الدولة..والديمقراطيّة!


سنان أحمد حقّي
2014 / 3 / 30 - 10:12     

نقرأ اليوم كثيرا من الآراء حول مفهوم الدولة وأشكالها ويُناقش عدد من كبار المثقفين والسياسيين أفكارا متباينة ويضع بعضهم مفاهيم لم يسبق أن سمعنا بها .
فالبعض يُفضّل الدولة العلمانيّة لأنه يراها دولة محايدة وليس لها علاقة بحماية شريحة أو إستغلال طبقة إجتماعيّة ولا دين أو مذهب والآخر يقول أن الدولة الدينيّة هي ضمان دوام القيم واللأسس الإجتماعية وآخرون يجدون أن الدولة الحديثة التي تماثل الدول الأوربية هي المطلوب حاضرا من أجل التنمية والتقدم وتُطرح أيضا أفكار مبتكرة تأخذ من المفاهيم الماركسية شيئا ومن العلمانية أو المدنيّة شيئا آخرأي باعتبارها دولة ليست عسكرية وليست دينية وهكذا
أيها القارئ الكريم
إن الدولة بمفهوم المبادئ الماركسية والتي شرحها المفكر الثوري لينين في كتابه الدولة والثورة وكما ضمّن فيه من معاني وأفكار جاءت بكتاب أنجلز عن أصل العائلة هي أي الدولة ليست سوى سلاح أو سوط تتسلّح به الطبقة السائدة لقمع الطبقات المستغلّة ( بالفتح) وهي تستخدمه لاستغلال الطبقات الأخرى في عملية الإنتاج القائمة ففي طور الإنتاج الزراعي تكون سوطا بيد الإقطاعيين ومسلّط على رقاب الفلاحين وفي طور الإنتاج الرأسمالي تكون سوطا وسلاحا بيد طبقة البرجوازية ومسلّطا على رقاب الطبقة العاملة ولهذا فقد أفضت دراسات هؤلاء المفكرين إلى أن الدولة إلى أن تضمحل وتنتهي في المرحلة المقبله وهي كما توقّعوا هي دولة العمال والنظام الإشتراكي يجب أن تكون سوطا بيد العمال وطبقة البروليتاريا ضد قوى الردّة من شرائح البرجوازية وذلك وفقا لنظام الإنتاج الإشتراكي .
كان هذا رأي الماركسيين وليس رأيي كما وضّحتُ آنفا
ولا يوجد ولم يكن يوما موجودا نظام سياسي كانت فيه الدولة سلاحا محايدا لا إلى مصلحة هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، وعندما يشتدّ الصراع الطبقي فإن الدولة يضمحل دورها وتضعف لأن القوى المتصارعة تتبع أسلوب النزاع المسلح ويصبح الفرقاء المختلفون في غير حاجة إلى سلاح ولا سلطة الدولة فتسقط الدولة
يقول أحد المثقفين البارزين للأسف أن المطلوب في الدولة الحديثة مراعاة الصالح العام وليس الرأي العام وهذا كما هو واضح يُصادر حقّ الأغلبيّة حتى في الديمقراطيات الإعتياديّة
أمّا من حيث مفهوم الدولة الدينية فقد ذكرنا سابقا أنه مفهوم يجعل مهمة الحكومة الإسرائيلية في المطالبة بدولة دينيّة وباعتراف الدول العربية بذلك أمرا ممكنا أكثر من أي وقت آخر ويُسهّل تهجير مواطنين فلسطينيين إضافيين من فلسطينيي 1948 لأنه سيكون مطلبا ضروريا للرد على الدول الدينيّة المحيطة
إن المرحلة التاريخية الحالية تتطلب ثورة وحركة سياسية شاملة من أجل بناء الأسس الديمقراطيّة لأن الظروف الموضوعيّة غير ناضجة للتفكير بأي شكل من أشكال الإشتراكيّة إذ أن حتى القاعدة الصناعيّة التي كانت موجودة في البلاد قد تضررت وتراجعت بشكل جسيم .
فالدولة التي تناسب المرحلة الحاليّة لبلدنا هي الدولة الديمقراطيّة الحقيقيّة التي توفّر توسيع الحريات العامة وحقوق الإنسان وتتعهد بتثقيف المواطنين وتعليمهم كيفية ممارسة الحياة الديمقراطية وتتيح ظهور التناقضات الأساسيّة في المجتمع دون الخلط بينها وبين التناقضات الزائفة والماكرة والتي لا مصلحة للجماهير العريضة فيها وتعلمهم كيفية عمل الأحزاب والجمعيات السياسية والثقافية والإجتماعية وتشجيع الإعلام الحر المسؤول وتقوم على بناء الخدمات الأساسية وتحديث المنشآت المختلفة وتطويرها وإرساء قواعد حديثة للإقتصاد الوطني بعيدا عن الإجتهادات والتقلبات وفسح المجال واسعا أمام الطلائع الثقافية والعماليّة والعلميّة للنمو والتقدّم
ولا توجد دولة علمانيّة ولا ليبراليّة ولا دينيّة ولا مدنيّة ولكن تجدر الإشارة إلى أن مرحلةً إنتقاليّة ضروريّة جدا لتهيئة الظروف الموضوعيّة اللازمة لحياة ديمقراطيّة حقيقيّة يتعرّف أبناء الشعب فيها على كيفية ممارسة تلك الأسس دون تخبّط، فلا يجوز مثلا ممارسة الإنتخابات البرلمانيّة بدون قانون أحزاب رصين ولا قانون صحافة وإعلام حديث ولا حتى قانون للإنتخابات نفسها كما لا يجوز أن يتم تنظيم إنتخابات وعدد متزايد من المواطنين يُعانون من ظروف التهجير والنزوح كما أن خفض نسبة البطالة يُشجّع على قيام إنتخابات نزيهة ويُبعدها عن عملية شراء الأصوات وما يصاحبه من فساد متنوّع
إن بعض المثقفين اليوم للأسف يُشجعون على التلاعب بمفاهيم راسخة وضروريّة مثل الرأي العام وهذا من شأنه أن يضع أوسع الجماهير تحت الوصاية ويجري إدخالنا في خضم نزاعات مضافة أخرى حول من هو الوصيّ وهل هو شيخ العشيرة أم زعيم الطائفة أم ممثل القوميّة أم رب العمل أم المثقف أم الأكاديمي أم العسكري ..إلخ وبدلا من القيام بواجبهم في تثقيف المواطنين لإشاعة الممارسات الديمقراطيّة السليمة
إن فكرة الديمقراطيّة بمعنى الحريّات الأساسيّة فكرة ما زالت تتمتع بجاذبية في بلد من البلدان التي عانت على مدى حقب طويلة من القمع والحرمانات والمصائب والفساد المتنوّع
ولكن مبادئ الديمقراطيّة الأساسيّة لا يمكن المساومة عليها ولا تسطيحها فالأغلبيّة تحكم والأقليّة محميّة بالأغلبيّة والعمل بين الجماهير وتعبئتها نحو أهداف ومقاصد مشروعة يُقرّها القانون عمل متاح ومباح عبر الجمعيات والأحزاب السياسيّة والمجالس التمثيليّة تُنتخب بالإقتراع الحرّ المباشر وتبادل السلطات متاح بأوسع الأشكال والقضاء مستقل والإعلام مصانة آراؤه والصراعات والمنافسات لا مكان لها إلاّ في حدود ما يحدده القانون وفي القبة البرلمانية والسلاح بيد الدولة وحدها لأنها تمثّل الأغلبيّة حيث يتحتّم خضوع الأقليّة لها وتتلاشى شيئا فشيئا مظاهر حمل السلاح من قبل المعارضين وليس هناك أدنى شك أن طبق اللحم غير الناضج لن يتناوله أحد ولن يحبّه الناس وكما كان بليخانوف ( الثوري المادي من المونشفيك عام 1917) صائبا من أن روسيا لم تستحضر الدقيق اللازم لعمل تلك الكعكة التي نبتغيها، وإلى كل من ينتقد هذا المنهج من حيث كونه بعيد عن الثوريّة وإلى من يحاول أن يُحاكي ويستنسخ ثورة أكتوبر ويذكّرنا بكتاب : حزب شيوعي لا إشتراكيّة ديمقراطيّة ، فإنه مخطئ ولا شك إذ أن أي تحولات نوعيّة في المجتمع العراقي بشكل مما له الأولويّة باتت من غير الممكن السعي ورائها لعد نضوج الظروف الموضوعيّة كليّا ولتغيّر الوقائع والمعطيات المختلفة ولتراجع الوعي الإجتماعي والسياسي والثقافي عنه حتّى في ثلاثينيات القرن الماضي في بعض الجوانب .
وأختتم مقالي هذا بعد أن بيّنت شيئا من المقاصد الموضوعيّة المطلوبة بالقول : إننا لا يجب أن نقدّم طبقنا إلى الناس قبل نضوج الطعام فلابدّ أنهم سوف لن يستسيغونه بل سيرفضونه، كما أن فن تقديم المائدة له أثر بالغ في تذوّق الضيوف لما عليها من طعام فالمثل الشعبي يقول: العين هي التي تأكل وليس الفم.وهكذا هو أمر تقديم مبادئ الديمقراطيّة إلى مجتمع لم يعرف سوى التفرّد بالسلطة والدكتاتوريّة وإساءة إستخدام السلطة بكل الأشكال
وهكذا يتبين لنا أن هذه الأفكار في بناء الديمقراطية تعني أنها سلوك وثقافة وقناعات وليست الديمقراطيّة ماكنةً أو سلعةً نشتريها من معامل إحدى البلدان المتقدمة صناعيا ،
وأن المواطنين يجب أن تبلغ قناعاتهم بها حدّا يتركون معه خياراتهم القبليّة والطائفيّة والإثنيّة المختلفة لما سيجدون فيها من فضائل كثيرة على ما هو سائدٌ حاليّا، كما أن التقدّم العلمي والصناعي له دور كبير جدا في التحفيز نحو هذه المبادئ القديمة الجديدة بشكل أصيل دون تلاعب أو تحريف
وغنيّ عن القول أننا نتقبل أية أفكار مهما كان موقفها من مقالنا هذا
وللحديث صلة في وقتٍ آخر والسلام عليكم.