ويبقى النفط العربي .. هو المصير


حامد حمودي عباس
2014 / 4 / 3 - 16:34     

في وضع ، لا تريد منابع ما يسمى بالوعي الثقافي العربي ، الرسمية وغير الرسمية ، أن تعترف فيه وبشكل مطلق ، بأن الخوض في غمار السياسة ، أصبح ، ومنذ زمن ليس بالقصير ، مذهب من مذاهب النفاق ، ولعب على أوتار ( بايخة ) جداً ، ومدعاة للسخرية والضحك على ذقون جماهير هي اليوم عاجزة عن العودة الى روابي تجد عندها الحل الامثل لمصائبها المتوالية ، إلا بقدرة مارد محاصر داخل قمقمه العنيد ، لا يقوى على الخروج الى الفضاء المحيط مهما بلغت دعوات خروجه من قوة .. ولا تريد تلكم المنابع ( الثقافية السياسية العربية ) أن تدرك ، بان غطاء قمقم الحل العربي العصي على الفتح ، مفتاحه الوحيد ، موجود في خزانة البيت الابيض ، وتحت حراسة أمينة جداً ..
في وضع كهذا ، أجدني ، وهذا رأي شخصي ، مضطر للتصريح بكون أن الخوض في بحور العمل السياسي ، مهما كانت صفته ومصادره ، ومهما كانت فصول برامجه ، يسارية أو يمينية ، معتدلة أو متطرفة ، ما دامت تدور رحاها في الوطن العربي ، ما هي الا توجه يستحق التوصيف بالخيانة الوطنية ، حصيلته النهائية هي المساهمة ، بقصد أو عن غير قصد ، في سرقة لقمة الخبز من أفواه الجياع .
لقد أحرقت نيران ( الربيع العربي ) مؤسسات الدولة في ليبيا بالكامل ، كما فعلت في العراق ، وبقيت ليبيا في مهب ريح عاتية ، لا يعرف أهلها مستقر لحياتهم ، وليس هناك من وضوح لطبيعة النظام الجديد ، دكتاتوري أم ديمقراطي مدني .. اسلامي أم أنه وثني .. تحكمه شرائع الغاب أم أنه يسير قدماً نحو ترسيخ مبادئ الحياة المدنية وتطبيق نصوص القانون .. وهذا ما ابتغاه البيت الابيض من نتائج عول عليها في إحداث ، أو استغلال ما جرى في مجمل دول المنطقة العربية من تغيير .. إنه التيهان العام داخل خطوط دوائر مغلقة لا منفذ في نهايتها ، ليستقر الخزين النفطي الامريكي ، ويهدأ البال الإسرائيلي القلق على الدوام ، من استمراء العقل العربي لفعل كل ما من شأنه أن يشعل نيران ( الفتنة ) في المنطقة والعالم بأسره .
حتى بدت ملامح الطوفان الحقيقي واضحة بالنسبة للولايات المتحدة الامريكية ، حينما قرر الغباء العربي في اقليم ( برقة ) الليبية ، مد اصبعه ليحدث خللاً في مجرى شريان غير مصرح له بالمساس فيه .. فضخ النفط الى ناقلة تحمل العلم الكوري الشمالي ، مستهيناً بنظام الدولة عموماً ، لتكون هذه البادرة الخطيرة جداً ، بداية لعرف يعد بمثابة الجريمة الاقتصادية ، ومخلاً بالحسابات الاستراتيجية للدول العظمى كافة .
لم تستطع القوات الليبية الحكومية من ايقاف السفينة .. فتم الايحاء للمؤتمر الوطني الليبي بالاطاحة برئيس الوزراء (علي زيدان ) عقاباً له على عدم كفاءته في معالجة الأزمة قبل ان تبلغ السفينة حدود المياه الدولية .. هرب الرجل الى الخارج حينما ادرك خطورة اللعبة الجديدة .. وتم الايعاز الى الحكومة الليبية بتوجيه إلتماس الى البنتاغون لغرض إعادة السفينة الى مراسي الموانئ الليبية الخاضعة لها ، وكان كل شيء بعدها قد تم بسلام وعلى عجل ..
الحادث لم يكن سهلاً بنظر الغرب .. فأن يموت الليبيون تحت نيران الصراع القبلي المحتدم في البلاد ، وأن تتهدم المساكن ، وتتعطل جميع مسالك الحياة العامة ، فهذا ليس ذو أهمية بقدر أهمية هروب ناقلة نفط غير مسيطر عليها لتمخر عباب البحر .
هكذا كان الامر في العراق عام 2003 ، حين فتحت القوات الغازية كافة السبل للعبث بالاملاك العامة ، وتخريب البنى التحتية ، واباحة سرقة المصارف الحكومية والاهلية ، وتدمير المتحف الوطني وسرقة ذخائره الثمينة .. ولم تتوقف سرايا الجيش الامريكي في ذلك الحين ، الا حول بناية وزارة النفط ، لحمايتها من أي تصرف عابر أو مقصود ، يجعل من وثائقها وما فيها من سجلات سرية عرضة للسرقة أو الاتلاف .
الآن .. وبعد حادث السفينة الكورية الشمالية ، التفتت الولايات المتحدة الامريكية وبشكل جاد ، لتغيير خارطة طريقها للسيطرة على منابع النفط في ليبيا .. فعلى ما يبدو ، فان هناك ضعف مستشري في جسد النظام الرسمي الجديد ، بحيث لا يقوى على حماية الاقتصاد الامريكي المعتمد على النفط في بلاده .. وعليه .. فان الجيش الليبي الحكومي ، لابد له وأن يمتلك القوة في ردع الميليشيات ، قبل ان تتكرر الفعلة الشنيعة تلك ، وهذه هي أولى بوادر ( الاصلاح ) الامريكي الجديد في طرابلس الغرب .
لقد أثبت حادث السفينة الكورية الشمالية مؤخراً ، جدية الرد الامريكي السريع في معالجة أوضاع المنطقة العربية عموماً ، عندما يتعلق الامر بالإخلال بموازين الاقتصاد الامريكي ، وفي مقدمة ذلك ، التعرض لمنابع النفط ..
يبقى من الشجاعة بمكان ، ان تعترف قوانا ( الوطنية ) منها وتلك العميلة على حد سواء ، بأن جميع البرامج السياسية المعدة من قبلها لاجتياز حواجز الاستحقاقات الآنية والمستقبلية للدول العربية عموماً ، هي عاجزة تماماً عن تنفيذ ولو جزء بسيط من تلك الاستحقاقات ، لو أغفلت الحقائق التالية :
1- إن الحل والعقد ، في تسيير دفة الأحداث في المنطقة العربية ، هي ليست محكومة بأهواء ونوايا أية قوة تبدو بأنها ( فاعلة ) في المنطقة ، خارج حدود المصالح الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية .
2- ليس بمقدور أي نظام سياسي عربي ، بعلمه أو بدون علمه ، أن يتحرك خارج حدود الدائرة المرسومة له بإحكام ، من قبل مراكز القرار الامريكية على وجه الخصوص ، ومن يتصور ، بأن أي مسار سياسي أواقتصادي أوعسكري ، تقوم به الانظمة العربية هو بمعزل عن مراقبة وتحكم الولايات المتحدة الامريكية وحليفاتها من الدول الكبرى ، فهو يعيش في وهم مطبق ، لا مخرج منه إلا أن يفيق ، أو يغادر ساحة يبدو اللعب فيها ليس من اختصاصه .
3- وفقاً لهذه الثوابت ، فان العمل المنتج الوحيد في رحاب الثقافة عموماً في الوقت الحاضر ، هو مغادرة اللعبة المملة التي ينتهجها اغلب مثقفينا والمتسمة بالتقوقع في ذات المكان ، ضمن ملهاة لا اول لها ولا آخر ، نتائجها مستنسخة وهي تحمل ذات الجين ، لا جديد فيها يوحي بالتغيير .. وعليهم التوجه نحو القاع لمشاركة الجماهير في بحثها عن حلول حقيقية للخروج من ورطة البقاء تحت نير الجهل والفقر واستشراء الامراض القاتلة .
ان الجماهير العربية اليوم ، تمر في أشد حالات الفقر المعرفي ، تمزقها المذهبية الدينية ، وتستفرد بها قوى التخلف والسلفية الرجعية ، وهي ليست بمقدورها أن تقترب من ذهنية المثقف حين ينسج ديباجات فلسفية الهدف منها هو تحقيق مطامع ترقى بصاحبها الى منابر الشهرة .. وهي ( الجماهير ) ونتيجة لهذا الفقر المدعوم باشد حالات اليأس ، سوف تبقى ولزمن قادم طويل ، سنداً لمن يمنحها جزء من الاطمئنان باحتمالات حلول مستقبل واعد وبأبسط السبل حتى ولو كان ذلك بعد الموت ، حيث وجدت ضالتها تلك لدى الاسلام السياسي لتركن اليه مختارة وغير مختاره .
قد تكون أفكار كهذه ، محملاً لسخرية الكثير من الاوساط الثقافية ( السياسية ) الناشطة هذه الايام وبكثافة عالية عبر وسائل النشر العربية المختلفة ، على اعتبارها مسلمات أضحت قديمة ، ولا ترقى الى الفضاءات الجديدة العامرة ببحوث فلسفية أكثر حداثة ، وأدعى للشعور بالطمأنينة من خلال المسك بتلابيب العولمة الفكرية الأرقى في الوقت الحاضر .. في حين ، تتناسى تلك الاوساط ، بأن ما يجري الانشغال ببحثه من قبلها منذ زمن ليس بالقصير ، هو مجرد لهاث مقطوع الأصل ، وراء تفسيرات لا تستند على جديد ، وهي في مجملها إجترار لنصوص فلسفية قديمة ، لا يمكن الاستمرار بالسباحة في بحورها لأنها ، ووفق منطق ما يجري فعلاً من تقلبات سياسية واقتصادية في المنطقة والعالم ، أضحت جافة بحكم التجارب ، وليس استناداً على العواطف الجياشة ، والفارغة من أي شيء عدا الاستسلام للأحلام الجامدة ، والخيالات المريضة .
ولا يمكنني ، مغادرة هذا العرض ، دون ان أشير ، الى جدوى حالات التصدي الفكري والثقافي ، لأولئك المحاربين الاشداء من المثقفين العرب ، والذين انتبهوا الى خطورة البقاء في وديان الخدر الذهني ، والانسياق وراء حيثيات ملهاة قد تكون هي الاخرى من صنع الطرف الاخر ، المعني بإبقاء الشعوب العربية محبوسة داخل ( اللاحل ) .. فسارعوا الى التصدي وبحزم ، موجهين مشارط العلاج ، الى عمق الورم غير الحميد في الجسد العربي ، وذلك من خلال معركتهم النبيلة من أجل تمزيق بيارق التاريخ المزيف لدعاة السلفية الدينية ، ومحاولاتهم الجادة والجريئة ، صوب تفنيد دعاوى الارهاب الثقافي الديني ، والذي راح يعبث وبشكل مفزع ، بالحياة العامة للشعوب ، ويتسبب بكوارث هي أقوى من حيث التأثير ، من جميع الكوارث الطبيعية التي حلت بالانسانية جمعاء .
نحن اليوم ، لسنا بحاجة أبداً ، لتخرصات الفكر المنشغل بالبحث عن المصطلحات السياسية الجامدة ، عبر أدوات البحث الالكتروني ، فنضيع وتضيع أعمارنا بمحاولات بائسة لمعرفة ماذا تعني كلمة ( يسار أو يمين ) في السياسة ، بقدر حاجتنا الماسة جداً ، لايجاد حلول منطقية نتصدى من خلالها لهذا ألامتداد الرهيب لأذرع الارهاب المنظم .. نحن بحاجة ماسة جداً لمن يضع أمامنا سبلاً تخرجنا من حيز التخلف ، ويسير بنا نحو التمدن الحقيقي وليس المشوه ، ولا يهمنا التوقف في محطات عامرة بالنباتات الميتة بحثاً عن تفسيرات يتيمة لصفحات التاريخ السياسي الموغل في القدم ، والذي لم يعد لآثاره من وجود مؤثر في حياة البؤساء من الناس .
لقد ضربت حادثة السفينة الكورية الشمالية الهاربة من المياه الليبية ، جميع صروح المنهج الثقافي التقليدي العربي ، معلنة وبوضوح ، بأن الاستعمار الحديث ، لم يزل متخفياً في جلابيب الانظمة العربية وباشكال قد يتغير لونها وهيكلها حسب الحاجة .. وان هذه الانظمة ستبقى حاملة ذات الوجوه ، وباقنعة قد تتباين ، شرط ان تبقى الحصيلة النهائية والوحيدة ، هي أن لا يصيب آلة الاقتصاد الامريكي أي ضرر يؤدي الى إبطاء دوران مفاصلها حتى ولو للحظات .