعد العربية فى وطننا العربى؟
وإن سؤالنا عن إتجاه القيمة الزائدة نظن أن له وجاهته، ليس فحسب على صعيد تعقب القيمة، وإنما أيضاً على صعيد مهم آخر وهو الذى ينشغل بشرح (مَا الذى أتى بالقيمة الزائدة التى أنتجتها سواعد الشغيلة فى الأجزاء المتخلفة، إلى خزائن رجال المال فى الأجزاء المتقدمة؟) لأن الإجابة على هذا السؤال هى التى أدت إلى "إختراع" التبادل غير المتكافىء؛ كنظرية تحاول أن تشرح (بمزيد من اللف والدوران حول نصوص ماركس ولينين) كيف أتت القيمة الزائدة التى أنتجتها سواعد الشغيلة فى كمبالا إلى الرأسماليين فى لندن؟
فى الواقع، الاقتصاد السياسى لم ينشغل بهذه الإشكالية، وهو ما سوف ننشغل نحن به، ودون لف أو دوران لا حول نصوص ماركس ولا غيره، ولكن ما وصل إليه الاقتصاد السياسى فى شأن ظاهرة القيمة يُسعفنا فى إعادة طرح ظاهرة تجديد إنتاج التخلف الاقتصادى على الصعيد الاجتماعى بإعتبارها:"عملية اجتماعية من ارتفاع معدل إنتاج القيمة الزائدة، المتناقض مع ضعف آليات إنتاجها، ومن خلال هذا التناقض ما بين الارتفاع فى معدل إنتاج القيمة الزائدة وبين ضعف آلية إنتاجها، تتبلور ظاهرة تسرب القيمة الزائدة المنتَجة داخلياً فى الأجزاء المتخلفة من الاقتصاد الرأسمالى العالمى المعاصر إلى الأجزاء المتقدمة".
وهذا التحديد لظاهرة تجديد إنتاج التخلف الاقتصادى، إنما، ووفقاً للديالكتيك، أو قانون التناقض، يُشير إلى أن الرأسمالية فى الأجزاء المتخلفة، ومنها عالمنا العربى، وعلى حين يهمها الإبقاء على معدلات إنتاج القيمة الزائدة المرتفعة، بل ورفع تلك المعدلات(لأنها سر حياتها) فهى كذلك تقع فى التناقض حين تسعى، وفى نفس الوقت، إلى تطوير قوى الإنتاج، المتخلفة بالأساس، فى تلك الأجزاء، والتى تتلقى الفنون الإنتاجية من الأجزاء المتقدمة بعد استهلاكها، ومعنى تطوير قوى الإنتاج هو إحلال الآلة؛ ويعنى إحلال الآلة (من أجل الحصول على أكبر قدر من السلع فى أقل وقت عمل، مع دفع أقل أجر) التقليص من معدلات إنتاج القيمة الزائدة. هنا يقع التناقض ما بين ارتفاع معدلات إنتاج القيمة الزائدة وضعف آليات إنتاجها. وإلى حين حل هذا التناقض تأخذ القيمة الزائدة المنتَجة داخلياً فى التسرب إلى خارج مسام الاقتصاد القومى كى تُغذى ليس فحسب صناعات المواد الغذائية والاستهلاكية فى الأجزاء المتقدمة، وإنما كى تغذى كذلك صناعات معقدة ومتطورة فى هذه الأجزاء المتقدمة (ولا نغفل الأجزاء التى إتخذت منها الأجزاء المتقدمة مصدراً للعمالة الرخيصة فنقلت مصانعها إليها) والتى تمد الأجزاء المتخلفة بالسلع كثيفة التكنولوجيا والرأسمال، وهى السلع التى تتوقف عليها شروط عملية تجديد الإنتاج الاجتماعى فى الأجزاء المتخلفة، وعالمنا العربى أحد هذه الأجزاء. بامتياز!
الخط الفكرى الثانى: ويكون انشغاله بتوجيه النظر ناحية جهة أخرى بشأن القيمة لا تُرى غالباً، فلقد نظر الاقتصاد السياسى الكلاسيكى، عبر تطوره التاريخى، إلى القيمة، على أساس أن مصدرها ومقياسها ومنظمها هى أمور تتعلق بالعمل الإنسانى الحى والمختَزن/المكدس وكميته النسبية الضرورية المنفَقة فى سبيل إنتاج السلعة، وان العمل الإنسانى هو مصدر جميع أنواع الدخول الخاصة بكل طبقة من طبقات المجتمع، فبفضله يتحصل مُلاك الأراضى على الريع، والرأسمال على الربح، والعُمال على الأجر. بيد أن الاقتصاد السياسى، كما ذكرنا أعلاه، يتوقف عند هذا الحد؛ بل وحينما ينشغل بتجدد الإنتاج الاجتماعى على نطاق متسع، حين يَصل إلى قمة نُضجهِ على يد ماركس، فهو لا يَبحث تسرب القيمة الزائدة المنتَجة بداخل الاقتصاد القومى إلى خارجه، وهو ما سنفعله، وإنما يكتفى بتحليل عملية خَلق القيمة الزائدة وتداولها بين الطبقات فى المجتمع والشروط الموضوعية لسيطرة طبقة أو طبقات معينة على هذه القيمة، وأفضل ما تحقق فى تحليل تبادل أو/و تداول القيمة على الصعيد العالمى هو مساهمة ريكاردو بنظريته فى النفقات النسبية(16)، ابتداءً مـن افتراضه سهولة تحرك كل من اليد العاملة (مساواة الأجر بين فرع وآخر من فروع الاقتصاد الرأسمالى، وكذلك من بلد إلى آخر) وكذلك سهولة تحرك الرأسمال (توزيع متساو لمعدل الربح) بيد أن ما تحقق على يد ريكاردو، وما لحق نظريته من تطوير على يد ايمانويل وبتلهايم وأمين وسنتش؛ لم يتعدْ حـدود افتراض أن التبادل غير متكافىء؛ إلى ما هو أبعد وأهم وهو (تسرب) القيمة الزائدة المنتَجة فى الأجزاء المتخلفة إلى خارجها لتغذية الصناعات المختلفة فى الأجزاء المتقدمة، فالفرضية التى يقوم عليها التبادل غير المتكافىء تعتمد على فهـم التبادل على الصعيد العالمى ابتداءً من تفوق العامل فى الأجزاء المتقدمة على العامل فى الأجزاء المتخلفة؛ فما يُنتجه العامل الأوروبى فى ساعة عمل واحدة يُنتجه العامل الأفريقى فى 12 ساعة عمل، ويتعلق الأمر هنا، وفقاً للتبادل غير المتكافىء بإنتاجية العمل؛ فالفلاح الأفريقى مثلاً، طبقاً لمثال د.سمير أمين، يحصل لقاء مئة يوم عمل شاق جداً، فى السنة، على منتجات مستوردة لا تكاد تعادل قيمتها قيمة عشرين يوماً من العمل العادى يقوم به عامل أوروبى ماهر(17). ونظرية التبادل غير المتكافىء لا تقول أكثر من ذلك، ولا يمكنها أن تقول أكثر من ذلك، والأخطر أنها لا تملك أن تقول، صواباً، لماذا ذلك! أى لماذا يحصل الفلاح الأفريقى لقاء مئة يوم عمل شاق جداً، فى السنة، على منتجات مستوردة لا تكاد تعادل قيمتها قيمة عشرين يوماً من العمل العادى يقوم به عامل أوروبى ماهر؟
ونحن نذهب خطوة أبعد برؤية الجانب الآخر، الأهم، من عملية التبادل على الصعيد العالمى، فما ننشغل به ليس التبادل غير المتكافىء؛ لأننا نرى أن التبادل دائماً متكافىء (وإن كنا نوافق على عدم التكافؤ فى مواضع أخرى غير مرتبطة بالقانون الموضوعى للقيمة) وإنما ننشغل بظاهرة التسرب فى القيمة الزائدة؛ أى ننشغل بمحاولة تحليل جدلية تسرب القيمة الزائدة المنتَجة فى داخل الأجزاء المتخلفة إلى الأجزاء المتقدمة كى تنمى صناعاتها المتطورة والمعقدة.
فالذى يهمنا هو الذهاب أبعد من تصور التبادل على الصعيد العالمى كمجرد تبادل غير متكافىء للقيم بين أجزاء متخلفة وأجزاء متقدمة؛ إلى حيث تركيز الضوء المباشر والساطع على عملية "تسبق" هذا التبادل غير المتكافىء وهى عملية التسرب فى القيمة الزائدة. فطبقاً لمثلنا التقليدى أنتجَ الاقتصاد القومى فى الجزء المتخلف ما مقداره 12 مليارات وحدة زائدة، وفى مرحلة أولى، من التوزيع، سوف تختص كل طبقة بنصيبها، فالعمل سيحصل على الأجر (ولكن ليس من القيمة الزائدة وإنما من قوة عمله شخصياً) والرأسمال سيحصل على الربح، وملاك الأراضى سيحصلون على الريع. والمصارف أيضاً، وربما المرابى، سوف تحصل على الفوائد. وفى مرحلة ثانية تبدأ كل طبقة فى إنفاق الوحدات الباقية بعد خصم الإدخار، فما هو الطريق الذى سوف تسلكه تلك الوحدات؟ انها سوف تتجه نحو الخارج. نحو الأجزاء المتقدمة. من أجل الحصول على منتجات استهلاكية (للطبقة العاملة، والطبقة الرأسمالية، والطبقة الريعية)، ومنتجات صناعية (للرأسمال، لتجديد الإنتاج: آلات، معدات، مواد،...) غالباً ما تتوقف عليها شروط تجديد هذا الإنتاج فى الأجزاء المتخلفة. وقبل أن تتم، أو لا تتم، عملية التبادل غير المتكافىء تتم عملية أهم وأخطر، فى الغالب لا يتم الإهتمام بها، وهى عملية خروج/تسرب القيمة التى زادت بداخل الاقتصاد المتخلف خلال السنة إلى خارجه، وبدلاً من أن يُعاد ضخ تلك القيمة بداخل مسام الاقتصاد المتخلف الذى أنتَجها من أجل مشروعات تنموية وإنتاجية وطنية، فإنها (تخرج/تتسرب) من أجل تدعيم الصناعات المختلفة فى الاقتصاد المتقدم، فالتسرب هنا إذاً يسبق التبادل، بل أن المسألة برمتها (تسرب) وليس(تبادل) ولكن الوضوح فى بعض الأحيان يكون أكثر الأشياء خداعاً. إن التحكم فى هذا التسرب وعياً بوجوده وخطورته، ومن ثم منعه، حائلاً دون اللف والدوران حول نظرية، مضلَلَة، ومن ثم مضلِلة، بسبب عدم التكافؤ فى الأجور، فعدم التكافؤ فى الأجورعلى الصعيد العالمى(18) هو الذى ضللَ، ومن ثم قاد أصحاب"التبادل غير المتكافىء" إلى إختراع هذه النظرية، لأنهم لم يستطيعوا، ربما بدوافع إنسانية، أن يُعلنوا بوضوح أن العامل هو آلة مرتدية "أفاروول". ويستغربون كيف أن حلاق فى باريس يتلقى أجراً أعلى من حلاق فى دكار. ثم يزيلون دهشتهم، بافتراض (دون تعليل دائماً) أن الأجر فى باريس أعلى، وأن القيمة تنتقل من حلاق دكار إلى حلاق باريس من خلال (تبادل غير متكافىء!) الدهشة الحقيقية تتملكنا نحن؛ حينما نرى هذا التحايل التجريبى الفج، وتزداد دهشتنا حينما نرى كيف، إلى مثل هذا الحد، أن نفقة إنتاج حلاق دكار ملتبسة بنفقة إنتاج حلاق باريس!
نحن نعتقد، على الأقل فى عصرنا الراهن، أن آلة باريس دائماً أفضل من آلة دكار، وبعبارة بسيطة نحن نعتقد أن آلة باريس (العامل الفرنسى) أغلى من آلة دكار (العامل السنغالى) ومن ثم يتعين أن لا تكون قيمتها فقط فى السوق مختلفة، وإنما أيضاً ثمنها. ولكن لمَ آلة باريس(العامل الفرنسى) أغلى من آلة دكار(العامل السنغالى)؟ إن صحة الإجابة تتعلق بمدى صواب الوعى الناقد لطبيعة العلاقة الحقوقية (فى إطار التنظيم الرأسمالى) بين العامل والرأسمال. تلك العلاقة التى تتغلف بعلاقة حقوقية زائفة قوامها أسطورة "العقد شريعة المتعاقدين"، انها الأسطورة التى تفرض هيمنة الأقوى الذى لديه القدرة على إملاء شروطه على الطرف الأضعف فى العلاقة الحقوقية البورجوازية، التى تَفترض تكافؤ الإرادات المتعاقدة، فليس صحيحاً، فى تقديرى، ما إنتهى إليه الاقتصاد السياسى، على يد ماركس، بعد أن أجرى تفرقة صورية بين العمل وقوة العمل، من أن العلاقة الحقوقية "المهذبة" بين الرأسمال والعامل هى علاقة بيع لقوة العمل، إذ الواقع يجاهر بأن الرأسمال يشترى، دون مواربة، العامل بشحمه ولحمه خلال ساعات العمل (المنصوص عليها فى العقد!) فالرأسمال يمتلك، خلال ساعات العمل، العامل بما يحتوى عليه من قوة عمل خلال فترة العمل، بيد أن تسربل عملية بيع قوة العمل تلك بسربال علاقة حقوقية، زائفة فى عمومها، هو الذى جعل العملية أكثر خداعاً، وأكثر ملائمة للفكر البورجوازى الرجعى فى مجمله.
فلنعد، إنما إبتداءً من تكوين الوعى بهذه العلاقة الحقوقية الزائفة التى تُغلف علاقة الرأسمال/العمل، إلى حلاق دكار، ونظيره فى باريس. نحن نعتقد أن آلة/عامل باريس دائماً أفضل من آلة/عامل دكار، لأن آلة/عامل باريس تحتوى على عمل مختزن (تربية، تعليم، طعام، ملبس، مسكن،...) يفوق العمل المختزن الذى تحتويه آلة/عامل دكار. ومن ثم يتعين أن لا تكون قيمتها فقط فى السوق مختلفة، وإنما أيضاً ثمنها.
بيد أن الاقتصاد السياسى لا ينظر إلى العمل المختزن إلا بشأن الآلة! ولا يمد قوانينه إلى الآلة المرتدية جلد البشر! فهو لا يساير منطقه حين يدخل فى حساباته مأكل العامل (الخبز)، ومأكل الآلة (الطاقة) ثم يتوقف عند ذلك بشأن العامل، ولكنه يستكمل حساباته بشأن الآلة حين ينظر إليها مرة كآداة لإنتاج عمل حى(المنتَج) ومرة كآلة تحتوى على عمل مختزن. وهذا يعد تقليداً متبعاً فى حقل نظرية القيمة(19) من جهة إغفال العمل المختزن بصدد العمل، فلا ينظر الاقتصاد السياسى سوى إلى ما يحتاجه العامل كى يُنتج السلع، ويُجدد إنتاج نفسه (أى يجدد إنتاج جنسه) ولا ينظر على الإطلاق إلى نفقة إنتاجه. تلك النفقة التى جعلت منه عاملاً يمكن الدفع به إلى سوق العمل، وإن ماركس نفسه لم يساير منطقه؛ فعلى الرغم من وعيه التاريخى والموسوعى إلا انه أغفل تماماً إعتبار العامل آلة مادية، وأدخل فى حساباته، حين تعرضه للقيمة، ما يحتاج إليه العامل كى يُنتج، ولكى يُجدد إنتاج نفسه. لكنه، أى ماركس، لم يمد ما أخذه عن ريكاردو بشأن العمل المختزن إلى العامل، فلم ير سوى ما يحتاج العامل إليه كى يعيش، ولم ير كيف تكوَّن هذا العامل بالأساس!
فلقد نقل ماركس، فى رأس المال، عن تيودور الصقلى:
"... انه لا يمكن أن نصدق كيف أن تربية الصغار لا تكلفهم سوى اليسير من التعب والنفقات، فهم يطعمون هؤلاء الصغار أول غذاء بسيط يقع تحت اليد، ويعطونهم الجزء السفلى من سيقان القصب كى يأكلوه، بمقدار ما يصلح للشواء على النار، كما يقدمون لهم جذور وسيقان بعض نباتات المستنقعات، أما نيئة أو مسلوقة أو مشوية. ويسير أغلب الصغار حفاة عراة، بسبب اعتدال الهواء. لذا فإن تنشئة الصغار حتى يقوى عودهم، لا تكلف الأبوين، بوجه عام، أكثر من عشرين دراخماً. وهذا، بالدرجة الرئيسية، ما يفسر لماذ نجد سكان مصر بهذه الكثرة، ولماذا يمكن بالتالى تشييد مثل هذا العدد من الصروح العظيمة"(20).
وعلق ماركس على ذلك بقوله:
"أما فى الحقيقة فإن هذه الصروح فى مصر القديمة، لا يرجع فضلها إلى كثرة السكان بقدر ما يرجع إلى أن نسبة كبيرة من هؤلاء كانوا رهن التصرف للقيام بهذا العمل"(21).
أى أن ماركس لديه الوعى بأن العامل نفسه له نفقة إنتاج، تلك النفقة التى تجعل منه عاملاً يصلح لبيع قوة عمله فى السوق. ومع ذلك لم يستكمل ماركس منطقه. واعتد فقط بما يجب دفعه للعامل كى يعيش ويجدد إنتاج نفسه، أى يجدد إنتاج جنسه.
"ان صاحب قوة العمل سوف يموت يوماً. وبالتالى يجب على بائع قوة العمل، من أجل أن يظهر فى السوق بصورة متواصلة، كما يتطلب ذلك تحول النقد إلى رأسمال بصورة متواصلة، أن يخلّد نفسه، كما يخلّد نفسه أى فرد، أى عن طريق التكاثر. وان قوى العمل التى تذهب من السوق بسبب الموت يجب أن تبدل دائماً بنفس الكمية على الأقل من قوى العمل الجديدة. ولذا، يتضمن مجموع وسائل المعيشة الضرورية لإنتاج قوة العمل وسائل المعيشة لأولئك البدلاء، أى أطفال العمال، وبذلك يُخلد فى سوق البضائع جنس مالكى البضائع المتميزين هؤلاء"(22)
وكلام ماركس على هذا النحو غير صحيح، فمن جهة أولى: إذ ما افترضنا أن الأجر ينشطر إلى شطرين: الشطر الأول: كى يعيش العامل، والشطر الثانى: من أجل البدلاء. يتعين أن يكون أجر العامل متغيراً وفقاً لعدد البدلاء الذي أنجبهم! وهذا غير واقعى. ومن جهة أخرى يتعين أن نعترف بأن الطبقة العاملة، القادمة، بأسرها مدينة إلى الطبقة الرأسمالية بأسرها، وقبل أن تطرح نفسها فى السوق كسلعة، لأن الطبقة الرأسمالية هى التى تكفلت بالإنفاق عليها حتى صارت جاهزة كى يدفع بها فى سوق العمل، ولا يكون العامل (رب الأسرة) سوى وسيط، وهذا أيضاً غير واقعى. ومن جهة ثالثة: يتعين أن يكون أجر العامل الأمريكى مساو لأجر العامل المصرى، إذ ما قام الأمريكى بالعمل فى مصر، وهذا أيضاً غير واقعى، بل الأمريكى أو الأوروبى الذى يعمل فى أحد المنشأت فى مصر إنما يتلقى أجره بالعملة الأجنبية، ويكون أجره أعلى من نظيره المصرى. أى أن العمل المختزن بداخل العامل نفسه يعد ركيزة أساسية فى تحديد قيمة قوة العمل.
هكذا صارت نظرية القيمة مهددة بإلقائها خارج نطاق ما هو عِلمى لتلك الإنتقائية المفرطة التى ترتع بداخلها. إن تلك الإنتقائية، أى إغفال نفقة إنتاج العامل، أى إغفال العمل المختزن فى داخل العامل نفسه، هى التى أدت إلى هذا التشوش بصدد حلاق دكار، وحلاق باريس. إن حلاق دكار أيتها السيدات، ويا أيها السادة، لا يتكلف منذ ولادته حتى يمسك بأدوات العمل ومواده سوى كسرات خبز معدودة، وشربة ماء غير آدمية. ومسكن خرب، وتعليم إستعمارى مشوه، وكل ذلك يمكن حسابه بوحدات حسابية محددة منذ الميلاد وحتى الممات. ليس بشأن حلاق دكار فقط، وإنما أيضاً بصدد حلاق باريس، الذى يأكل ويشرب ويرتدى ويتعلم ويتدرب ويتنزه أفضل عشرات المرات عن حلاقنا السنغالى، ردىء الصنع، فى دكار. ومع ذلك لم ير الاقتصاد السياسى سوى ما يجب دفعه للعامل كى يعيش. لكى يُنتج، كى يُنجب المزيد من العمال (أن تُجدد الطبقة إنتاج نفسها) ولم ير ما الذى يجب دفعه للعامل عن العمل المكدس الذى يحتويه بداخل أعصابه وعضلاته وأنسجته وخلاياه.
وبصدد العمل الحى، والمظهر النقدى لقيمة قوة العمل، فيجب الوعى بأن التراكم الأولى للرأسمال (فى أوروبا،ثم الولايات المتحدة، كوريث تاريخى للهيمنة الاستعمارية) كان له الدور الحاسم فى ارتفاع الدخول النسبية، والمستوى العام للأثمان فى هذه الأجزاء المتقدمة من النظام الرأسمالى العالمى المعاصر.
ولنر الأن كيف يكون التبادل، وفقاً لتصورنا، متكافئاً. فطبقاً لقانون القيمة، ومن أجل إنتاج معطف فى مصر بأيدى عمالة مصرية، ومعطف آخر فى إنجلترا بأيدى عمالة إنجليزية، فسون نكون أمام الإفتراضين التاليين:
- من أجل إنتاج معطف مصرى، بأيدى مصرية (اقتصاد رأسمالى متخلف) : ساعة عمل
5 أدوات العمل + 3 مواد العمل + 2 قوة العمل (حى 1 )+(مختزن 1) + 2 قيمة زائدة = 12
- من أجل إنتاج معطف إنجليزى، بأيدى إنجليزية (اقتصاد رأسمالى متقدم) : نصف ساعة عمل
5 أدوات العمل + 3 مواد العمل + 2 قوة العمل (حى 1 )+(مختزن 1) + 2 قيمة زائدة = 12
وبغض النظر عن أن الرأسمال سوف يُسارع بالهروب(بتقنيته) ناحية مصر للإستفادة من العمالة الرخيصة، وهو ما يحدث فعلاً على الصعيد العالمى، بل يعد ذلك أداة تهديد دائمة من قبل الرأسمال للطبقة العاملة فى أوروبا بوجه خاص، فالمثال يوضح أن ساعة عمل فى إنجلترا، تعادل ساعتين عمل فى مصر، من جهة الأجر والإنتاجية.
فوفقاً للمثال أعلاه، وبافتراض أن المعطف يساوى ساعة عمل يساوى كيلو جرام من اللحم؛ فإن ساعة عمل فى إنجلترا تساوى ساعتين من العمل فى مصر، أى أن العامل الإنجليزى يستطيع أن يُبادل معطفه بكيلو من اللحم، فى حين لا يكون للعامل المصرى سوى نصف هذه الكمية لقاء ساعة عمل واحدة. ومن ثم فإن المعطف فى إنجلترا يساوى كيلو لحم. على حين أنه يساوى نصف كيلو لحم فى مصر. فالتبادل إذاً متكافىء. وعادل. ويمسى واضحاً لمَ يعمل المصرى 10 ساعات، مثل صديقنا الفلاح الأفريقى، ولا يحصل فى مقابل هذه الساعات العشر سوى على نصف أو ربع أو ثلث ما يحصل عليه واحد من العمال فى أحد الأجزاء المتقدمة من النظام الرأسمالى العالمى المعاصر. نحن نرى لذلك أن التبادل لا يكون إلا متكافئاً ابتداءً من الوعى بالعمل المختزن الذى يحتويه العمل الحى. وهذا الأمر لم يعره الاقتصاد السياسى الإهتمام الكافى.
فلنبدأ من هنا، ونؤكد على التأثير الحاسم للوعى بالتسرب كنظرية عامة فى التخلف، ومن ثم العمل على منع هذا التسرب، وذلك ربما يكفينا عناء البحث عن نظرية "عمولة" تُفسر سبب وجود قيمة منتَجة فى الأجزاء المتخلفة فى داخل الأجزاء المتقدمة؟ أى كيف وصلت هذه القيمة من الأجزاء المتخلفة إلى الأجزاء المتقدمة؟ والأمر لا يتعلق فى الواقع بتبادل غير متكافىء على الصعيد العالمى، وإنما يتعلق بنظرية عامة فى تجديد إنتاج التخلف. نظرية عامة فى (تسرب) القيمة الزائدة المنتَجة فى الأجزاء المتخلفة إلى خارجها صوب الأجزاء المتقدمة من أجل استيراد جُل السلع والخدمات التى يتوقف عليها تجديد الإنتاج الاجتماعى فى الأجزاء المتخلفة. وتلك الفرضية لا تمنعنا ابداً من رؤية العلاقات الاقتصادية على الصعيد العالمى كعلاقات بين بلدان مختلفة فيما بينها فى مستويات النمو والتطور. بين أجزاء متقدمة تعيش فى عصر ما بعد الصناعة وأجزاء أخرى متخلفة تعيش فى عصر ما قبل الصناعة!
(5)
والأن، بعد أن تعرفنا إلى الرأسمال، وناقشنا أشكال حركته التى تظهر على الصعيد الاجتماعى، وبعد أن عالجنا قانون القيمة الذى تتمفصل حوله جملة هذه الأشكال، يكون من المتعين المضى خطوة فكرية أبعد بالتعرف إلى تاريخ هذه الأشكال التى اتخذها الرأسمال عبر تاريخ النشاط الاقتصادى للبشر، ابتداءً من رفض المركزية الأوروبية، والاتخاذ من تاريخ العالم القديم والعالم الوسيط حقلاً للتحليل. فلننتقل إلى تاريخ الرأسمال.